{ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } أي : أعلمهم به ، وادعهم إليه ، وبلغ دانيهم وقاصيهم ، فرضه وفضيلته ، فإنك إذا دعوتهم ، أتوك حجاجا وعمارا ، رجالا ، أي : مشاة على أرجلهم من الشوق ، { وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } أي : ناقة ضامر ، تقطع المهامه والمفاوز ، وتواصل السير ، حتى تأتي إلى أشرف الأماكن ، { مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } أي : من كل بلد بعيد ، وقد فعل الخليل عليه السلام ، ثم من بعده ابنه محمد صلى الله عليه وسلم ، فدعيا الناس إلى حج هذا البيت ، وأبديا في ذلك وأعادا ، وقد حصل ما وعد الله به ، أتاه الناس رجالا وركبانا من مشارق الأرض ومغاربها ،
ثم ذكر - سبحانه - ما أمر به نبيه إبراهيم بعد أن بوأه مكان البيت فقال : { وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } .
والآذان : الإعلام . و " رجالا " أى : مشاة على أرجلهم ، جمع راجل .
يقال : رَجِل بزنة فرح فلان يَرْجَل فهو راجل إذا لم يكن معه ما يركبه .
والضامر : البعير المهزول من طول السفر ، وهو اسم فاعل من ضمر - بزنة قعد - يضمر ضمورا فهو ضامر ، إذا أصابه الهزال والتعب .
وجملة " يأتين من كل فج عميق " صفة لقوله " كل " ، والجمع باعتبار المعنى . كأنه قيل : وركبانا على ضوامر من كل طريق بعيد .
والفج فى الأص : الفجوة بين جبلين ويستعمل فى الطريق المتسع . والمراد به هنا : مطلق الطريق وجمعه فجاج .
والعميق : البعيد ، مأخوذ من العمق بمعنى البعد ، ومنه قولهم : بئر عميقة ، أى : بعيدة الغور .
والمعنى : وأَعْلِمْ يا إبراهيم الناس بفريضة الحج يأتوك مسرعين مشاة على أقدامهم ، ويأتوك راكبين على دوابهم المهزولة ، من كل مكان بعيد .
قال ابن كثير : أى : ناد - يا إبراهيم - فى الناس داعيا إياهم إلى الحج إلى هذا البيت الذى آمرناك ببنائه ، فذكر أنه قال : يارب ، وكيف أبلغ الناس وصوتى لا يصل إليهم ؟ فقيل : ناد وعلينا البلاغ ، فقام على مقامه ، وقيل : على الحجر ، وقيل : على الصفا ، وقيل : على أبى قبيس ، وقال : يا أيها الناس ، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه فيقال : إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ، وأجابه كل شىء سمعه من حجر ومدر وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة : " لبيك اللهم لبيك " .
وقيل : إن الخطاب فى قوله - تعالى - : { وَأَذِّن . . . } للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن الكلام عن إبراهيم - عليه السلام - قد انتهى عند قوله - تعالى - : { والركع السجود } .
وجمهور المفسرين على أن الخطاب لإبراهيم - عليه السلام - لأن سياق الآيات يدل عليه ، ولأن التوافد على هذا البيت موجود منذ عهد إبراهيم .
وما يزال وعد الله يتحقق منذ هذا العهد إلى اليوم وإلى الغد ، وما تزال أفئدة ملايين الناس تهوى إليه ، وقلوبهم تنشرح لرؤيته ، وتسعد بالطواف من حوله .
ثم أمر الله عليه السلام - باني البيت - إذا فرغ من إقامته على الأساس الذي كلف به أن يؤذن في الناس بالحج ؛ وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام ووعده أن يلبي الناس دعوته ، فيتقاطرون على البيت من كل فج ، رجالا يسعون على أقدامهم ، وركوبا ( على كل ضامر )جهده السير فضمر من الجهد والجوع : ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ) . .
وما يزال وعد الله يتحقق منذ إبراهيم - عليه السلام - إلى اليوم والغد . وما تزال أفئدة من الناس تهوى إلى البيت الحرام ؛ وترف إلى رؤيته والطواف به . . الغني القادر الذي يجد الظهر يركبه ووسيلة الركوب المختلفة تنقله ؛ والفقير المعدم الذي لا يجد إلا قدميه . وعشرات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة تلبية لدعوة الله التي أذن بها إبراهيم - عليه السلام - منذ آلاف الأعوام . .
وقوله : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } أي : ناد في الناس داعيا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه . فَذُكر أنه قال : يا رب ، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم ؟ فقيل : ناد وعلينا البلاغ .
فقام على مقامه ، وقيل : على الحجر ، وقيل : على الصفا ، وقيل : على أبي قُبَيس ، وقال : يا أيها الناس ، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه ، فيقال : إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ، وأسمَعَ مَن في الأرحام والأصلاب ، وأجابه كل شيء سمعه من حَجَر ومَدَر وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة : " لبيك اللهم لبيك " .
هذا مضمون ما روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَير ، وغير واحد من السلف ، والله أعلم .
أوردها ابن جَرير ، وابن أبي حاتم مُطَوّلة{[20139]}-{[20140]} .
وقوله : { يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } قد يَستدلّ بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشيا ، لمن قدر عليه ، أفضلُ من الحج راكبا ؛ لأنه قدمهم في الذكر ، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم ، والذي عليه الأكثرون أن الحج راكبا أفضل ؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه حج راكبا مع كمال قوته ، عليه السلام .
وقوله : { يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ } يعني : طريق ، كما قال : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا } [ الأنبياء : 31 ] .
وقوله : { عَمِيقٍ } أي : بعيد . قاله مجاهد ، وعطاء ، والسدي ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان ، والثوري ، وغير واحد .
وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم ، حيث قال في دعائه : { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف ، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار .
{ وأذّن } عطف على { وطهر بيتي } [ الحج : 26 ] . وفيه إشارة إلى أن من إكرام الزائر تنظيف المنزل وأنّ ذلك يكون قبل نزول الزائر بالمكان .
والتأذين : رفع الصوت بالإعلام بشيء . وأصله مضاعف أذن إذا سمع ثم صار بمعنى بلغه الخبر فجاء منه آذن بمعنى أخبر . وأذّن بما فيه من مضاعفة الحروف مشعر بتكرير الفعل ، أي أكثر الإخبار بالشيء . والكثرة تحصل بالتكرار وبرفع الصوت القائم مقام التكرار . ولكونه بمعنى الإخبار يُعدّى إلى المفعول الثاني بالباء .
والناس يعمّ كل البشر ، أي كل ما أمكنه أن يبلغ إليه ذلك .
والمراد بالحجّ : القصد إلى بيت الله . وصار لفظ الحجّ علماً بالغلبة على الحضور بالمسجد الحرام لأداء المناسك . ومن حكمة مشروعيته تلقي عقيدة توحيد الله بطريق المشاهدة للهيكل الذي أقيم لذلك حتى يرسخ معنى التوحيد في النفوس لأن للنفوس ميلاً إلى المحسوسات ليتقوى الإدراك العقلي بمشاهدة المحسوس . فهذه أصل في سنّة المؤثرات لأهل المقصد النافع .
وفي تعليق فعل { يأتوك } بضمير خطاب إبراهيم دلالة على أنه كان يحضر موسم الحجّ كل عام يبلّغ للناس التوحيد وقواعد الحنيفية . روي أن إبراهيم لما أمره الله بذلك اعتلى جبل أبي قيس وجعل أصبعيه في أذنيه ونادى : « إن الله كتب عليكم الحجّ فْحُجُّوا » . وذلك أقصى استطاعته في امتثال الأمر بالتأذين . وقد كان إبراهيم رحّالة فلعله كان ينادي في الناس في كل مكان يحل فيه .
وجملة { يأتوك } جواب للأمر ، جعل التأذين سبباً للإتيان تحقيقاً لتيسير الله الحج على الناس . فدل جواب الأمر على أنّ الله ضمن له استجابة ندائه .
وقوله { رجالاً } حال من ضمير الجمع في قوله { يأتوك } .
وعطف عليه و { على كل ضامر } بواو التقسيم التي بمعنى ( أو ) كقوله تعالى : { ثيبات وأبكاراً } [ التحريم : 5 ] إذ معنى العطف هنا على اعتبار التوزيع بين راجل وراكب ، إذ الراكب لا يكون راجلاً ولا العكس . والمقصود منه استيعاب أحوال الآتين تحقيقاً للوعد بتيسير الإتيان المشار إليه بجعل إتيانهم جواباً للأمر ، أي يأتيك من لهم رواحل ومن يمشون على أرجلهم .
ولكون هذه الحال أغرب قدّم قوله { رجالاً } ثم ذكر بعده { وعلى كل ضامر } تكملة لتعميم الأحوال إذ إتيان الناس لا يعدو أحد هذين الوصفين .
و { رجالاً } : جمع راجل وهو ضد الراكب .
والضامر : قليل لحم البطن . يقال : ضمر ضمُوراً فهو ضامر ، وناقة ضامر أيضاً . والضمور من محاسن الرواحل والخيللِ لأنه يعينها على السير والحركة .
فالضامر هنا بمنزلة الاسم كأنه قال : وعلى كلّ راحلة .
وكلمة ( كُلّ ) من قوله { وعلى كل ضامر } مستعملة في الكثرة ، أي وعلى رواحل كثيرة . وكلمة ( كلّ ) أصلها الدلالة على استغراق جنس ما تضاف إليه ويكثر استعمالها في معنى كثير مما تضاف إليه كقوله تعالى : { وأوتيت من كل شيء } [ النمل : 23 ] أي من أكثر الأشياء التي يؤتاها أهل الملك ، وقول النابغة :
بها كلّ ذيّال وخنساء ترعوي *** إلى كلّ رجّاف من الرمل فارد
أي : بها وحش كثير في رمال كثيرة .
وتكرر هذا الإطلاق ثلاث مرات في قول عنترة :
جادت عليه كلّ بِكْرٍ حُرة *** فتركْنَ كلّ قرارة كالدرهم
سَحاً وتسكاباً فكلّ عشيةٍ *** يجري عليها الماء لم يتصرم
وتقدم عند قوله تعالى : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } في [ سورة البقرة : 145 ] . ويأتي إن شاء الله في سورة النمل .
و { يأتين } يجوز أن يكون صفة ل { كل ضامر } لأن لفظ ( كل ) صيره في معنى الجمع . وإذ هو جمع لما لا يعقل فحقه التأنيث ، وإنما أسند الإتيان إلى الرواحل دون الناس فلم يقل : يأتون ، لأنّ الرواحل هي سبب إتيان الناس من بُعد لمن لا يستطيع السفر على رجليه .
ويجوز أن تُجعل جملة { يأتين } حالاً ثانية من ضمير الجمع في { يأتوك } لأنّ الحال الأولى تضمنت معنى التنويع والتصنيف ، فصار المعنى : يأتوك جماعات ، فلما تأوّل ذلك بمعنى الجماعات جرى عليهم الفعل بضمير التأنيث .
وهذا الوجه أظهر لأنه يتضمن زيادة التعجيب من تيسير الحج حتى على المشاة . وقد تشاهد في طريق الحج جماعات بين مكة والمدينة يمشون رجالاً بأولادهم وأزوادهم وكذلك يقطعون المسافات بين مكة وبلادهم .
والفجّ : الشقّ بين جبلين تسير فيه الركاب ، فغلب الفجّ على الطريق لأن أكثر الطرق المؤدية إلى مكة تُسلك بين الجبال .
والعميق : البعيد إلى أسفل لأن العمق البعد في القعر ، فأطلق على البعيد مطلقاً بطريقة المجاز المرسل ، أو هو استعارة بتشبيه مكة بمكان مرتفع والناس مصعدون إليه . وقد يطلق على السفر من موطن المسافر إلى مكان آخر إصعاد كما يطلق على الرجوع انحدار وهبوط ، فإسناد الإتيان إلى الرواحل تشريف لها بأن جعلها مشاركة للحجيج في الإتيان إلى البيت .
قال الشافعي: فسمعت بعض من أرضى من أهل العلم يذكر أن الله تبارك وتعالى لما أمر بهذا إبراهيم عليه السلام، وقف على المقام فصاح صيحة: « عباد الله أجيبوا داعي الله» فاستجاب له حتى من في أصلاب الرجال وأرحام النساء. فمن حج البيت بعد دعوته فهو ممن أجاب دعوته ووافاه من وافاه يقولون: لبيك داعي ربنا لبيك. (الأم: 2/141)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: عهدنا إليه أيضا أن أذّن في الناس بالحجّ يعني بقوله:"وأذّنْ" أعلم وناد في الناس أن حجوا أيها الناس بيت الله الحرام.
"يَأْتُوكَ رِجالاً "يقول: فإن الناس يأتون البيت الذي تأمرهم بحجه مشاة على أرجلهم، "وَعَلى كُلّ ضَامِرٍ" يقول: وركبانا على كلّ ضامر، وهي الإبل المهازيل، "يَأْتِينَ مِنْ كُلّ فَجّ عَمِيقٍ" يقول: تأتي هذه الضوامر من كلّ فجّ عميق يقول: من كلّ طريق ومكان ومسلك بعيد...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وأذن في الناس بالحج} يحتمل وجهين: أحدهما: على الإعلام، أن أعلم الناس أن لله عليهم الحج بالبيت كقوله: {ولله على الناس حج البيت} الآية [آل عمران: 97]. والثاني: {وأذن في الناس بالحج} أي ادع الناس، ونادهم أن يحجوا البيت.
قال أهل التأويل: لما أمر الله إبراهيم أن ينادي في الناس بالحج، فنادى، فأسمع الله صوته ما بين المشرق والمغرب حتى أسمع صوته ونداءه من [في] أصلاب الرجال وأرحام النساء، قالوا: لَبَّيْكَ، ومن حج بيته فهو الذي أجاب إبراهيم لما ناداهم.
لكن لا يُعلم ذلك إلا بالخبر عن رسول الله أنه كان ما ذكروا، وإلا فالسكوت عنه وعن مثله أولى.
{يأتين من كل فج عميق} أضاف الإتيان إلى الدواب لأنه بالدواب يأتون، فأضاف إليها لذلك، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وقدَّم الرَّجالةَ على الركبان لأنَّ الحَمْلَ على المركوب أكثر...
ويقال {يَأتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} هذا على وجه المدح وسبيل الشكر منهم...
وكم قَدْرُ مسافةِ الدنيا بجملتها!؟ ولكنْ لأِجْلِ قَدْرِ أفعالهم وتعظيمِ صنيعِهم يقول ذلك إظهاراً لفضله وكرمه.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قال ابن عباس: ما أتأسف على شيء، تأسفي أني لم أحج ماشيا؛ لأن الله تعالى قدم المشاة على الركبان.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وإنما قال "يأتوك "وإن كانوا يأتون الكعبة؛ لأن المنادي إبراهيم، فمن أتى الكعبة حاجا فكأنما أتى إبراهيم؛ لأنه أجاب نداءه، وفيه تشريف إبراهيم.وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي. لا خلاف في جواز الركوب والمشي...
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
{وَأَذّن فِى الناس بالحج} ناد فيهم، والحج هو القصد البليغ إلى مقصد منيع.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أي: أعلمهم به، وادعهم إليه، وبلغ دانيهم وقاصيهم، فرضه وفضيلته، فإنك إذا دعوتهم، أتوك حجاجا وعمارا، رجالا، أي: مشاة على أرجلهم من الشوق، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي: ناقة ضامر، تقطع المهامه والمفاوز، وتواصل السير، حتى تأتي إلى أشرف الأماكن، {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي: من كل بلد بعيد، وقد فعل الخليل عليه السلام، ثم من بعده ابنه محمد صلى الله عليه وسلم، فدعيا الناس إلى حج هذا البيت، وأبديا في ذلك وأعادا، وقد حصل ما وعد الله به، أتاه الناس رجالا وركبانا من مشارق الأرض ومغاربها، ثم ذكر فوائد زيارة بيت الله الحرام، مرغبا فيه فقال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم أمر الله نبيه -عليه السلام -باني البيت- إذا فرغ من إقامته على الأساس الذي كلف به أن يؤذن في الناس بالحج؛ وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام ووعده أن يلبي الناس دعوته، فيتقاطرون على البيت من كل فج،.. وما يزال وعد الله يتحقق منذ إبراهيم -عليه السلام- إلى اليوم والغد. وما تزال أفئدة من الناس تهوى إلى البيت الحرام؛ وترف إلى رؤيته والطواف به.. الغني القادر الذي يجد الظهر يركبه ووسيلة الركوب المختلفة تنقله؛ والفقير المعدم الذي لا يجد إلا قدميه. وعشرات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة تلبية لدعوة الله التي أذن بها إبراهيم -عليه السلام- منذ آلاف الأعوام ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وأذّن} عطف على {وطهر بيتي}. وفيه إشارة إلى أن من إكرام الزائر تنظيف المنزل وأنّ ذلك يكون قبل نزول الزائر بالمكان.والتأذين: رفع الصوت بالإعلام بشيء. وأصله مضاعف أذن إذا سمع ثم صار بمعنى بلغه الخبر فجاء منه آذن بمعنى أخبر. وأذّن بما فيه من مضاعفة الحروف مشعر بتكرير الفعل، أي أكثر الإخبار بالشيء. والكثرة تحصل بالتكرار وبرفع الصوت القائم مقام التكرار...والناس يعمّ كل البشر، أي كل ما أمكنه أن يبلغ إليه ذلك. والمراد بالحجّ: القصد إلى بيت الله. وصار لفظ الحجّ علماً بالغلبة على الحضور بالمسجد الحرام لأداء المناسك. ومن حكمة مشروعيته تلقي عقيدة توحيد الله بطريق المشاهدة للهيكل الذي أقيم لذلك حتى يرسخ معنى التوحيد في النفوس لأن للنفوس ميلاً إلى المحسوسات ليتقوى الإدراك العقلي بمشاهدة المحسوس. فهذه أصل في سنّة المؤثرات لأهل المقصد النافع. وفي تعليق فعل {يأتوك} بضمير خطاب إبراهيم دلالة على أنه كان يحضر موسم الحجّ كل عام يبلّغ للناس التوحيد وقواعد الحنيفية...
والضامر: قليل لحم البطن. والضمور من محاسن الرواحل والخيلِ لأنه يعينها على السير والحركة...
والخلق جميعا خلق الله، فلماذا تقتصر رؤية البيت على من قدر له أن يمر به، أو يعيش إلى جواره؟. فأراد الحق- سبحانه وتعالى- أن يشيع هذه الميزة بين خلقه جميعا، فيذهبوا لرؤية بيت ربهم، وإن كانت المساجد كلها بيوت الله، إلا أن هذا البيت بالذات هو بيت الله باختيار الله، لذلك جعله قبلة لبيوته التي اختارها الخلق. إن من علامات الولاء بين الناس أن نزور قصور العظماء وعلية القوم، ثم يسجل الزائر اسمه في سجل الزيارات، ويرى في ذلك شرفا ورفعة، فما بالك ببيت الله، كيف تقتصر زيارته ورؤيته على أهله والمجاورين له أو من قدر لهم المرور به فلماذا أخذ الحج بالذات هذه المكانة؟ نقول: أركان الإسلام تبدأ بالشهادتين: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصوم، ثم الحج، لو نظرت إلى هذه الأركان لوجدت أن الحج هو الركن الوحيد الذي يجتهد المسلم في أدائه وإن لم يكن مستطيعا له فتراه يوفر ويقتصد حتى من قوته، وربما حرم نفسه ليؤدي فريضة الحج، ولا يحدث هذا ولا يتكلفه الإنسان إلا في هذه الفريضة، لماذا؟ قالوا: لأن الله تعالى حكم في هذه المسألة فقال: أذن- يأتوك، هكذا رغما عنهم، ودون اختيارهم، ألا ترى الناس ينجذبون لأداء هذه الفريضة، وكأن قوة خارجة عنهم تجذبهم...
. وتقديم الماشين على الراكبين تأكيد للحكم الإلهي {يأتوك} فالجميع حريص على أداء الفريضة حتى إن حج ماشيا.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} وأعلن ذلك في كل نداءاتك، كتشريع تقرّره وتثبته، لا مجرد صوت تطلقه، ليشعروا من خلال ذلك بأن هناك إلزاماً إلهيّاً يدفعهم إلى الامتثال، ويقودهم إلى الطاعة {يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} أي طريق بعيد، لما توحيه كلمة العمق من امتداد ضارب في المجهول.