{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } أي : تواضع لهما ذلا لهما ورحمة واحتسابا للأجر لا لأجل الخوف منهما أو الرجاء لما لهما ، ونحو ذلك من المقاصد التي لا يؤجر عليها العبد .
{ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا } أي : ادع لهما بالرحمة أحياء وأمواتا ، جزاء على تربيتهما إياك صغيرا .
وفهم من هذا أنه كلما ازدادت التربية ازداد الحق ، وكذلك من تولى تربية الإنسان في دينه ودنياه تربية صالحة غير الأبوين فإن له على من رباه حق التربية .
وقوله : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة . . } زيادة فى تبجيلهما والتلطف معهما فى القول والفعل والمعاملة على اختلاف ألوانها .
أى : وبجانب القول الكريم الذى يجب أن تقوله لهما ، عليك أن تكون متواضعا معهما ، متلطفا فى معاشرتهما ، لا ترفع فيهما عينا ، ولا ترفض لهما قولا ، مع الرحمة التامة بهما ، والشفقة التى لا نهاية لها عليهما .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : وقوله : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } المقصود منه المبالغة فى التواضع .
وذكر القفال فى تقريره وجهين : الأول : أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ، ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية . فكأنه قال للولد : اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك فى حال صغرك .
والثانى : أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه ، وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه . فصار خفض الجناح كناية عن التواضع .
وإضافة الجناح إلى الذل إضافة بيانية ، أى : اخفض لهما جناحك الذليل و { من } فى قوله { من الرحمة } ابتدائية . أى تواضع لهما تواضعا ناشئا من فرط رحمتك عليهما .
قال الآلوسى : وإنما احتاجا إلى ذلك ، لافتقارهما إلى من كان أفقر الخلق إليهما ، واحتياج المرء إلى من كان محتاجا إليه أدعى إلى الرحمة ، كما قال الشاعر :
يامن أتى يسألنى عن فاقتى . . . ما حال من يسأل من سائله ؟
ماذلة السلطان إلا إذا . . . أصبح محتاجا إلى عامله
وقوله : { وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } تذكير للإنسان بحال ضعفه وطفولته ، وحاجته إلى الرعاية والحنان .
أى : وقل فى الدعاء لهما : يارب ارحمهما برحمتك الواسعة ، واشملهما بمغفرتك الغامرة ، جزاء ما بذلا من رعاية لى فى صغرى ، فأنت القادر على مثوبتهما ومكافأتهما .
قال الجمل : والكاف فى قوله { كما ربيانى . . } فيها قولان : أحدهما أنها نعت لمصدر محذوف .
أى : ارحمهما رحمة مثل رحمتهما لى ، والثانى أنها للتعليل . أى : ارحمهما لأجل تربيتهما لى ، كما فى قوله { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ }
{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } أي : تواضع لهما بفعلك { وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا } أي : في كبرهما وعند وفاتهما { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }
قال ابن عباس : ثم أنزل الله [ تعالى ]{[17387]} : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } [ التوبة : 113 ] .
وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة ، منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال : " آمين آمين آمين " : فقالوا : يا رسول الله ، علام أمنت ؟ قال : " أتاني جبريل فقال : يا محمد رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك ، فقل : آمين . فقلت : آمين . ثم قال : رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له ، قل : آمين . فقلت آمين . ثم قال : رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة ، قل : آمين . فقلت : آمين " {[17388]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، حدثنا علي بن زيد ، أخبرنا زُرَارَة بن أَوْفَى ، عن مالك بن الحارث - رجل منهم - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من ضَمَّ يتيمًا بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغني عنه ، وجبت له الجنة البتة ، ومن أعتق امرأ{[17389]} مسلمًا كان فَكَاكه من النار ، يجزى بكل عضو منه عضوًا منه " .
ثم قال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت علي بن زيد - فذكر معناه ، إلا أنه قال : عن رجل من قومه يقال له : مالك أو ابن مالك ، وزاد : " ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار ، فأبعده الله " {[17390]} .
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا علي بن زيد ، عن زرارة بن أوفى{[17391]} عن مالك بن عمرو القشيري : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أعتق رقبة مسلمة فهي فداؤه من النار ، مكان كل عَظْم من عظامه مُحَرّره بعظم من عظامه ، ومن أدرك أحد والديه ثم لم يغفر له فأبعده الله عز وجل ، ومن ضم يتيمًا بين{[17392]} أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله ، وجبت له الجنة " {[17393]} .
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ومحمد بن جعفر قالا حدثنا شعبة ، عن قتادة سمعت زرارة بن أوفى{[17394]} يحدث عن أبي بن مالك القشيري قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك ، فأبعده الله وأسحقه " .
ورواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة به{[17395]} وفيه زيادات أخر .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة ، حدثنا سهيل{[17396]} بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رغم أنف ، ثم رغم أنف ، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه أحدهما أو كلاهما عند الكبر ولم يدخل الجنة " .
صحيح من هذا الوجه ، ولم يخرجه سوى مسلم ، من حديث أبي عوانة وجرير وسليمان بن بلال ، عن سهيل ، به{[17397]} .
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا رِبعيّ بن إبراهيم - قال أحمد : وهو أخو إسماعيل بن عُلَيَّة ، وكان يفضل على أخيه - عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ ! ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ، فانسلخ قبل يغفر له ! ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه{[17398]} الكبر فلم يدخلاه الجنة " قال ربعي : لا أعلمه{[17399]} إلا قال : " أحدهما " .
ورواه الترمذي ، عن أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقِي ، عن ربعي بن إبراهيم ، ثم قال : غريب من هذا الوجه{[17400]} .
حديث آخر : وقال{[17401]} الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا عبد الرحمن بن الغَسِيل ، حدثنا أسيد بن علي ، عن أبيه ، علي بن عبيد ، عن أبي أسيد وهو مالك بن ربيعة الساعدي ، قال : بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ، هل بقي عليّ من برّ أبويّ شيء بعد موتهما أبرهما به ؟ قال : " نعم ، خصال أربع : الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما ، فهو الذي بقي عليك بعد موتهما من برهما " {[17402]} .
ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث عبد الرحمن بن سليمان - وهو ابن الغسيل - به{[17403]} .
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا ابن جريج ، أخبرني محمد بن طلحة بن عبد الله{[17404]} بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن معاوية بن جاهمة السلمي ؛ أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أردت الغزو ، وجئتك أستشيرك ؟ فقال : " فهل لك من أم ؟ " قال{[17405]} .
نعم . فقال : " الزمها . فإن الجنة عند رجليها{[17406]} ثم الثانية ، ثم الثالثة في مقاعد شتى ، كمثل هذا القول .
ورواه النسائي وابن ماجه ، من حديث ابن جريج ، به{[17407]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا ابن عياش ، عن بَحِير بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن المقدام بن معد يكرب{[17408]} الكندي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يوصيكم بآبائكم ، إن الله يوصيكم بأمهاتكم ، إن الله يوصيكم بأمهاتكم ، إن الله يوصيكم بأمهاتكم ، إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب " .
وقد أخرجه ابن ماجه ، من حديث [ عبد الله ]{[17409]} بن عياش ، به{[17410]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن الأشعث بن سليم ، عن أبيه ، عن رجل من بني يربوع قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته وهو يكلم الناس يقول : " يد المعطي [ العليا ]{[17411]} أمك وأباك وأختك وأخاك ، ثم أدناك أدناك " {[17412]} .
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا إبراهيم ابن المستمر العُرُوقي ، حدثنا عمرو بن سفيان ، حدثنا الحسن بن أبي جعفر ، عن ليث بن أبي سليم ، عن علقمة بن مرثد{[17413]} عن سليمان بن بُرَيدة ، عن أبيه ؛ أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم : هل{[17414]} أديت حقها ؟ قال : " لا ولا بزفرة واحدة " أو كما قال . ثم قال البزار : لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه{[17415]} .
{ واخفض لهما جناح الذّل } تذلل لهما وتواضع فيهما ، وجعل للذل جناحا كما جعل لبيد في قوله :
وغداة ريحٍ قد كشفت وقرة *** إذ أصبحت بيد الشمال زمامُها
للشمال يداً أو للقرة زماماً ، وأمره بخفضه مبالغة أو أراد جناحه كقوله تعالى : { واخفض جناحك للمؤمنين } . وإضافته إلى الذل للبيان والمبالغة كما أضيف حاتم إلى الجود ، والمعنى واخفض لهما جناحك الذليل . وقرئ " الذل " بالكسر وهو الانقياد والنعت منه ذلول . { من الرحمة } من فرط رحمتك عليهما لافتقارهما إلى من كان أفقر خلق الله تعالى إليهما بالأمس . { وقل ربّ ارحمهما } وادع الله تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية ، ولا تكتف برحمتك الفانية وان كانا كافرين لان من الرحمة أن يديهما : { كما ربّياني صغيرا } رحمة مثل رحمتهما علي وتربيتهما وإرشادهما لي في صغري وفاء بوعدك للراحمين . روي : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أبوي بلغا من الكبر أني ألي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما حقهما . قال : لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وتريد موتهما ) .
قد انتُقل إليه انتقالاً بديعاً من قوله : { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } فكان ذكر رحمة العبد مناسبة للانتقال إلى رحمة الله ، وتنبيهاً على أن التخلق بمحبة الولد الخير لأبويه يدفعه إلى معاملته إياهما به فيما يعلمانه وفيما يخفى عنهما حتى فيما يصل إليهما بعد مماتهما . وفي الحديث " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم بثه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له بخير "
وفي الآية إيماء إلى أن الدعاء لهما مستجاب لأن الله أذن فيه . والحديث المذكور مؤيد ذلك إذ جعل دعاء الولد عملاً لأبويه .
وحكم هذا الدعاء خاص بالأبوين المؤمنين بأدلة أخرى دلت على التخصيص كقوله : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } [ التوبة : 113 ] الآية .
والكاف في قوله : { كما ربياني صغيراً } للتشبيه المجازي يعبر عنه النحاة بمعنى التعليل في الكاف ، ومثاله قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ] ، أي ارحمهما رحمة تكافىء ما ربياني صغيرا .
و{ صغيراً } حال من ياء المتكلم .
والمقصود منه تمثيل حالة خاصة فيها الإشارة إلى تربية مكيفة برحمة كاملة فإن الأبوة تقتضي رحمة الولد ، وصغرالولد يقتضي الرحمة به ولو لم يكن ولداً فصار قوله : { كما ربياني صغيراً } قائماً مقام قوله كما ربياني ورحماني بتربيتهما . فالتربية تكملة للوجود ، وهي وحدها تقتضي الشكر عليها . والرحمة حفظ للوجود من اجتناب انتهاكه وهو مقتضى الشكر ، فجمع الشكر على ذلك كله بالدعاء لهما بالرحمة .
والأمر يقتضي الوجوب . وأما مواقع الدعاء لهما فلا تنضبط وهو بحسب حال كل امرىء في أوقات ابتهاله . وعن سفيان بن عيينة إذا دعا لهما في كل تشهد فقد امتثل .
ومقصد الإسلام من الأمر ببر الوالدين وبصلة الرحم ينحل إلى مقصدين :
أحدهما : نفساني وهو تربية نفوس الأمة على الاعتراف بالجميل لصانعه ، وهو الشكر ، تخلقاً بأخلاق الباري تعالى في اسمه الشكور ، فكما أمر بشكر الله على نعمة الخلق والرزق أمر بشكر الوالدين على نعمة الإيجاد الصوري ونعمة التربية والرحمة .
وفي الأمر بشكر الفضائل تنويه بها وتنبيه على المنافسة في إسدائها .
والمقصد الثاني عمراني ، وهو أن تكون أواصر العائلة قوية العُرى مشدودة الوثوق فأمر بما يحقق ذلك الوثوق بين أفراد العائلة ، وهو حسن المعاشرة ليربي في نفوسهم من التحاب والتواد ما يقوم مقام عاطفة الأمومة الغريزية في الأم ، ثم عاطفة الأبوة المنبعثة عن إحساسسٍ بعضه غريزي ضعيف وبعضه عقلي قوي حتى أن أثر ذلك الإحساس ليساوي بمجموعه أثر عاطفة الأم الغريزية أو يفوقها في حالة كبر الابن . ثم وزع الإسلام ما دعا إليه من ذلك بين بقية مراتب القرابة على حسب الدنو في القرب النسبي بما شرعه من صلة الرحم ، وقد عزز الله قابلية الانسياق إلى تلك الشرعة في النفوس .
جاء في الحديث : « أن الله لما خلق الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش وقالت : هذا مقام العائذ بكَ من القطيعة . فقال الله : أما تَرْضَيْنَ أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك » وفي الحديث : « إن الله جعل الرحم من اسمه الرحيم » .
وفي هذا التكوين لأواصر القرابة صلاح عظيم للأمة تظهر آثاره في مواساة بعضهم بعضاً ، وفي اتحاد بعضهم مع بعض ، قال تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } [ الحجرات : 13 ] .
وزاده الإسلام توثيقاً بما في تضاعيف الشريعة من تأكيد شد أواصر القرابة أكثر مما حاوله كل دين سلف . وقد بينا ذلك في بابه من « كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية » .