71- وظن بنو إسرائيل أنه لا تنزل بهم شدائد تبين الثابتين من غير الثابتين ، ولذلك لم يصبروا في الشدائد ، ضل كثيرون منهم ، وصاروا كالعميان الصم ، وأعرضوا عن الحق ، فسلط الله عليهم من أذاقهم الذل . وبعد حين رجعوا إلى الله تائبين ، فتقبل توبتهم ، وأعاد إليهم عزمهم ، ولكنهم من بعد ذلك ضلوا مرة أخرى ، وصاروا كالعمي الصم ، والله مطلع عليهم ، مشاهد لأعمالهم ، ومجازيهم عليها .
{ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ ْ } أي : ظنوا أن معصيتهم وتكذيبهم لا يجر عليهم عذابا ولا عقوبة ، فاستمروا على باطلهم . { فَعَمُوا وَصَمُّوا ْ } عن الحق { ثُمَّ ْ } نعشهم و { تاب الله عَلَيْهِمْ ْ } حين تابوا إليه وأنابوا { ثُمَّ ْ } لم يستمروا على ذلك حتى انقلب أكثرهم إلى الحال القبيحة . { فعَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ْ } بهذا الوصف ، والقليل استمروا على توبتهم وإيمانهم . { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ْ } فيجازي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أنهم مع ما فعلوه مع رسلهم من التكذيب والقتل لم ينزجروا ، ولم يندموا . . . بلغ بهم الغرور والسفه أنهم ظنوا أن ما فعلوه شيئاً هينا وأنه لن يكون له أثر سيء في حياتهم . فقال - تعالى - { وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } .
وقوله : { وحسبوا } معطوف على قوله { كَذَّبُواْ } وهو من الحسبان بمعنى الظن : وقوله : { فِتْنَةٌ } من الفتن وهو إدخال الذهب في النار لتظهر جودته . والمراد بها هنا : الشدائد والمحن والمصائب التي تنزل بالناس .
والمعنى إن بني إسرائيل قد أخذنا عليهم العهد المؤكد ، وأرسلنا إليهم الرسل لهدايتهم ، فكان حالهم أنهم كذبوا بعض الرسل ، وقتلوا البعض الآخر . ولم يكتفوا بهذا بل ظنوا - لسوء أعمالهم وفساد قلوبهم واستيلاء الغرور والتكبر على نفوسهم - أنهم لن يصيبهم بلاء ولا عقاب بتكذيبهم للرسل وقتلهم لهم فأمنوا عقاب الله وتمادوا في فنون البغي والفساد وعموا وصموا عن دلائل الهدى والرشاد التي جاء بها الرسل واشتملت عليها الكتب السماوية { ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ } أي : قبل توبتهم بعد أن رجعوا عما كانوا عليه من فساد { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } أي : ثم نكسوا على رءوسهم مرة أخرى فعادوا إلى فسادهم وضلالهم وعدوانهم على هداتهم ، إلا عددا قليلا منهم بقي على إيمانه وتوبته فأنت ترى أن الآية الكريمة مسوقة لبيان فساد معتقدات بني إسرائيل وما جبلت عليه نفوسهم من جحود وغرور .
حيث ارتكبوا ما ارتكبوا من جرائم ومنكرات تقشعر لها الأبدان ومع كل ذلك حسبوا أن الله - تعالى - لا يعاقبهم عليها ، لأنهم - كما يزعمون - أبناء الله وأحباؤه . ثم إنهم بعد أن تاب الله عليهم نقضوا عهودهم معه وعادوا إلى أعمالهم عن الدين الذي جاءتهم به رسلهم وإلى صممهم عن الاستماع إلى الحق الذي ألقوه إليهم .
وقوله : { أَلاَّ تَكُونَ } قراءة أبو عمر والكسائي وحمزة بضم النون على اعتبار " أن " هي المخففة من الثقيلة ، وأصله أنه لا تكون فتنة . فخفف { أن } وحذف ضمير الشأن - وهو اسمها - وحسبوا على هذه القراءة بمعنى علموا .
وتعليق فعل الحسبان بها وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لتمكنه في قلوبهم .
وقراءة الباقون بفتح النون على اعتبار أن " أن " ناصبة لتكون . وحسب على هذه القراءة على بابها من الشك والظن .
وسد مسد مفعولي حسب على القراءتين ما اشتمل عليه الكلام من المسند والمسند إليه وهو { أن } وما في حيزها .
وقوله { فعموا } معطوف على { حسبوا } وجيء بالفاء التي للسببية للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها .
أي أن عماهم عن الطريق القويم وصمم عن سماع الحق كان سببه ظنهم الفاسد ، واعتقادهم الباطل أن ما ارتكبوه من قبائح لن يعاقبوا عليه في الدنيا .
ومن بديع إيجاز القرآن الكريم أومأ إلى عدم اهتمامهم بمصيرهم في الآخرة ببيان أن ظنهم لن تنزلبهم مصائب في الدنيا يسبب مفاسدهم ، هذا الظن هو الذي جعلهم يرتكبون ما يرتكبون من قبائح . . أما الآخرة فلا مكان لها في تفكيرهم ، لأنهم قوم تعساء يحرصون على الدنيا حرصا شديداً دون أن يعيروا الآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب أي اهتمام .
وهذا شأن الأمم إذا ما استحوذ عليها الشيطان وتغلب عليها حب الشهوات وضعف الوازع الديني في نفوس أفرادها . إنهم في هذه الحالة يصير همهم مقصوراً على تدبير شئون دنياهم ، فإذا ما وجدوا فيها مأكلهم وشربهم وملذاتهم اغمضوا أعينهم عن آخرتهم ، بل وربما استهانوا وتهكموا بمن يذكرهم بها فتكون نتيجة إيثارهم الدنيا على الآخرة الشقاء والتعاسة .
وجيء بحرف العطف { ثم } المفيد للتراخي في قوله { ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ } للإِشارة إلى أن قبول توبتهم كان بعد مفاسد عظيمة وقعت منهم أي : ثم تاب الله عليهم بعد أن كان منهم ما كان من منكرات وجرائم وإعرا عن الرشد والهدى .
وقوله { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } بيان لنقضهم لعهودهم مع الله ، وارتكاسهم في الذنوب والخطايا والمنكرات . ارتكاسا شديد بحيث صاروا ليسوا أهلا لقبول التوبة منهم بعد ذلك .
أي : بعد أن قبل الله توبتهم من جرائمهم المنكرة . عادوا إلى الانتكاس مرة أخرى فوقعوا في الذنوب والجرائم بإصرار وعناد فأصابهم ما أصابهم من عقوبات لم يتب الله عليهم بعدها .
وقوله { كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } بدل من الضمير في قوله { عَمُواْ وَصَمُّواْ } وهذا الإِبدال في غاية الحسن . لأنه لو قال { عَمُواْ وَصَمُّواْ } بدون هذا البدل لأوهم ذلك أنهم جميعا صاروا كذلك فلما قال { كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } دل على أن العمى والصمم قد حدث للكثيرين منهم ، وهناك قلة منهم لم تنقض عهودها مع الله - تعالى - بل بقيت على إيمانها وصدق توبتها .
وهذا - كما قلنا مرارا - من إنصاف القرآن للناس في أحكامه ، وقدته في ألفاظه ، واحتراسه فيما يصدر من أحكامه .
وقوله : { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون } تذييل قصد به بطلان حسبانهم المذكور ، والبصير مبالغة في المبصر وهو هنا بمعنى العليم بكل ما يكون منهم من أعمال سواه أبصرها الناس أم لم يبصروها .
والمقصود من هذا الخبر لازم معناه ، وهو الإِنذار والتذكير بأن الله لا يخفى عليه شيء . وسيحاسبهم على أعمالهم .
أي : والله - تعالى - عليم بما يعملونه علم من يبصر كل شيء دون أن تخفى عليه خافية ، والصمم الذي أصابهم بعد ذلك و قد أجمل الإِمام الرازي كلامهم فقال :
والآية تدل على أن عماهم وصممهم عن الهداية إلى الحق حصل مرتين . واختلف المفسرون في المراد بهايتن المرتين على وجوه :
الأول : المراد أنهم عموا وصموا في زمان زكريا ويحيى وعيسى - عليهم السلام - ثم تاب الله على بعضهم حيث وفق بعضهم للإِيمان : ثم عموا وصموا كثير منهم في زمان محمد صلى الله عليه وسلم بأن أنكروا نبوته ، وقلة منهم هي التي آمنت به .
الثاني : المراد أنهم عموا وصموا حيث عبدوا العجل ، ثم تابوا عنه فتاب الله عليهم ، ثم عموا وصموا كثير منهم بالتعنت وهو طلبهم رؤية الله جهرة .
الثالث : قال القفال : ذكر الله - تعالى - في سورة الإِسراء ما يجوز أن يكون تفسيرا لهذه الآية فقال : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } والذي نراه أن تحديد عماهم وصممهم وتوبتهم بزمان معين أو بجريمة أو جرائم معينة تابوا بعدها هذا التحديد غير مقنع .
ولعل أحسن منه أن نقول : إن القرآن الكريم يصور ما عليه بنو إسرائيل من صفات ذميمة ، وطبائع معوجة ، ومن نقض للعهود والمواثيق . فهم أخذ الله عليهم العهود فنقضوها ، وأرسل إليهم الرسل فاعتدوا عليهم وظنوا أن عدوانهم هذا شيء هين ولن يصيبهم بسببه عقاب دنيوي ، فلما أصابهم العقاب الدنيوي كالقحط والوباء والهزائم . بسبب مفاسدهم ، تابوا إلى الله فقبل الله توبتهم ورفع عنهم عقابه ، فعادوا إلى عماهم وصممهم - إلا قليلا منهم - ، وارتكبوا ما ارتكبوا من منكرات بتصميم وتكرار فأصابهم - سبحانه - بفتن لم يتب عليهم منها . { وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
لقد صنع بنو إسرائيل تلك الآثام كلها ؛ وهم يحسبون أن الله لن يفتنهم بالبلاء ، ولن يأخذهم بالعقاب . حسبوا هذا الحسبان غفلة منهم عن سنة الله ؛ وغرورا منهم بأنهم " شعب الله المختار " !
( وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموًا ) . .
طمس الله على أبصارهم فلا يفقهون مما يرون شيئا ؛ وطمس على مسامعهم فلا يفيدون مما يسمعون شيئا . .
وأدركهم برحمته . . فلم يرعووا ولم ينتفعوا :
( ثم عموا وصموا . كثير منهم . . ) ( والله بصير بما يعملون ) . .
وهو مجازيهم بما يراه ويعلمه من أمرهم . . وما هم بمفلتين . .
ويكفي أن يعرف الذين آمنوا هذا التاريخ القديم عن يهود ، وهذا الواقع الجديد ؛ لتنفر قلوبهم المؤمنة من ولائهم ، كما نفر قلب عبادة بن الصامت ؛ فلا يتولاهم إلا المنافقون من أمثال عبدالله بن أبى بن سلول !
عطف على قوله : { كَذّبوا } [ المائدة : 70 ] و { يقتلون } [ المائدة : 70 ] لبيان فساد اعتقادهم النّاشيء عنه فاسد أعمالهم ، أي فعلوا ما فعلوا من الفظائع عن تعمّد بغرور ، لا عنْ فلتة أو ثائرة نفس حتّى يُنيبُوا ويتوبوا . والضّمائر البارزة عائدة مثل الضّمائر المتقدّمة في قوله { كذّبوا } و { يقتلون } . وظنّوا أنّ فعلهم لا تلحقهم منه فتنة .
والفتنة مَرْج أحوال النّاس واضطرابُ نظامهم من جرّاء أضرار ومصائب متواليّة ، وقد تقدّم تحقيقها عند قوله : { إنَّما نحن فتنة } في سورة البقرة ( 102 ) . وهي قد تكون عقاباً من الله للنّاس جزاء عن سوء فعلهم أو تمحيصاً لصادق إيمانهم لتعلوَ بذلك درجاتهم { إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } [ البروج : 10 ] الآية . وسمَّى القرآن هاروت وماروت فتنة ، وسمَّى النبيءُ صلى الله عليه وسلم الدجّال فتنة ، وسمَّى القرآن مزالّ الشيطان فتنة { لا يفتننّكم الشيطان } [ الأعراف : 27 ] . فكان معنى الابتلاء ملازماً لها .
والمعنى : وظنّوا أنّ الله لا يُصيبهم بفتنة في الدّنيا جزاء على ما عاملوا به أنبياءهم ، فهنالك مجرور مقدّر دالّ عليه السّياق ، أي ظنّوا أن لا تنزل بهم مصائب في الدّنيا فأمنوا عقاب الله في الدّنيا بعد أن استخفّوا بعذاب الآخرة ، وتوهّموا أنّهم ناجون منه ، لأنّهم أبناء الله وأحبّاؤه ، وأنّهم لن تمسّهم النّار إلاّ أياماً معدودة .
فمن بديع إيجاز القرآن أن أومأ إلى سوء اعتقادهم في جزاء الآخرة وأنّهم نبذوا الفكرة فيه ظهرياً وأنّهم لا يراقبون الله في ارتكاب القبائح ، وإلى سوء غفلتهم عن فتنة الدّنيا وأنّهم ضالّون في كلا الأمرين .
ودلّ قوله : { وحَسبوا أن لا تكون فتنة } على أنّهم لو لم يحسبوا ذلك لارتدعوا ، لأنّهم كانوا أحرص عَلى سلامة الدّنيا منهم على السلامة في الآخرة لانحطاط إيمانهم وضعف يقينهم . وهذا شأن الأمم إذا تطرّق إليها الخِذلان أن يفسد اعتقادهم ويختلط إيمانهم ويصير همّهم مقصوراً على تدبير عاجلتهم ، فإذا ظنّوا استقامة العاجلة أغمضوا أعينهم عن الآخرة ، فتطلّبوا السلامة من غير أسبابها ، فأضاعوا الفوز الأبدي وتعلّقوا بالفوز العاجل فأساؤوا العمل فأصابهم العذابان العاجلُ بالفتنة والآجلُ .
واستعير { عَمُوا وصَمُّوا } للإعراض عن دلائل الرشاد من رسلهم وكتبهم لأنّ العمى والصمم يوقعان في الضلال عن الطريق وانعدام استفادة ما ينفع . فالجمع بين العمى والصمم جمع في الاستعارة بين أصناف حرمان الانتفاع بأفضلِ نافع ، فإذا حصل الإعراض عن ذلك غلب الهوى على النّفوس ، لأنّ الانسياق إليه في الجبلّة ، فتجنّبه محتاج إلى الوازع ، فإذا انعدم الوازع جاء سوء الفعل ، ولذلك كان قوله : { فعموا وصمّوا } مراداً منه معناه الكنائي أيضاً ، وهو أنّهم أساءوا الأعمال وأفسدوا ، فلذلك استقام أن يعطف عليه قوله { ثُمّ تاب الله عليهم } . وقد تأكّد هذا المراد بقوله في تذييل الآية { والله بصير بما يعملون } .
وقوله : { ثُمّ تاب الله عليهم } أي بعد ذلك الضّلال والإعْراض عن الرّشد وما أعقبه من سوء العمل والفساد في الأرض .
وقد استفيد من قوله : { أن لا تكون فتنة } وقوله : { ثُمّ تاب الله عليهم } أنّهم قد أصابتهم الفتنة بعد ذلك العمى والصمم وما نشأ عنها عقوبة لهم ، وأنّ الله لمّا تاب عليهم رفع عنهم الفتنة ، { ثم عَمُوا وصموا } ، أي عادوا إلى ضلالهم القديم وعملهم الذّميم ، لأنّهم مصرّون على حُسبان أن لا تكون فتنة فأصابتهم فتنة أخرى .
وقد وقف الكلام عند هذا العمى والصمم الثّاني ولم يُذكر أنّ الله تاب عليهم بعده ، فدلّ على أنّهم أعرضوا عن الحَقّ إعراضاً شديداً مرّة ثانية فأصابتهم فتنة لم يتب الله عليهم بعدها .
ويتعيّن أنّ ذلك إشارة إلى حادثين عظيمين من حوادث عصور بني إسرائيل بعد موسى عليه السّلام ، والأظهر أنّهما حادث الأسْر البابِلي إذ سلّط الله عليهم ( بخنتصر ) ملك ( أشُور ) فدخل بيت المقدّس مرات سنة 606 وسنة 598 وسنة 588 قبل المسيح . وأتى في ثالثتها على مدينة أورشليم فأحرقها وأحرق المسجد وحَمَل جميع بني إسرائيل إلى بابل أسارى ، وأنّ توبة الله عليهم كان مظهرها حين غلب ( كُورش ) ملك ( فَارس ) على الأشوريين واستولى على بابل سنة 530 قبل المسيح فأذن لليهود أن يرجعوا إلى بلادهم ويعمّروها فرجعوا وبنوا مسجدهم .
وحادث الخراب الواقع في زمن ( تِيطس ) القائد الرّوماني ( وهو ابن الأنبراطور الرّوماني ( وسبسيانوس ) فإنّه حاصر ( أورشليم ) حتّى اضطرّ اليهود إلى أكل الجلود وأن يأكل بعضُهم بعضاً من الجوع ، وقتَل منهم ألفَ ألفِ رجلٍ ، وسبى سبعة وتسعين ألفاً ، على ما في ذلك من مبالغة ، وذلك سنة 69 للمسيح . ثمّ قفّاه الأنبراطور ( أدريان ) الرّوماني من سنة 117 إلى سنة 138 للمسيح فهدَم المدينة وجعلها أرضاً وخلط ترابها بالمِلح . فكان ذلك انقراض دولة اليهود ومدينتهم وتفرّقَهم في الأرض .
وقد أشار القرآن إلى هذين الحديثين بقوله : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتُفْسِدُنّ في الأرض مرّتَيْن ولتَعَلُنّ عُلُوّاً كبيراً فإذا جاء وعد أُولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولِي بأسٍ شديد فجاسوا خِلال الدّيار وكان وَعْداً مفعولاً ثُمّ رددنا لكم الكَرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنِين وجعلناكم أكثر نَفيراً إنْ أحسنتُم أحسنتم لأنفسكم وإنْ أسأتم فلها فإذا جاء وعْد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تتبيراً عسى ربّكم أن يرحمكم } [ الإسراء : 4 ، 8 ] وهذا هو الّذي اختاره القفّال . وفي الآية أقوال أخر استقصاها الفخر .
وقد دلّت { ثمّ } على تراخي الفعلين المعطوفين بها عن الفعلين المعطوف عليهما وأنّ هنالك عَمَيَيْنِ وصَمَمَيْنِ في زمنين سابقٍ ولاحقٍ ، ومع ذلك كانت الضّمائر المتّصلة بالفعلين المعطوفين عينَ الضمائر المتّصلة بالفعلين المعطوف عليهما ، والّذي سوّغ ذلك أنّ المراد بيان تكرّر الأفعال في العصور وادّعاءُ أنّ الفاعل واحد ؛ لأنّ ذلك شأن الأخبار والصفات المثبتة للأمم والمسجّل بها عليهم تَوَارُثُ السجايا فيهم من حَسَن أو قبيح ، وقد علم أنّ الّذين عَمُوا وصَمُّوا ثانية غير الّذين عَمُوا وصَمُّوا أوّل مرّة ، ولكنّهم لمّا كانوا خلفاً عن سلف ، وكانوا قد أورَثُوا أخلاقهم أبناءَهم اعتُبروا كالشيء الواحد ، كقولهم : بنو فلان لهم تِرات مع بني فلان .
وقوله : { كثير منهم } بدل من الضّمير في قوله : { ثمّ عَمُوا وصَمّوا } ، قصد منه تخصيص أهل الفضل والصّلاح منهم في كلّ عصر بأنّهم بُرآء ممّا كان عليه دهماؤهم صدعاً بالحق وثناء على الفضل .
وإذ قد كان مرجع الضّميرين الأخيرين في قوله : { ثمّ عمُوا وصمّوا } هو عين مرجع الضميرين الأوّلين في قوله : { فَعَمُوا وصمّوا } كان الإبدال من الضميرين الأخيرين المفيدُ تخصيصاً من عمومهما ، مفيداً تخصيصاً من عموم الضميرين الّذين قبلهما بحكم المساواة بين الضّمائر ، إذ قد اعتُبرت ضمائر أمّة واحدة ، فإنّ مرجع تلك الضّمائر هو قوله { بني إسرائيل } [ المائدة : 70 ] . ومن الضّروري أنّه لا تخلوا أمّة ضالّة في كلّ جيل من وجود صالحين فيها ، فقد كان في المتأخّرين منهم أمثالُ عبد الله بن سَلام ، وكان في المتقدّمين يُوشَعُ وكالب اللّذيْن قال الله في شأنها { قال رجلان من الّذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب } [ المائدة : 23 ] .
وقوله : { والله بصير بما يعملون } تذييل . والبصير مبالغة في المُبصر ، كالحَكيم بمعنى المُحْكم ، وهو هنا بمعنى العَليم بكلّ ما يقع في أفعالهم الّتي من شأنها أن يُبصرها النّاس سواء ما أبصره النّاس منها أم مَا لم يبصروه ، والمقصود من هذا الخبر لازم معناه ، وهو الإنذار والتّذكير بأنّ الله لا يخفى عليه شيء ، فهو وعيد لهم على ما ارتكبوه بعد أن تاب الله عليهم .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم ، وأبو جعفر { أن لا تكونَ } بفتح نون تكون على اعتبار ( أنْ ) حرف مصدر ناصب للفعل . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، ويعقوبُ ، وخَلَف بضم النّون على اعتبار ( أنْ ) مخفّفة من ( أنّ ) أخت ( إنّ ) المكسورةِ الهمزة ، وأنّ إذا خفّفت يبطل عملها المعتاد وتصير داخلة على جملة . وزعم بعض النّحاة أنّها مع ذلك عاملة ، وأنّ اسمها ملتزَم الحذف ، وأنّ خبرها ملتزم كونه جملة . وهذا توهّم لا دليل عليه . وزاد بعضهم فزعم أنّ اسمها المحذوف ضمير الشأن . وهذا أيضاً توهّم على توهّم وليس من شأن ضمير الشأن أن يكون مَحذوفاً لأنّه مجْتلب للتّأكيد ، على أنّ عدم ظهوره في أي استعمال يفنّد دعوى تقديره .