8- ألم تر - أيها الرسول - هؤلاء الذين نُهوا عن المسارة فيما بينهم بما يثير الشك في نفوس المؤمنين ، ثم يرجعون إلى ما نهوا عنه ، ويتسارون فيما بينهم بالذنب يقترفونه ، والعدوان يعتزمونه ، ومعصيتهم لرسول الله ، وإذا جاءوك حيوك بقول محرف لم يحيِّك به الله ، ويقولون في أنفسهم : هلا يعذبنا الله بما نقول إن كان رسولا حقاً ؟ حسبهم جهنم يدخلونها ويحترقون بنارها ، فبئس المآل مآلهم{[222]} .
ثم قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ *( 8 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 9 ) } .
النجوى هي : التناجي بين اثنين فأكثر ، وقد تكون في الخير ، وتكون في الشر .
فأمر الله تعالى المؤمنين أن يتناجوا بالبر ، وهو اسم جامع لكل خير وطاعة ، وقيام بحق لله ولعباده{[1010]} والتقوى ، وهي [ هنا ] : اسم جامع لترك جميع المحارم والمآثم ، فالمؤمن يمتثل هذا الأمر الإلهي ، فلا تجده مناجيا ومتحدثا إلا بما يقربه من الله ، ويباعده من سخطه ، والفاجر يتهاون بأمر الله ، ويناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، كالمنافقين الذين هذا دأبهم وحالهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } أي : يسيئون الأدب معك في تحيتهم لك ، { وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ } أي : يسرون في أنفسهم{[1011]} ما ذكره عالم الغيب والشهادة عنهم ، وهو قولهم : { لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } ومعنى ذلك أنهم يتهاونون بذلك ، ويستدلون بعدم تعجيل العقوبة عليهم ، أن ما يقولون غير محذور ، قال تعالى في بيان أنه يمهل ولا يهمل : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : تكفيهم جهنم التي جمعت كل شقاء وعذاب [ عليهم ] ، تحيط بهم ، ويعذبون بها { فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
ثم عجَّب الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - من حال قوم يؤثرون الغي على الرشد ، ويُنصحون فلا يستجيبون للنصيحة ، ويُنهون عن الشرور فيأبون إلا الإنغماس فيها ، فقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول } .
قال الآلوسى : قال ابن عباس : نزلت فى اليهود والمنافقين ، كانوا يتناجون دون المؤمنين ، وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم ، يوهمونهم عند أقاربه أنهم أصابهم شر ، فلما كثر ذلك منهم شكا المؤمنون إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فنهاهم عن التناجي دون المؤمنين ، فعادوا لمثل فعلهم .
والخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - والهمزة للتعجب من حالهم ، وصيغة المضارع للدلالة على تكرار فعلهم ، وتجدده ، واستحضار صورته الغريبة .
والمعنى : إن شئت أن تعجب - أيها الرسول الكريم - فاعجب من حال هؤلاء اليهود والمنافقين الذين نهيتهم أنت عن التناجي فيما بينهم ، بما يقلق المؤمنين ويغيظهم . . ولكنهم لم يستجيبوا لنصحك ونهيك ، بل استمروا على تناجيهم بما هو إثم وعدوان ومعصية لك ، ولما جئتهم به من عند الله تعالى .
وعبر بقوله تعالى : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } للإشعار بأنهم قوم لا تؤثر فيهم النصائح وإنما هم يستمعون إليها ، ثم يهجرون العمل بها ، ويعودون إلى فجورهم وفسقهم .
ووصف تناجيهم بأنه كان مشتملا على الإثم والعدوان ومعصية الرسول ، لا على الإثم فقط أو على العدوان فقط . . . لبيان أن تناجيهم مشتمل على كل أنواع السوء والفحشاء ، فهم يتناجون بكلام هو إثم وشر فى ذاته ، وبأقوال مشتملة على ظلم المؤمنين والاعتداء على دينهم وعلى أعراضهم ، وبأفعال هى معصية للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لأنهم لم يستجيبوا لنهيه إياهم عن المناجاة بما يؤذي المؤمنين ويحزنهم . . . بل استمروا فى طغيانهم يعمهون .
والباء فى قوله : { بالإثم } للملابسة ، أى يتناجون متلبسين بالإثم وبالعدوان وبمعصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المنافقين ومن لف لفهم من اليهود ، لم يكتفوا بتلك المناجاة القبيحة التى كانوا يديرونها فيما بينهم ، لإغاظة المؤمنين ، بل أضافوا إلى ذلك النطق أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالكلام السيىء وبالعبارات التى تدل على سوء طويتهم ، فقال - تعالى - : { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله } .
أى : وإذا جاء هؤلاء المنافقين واليهود إلى مجلسك - أيها الرسول الكريم - ألقوا إليك بتحية ، هذه التحية لم يأذن بها الله - تعالى - ولم يخاطبك بها .
وقد كان المافقون عندما يدخلون على الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقولون له كلمة : " السلام عليكم " وهى تحية الإسلام ، إنما يقولون له : أنعم صباحا أو مساء . . . متجنبين النطق بتحية الإسلام ، ومستعملين تحية الجاهلية .
روى الشيخان عن عائشة : " أن ناسا من اليهود ، دخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : السام أى : الموت عليك يا أبا القاسم ، فقال -صلى الله عليه وسلم- " وعليكم " .
قالت عائشة : وقلت : عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم . فقال - صلى الله عليه وسلم - يا عائشة إن الله لا يحب الفاحش والمتفحش ، فقلت : ألا تسمعهم يقولون : السام ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - " أو ما سمعت قولي : " عليكم " فأنزل الله - تعالى - { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله } " .
ثم بين - سبحانه - رذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة فقال : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } ، والمراد بأنفسهم هنا : أى فيما بينهم وفى مجامعهم ، أو فيما يبنهم وبين أنفسهم ، أي : إذا جاءك هؤلاء المنافقون ومن على شاكلتهم فى الضلال ، نطقوا أمامك بتحية لم يحيك بها الله - تعالى - ولا يكتفون بذلك ، بل يقولون فيما بينهم على سبيل التباهي والجحود للحق { لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } أي : هلا يعذبنا الله بسبب ما قلناه لو كان محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا من عنده - تعالى - أي : أنهم ينكرون نبوته - صلى الله عليه وسلم - لأنها - فى زعمهم لو كانت حقا ، لعذبهم الله - تعالى - بسبب إساءتهم إليه ، وإعراضهم عن نهيه لهم .
وقد رد الله - تعالى - عليهم بما يكبتهم ، وبما يسلي نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير } .
أي : لا تحزن - أيها الرسول الكريم - لمسالك هؤلاء المنافقين معك ومع أصحابك ، فإن هؤلاء المنافقين ومن لف لفهم ، كافيهم من العذاب جهنم يصلونها وياقسون حرها ، فبئس المصير جهنم لو كانوا يعلمون .
ذلك التقرير العميق لحقيقة حضور الله وشهوده في تلك الصورة المؤثرة المرهوبة تمهد لتهديد المنافقين ، الذين كانوا يتناجون فيما بينهم بالمؤامرات ضد الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وضد الجماعة المسلمة بالمدينة . مع التعجيب من موقفهم المريب :
ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ، ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ، ويقولون في أنفسهم : لولا يعذبنا الله بما نقول ! حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير .
والآية توحي بأن خطة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مع المنافقين في أول الأمر كانت هي النصح لهم بالاستقامة والإخلاص ، ونهيهم عن الدسائس والمؤامرات التي يدبرونها بالاتفاق مع اليهود في المدنية وبوحيهم . وأنهم بعد هذا كانوا يلجون في خطتهم اللئيمة ، وفي دسائسهم الخفية ، وفي التدبير السيء للجماعة المسلمة ، وفي اختيار الطرق والوسائل التي يعصون بها أوامر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ويفسدون عليه أمره وأمر المسلمين المخلصين .
كما أنها توحي بأن بعضهم كان يلتوي في صيغة التحية فيحورها إلى معنى سيء خفي : وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله . كأن يقولوا - كما كان اليهود يقولون - السام عليكم . وهم يوهمون أنهم يقولون : السلام عليكم . بمعنى الموت لكم أو بمعنى تسامون في دينكم ! أو أية صيغة أخرى ظاهرها بريء وباطنها لئيم ! وهم يقولون في أنفسهم : لو كان نبيا حقا لعاقبنا الله على قولنا هذا . أي في تحيتهم ، أو في مجالسهم التي يتناجون فيها ويدبرون الدسائس والمؤامرات .
وظاهر من سياق السورة من مطلعها أن الله قد أخبر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بما كانوا يقولونه في أنفسهم ، وبمجالسهم ومؤامراتهم . فقد سبق في السورة إعلان أن الله قد سمع للمرأة المجادلة ؛ وأنه ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم . . الخ . مما يوحي بأنه أطلع رسوله على مؤامرات أولئك المنافقين وهو حاضر مجالسهم ! وبما يقولونه كذلك في أنفسهم .
( حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ) .
وكشف هذه المؤامرات الخفية ، وإفشاء نجواهم التي عادوا إليها بعدما نهوا عنها ، وكذلك فضح ما كانوا بقولونه في أنفسهم : ( لولا يعذبنا الله بما نقول ) . . هذا كله هو تصديق وتطبيق لحقيقة علم الله بما في السماوات وما في الأرض ، وحضوره لكل نجوى ، وشهوده لكل اجتماع . وهو يوقع في نفوس المنافقين أن أمرهم مفضوح ، كما يوحي للمؤمنين بالاطمئنان والوثوق .
هذه الآية نزلت في قوم من اليهود نهاهم رسول الله عن التناجي بحضرة المؤمنين وإظهار ما يستراب منه من ذلك فلم ينتهوا ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد وقتادة . وقال ابن عباس نزلت في اليهود والمنافقين .
وقرأ جمهور القراء والناس : «ويتناجون » على وزن يتفاعلون ، وقرأ حمزة والأعمش وطلحة وابن وثاب «وينتجون »{[11005]} على وزن يفتعلون وهما بمعنى واحد كيقتتلون ويتقاتلون وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «وعصيان الرسول » .
وقوله تعالى : { وإذا جاؤوك حيوك } الآية ، يريد بذلك ما كانت اليهود تفعله من قولهم في التحية السام عليك يا محمد ، وذلك أنه روي أن اليهود كانت تأتي فتقول : السام عليك يا محمد ، والسام : الموت ، وإياه كانوا يريدون ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «وعليكم » ، فسمعتهم عائشة يوماً فقالت : بل عليكم السام واللعنة ، فقال رسول الله : «مهلاً يا عائشة إن الله يكره الفحش والتفحش » ، قالت : أما سمعت ما قالوا ؟ قال : «أما سمعت ما قلت لهم ؟ إني قلت وعليكم »{[11006]} .
ثم كشف الله تعالى خبث طويتهم والحجة التي إليها يستروحون ، وذلك أنهم كانوا يقولون : نحن الآن نلقى محمداً بهذه الأمور التي تسوؤه ولا يصيبنا سوء ، ولا يعاقبنا الله بذلك ، ولو كان نبياً لهلكنا بهذه الأقوال ، وجهلوا أن أمرهم مؤخر إلى عذاب جهنم ، فأخبر الله بذلك وأنها كافيتهم . وقال ابن عباس : هذه الآية كلها في منافقين ، ويشبه أن من المنافقين من تخلق في هذا كله بصفة اليهود .