{ 45 } { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }
يأمر تعالى بتلاوة وحيه وتنزيله ، وهو هذا الكتاب العظيم ، ومعنى تلاوته اتباعه ، بامتثال ما يأمر به ، واجتناب ما ينهى عنه ، والاهتداء بهداه ، وتصديق أخباره ، وتدبر معانيه ، وتلاوة ألفاظه ، فصار تلاوة لفظه جزء المعنى وبعضه ، وإذا كان هذا معنى تلاوة الكتاب ، علم أن إقامة الدين كله ، داخلة في تلاوة الكتاب . فيكون قوله : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ } من باب عطف الخاص على العام ، لفضل الصلاة وشرفها ، وآثارها الجميلة ، وهي { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ }
والفحشاء : كل ما استعظم واستفحش من المعاصي التي تشتهيها النفوس .
والمنكر : كل معصية تنكرها العقول والفطر .
ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، أن العبد المقيم لها ، المتمم لأركانها وشروطها وخشوعها ، يستنير قلبه ، ويتطهر فؤاده ، ويزداد إيمانه ، وتقوى رغبته في الخير ، وتقل أو تعدم رغبته في الشر ، فبالضرورة ، مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه ، تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها . وثَمَّ في الصلاة مقصود أعظم من هذا وأكبر ، وهو ما اشتملت عليه من ذكر اللّه ، بالقلب واللسان والبدن . فإن اللّه تعالى ، إنما خلق الخلق{[625]} لعبادته ، وأفضل عبادة تقع منهم الصلاة ، وفيها من عبوديات الجوارح كلها ، ما ليس في غيرها ، ولهذا قال : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ }
ويحتمل أنه لما أمر بالصلاة ومدحها ، أخبر أن ذكره تعالى خارج الصلاة أكبر من الصلاة ، كما هو قول جمهور المفسرين ، لكن الأول أولى ، لأن الصلاة أفضل من الذكر خارجها ، ولأنها -كما تقدم- بنفسها من أكبر الذكر .
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } من خير وشر ، فيجازيكم على ذلك أكمل الجزاء وأوفاه .
والمقصود بالتلاوة فى قوله - تعالى - : { اتل مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب } : القراءة المصحوبة بضبط الألفاظ ، وبتفهم المعانى . والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم كل من آمن به . أى : اقرأ - أيها الرسول الكريم - ما أوحينا إليك من آيات هذا القرآن قراءة تدبر واعتبار واتعاظ ، ودوام على ذلك ، ومر أتباعك أن يقتدوا بك فى المواظبة على هذه القراءة الصحيحة النافعة .
{ وَأَقِمِ الصلاة } أى : وواظب على إقامة الصلاة فى أوقاتها بخشوع وإخلاص واطمئنان ، وعلى المؤمنين أن يقتدوا لك فى ذلك .
وقوله : { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } تعليل للأمر بالمحافظة على إقامة الصلاة بخشوع وإخلاص . أى : دوام - أيها الرسول الكريم - على إقامة الصلاة بالطريقة التى يحبها الله - تعالى - ، فإن من شأن الصلاة التى يؤديها المسلم فى أوقاتها بشخوع وإخلاص ، أن تنهى مؤديها عن ارتكاب الفحشاء - وهى كل ما قبح قوله وفعله - ، وعن المنكر - وهو كل ما تنكره الشرائع والعقول السليمة - .
قال الجمل : " ومعنى نهيها عنهما ، أنها سبب الانتهاء عنها لأنها مناجاة لله - تعالى - ، فلا بد أن تكون مع إقبال تام على طاعته ، وإعراض كل عن معاصيه .
قال ابن مسعود : فى الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصى الله ، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ، ولم تنهه عن المنكر ، لم يزدد من الله إلا بعداً . .
وروى عن أنس - رضى الله عنه - أن فتى من الأنصار ، كان يصلى مع النبى صلى الله عليه وسلم ثم يأتى الفواحش ، فذكر للنبى صلى الله عليه وسلم - فقال : إن صلاته ستناه ، فلم يلبث أن تاب وحسن حاله .
والخلاصة : أن من شأن الصلاة المصحوبة بالإِخلاص والخشوع وبإتمام سنننها وآدابها ، أن تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ، فإن وجدت إنساناً يؤدى الصلاة ، ولكنه مع ذلك يرتكب بعض المعاصى ، فأقول لك : إن الذنب ليس ذنب الصلاة ، وإنما الذنب ذنبه ذا المرتكب للمعاصى ، لأنه لم يؤد الصلاة أداء مصحوباً بالخشوع والإِخلاص .
. . . وإنما أداها دون أن يتأثر بها قلبه . . ولعلها تنهاه فى يوم من الأيام ببركة مداومته عليها ، كما جاء فى الحديث الشريف : " إن الصلاة ستنهاه " .
وقوله - سبحانه - : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } أى : ولذكر الله - تعالى - بجميع أنواعه من تسبيح وتحميد وتكبير وغير ذلك من ألوان العبادة والذكر ، أفضل وأكبر من كل شئ آخر ، لأن هذا الذكر لله - تعالى - فى كل الأحوال ، دليل على صدق الإِيمان ، وحسن الصلة بالله - تعالى - .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } ، قال ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن عمر . . أى : ولذكر الله - تعالى - إياكم ، أكبر من ذكركم إياه - سبحانه - . .
وروى عن جماعة من السلف أن المعنى : ولذرك العبد لله - تعالى - ، أكبر من سائر الأعمال .
أخرج الإِمام أحمد عن معاذ بن جبل قال : ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله يوم القيامة ، من ذكر الله - تعالى - .
وقيل : المراد بذكر الله : الصلاة . كما فى قوله - تعالى - : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } أى : إلى الصلاة ، فيكون المعنى : وللصلاة أكبر من سائر الطاعات ، وإنما عبر عنها به ، للإِيذان بأن ما فيها من ذكر الله - تعالى - هو العمدة فى كونها مفضلة على الحسنات ، نهاية عن السيئات .
ويبدو لنا أن المراد بذكر الله - تعالى - هنا : ما يشمل كل قول طيب وكل فعل صالح ، يأتيه المسلم بإخلاص وخشوع ، وعلى رأس هذه الأقوال والأفعال : التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل ، والصلاة وما اشتملت عليه من أقوال وأفعال . .
وأن المسلم متى أكثر من ذكر الله - تعالى - ، كان ثوابه - سبحانه - له ، وثناؤه عليه ، أكبر وأعظم من كل قول ومن كل فعل .
وقوله - سبحانه - : { والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } تذييل قصد به الترغيب فى إخلاص العبادة لله ، والتحذير من الرياء فيها .
أى : داوموا - أيها المؤمنون . على تلاوة القرآن الكريم ، بتدبر واعتبار ، وأقيموا الصلاة فى أوقاتها بخشوع وخضوع ، وأكثروا من ذكر الله - تعالى - فى كل أحوالكم ، فإن الله - تعالى - يعلم ما تفعلونه وما تصنعونه من خير أو شر ، وسيجازى - سبحانه - الذين آساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى
وفي نهاية الشوط يربط الكتاب الذي أنزل على محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ويربط الصلاة وذكر الله ، بالحق الذي في السماوات والأرض ، وبسلسلة الدعوة إلى الله من لدن نوح عليه السلام :
( اتل ما أوحي إليك من الكتاب ، وأقم الصلاة ، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ) . .
اتل ما أوحي إليك من الكتاب فهو وسيلتك للدعوة ، والآية الربانية المصاحبة لها ، والحق المرتبط بالحق الكامن في خلق السماوات والأرض .
وأقم الصلاة إن الصلاة - حين تقام - تنهى عن الفحشاء والمنكر . فهي اتصال بالله يخجل صاحبه ويستحيي أن يصطحب معه كبائر الذنوب وفواحشها ليلقى الله بها ، وهي تطهر وتجرد لا يتسق معها دنس الفحشاء والمنكر وثقلتهما . " من صلى صلاة لم تنهه عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا " . وما أقام الصلاة كما هي إنما أداها أداء ولم يقمها . . وفرق كبير بينهما . . فهي حين تقام ذكر لله . ( ولذكر الله أكبر ) . أكبر إطلاقا أكبر من كل اندفاع ومن كل نزوع . وأكبر من كل تعبد وخشوع .
فلا يخفى عليه شيء ، ولا يلتبس عليه أمر . وأنتم إليه راجعون . فمجازيكم بما تصنعون . .
ثم قال تعالى آمرا رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن ، وهو قراءته وإبلاغه للناس : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } يعني : أن الصلاة تشتمل على شيئين : على ترك الفواحش والمنكرات ، أي : إن مواظبتها تحمل على ترك ذلك . وقد جاء في الحديث من رواية عمران ، وابن عباس مرفوعا : " مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، لم تزده من الله إلا بعدا " {[22599]} .
[ ذكر الآثار الواردة في ذلك ]{[22600]} :
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن هارون المخرمي الفلاس ، حدثنا عبد الرحمن بن نافع أبو زياد ، حدثنا عمر بن أبي عثمان ، حدثنا الحسن ، عن عمران بن حصين قال : سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } قال : " مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، فلا صلاة له " {[22601]} .
وحدثنا علي بن الحسين ، حدثنا يحيى بن أبي طلحة اليربوعي حدثنا أبو معاوية ، عن ليث ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، لم يزدد بها من الله إلا بعدا " . ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية{[22602]} .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن العلاء بن المسيب ، عمن ذكره ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } قال : فَمَنْ لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر ، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا . فهذا موقوف{[22603]} .
قال ابن جرير : وحدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا علي بن هاشم بن{[22604]} البريد ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا صلاة لِمَنْ لم يطع الصلاة ، وطاعة الصلاة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر " . قال : وقال سفيان : { قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ } [ هود : 87 ] قال : فقال سفيان : أي والله ، تأمره وتنهاه . {[22605]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال أبو خالد مَرَّة : عن عبد الله - : " لا صلاة لِمَنْ لم يطع الصلاة ، وطاعة الصلاة تنهاه{[22606]} عن الفحشاء والمنكر " {[22607]} .
والموقوف أصح ، كما رواه الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن يزيد قال : قيل لعبد الله : إن فلانا يطيل الصلاة ؟ قال : إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها{[22608]} .
وقال ابن جرير : قال علي : حدثنا إسماعيل بن مسلم{[22609]} ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى صلاة لم تنهه عن الفحشاء والمنكر ، لم يزدد بها من الله إلا بُعْدا " {[22610]} .
والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن وقتادة ، والأعمش وغيرهم ، والله أعلم .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا جرير - يعني ابن عبد الحميد - عن الأعمش ، عن أبي صالح قال : أراه عن جابر - شك الأعمش - قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن فلانا يصلي فإذا أصبح سرق ، قال : " سينهاه{[22611]} ما يقول " {[22612]} .
وحدثنا محمد بن موسى الحَرشي{[22613]} حدثنا زياد بن عبد الله ، عن الأعمش عن أبي صالح ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه - ولم يشك{[22614]} - ثم قال : وهذا الحديث قد رواه غير واحد عن الأعمش واختلفوا في إسناده ، فرواه غير واحد عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أو غيره ، وقال قيس عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، وقال جرير وزياد : عن عبد الله ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن جابر .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش قال : أنبأنا أبو صالح{[22615]} عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق ؟ فقال : " إنه سينهاه ما يقول{[22616]}-{[22617]} " .
وتشتمل الصلاة أيضا على ذكر الله تعالى ، وهو المطلوب الأكبر ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } أي : أعظم من الأول ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } أي : يعلم جميع أقوالكم وأعمالكم .
وقال أبو العالية في قوله : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } ، قال : إن الصلاة فيها ثلاث خصال{[22618]} فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة : الإخلاص ، والخشية ، وذكر الله . فالإخلاص يأمره بالمعروف ، والخشية تنهاه عن المنكر ، وذكر القرآن يأمره وينهاه .
وقال ابن عَوْن الأنصاري : إذا كنت في صلاة فأنت في معروف ، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر ، والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر .
وقال حماد بن أبي سليمان : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } يعني : ما دمت فيها .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } ، يقول : ولذكر الله لعباده أكبر ، إذا ذكروه من ذكرهم إياه .
وكذا روى غير واحد عن ابن عباس . وبه قال مجاهد ، وغيره .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن داود بن أبي هند ، عن رجل ، عن ابن عباس : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } قال : ذكر الله عند طعامك وعند منامك . قلت : فإن صاحبًا لي في المنزل يقول غير الذي تقول : قال : وأي شيء يقول ؟ قلت : قال : يقول الله : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] ، فلذكر الله إيانا أكبر من ذكرنا إياه . قال : صدق .
قال : وحدثنا أبي ، حدثنا النفيلي ، حدثنا إسماعيل ، عن خالد ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } قال : لها وجهان ، قال : ذكر الله عندما حرمه ، قال : وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدَّثنا هُشَيْم ، أخبرنا عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن ربيعة قال : قال لي ابن عباس : هل تدري ما قوله تعالى : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } ؟ قال : قلت : نعم . قال : فما هو ؟ قلت : التسبيح والتحميد والتكبير في الصلاة ، وقراءة القرآن ، ونحو ذلك . قال : لقد قلت قولا عجبًا ، وما هو كذلك ، ولكنه إنما يقول : ذكر الله إياكم عندما أمر به أو نهى عنه إذا ذكرتموه ، أكبر من ذكركم إياه{[22619]}
. وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس . وروي أيضا عن ابن مسعود ، وأبي الدرداء ، وسلمان الفارسي ، وغيرهم . واختاره ابن جرير .
{ اتل ما أوحي إليك من الكتاب } تقربا إلى الله تعالى بقراءته وتحفظا لألفاظه واستكشافا لمعانيه ، فإن القارئ المتأمل قد ينكشف به بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه . { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } بأن تكون سببا للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها وغيرها من حيث إنها تذكر الله وتورث النفس خشية منه . روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ارتكبه ، فوصف له عليه السلام فقال : " إن صلاته ستنهاه " فلم يلبث أن تاب . { ولذكر الله اكبر } وللصلاة اكبر من سائر الطاعات ، وانما عبر عنها به للتعليل بأن اشتمالها على ذكره هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات ، أو لذكر الله إياكم برحمته اكبر من ذكركم إياه بطاعته . { والله يعلم ما تصنعون } منه ومن سائر الطاعات فيجازيكم به أحسن المجازاة .
بعد أن ضرب الله للناس المثل بالأمم السالفة جاء بالحجة المبيّنة فساد معتقد المشركين ، ونوه بصحة عقائد المؤمنين بمنتهى البيان الذي ليس وراءه مطلب أقبل على رسوله بالخطاب الذي يزيد تثبيته على نشر الدعوة وملازمة الشرائع وإعلان كلمة الله بذلك ، وما فيه زيادة صلاح المؤمنين الذين انتفعوا بدلائل الوحدانية . وما الرسول عليه الصلاة والسلام إلا قدوة للمؤمنين وسيّدهم فأمره أمر لهم كما دل عليه التذييل بقوله { والله يعلم ما تصنعون } بصيغة جمع المخاطبين كقوله { فاستقم كما أُمِرتَ ومن تاب معك } [ هود : 112 ] قرآن إذ ما فرط فيه من شيء من الإرشاد .
وحذف متعلق فعل { اتْلُ } ليعم التلاوة على المسلمين وعلى المشركين . وهذا كقوله تعالى { إنما أُمرتُ أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرّمها } إلى قوله { وأن أتلو القرءان فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين } [ النمل : 91 ، 92 ] .
وأمره بإقامة الصلاة لأن الصلاة عمل عظيم ، وهذا الأمر يشمل الأمة فقد تكرر الأمر بإقامة الصلاة في آيات كثيرة .
وعلل الأمر بإقامة الصلاة بالإشارة إلى ما فيها من الصلاح النفساني فقال { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } ، فموقع { إن } هنا موقع فاء التعليل ولا شك أن هذا التعليل موجّه إلى الأمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الفحشاء والمنكر فاقتصر على تعليل الأمر بإقامة الصلاة دون تعليل الأمر بتلاوة القرآن لما في هذا الصلاح الذي جعله الله في الصلاة من سِرّ إلهي لا يهتدي إليه الناس إلا بإرشاد منه تعالى ؛ فأخبر أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والمقصود أنها تنهى المصلي .
وإذ قد كانت حقيقة النهي غير قائمة بالصلاة تعيّن أن فعل { تنهى } مستعمل في معنى مجازي بعلاقة أو مشابهة . والمقصود : أن الصلاة تيسر للمصلي ترك الفحشاء والمنكر . وليس المعنى أن الصلاة صارفة المصلي عن أن يرتكب الفحشاء والمنكر فإن المشاهد يخالفه إذ كم من مصلّ يقيم صلاته ويقترف بعض الفحشاء والمنكر .
كما أنه ليس يصح أن يكون المراد أنها تصرف المصلي عن الفحشاء والمنكر ما دام متلبساً بأداء الصلاة لقلة جدوى هذا المعنى . فإن أكثر الأعمال يصرف المشتغل به عن الاشتغال بغيره .
وإذ كانت الآية مسوقة للتنويه بالصلاة وبيان مزيتها في الدين تعين أن يكون المراد أن الصلاة تُحذر من الفحشاء والمنكر تحذيراً هو من خصائصها .
وللمفسرين طرائق في تعليل ذلك منها ما قاله بعضهم : إن المراد به ما للصلاة من ثواب عند الله ، فإن ذلك غرض آخر وليس منصباً إلى ترك الفحشاء والمنكر ولكنه من وسائل توفير الحسنات لعلها أن تغمر السيئات ، فيتعين لتفسير هذه الآية تفسيراً مقبولاً أن نعتبر حكمها عاماً في كل صلاة فلا يختص بصلوات الأبرار ، وبذلك تسقط عدة وجوه مما فسروا به الآية .
قال ابن عطية : « وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والإخبات صلحت بذلك نفسه وخامرها ارتقاب الله تعالى فاطرد ذلك في أقواله وأفعاله وانتهى عن الفحشاء والمنكر » اهـ . وفيه اعتبار قيود في الصلاة لا تناسب التعميم وإن كانت من شأن الصلاة التي يحق أن يلقنها المسلمون في ابتداء تلقينهم قواعد الإسلام .
والوجه عندي في معنى الآية : أن يُحمل فعل { تنهى } على المجاز الأقرب إلى الحقيقة وهو تشبيه ما تشتمل عليه الصلاة بالنهي ، وتشبيه الصلاة في اشتمالها عليه بالناهي ، ووجه الشبه أن الصلاة تشتمل على مذكِّرات بالله من أقوال وأفعال من شأنها أن تكون للمصلي كالواعظ المذكر بالله تعالى إذ ينهى سامعه عن ارتكاب ما لا يرضي الله . وهذا كما يقال : صديقك مرآة ترى فيها عيوبك . ففي الصلاة من الأقوال تكبير لله وتحميده وتسبيحه والتوجيه إليه بالدعاء والاستغفار وقراءة فاتحة الكتاب المشتملة على التحميد والثناء على الله والاعتراف بالعبودية له وطلب الإعانة والهداية منه واجتناب ما يغضبه وما هو ضلال ، وكلها تذكر بالتعرض إلى مرضاة الله والإقلاع عن عصيانه وما يفضي إلى غضبه فذلك صدّ عن الفحشاء والمنكر .
وفي الصلاة أفعال هي خضوع وتذلل لله تعالى من قيام وركوع وسجود وذلك يذكر بلزوم اجتلاب مرضاته والتباعد عن سخطه . وكل ذلك مما يصد عن الفحشاء والمنكر .
وفي الصلاة أعمال قلبية من نية واستعداد للوقوف بين يدي الله وذلك يذكر بأن المعبود جدير بأن تمتثل أوامره وتُجتنب نواهيه .
فكانت الصلاة بمجموعها كالواعظ الناهي عن الفحشاء والمنكر ، فإن الله قال { تنهى عن الفحشاء والمنكر } ولم يقل تَصُدّ وتحول ونحو ذلك مما يقتضي صرف المصلي عن الفحشاء والمنكر .
ثم الناس في الانتهاء متفاوتون ، وهذا المعنى من النهي عن الفحشاء والمنكر هو من حكمة جعل الصلوات موزعة على أوقات من النهار والليل ليتجدد التذكير وتتعاقب المواعظ ، وبمقدار تكرر ذلك تزداد خواطر التقوى في النفوس وتتباعد النفس من العصيان حتى تصير التقوى ملكة لها . ووراء ذلك خاصية إلهية جعلها الله في الصلاة يكون بها تيسير الانتهاء عن الفحشاء والمنكر .
روى أحمد وابن حِبّان والبيهقي عن أبي هريرة قال : « جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن فلاناً يصلي بالليل فإذا أصبح سرق ، فقال : سينهاه ما تقول » أي صلاته بالليل .
واعلم أن التعريف في قوله { الفحشاء والمنكر } تعريف الجنس فكلما تذكر المصلي عند صلاته عظمة ربه ووجوب طاعته وذكر ما قد يفعله من الفحشاء والمنكر كانت صلاته حينئذ قد نهته عن بعض أفراد الفحشاء والمنكر .
و { الفحشاء } : اسم للفاحشة ، والفُحش : تجاوز الحد المقبول . فالمراد من الفاحشة : الفعلة المتجاوزة ما يُقبل بين الناس . وتقدم في قوله تعالى { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء } في سورة [ البقرة : 169 ] . والمقصود هنا من الفاحشة : تجاوز الحد المأذون فيه شرعاً من القول والفعل ، وبالمنكر : ما ينكره الشرع ولا يرضى بوقوعه .
وكأنّ الجمع بين الفاحشة والمنكر منظور فيه إلى اختلاف جهة ذمه والنهي عنه .
وقوله { وَلَذِكْرُ الله أكبر } يجوز أن يكون عطفاً على جملة { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } فيكون عطف علة على علة ، ويكون المراد بذكر الله هو الصلاة كما في قوله تعالى { فاسعوا إلى ذكر الله } [ الجمعة : 9 ] أي صلاة الجمعة . ويكون العدول عن لفظ الصلاة الذي هو كالاسم لها إلى التعبير عنها بطريق الإضافة للإيماء إلى تعليل أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، أي إنما كانت ناهية عن الفحشاء والمنكر لأنها ذكر الله وذكر الله أمرٌ كبير ، فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة مقصود به قوة الوصف كما في قولنا : الله أكبر ، لا تريد أنه أكبر من كبير آخر .
ويجوز أن يكون عطفاً على جملة { اتلُ ما أوحي إليك من الكتاب } . والمعنى : واذكر الله فإن ذكر الله أمر عظيم ، فيصح أن يكون المراد من الذكر تذكُّر عظمة الله تعالى . ويجوز أن يكون المراد ذكر الله باللسان ليعمّ ذكر الله في الصلاة وغيرها . واسم التفضيل أيضاً مسلوب المفاضلة ويكون في معنى قول معاذ بن جبل « ما عَمِل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله » .
ويجوز أن يكون المراد بالذكر تذكر ما أمر الله به ونهى عنه ، أي مراقبة الله تعالى وحذر غضبه ، فالتفضيل على بابه ، أي ولذكر الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة في ذلك النهي ، وذلك لإمكان تكرار هذا الذكر أكثر من تكرر الصلاة فيكون قريباً من قول عمر رضي الله عنه : أفضل من شكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه .
ولك أن تقول : ذكر الله هو الإيمان بوجوده وبأنه واحد . فلما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأراد أمر المؤمنين بعملين عظيمين من البر أردفه بأن الإيمان بالله هو أعظم من ذلك إذ هو الأصل كقوله تعالى { فكُّ رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة ثم كان من الذين ءامنوا } [ البلد : 13 17 ] . وذلك من ردّ العجز على الصدر عاد به إلى تعظيم أمر التوحيد وتفظيع الشرك من قوله { إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شيء } [ العنكبوت : 42 ] إلى هنا .
وقوله { والله يعلم ما تصنعون } تذييل لما قبله ، وهو وعد ووعيد باعتبار ما اشتمل عليه قوله { اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة } وقوله { تنهى عن الفحشاء والمنكر } .