145- وبينا لموسى في ألواح التوراة كل شيء من المواعظ والأحكام المفضلة التي يحتاج الناس إليها في المعاش والمعاد ، وقلنا له : خذ الألواح بجد وحزم ، وأمر قومك أن يأخذوا بأفضل ما فيها ، كالعفو بدل القصاص ، والإبراء بدل الانتظار ، واليسر بدل العسر . سأريكم يا قوم موسى في أسفاركم دار الخارجين على أوامر اللَّه ، وما صارت إليه من الخراب لتعتبروا ، فلا تخالفوا حتى لا يصيبكم ما أصابهم .
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه العباد مَوْعِظَةً ترغب النفوس في أفعال الخير ، وترهبهم من أفعال الشر ، وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ من الأحكام الشرعية ، والعقائد والأخلاق والآداب فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ أي : بجد واجتهاد على إقامتها ، وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا وهي الأوامر الواجبة والمستحبة ، فإنها أحسنها ، وفي هذا دليل على أن أوامر اللّه - في كل شريعة - كاملة عادلة حسنة .
ثم فصل - سبحانه - بعض النعم التي منحها لنبيه موسى وقال : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } .
والمراد بالألواح كما قال ابن عباس - ألواح التوراة ، واختلف في عددها فقيل : سبعة ألواح وقيل عشرة ألواح وقيل أكثر من ذلك . كما اختلف في شأنها فقيل كانت من سدر الجنة ، وقيل كانت من زبرجد أو زمرد . . . إلخ .
والذى نراه تفويض معرفة ذلك إلى الله - تعالى - لأنه لم يرد نص صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عددها أو كيفيتها .
والمعنى : وكتبنا لموسى - عليه السلام - في ألواح التوراة من كل شىء يحتاجون إليه من الحلا والحرام ، والمحاسن والقبائح . ليكون ذلك موعظة لهم من شأنها أن تؤثر في قلوبهم ترغيباً وترهيباً . كما كتبنا له في تلك الألواح تفصيل كل شىء يتعلق بأمر هذه الرسالة الموسوية .
وإسناد الكتابة إليه - تعالى - إما على معنى أن ذلك كان بقدرته - تعالى - وصنعه ولا كسب لأحد فيه ، وإما على معنى أنها كتبها بأمره ووحيه سواء كان الكاتب لها موسى أو ملك من ملائكته - عز وجل - .
قال صاحب المنار : قال بعض المفسرين : إن الألواح كانت مشتملة على التوراة : وقال بعضهم بل كانت قبل التوراة . والراجح أنها كانت أول ما أوتيته من وحى التشريع فكانت أصل التوراة الإجالى ، وكانت سائر الأحكام من العبادات والمعاملات الحربية والمدنية والعقوبات تنزل يخاطبه بها الله - تعالى - في أوقات الحاجة إليها " .
وقوله { مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } بدل من قوله { مِن كُلِّ شَيْءٍ } باعتبار محله وهو النصب لأن من مزيدة كما يرى كثير من النحاة . أى : كتبنا له فيها كل شىء من المواعظ وتفصيل الأحكام .
والضمير في قوله - تعالى - { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } يعود إلى الألواح . والفاء عاطفة لمحذوف على كتبنا ، والمحذوف هو لفظ قلنا وقوله { بِقُوَّةٍ } حال من فاعل خذها أى : كتبنا له في الألواح من كل شىء ، وقلنا له خذها بقوة أى بجد وحزم ، وصبر وجلد ، لأنه - عليه السلام - قد أرسل إلى قوم طال عليهم الأمد وهم في الذل والاستعباد ، فإذا لم يكن المتولى لإرشادهم وإلى ما فيه هدايتهم ذا قوة وصبر ويقين ، فإنه قد يعجز عن تربيتهم . ويفشل في تنفيذ أمر الله فيهم .
قال الجمل : وقوله - تعالى - { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } أى التوراة ومعنى بأحسنها بحسنها إذ كل ما فيها حسن ، أو أمروا فيها بالخير ونهوا عن الشر ، وفعل الخير أحسن من ترك الشر ، وذلك لأن الكلمة المحتملة لمعنيين أو لمعان تحمل على أشبه محتملاتها بالحق وأقربها إلى الصواب .
أو أن فيها حسناً وأحسن كالقود والعفو ، والانتصار والصبر ، والمأمور به والمباح فأمروا بأن يأخذوا بما هو أكثر ثوابا .
وقوله - تعالى - { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } توكيد لأمر القوم بالأخذ بالأحسن وبعث عليه على نهج الوعيد والتهديد .
أى : سأريكم عاقبة من خالف أمرى ، وخرج عن طاعتى ، كيف يصير إلى الهلاك والدمار ، فتلك سنتى التي لا تتغير ولا تتبدل .
قال ابن كثير : وإنما قال { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } كما يقول القائل لمن يخاطبه : سأريك غداً ما يصير إليه حال من خالفنى على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره .
وقيل المراد بدار الفاسقين دار فرعون وقومه وهى مصر ، كيف أقفرت منهم ودمروا لفسهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فيصيبكم ما أصابهم .
وقيل المراد بها منازل عاد وثمود والأقوام الذين هلكوا بسبب كفرهم .
وقيل المراد بها أرض الشام التي كان يسكنها الجبارون . فإنهم لم يدخلوها إلا بعد أربعين سنة من خروجهم من مصر على يد يوشع بن نون .
والذى نراه أن الرأى الأول أرجح ، لأن الآية الكريمة تحكى سنة من سنن الله في خلقه ، وهذه السنة تتمثل في أن كل دار تفسق عن أمر ربها تكون عاقبتها الذل والدمار ، ولأنه لم يرد حديث صحيح يعين المراد بدار الفاسقين .
فالآية الكريمة قد اشتملت على جانب من مظاهر نعم الله على نبيه موسى - عليه السلام - كما اشتملت على الأمر الصريح منه - سبحانه - له بأن يهيىء نفسه لحمل تكاليف الرسالة بعزم وصبر ، وأن يأمر قومه بأن يأخذوا بأكملها وأعلاها بدون ترخيص أو تحايل ، لأنهم قوم كانت طبيعتهم رخوة وعزيمتهم ضعيفة ، ونفوسهم منحرفة . كما اشتملت على التحذير الشديد لكل من يخرج عن طاعة الله وينتهك حرماته .
ثم يبين السياق ماذا كان مضمون الرسالة ، وكيف أوتيها موسى :
( وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء ) . .
وتختلف الروايات والمفسرون في شأن هذه الألواح ؛ ويصفها بعضهم أوصافاً مفصلة - نحسب أنها منقولة عن الإسرائيليات التي تسربت إلى التفسير - ولا نجد في هذا كله شيئاً عن رسول الله [ ص ] فنكتفي بالوقوف عند النص القرآني الصادق لا نتعداه . وما تزيد تلك الأوصاف شيئاً أو تنقص من حقيقة هذه الألواح . أما ما هي وكيف كتبت فلا يعنينا هذا في شيء بما أنه لم يرد عنها من النصوص الصحيحة شيء . والمهم هو ما في هذه الألواح . إن فيها من كل شيء يختص بموضوع الرسالة وغايتها من بيان الله وشريعته والتوجيهات المطلوبة لإصلاح حال هذه الأمة وطبيعتها التي أفسدها الذل وطول الأمد سواء !
( فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ) . .
والأمر الإلهي الجليل لموسى - عليه السلام - أن يأخذ الألواح بقوة وعزم وأن يأمر قومة أن يأخذوا بما فيها من التكاليف الشاقة بوصفه الأحسن لهم والأصلح لحالهم . . هذا الأمر على هذا النحو فضلاً على أنه يشي بضرورة هذا الأسلوب في أخذ هذه الطبيعة الإسرائيلية ، التي أفسدها الذل وطول الأمد ، بالعزم والجد ، لتحمل تكاليف الرسالة والخلافة ، فإنه - كذلك - يوحي بالمنهج الواجب في أخذ كل أمة لكل عقيدة تأتيها . .
إن العقيدة أمر هائل عند الله - سبحانه - وأمر هائل في حساب هذا الكون ، وقدر الله الذي يصرفه ، وأمر هائل في تاريخ " الإنسان " وحياته في هذه الأرض وفي الدار الآخرة كذلك . . والمنهج الذي تشرعه العقيدة في وحدانية الله - سبحانه - وعبودية البشر لربوبيته وحده ، منهج يغير أسلوب الحياة البشرية بجملتها ، ويقيم هذه الحياة على أسلوب آخر غير الذي تجري عليه في الجاهلية ، حيث تقوم ربوبية غير ربوبية الله سبحانه ، ذات منهج للحياة كلها غير منهج الله الذي ينبثق من تلك العقيدة . .
وأمر له هذه الخطورة عند الله ، وفي حساب الكون ، وفي طبيعة الحياة وفي تاريخ " الإنسان " . . يجب أن يؤخذ بقوة ، وأن تكون له جديته في النفس ، وصراحته وحسمه . ولا ينبغي أن يؤخذ في رخاوة ، ولا في تميع ، و لا في ترخص ، ذلك أنه أمر هائل في ذاته ، فضلاً على أن تكاليفه باهظة لا يصبر عليها من طبيعته الرخاوة والتميع والترخص ، أو من يأخذ الأمر بمثل هذه المشاعر . .
وليس معنى هذا - بطبيعة الحال - هو التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض ! فهذا ليس من طبيعة دين الله . . ولكن معناه الجد والهمة والحسم والصراحة . . وهي صفات أخرى ومشاعر أخرى غير مشاعر التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض !
ولقد كانت طبيعة بني إسرائيل - بصفة خاصة - بعدما أفسدها طول الذل والعبودية في مصر ، تحتاج إلى هذا التوجيه . لذلك نلحظ أن كل الأوامر لبني إسرائيل كانت مصحوبة بمثل هذا التشديد وهذا التوكيد ، تربية لهذه الطبيعة الرخوة الملتوية المنحرفة الخاوية ، على الاستقامة والجد والوضوح والصراحة . .
ومثل طبيعة بني إسرائيل كل طبيعة تعرضت لمثل ما تعرضوا له من طول العبودية والذل ، والخضوعللإرهاب والتعبد للطواغيت ، فبدت عليها أعراض الالتواء والاحتيال ، والأخذ بالأسهل تجنباً للمشقة . . كما هو الملحوظ في واقع كثير من الجماعات البشرية التي نطالعها في زماننا هذا ، والتي تهرب من العقيدة لتهرب من تكاليفها ، وتسير مع القطيع ؛ لأن السير مع القطيع لا يكلفها شيئاً !
وفي مقابل أخذ هذا الأمر بقوة يعد الله موسى وقومه أن يمكن لهم في الأرض ، ويورثهم دار الفاسقين عن دينه :
والأقرب أنها إشارة إلى الأرض المقدسة التي كانت - في ذلك الزمان - في قبضة الوثنيين ، وأنها بشارة لهم بدخولها . . وإن كان بنو إسرائيل لم يدخلوها في عهد موسى - عليه السلام - لأن تربيتهم لم تكن قد استكملت ، وطبيعتهم تلك لم تكن قد قوّمت ، فوقفوا أمام الأرض المقدسة يقولون لنبيهم : ( يا موسى إن فيها قوماً جبارين . وإنا لن ندخلها ً حتى يخرجوا منها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ! ) . . ثم لما ألح عليهم الرجلان المؤمنان فيهم اللذان يخافان الله ، في الدخول والاقتحام ! أجابوا موسى بتوقح الجبان - كالدابة التي ترفس سائقها ! - : إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها ، فاذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا هاهنا قاعدون ! . . مما يصور تلك الطبيعة الخائرة المفككة الملتوية التي كانت تعالجها العقيدة والشريعة التي جاء بها موسى عليه السلام ، وأمر هذا الأمر الألهي الجليل أن يأخذها بقوة ، وأن يأمر قومه بحمل تكاليفها الشاقة . .
{ وكتبنا له في الألواح من كل شيء } مما يحتاجون إليه من أمر الدين . { موعظة وتفصيلا لكل شيء } بدل من الجار والمجرور ، أي وكتبنا له كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام . واختلف في أن الألواح كانت عشرة أو سبعة ، وكانت من زمرد أو زبرجد ، أو ياقوت أحمر أو صخرة صماء لينها الله لموسى فقطعها بيده وسقفها بأصابعه وكان فيها التوراة أو غيرها . { فخذها } على إضمار القول عطفا على كتبنا أو بدل من قوله : { فخذ ما آتيتك } والهاء للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء أو للرسالات . { بقوة } بجد وعزيمة . { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } أي بأحسن ما فيها كالصبر والعفو بالإضافة إلى الانتصار ، والاقتصاص على طريقة الندب والحث على الأفضل كقوله تعالى . { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } . أو بواجباتها فإن الواجب أحسن من غيره ، ويجوز أن يراد بالأحسن البالغ في الحسن مطلقا لا بالاضافة ، وهو المأمور به كقولهم الصيف أحر من الشتاء . { سأريكم دار الفاسقين } دار فرعون وقومه بمصر خاوية على عروشها ، أو منازل عاد وثمور وأضرابهم لتعتبروا فلا تفسقوا ، أو دارهم في الآخرة وهي جهنم . وقرئ سأوريكم بمعنى سأبين لكم من أوريت الزند وسأورثكم ، ويؤيده قوله : { وأورثنا القوم } .
عطف على جملة { قال يا موسى ، إني اصطفيتك على الناس برسالتي } [ الأعراف : 144 ] إلى آخرها ، لأن فيها : { فخذ ما آتيتك } [ الأعراف : 144 ] والذي آتاه هو ألواح الشريعة ، أو هو المقصود من قوله : { ما آتيتك } .
والتعريف في الألواح يجوز أن يكون تعريف العهد ، إن كان { ما آتيتك } مراداً به الألواح التي أُعطيها موسى في المناجاة ، فساغ أن تعرّف تعريف العهد ، كأنه قيل : فخذ ألواحاً آتيتُكها ، ثم قيل : كتبنا له في الألواح ، وإذا كان ما آتيتك مراداً به الرسالة والكلام كان التعريف في الألواح تعريف الذهني ، أي : وكتبنا له في ألواح معينة من جنس الألواح .
والألواح جمع لَوْحَ بفتح اللام ، وهو قطعة مربعة من الخشب ، وكانوا يكتبون على الألواح ، أو لأنها ألواح معهودة للمسلمين الذين سيقت إليهم تفاصيل القصة ( وإن كان سوق مجمل القصة لتهديد المشركين بأن يحل بهم ما حصل بالمكذبين بموسى ) .
وتسمية الألواح التي أعطاها الله موسى ألواحاً مجاز بالصورة لأن الألواح التي أعطيها موسى كانت من حجارة ، كما في التوراة في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الخروج ، فتسميتها الألواح ؛ لأنها على صورة الألواح ، والذي بالإصحاح الرابع والثلاثين أن اللوحين كتبت فيهما الوصايا العشر التي ابتدأت بها شريعة موسى ، وكانا لوحين ، كما في التوراة ، فإطلاق الجمع عليها هنا : إما من باب إطلاق صيغة الجمع على المثنى بناء على أن أقل الجمع اثنان ، وإما لأنهما كانا مكتوبين على كلا وجهيهما ، كما يقتضيه الإصحاح الثاني والثلاثون من سفر الخروج ، فكانا بمنزلة أربعة ألواح .
وأسندت الكتابة إلى الله تعالى ؛ لأنها كانت مكتوبة نقشاً في الحجر من غير فعل إنسان بل بمحض قدرة الله تعالى ، كما يفهم من الإصحاح الثاني والثلاثين ، كما أسند الكلام إلى الله في قوله : { وبكلامي } [ الأعراف : 144 ] .
و ( مِنْ ) التي في قوله : { من كل شيء } تبعيضية متعلقة ب { كتبنا } ومفعول { كتبنا } محذوف دل عليه فعل كتبنا أي مكتُوباً ، ويجوز جعل ( مِن ) اسما بمعنى بعض فيكون منصوباً على المفعول به بكتبنا ، أي كتبنا له بعضاً من كل شيء ، وهذا كقوله تعالى في سورة النمل ( 16 ) { وأوتينا من كل شيء } وكل شيء عام عموماً عرفياً أي كل شيء تحتاج إليه الأمة في دينها على طريقة قوله تعالى : { مَا فرطنا في الكتاب من شيء } [ الأنعام : 138 ] على أحد تأويلين في أن المراد من الكتاب القرآن ، وعلى طريقة قوله تعالى : { اليوم أكملتُ لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] أي أصوله .
والذي كتب الله لموسى في الألواح هو أصول كليات هامة للشريعة التي أوحى الله بها إلى موسى عليه السلام وهي ما في الإصحاح ( 20 ) من سفر الخروج ونصها : أنا الرب إلاهك الذي اخرجك من أرض مصر من بيت العبودية ، لا يكن لك ءالهة أخرى أمامي ، لا تصنع تمثالاً منحوتاً ، ولا صورة مّا مما في السماء ، من فوق ، وما في الأرض من تحت ، وما في الماء من تحت الأرض ، لا تسجد لهن ولا تعبُدْهن لأني أنا الرب إلاهك غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضيَّ واصنع إحساناً إلى ألوف من محِبّيّ وحافظي وصاياي ، لا تنطق باسم الرب إلاهك باطلاً لأن الرب لا يبرىء من نطق باسمه باطلاً ، اذكر يوم السبت لتقدسه ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلاهك لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأختك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك ؛ لأن في ستة أيام صنع الرب السما والأرض والبحر ، وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه ، أكرم أباك وأمك ؛ لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلاهك ، لا تقتلْ ، لا تزْننِ لا تسرق ، لا تشهد ، على قريبك شهادة زور ، لا تشته بيت قريبك ، لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ، ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك اهـ ، واشتهرت عند بني إسرائيل بالوصايا العشر ، وبالكلمات العشر أي لجمل العشر .
وقد فصلت ( في ) من الإصحاح العشرين إلى نهاية الحادي والثلاثين من سفر الخروج ، ومن جملتها الوصايا العشر التي كلم الله بها موسى في جبل سينا ووقع في الإصحاح الرابع والثلاثين إن الألواح لم تكتب فيها إلاّ الكلمات العشر ، التي بالفقرات السبع عشرة منه ، وقوله هنا { موعظة وتفصيلاً } يقتضي الاعتماد على ما في الأصاحيح الثلاثة عشر .
والموعظة اسم مصدر الوعظ وهو نصح بإرشاد مشوب بتحذير من لحاق ضر في العاقبة أو بتحريض على جلب نفع ، مغفول عنه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف } في سورة البقرة ( 275 ) ، وقوله : { فأعرض عنهم وعظْهم } في سورة النساء ( 63 ) ، وسيجيء قوله : { والموعظة الحسنة } في آخر سورة النحل ( 125 ) .
والتفصيل التبيين للمجملات ولعل الموعظة هي الكلمات العشر والتفصيل ما ذكر بعدها من الأحكام في الإصحاحات التي ذكرناها .
وانتصب { موعظة } على الحال من كل شيء ، أو على البدل من ( من ) إذا كانت اسماً إذا كان ابتداء التفصيل قد عَقِبَ كتابة الألواح بما كلمه الله به في المناجاة مما تضمنه سفر الخروج من الإصحاح الحادي والعشرين إلى الإصحاح الثاني والثلاثين ولما أوحي إليه إثر ذلك .
ولك أن تجعل { موعظة وتفصيلاً } حالين من الضمير المرفوع في قوله : { وكتبنا له } أي واعظينَ ومفصلين ، فموعظة حال مقارنة وتفصيلاً حال مقدّرة ، وأما جعلهما بدلين من قوله : { من كل شيء } فلا يستقيم بالنسبة لقوله : { وتفصيلاً } .
وقوله : { فخذها } يتعين أن الفاء دالة على شيء من معنى ما خاطب الله به موسى ، ولما لم يقع فيما وَليتْه ما يصلح لأن يتقرع عنه الأمر بأخذها بقوة . تعين أن يكون قوله : { فخذها } بدلاً من قوله : { فخذ ما آتيتك } [ الأعراف : 144 ] بدلَ اشتمال لأن الأخذ بقوة يشتمل عليه الأخذ المطلق ، وقد اقتضاه العود ، إلى ما خاطب الله به موسى إثر صعقته إتماماً لذلك الخطاب فأعيد مضمون ما سبق ليتصل ببقيته ، فيكون بمنزلة أن يقول فخذ ما آتيتك بقوة وكن من الشاكرين ، ويكون ما بينهما بمنزلة اعتراض ، ولولا إعادة { فخذها } لكان ما بين قوله : { من الشاكرين } [ الأعراف : 144 ] وقوله : { وأمرْ قومك يأخذوا } اعتراضاً على بابه ولمّا اقتضى المقام هذا الفصلَ ، وإعادة الأمر بالأخذ ، اقتضى حسن ذلك أن يكون في الإعادة زيادة ، فأخر مقيّد الأخذ ، وهو كونه بقوة ، عن التعلق بالأمر الأول ، وعلق بالأمر الثاني الرابط للأمر الأول ، فليس قوله : { فخذها } بتأكيد ، وعلى هذا الوجه يكون نظم حكاية الخطاب لموسى على هذا الأسلوب من نظم القرآن .
ويجوز أن يكون في أصل الخطاب المحكي إعادة ما يدل على الأمر بالأخذ لقصد تأكيد هذا الأخذ ، فيكون توكيداً لفظياً ، ويكون تأخيرُ القيد تحسيناً للتوكيد اللفظي ليكون معه زيادة فائدة ، ويكون الاعتراض قد وقع بيْن التوكيد والموكّد وعلى هذا الوجه يكون نظم الخطاب على هذا الأسلوب من نظم الكلام الذي كلّم الله به موسى حكي في القرآن على أسلوبه الصادر به .
والضمير المؤنث في قوله : { فخذها } عائِد إلى الألواح باعتبار تقدم ذكرها في قوله : { وكتبنا له في الألواح } . والمقول لموسى هو مرجع الضمير ، وفي هذا الضمير تفسير للإجمال في قوله : { ما آتيتك } [ الأعراف : 144 ] وفي هذا ترجْيح كون ما صْدَق { ما آتيتك } هو الألواح ، وَمن جَعلوا ما صْدَق { ما آتيتك } الرسالةَ والكلامَ جعلوا الفاءَ عاطفة لقول محذوف على جملة { وكتبنا } والتقدير عندهم : وكتبنا فقلنا خُذها بقوة ، وما اخترناه أحسن وأوفق بالنظم .
والأخذُ : تناول الشيء ، وهو هنا مجاز في التلقي والحفظ .
والباء في قوله : { بقوة } للمصاحبة .
والقوة حقيقتها حالة في الجسم يتأتّى له بها أن يعمل ما يشُق عمله في المعتاد فتكون في الأعضاء الظاهرة مثل قُوة اليدين على الصنع الشديد ، والرجلْين على المشي الطويل ، والعينين على النظر للمرئيات الدقيقة . وتكون في الأعضاء الباطنة مثل قوة الدماغ على التفكير الذي لا يستطيعه غالب الناس ، وعلى حفظ ما يعجز عن حفظه غالب الناس ومنه قولهم : قوة العقل .
وإطلاق اسم القُوى على العقل وفيما أنشد ثعْلب :
وصاحِبيْن حازماً قَواهما *** نَبّهْتُ والرقادُ قدْ علاهما
وسمى الحكماء الحواس الخمس العقلية بالقوى الباطنية وهي الحافظة ، والواهمة ، والمفكرة ، والمخيّلة ، والحسُ المشترك .
فيقال : فرس قوي ، وجمل قوي على الحقيقة ، ويقال : عود قوي ، إذا كان عسير الإنكسار ، وأسّس قوي ، إذا كان لا ينخسف بما يُبنى عليه من جدار ثقيل ، إطلاقاً قريباً من الحقيقة ، وهاته الحالة مقول عليها بالتشكيك لأنها في بعض موصوفاتها أشّدُ منها في بعض آخر ، ويظهر تفاوتها في تفاوت ما يستطيع موصوفها أن يعمله من عمل ممّا هي حالة فيه ، ولما كان من لوازم القوة أن قدره صاحبها على عمل ما يريده أشد مما هو المعتاد ، والأعمالُ عليه أيسر ، شاع إطلاقها على الوسائِل التي يستعين بها المرء على تذليل المصاعب مثل السلاح والعتاد ، والمال ، والجاه ، وهو إطلاق كنائي قال تعالى : { قالوا نحن أولوا قوة } في سورة النمل ( 33 ) .
ولكونها يلزمها الاقتدار على الفعل وُصف الله تعالى باسم القوي أي الكامل القدرة قال تعالى : { إن الله قوي شديد العقاب } في سورة الأنفال ( 52 ) .
والقوة هنا في قوله : { فخذها بقوة } تمثيل لحالة العزم على العمل بما في الألواح ، بمنتهى الجِد والحِرص دون تأخير ولا تساهل ولا انقطاع عند المشقة ولا ملل ، بحالة القوي الذي لا يستعصي عليه عمل يريده . ومنه قوله تعالى : { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } في سورة مريم ( 12 ) .
وهذا الأخذ هو حَظ الرسول وأصحابه المبلغين للشريعة والمنفذين لها ، فالله المشرّع ، والرسولُ المنفذ ، وأصحابه ووُلاةَ الأمور هم أعوان على التنفيذ ، وإنما اقتصر على أمر الرسول بهذا الأخذ لأنه من خصائصه من يقوم مقامه في حضرته وعند مغيبه ، وهُو وُهمْ فيما سوى ذلك كسائر الأمة .
فقوله : { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } تعريج على ما هو حظ عموم الأمة من الشريعة وهو التمسك بها ، فهذا الأخذ مجاز في التمسك والعمل ولذلك عدي بالباء الدالة على اللصوق ، يقال : أخذ بكذا إذا تمسك به وقبض عليه ، كقوله : { وأخذ برأس أخيه } [ الأعراف : 150 ] وقوله : { لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي } [ طه : 94 ] . ولم يُعد فعل الأخذ بالباء في قوله : { فخذها } لأنه مستعمل في معنى التلقي والحفظ لأنه أهم من الأخذ بمعنى التمسك والعمل ، فإن الأول حظ ولي الأمر والثاني حظ جميع الأمة .
وجزم { يأخذوا } جواباً لقوله : { وأمرْ } تحقيقاً لحصول امتثالهم عندما يأمرهم .
و { بأحسنها } وصف مسلوب المفاضلة مقصود به المبالغة في الحُسن ، فإضافتها إلى ضمير الألواح على معنى اللام ، أي : بالأحسن الذي هو لها وهو جميع ما فيها ، لظهور أن ما فيها من الشرائع ليس بينه تفاضل بين أحسن ودون الأحسن ، بل كله مرتبة واحدة فيما عين له ، ولظهور أنهم لا يؤمنون بالأخذ ببعض الشريعة وترك بعضها ، ولأن الشريعة مفصّل فيها مراتب الأعمال ، فلو أن بعض الأعمال كان عندها أفضلَ من بعض ، كالمندوب بالنسبة إلى المباح ، وكالرخصة بالنسبة إلى العزيمة ، كان الترغيب في العمل بالأفضل مذكوراً في الشريعة ، فكان ذلك من جملة الأخذ بها ، فقرائِن سلب صيغة التفضيل عن المفاضلة قائمة واضحة ، فلا وجه للتردد في تفسير الأحسن في هذه الآية والتعزب إلى التنظير بتراكيب مصنوعة أو نادرة خارجة عن كلام الفصحاء ، وهذه الآية والتعزب إلى التنظير بتراكيب مصنوعة أو نادرة خارجة عن كلام الفصحاء ، وهذه الآية نظير قوله تعالى : { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } في سورة الزمر ( 55 ) . والمعنى : وامر قومَك يأخذوا بما فيها لحسنها .
كلام موجّه إلى موسى عليه السلام فيجوز أن يكون منفصلاً عن الكلام الذي قبله فيكون استئنافاً ابتدائياً : هو وعد له بدخولهم الأرض الموعودة ، ويجوز أن تكون الجملة متصلة بما قبلها فتكون من تمام جملة { وأْمرْ قومك يأخذوا باحسنها } على أنها تحذير من التفريط في شيء مما كُتب له في الألواح . والمعنى سأبين لكم عقاب الذين لا يأخذون بها .
والدار المكان الذي تسكنه العائِلة ، كما في قوله تعالى : { فخسفنا به وبداره الأرض } في سورة القصص ( 81 ) والمكان الذي يحله الجماعة من حي أو قبيلة كما قال تعالى : { فأصبحوا في دارهم جاثمين } [ الأعراف : 91 ] وقد تقدم . وتطلق الدار على م { فنعم عقبى الدار } [ الرعد : 24 ] ، وقد يراد بها مآل المرء ومصيره ؛ لأنه بمنزلة الدار يأوي إليه في شأنه . وقد تقدم قريب من هذا عند قوله تعالى : { فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } في سورة الأنعام ( 135 ) .
وخوطب بضمير الجمع باعتبار من معه من أصحابه شيوخ بني إسرائيل ، أو باعتبار جماعة قومه فالخطاب شامل لموسى ومن معه .
والإراءة من رأى البصرية ؛ لأنها عديت إلى مفعولين فقط .
وأوثر فعل { أريكم } دون نحو : سأدخلكم ، لأن الله منع معظم القوم الذين كانوا مع موسى من دخول الأرض المقدسة لمّا امتنعوا من قتال الكنعانيين كما تقدم في قوله تعالى : { قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض } في سورة المائدة ( 26 ) . وجاء ذلك في التوراة في سفر التثنية الإصحاح الأول : أن الله قال لموسى : { وأنت لا تدخل إلى هناك } وفي الإصحاح ( 34 ) وصعد موسى إلى الجبل ( نبو ) فأراه الله جميع الأرض وقال له : هذه الأرض التي أقسمتُ لإبراهيم قائِلاً لِنسلك أُعطيها قد أريتُك إياها بعينيك ولكنك لا تعبُرُ .
ويجوز أن يكون سأريكم خطاباً لقوم موسى ، فيكون فعل أريكم كناية عن الحلول في دار الفاسقين ، والحلول في ديار قوم لا يكون إلاّ الفتح والغلبة ، فالإراءة رمز إلى الوعد بفتح بلاد الفاسقين ، والمراد بالفاسقين المشركون ، فالكلام وعد لموسى وقومه بأن يفتحوا ديار الأمم الحالة بالأرض المقدسة التي وعدهم الله بها ، وهم المذكورون في التوراة في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر الخروج خطاباً للشعب إحفظ ما أنا موصيك به ها أنا طارد من قدامك الأموريين ، والكنعانيين ، والحثيين ، والفرزيين ، والحويين ، واليبوسيين ، احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فَخّا في وسطك بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم فإنك لا تسْجد لإله آخر .
ويؤيده مَا روي عن قتادة أن دار الفاسقين هي دار العمالقة والجبابرة ، وهي الشام ، فمن الخطأ تفسير من فسروا دار الفاسقين بأنها أرض مصر فإنهم قد كانوا بها وخرجوا منها ولم يرجعوا إليها ، ومن البعيد تفسير دار الفاسقين بجهتهم ، وفي الإصحاح 34 من سفر الخروج احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض التي أنت آت إليها فيزنون وراء آلهتهم ويذبحون لآلهتهم فتُدعى وتأكل من ذبيحتهم وتأخذ من بناتهم لبنيك فتزني بناتهم وراء آلهتهن ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن ، ولا يخفى حسن مناسبة التعبير عن أولئك الأقوام بالفاسقين على هذا الوجه .
وقيل المراد بدار الفاسقين ديار الأمم الخالية مثل ديار ثمود وقوم لوط الذين أهلكهم الله لكفرهم ، أي ستمرون عليهم فترون ديارهم فتتعظون بسوء عاقبتهم لفسقهم ، وفيه بعد لأن بني إسرائيل لم يمروا مع موسى على هذه البلاد .
والعدول عن تسمية الأمم بأسمائهم إلى التعبير عنهم بوصف الفاسقين ؛ لأنه أدل على تسبب الوصف في المصير الذي صاروا إليه ، ولأنه أجمع وأوجز ، واختيار وصف الفاسقين دون المشركين والظالمين الشائِع في التعبير عن الشرك في القرآن ؛ للتنبيه على أن عاقبتهم السوأى تسببت على الشرك وفاسد الأفعال معاً .