ولما بين هذه المخلوقات العظيمة قال : { فَاسْتَفْتِهِمْ } أي : اسأل منكري خلقهم بعد موتهم . { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا } أي : إيجادهم بعد موتهم ، أشد خلقا وأشق ؟ . { أَمْ مَنْ خَلَقْنَا } من [ هذه ] المخلوقات ؟ فلا بد أن يقروا أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس .
فيلزمهم إذا الإقرار بالبعث ، بل لو رجعوا إلى أنفسهم وفكروا فيها ، لعلموا أن ابتداء خلقهم من طين لازب ، أصعب عند الفكر من إنشائهم بعد موتهم ، ولهذا قال : { إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ } أي : قوي شديد كقوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ }
ثم أمر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوبخ المنكرين للبعث والحساب ، وحكى جانبا من أقوالهم الباطلة حول هذه القضية ، ورد عليهم ردا يزهق باطلهم . . فقال - تعالى - :
{ فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ . . . } .
الفاء فى قوله - تعالى - : { فاستفتهم . . . } هى الفصيحة ، والاستفتاء : الاستخبار عن الشئ ومعرفة وجه الصواب فيه .
والمراد من الاستفهام فى الآية : توبيخ المشركين على إصرارهم على شركهم وجهلهم . وتعجيب العقلاء من أحوالهم .
واللازب : أى : الملتصق بعضه ببعض . يقال : لزب الشئ يلزب لزبا ولزوبا ، إذا تداخل بعضه فى بعض ، والتصق بعضه ببعض . والطين اللازب : هو الذى يلزق باليد - مثلا - إذا ما التقت به قال النابغة الذبيانى :
فلا تحسبون الخير لا شر بعده . . . ولا تحسبون الشر ضربة لازب
أى : ضربة ملازمة لا مفارقة لها .
والمعنى : إذا كان الأمر كما أخبرناك أيها الرسول الكريم - من أن كل شئ فى هذا الكون يشهد بوحدانيتنا وقدرتنا ، فاسأله هؤلاء المشركين { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً } أى : أهم أقوى خلقة وأمتن بنية ، وأضخم جسادا . . { أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } من ملائكة غلاظ شداد ، ومن سماوات طباق ، ومن أرض ذات فجاج .
لا شك أنهم لن يجدوا جوابا يريدون به عليك ، سوى قولهم : إن خلق الملائكة والسموات والأرض . أشد من خلقنا .
وقوله - تعالى - { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } إشارة إلى المادة الأولى التى خلقوا منها فى ضمن خلق أبيهم آدم - عليه السلام - .
أى : إنا خلقناهم من طين ملتصق بعضه ببعض ، ومتداخل بعضه فى بعض .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ساقت دليلين واضحين على صحة البعث الذى أنكره المشركون .
أما الدليل الأول فهو ما يعترفون به من أن خلق السموات والأرض والملائكة . . أعظم وأكبر منهم . . ومن كان قادراً على خلق الأعظم والأكبر كان من باب أولى قادرا على خلق الأقل والأصغر .
وقد ذكر - سبحانه - هذه الحقيقة فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى - { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } وأما الدليل الثانى فهو قوله - تعالى - : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } وذلك لأن من خلقهم أولا من طين لازب ، قادر على أن يعيدهم مرة أخرى بعد أن يصيروا ترابا وعظاما .
إذ من المعروف لدى كل عاقل أن الإِعادة أيسر من الابتداء . وقد قرر - سبحانه - هذه الحقيقة فى آيات منها قوله - تعالى - : { وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المثل الأعلى فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم }
{ فاستفتهم } فاستخبرهم والضمير لمشركي مكة أو لبني آدم . { أهم أشد خلقا أم من خلقنا } يعني ما ذكر من الملائكة والسماء والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب . و { من } لتغليب العقلاء ويدل عليه إطلاقه ومجيئه بعد ذلك . وقراءة من قرأ " أم من عددنا " ، وقوله : { إنا خلقناهم من طين لازب } فإنه الفارق بينهم وبينها لا بينهم وبين من قبلهم كعاد وثمود ، وإن المراد إثبات المعاد ورد استحالته والأمر فيه بالإضافة إليهم وإلى من قبلهم سواء ، وتقريره أن استحالة ذلك إما لعدم قابلية المادة ومادتهم الأصلية هي الطين اللازب الحاصل من ضم الجزء المائي إلى الجزء الأرضي وهما باقيان قابلان للانضمام بعد ، وقد علموا أن الإنسان الأول إنما تولد منه إما لاعترافهم بحدوث العالم أو بقصة آدم وشاهدوا تولد كثير من الحيوانات منه بلا توسط مواقعة ، فلزمهم أن يجوزوا إعادتهم كذلك ، وإما لعدم قدرة الفاعل ومن قدر على خلق هذه الأشياء قدر على ما لا يعتد به بالإضافة إليها سيما ومن ذلك بدؤهم أولا وقدرته ذاتية لا تتغير .
الاستفتاء نوع من أنواع السؤال وكأنه سؤال من يهتبل بقوله ويجعل حجة ، وكذلك هي أقوالهم في هذا الفصل لأنهم لا يمكنهم أن يقولوا إلا أن خلق من سواهم من الملائكة والجن والسماوات والأرض والمشارق وغير ذلك هو أشد هؤلاء المخاطبين ، وبأن الضمير في { خلقنا } يراد به ما تقدم ذكره ، قال مجاهد وقتادة وغيرهما وفي مصحف ابن مسعود «أم من عددنا » يريد من { الصافات } وغيرها { والسماوات والأرض وما بينهما } [ الصافات : 1 ] ، وكذلك قرأ الأعمش «أمَن » مخففة الميم دون { أم }{[9833]} .
ثم أخبر تعالى إخباراً جزماً عن خلقه لآدم الذي هو أبو البشر وأضاف الخلق من الطين إلى جميع الناس من حيث الأب مخلوق منه ، وقال الطبري : خلق آدم من تراب وماء ونار وهواء وهذا كله إذا خلط صار طيناً لازباً ، واللازب أي يلزم ما جاوره ويلصق به ، وهو الصلصال كالفخار ، وعبر ابن عباس وعكرمة عن «اللازب » بالجر الكريم الجيد وحقيقة المعنى ما ذكرناه ، يقال ضربه لازم وضربة لازب بمعنى واحد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.