المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِي بِهِۦ ثَمَنٗا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلۡأٓثِمِينَ} (106)

106- يا أيها الذين آمنوا : حينما تظهر على أحد منكم علامة الموت ويريد أن يوصى بشيء ، فالشهادة بينكم على الوصية ، أن يشهد اثنان عادلان من أقاربكم ، أو آخران من غيركم إذا كنتم في سفر ، وظهرت أمارات الموت ، تحبسون هذين الشاهدين بعد أداء الصلاة التي يجتمع عليها الناس . فيحلفان بالله قائلين : لا نستبدل بيمينه عوضاً ، ولو كان فيه نفع لنا أو لأحد من أقاربنا ، ولا نخفي الشهادة التي أمرنا الله بأدائها صحيحة . إنا إذا أخفينا الشهادة أو قلنا غير الحق ، لنكونن من الظالمين المستحقين لعذاب الله .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِي بِهِۦ ثَمَنٗا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلۡأٓثِمِينَ} (106)

{ 106 - 108 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }

يخبر تعالى خبرا متضمنا للأمر بإشهاد اثنين على الوصية ، إذا حضر الإنسان مقدماتُ الموت وعلائمه . فينبغي له أن يكتب وصيته ، ويشهد عليها اثنين ذوي عدل ممن تعتبر شهادتهما .

{ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي : من غير أهل دينكم ، من اليهود أو النصارى أو غيرهم ، وذلك عند الحاجة والضرورة وعدم غيرهما من المسلمين .

{ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : سافرتم فيها { فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ } أي : فأشهدوهما ، ولم يأمر بشهادتهما إلا لأن قولهما في تلك الحال مقبول ، ويؤكد عليهما ، بأن يحبسا { مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ } التي يعظمونها .

{ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } أنهما صدقا ، وما غيرا ولا بدلا ، هذا { إِنِ ارْتَبْتُمْ } في شهادتهما ، فإن صدقتموهما ، فلا حاجة إلى القسم بذلك .

ويقولان : { لَا نَشْتَرِي بِهِ } أي : بأيماننا { ثَمَنًا } بأن نكذب فيها ، لأجل عرض من الدنيا . { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } فلا نراعيه لأجل قربه منا { وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } بل نؤديها على ما سمعناها { إِنَّا إِذًا } أي : إن كتمناها { لَمِنَ الْآثِمِينَ }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِي بِهِۦ ثَمَنٗا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلۡأٓثِمِينَ} (106)

ثم ختمت السورة حديثها الطويل المتنوع عن الأحكام الشرعية ببيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع الإِسلامي فتحدثت عن التشريع الخاص بالإِشهاد على الوصية في حالة السفر ، وعن الضمانات التي شرعتها لكي يصل إلى أهله كاملا غير منقوص فقال - تعالى - :

{ يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ . . . }

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة في تفاصيلها إلا أنها متقاربة في مغزاها .

ومن ذلك ما ذكره ابن كثير بقوله : روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية { يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } قال : برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء ، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإِسلام ، فأتيا الشام لتجارتهما ، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له " بديل بن أبي مريم " بتجارة ، معه جام من فضة أي إناء من فضة - يريد به الملك ، وهو أعظم تجارته ؛ فمرض فأوصى إليهما ، وأمرهما أن يبلغا ما ترك إلى أهله - أي : يوصلا ما تركه من متاع لورثته .

قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ، واقتسمنا الثمن أنا وعدى ، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا ، وفقدوا الجام فسألونا عنه ، فقلنا : ما ترك غير هذا ، وما دفع إلينا غيره .

قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك ، فأتبت أهله فأخبرتهم الخبر ، ودفعت إليهم خمسمائة درهم ، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فوثبوا عليه ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوه بما يحكم به على أهل دينه ، فحلف فنزلت : { يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ } الآيات فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفاه فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء .

وقال القرطبي : ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدي بن بداء ، روى البخاري والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس قال : " كان تميم الداري ودي بن بداء يختلفان إلى مكة فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس بها مسلم ، فأوصى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصاً بالذهب - أي عليه صفائح الذهب مثل خوص النخل - فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما كتمتما ولا اطلعتما " ثم وجد الجام بمكة فقالوا : اشتريناه من عدي وتميم ، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن الجام للسهمي ، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا ، قال : فأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الآيات " .

هذا ، والمعنى الإِجمالي لهذه الآيات : أن الله - تعالى - شرع لكم - أيها المؤمنون - الوصية في السفر فعلى من يحس منكم بدنو أجله وهو في السفر أن يحضر رجلا مسلما يوصيه بإيصال ماله لورثته فإذا لم يجد رجلا مسلما فليحضر كافرا ، والاثنان أحوط ، فإذا أوصلا ما عندهما إلى ورثة الميت . وارتاب الورثة في أمانة هذين الرجلين ، فعليهم في هذه الحالة أن يرفعوا الأمر للحاكم ، وعلى الحاكم أن يستحلف الرجلين بالله بعد الصلاة بأنهما ما كتما شيئاً من وصية وما خانا .

فإذا ظهر بعد ذلك للحاكم أو لورثه الميت أن هذين الرجلين لم يكونا أمينين في أداء ما كلفهما الميت بأدائه ، فعندئذ يقوم رجلان من أقرب ورثة الميت ، ليحلفا بالله أن شهادتهما أحق وأولى من شهادة الرجلين الأولين ، وأن هذين الرجلين لم يؤديا الوصية على وجهها .

ثم بين - سبحانه - في الآية الثالثة أن ما شرعه الله لهم هو أضمن طريق لأداء الشهادة على وجهها الصحيح وعليهم أن يراقبوه ويتقوه لكي يكونوا من المؤمنين الصادقين :

هذا هو المعنى الإِجمالي للآيات الكريمة سقناه قبل تفصيل الفول في تفسيرها حتى يتهيأ الذهن لفهمها بوضوح .

قال الآلوسي : وقوله : { يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } . . إلخ استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم ، إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم وفيه من إظهار العناية بمضمونه ما لا يخفى .

وللشهادة معان منها ، الإِحضار والقضاء ، والحكم ، والحلف ، والعلم والإِيصاء ، والمراد بها هنا الأخير ، كما نص عليه جماعة من المفسرين .

وقوله : { شهادة } يصح أن يكون مبتدأ وخبره قوله : { اثنان } على حذف مضاف . أي : شهادة اثنين .

ويصح أن يكون مبتدأ والخبر محذوف . أي : فيما أمرتم به أن يشهد اثنان : ويكون قوله { اثنان } فاعلا لقوله { شهادة } وعليه تكون إضافة قوله { شهادة } إلى الظرف وهو { بينكم } على التوسع .

قال القرطبي : قوله { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } قيل : معناه شهادة ما بينكم فحذفت " ما " وأضيفت الشهادة إلى الظرف ، واستعمل اسما على الحقيقية ، وهو المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة . ومنه قوله - تعالى - { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } أي : ما بيني وبينك .

والمراد بقوله : { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت } ظهور أماراته وعلاماته وهو ظرف متعلق بقوله : " شهادة " .

وقوله : { حِينَ الوصية } بدل من الظرف . وفي هذا الابدال تنبيه على أن الوصية لا ينبغي أن يتهاون فيها .

وقوله : { ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } صفة لقوله { اثنان } .

وقوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } صفة لقوله { اثنان } .

والمراد من غير المسلمين ، ويرى بعضهم أن المراد بقوله { منكم } أي : من قبيلتكم ، وبقوله : { مِنْ غَيْرِكُمْ } أي : من غير قبيلتكم .

وقوله : { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت } بيان لمكان الوصية وزمانها .

والمراد بالضرب في الأرض السفر فيها وقيل للمسافر ضارب في الأرض لأنه يضربها برجليه أو بعصاه .

والمراد بقوله : { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت } أي : فقاربتم نهاية أجلكم بأن أحسستم بدنو الموت منكم . فليس المراد الموت بالفعل وإنما المراد مشارفته ومقاربته .

وسمي - سبحانه - الموت مصيبة ، لأنه بطبيعته يؤلم ، أو يصحبه أو يقاربه أو يسبقه آلام نفسية .

قال القرطبي : " وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ، فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم ودفعتم إليها ما معكم من المال ، ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في أمرهما ، وادعو عليهما خيانة ، فالحكم أن تحبسوهما من بعد صلاة ، أي تستوثقوا منهما " .

فقوله : { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة فَيُقْسِمَانِ بالله } كلام مستأنف لبيان ما يجب على الحاكم أن يفعله عند الشك في أمانة الرجلين اللذين دفع إليهما الميت ما له ليوصلاه إلى أهله .

ومعنى { تَحْبِسُونَهُمَا } توقفونهما وتمكسونهما لأداء اليمين اللازمة عليهما والمراد بالصلاة : صلاة العصر . وقد روى ذلك عن ابن عباس وجماعة من التابعين .

قال الفخر الرازي : إنما عرف هذا التعيين بوجوه :

أحدها : أن هذا الوقت كان معروفا عندهم بالتحليف بعده ، فالتقييد بالمعروف المشهور أغنى عن التقييد باللفظ .

وثانيهما : ما روى أنه لما نزلت هذه الآية صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر ، ودعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر فصار فعل الرسول دليلا على التقييد .

وثالثها : أن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه ، ويحترزون عن الكلف الكاذب .

وقال الزهري : المراد بالصلاة ، الصلات مطلقاً : وإنما كان الحلف بعد الصلاة ، لأنها داعية إلى النطق بالصدق ، وناهية عن الكذب والزور .

أي : توقفون - أيها المسلمون - هذين الرجلين بعد الصلاة لأداء اليمين { فَيُقْسِمَانِ بالله } أي : فيحلفان بالله { إِنِ ارتبتم } في صدقهما ، بأن يقولا : { لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } أي : لا نحصل بيمين الله عرضاً من أعراض الدنيا ، ولو كان من نقسم له ونشهد عليه قريبا لنا .

{ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله } أي : ولا نكتم الشهادة التي أمرنا الله بإظهارها وأدائها { إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين } أي : إنا إذا لتكونن معدودين من المستقرين في الذنوب والآثام إن كتمناها وبدلناها عن وجهها الصحيح .

وقوله { إِنِ ارتبتم } شرط لا يتوجه الشاهدين إلا به ، ومتى لم يقع ريب ولا اختلاف فلا يمين .

وجواب الشرط محذوف للعلم به مما قبله . أي : إن ارتبتم فحلفوهما .

والضمير في قوله : { به } يعود إلى القسم المفهوم من قوله : { فيقسمان } أي : فيقسمان بالله لا نشتري بصحة القسم ثمنا مهما كان هذا الثمن .

وقوله : { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } تأكيد لتنزههما عن الحلف الكاذب .

قال صاحب الكشاف : والضمير في { به } للقسم وفي { كان } للقسم له . يعني : لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا . أي : لا نحلف كاذبين لأجل المال ، ولو كان من يقسم له قريباً منا ، على معنى : أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبداً ، وأنهم داخلون تحت قوله - تعالى - { كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين } فأنت ترى أن الله - تعالى - قد أكد هذا القسم بجملة من المؤكدات منها : أن الحالفين يحلفان بأنهما لا يحصلان بيمين الله ثمنا مهما كنت قيمته ، وبأنهما لن يحابيا إنسانا مهما بلغت درجة قرابته وبأنهما لن يبكتما الشهادة التي أمرهما الله بأدائها على وجهها الصحيح ، وبأنهما يقران على أنفسهما باستحقاق عقوبة الآثم المذنب إن كتما أو خانا أو حادا عن الحق ، وهذا كله لأجل أن تصل وصية الميت إلى أهله كاملة غير منقوصة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِي بِهِۦ ثَمَنٗا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلۡأٓثِمِينَ} (106)

والآن يجيء الحكم الأخير من الأحكام الشرعية التي تتضمنها السورة ، في بيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع المسلم ، وهو الخاص بتشريع الإشهاد على الوصية في حالة الضرب في الأرض ، والبعد عن المجتمع والضمانات التي تقيمها الشريعة ليصل الحق إلى أهله .

( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت - حين الوصية - اثنان ذوا عدل منكم ، أو آخران من غيركم ، إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ، تحبسونهما من بعد الصلاة ، فيقسمان بالله - إن ارتبتم - لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله ، إنا إذا لمن الآثمين . فإن عثر على أنهما استحقا إثما فالآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم . . الأوليان . . فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ، وما اعتدينا ، إنا إذن لمن الظالمين . ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ، أو يخافوا أن ترد إيمان بعد أيمانهم ؛ واتقوا الله واسمعوا ، والله لا يهدي القوم الفاسقين ) . .

وبيان هذا الحكم الذي تضمنته الآيات الثلاث : أن على من يحس بدنو أجله ، ويريد أن يوصي لأهله بما يحضره من المال ، أن يستحضر شاهدين عدلين من المسلمين إن كان في الحضر ، ويسلمهما ما يريد أن يسلمه لأهله غير الحاضرين . فأما إذا كان ضاربا في الأرض ، ولم يجد مسلمين يشهدهما ويسلمهما ما معه ، فيجوز أن يكون الشاهدان من غير المسلمين .

فإن ارتاب المسلمون - أو ارتاب أهل الميت - في صدق ما يبلغه الشاهدان وفي أمانتهما في أداء ما استحفظا عليه ، فإنهم يوقفونهما بعد أدائهما للصلاة - حسب عقيدتهما - ليحلفا بالله ، أنهما لا يتوخيان بالحلف مصلحة لهما ولا لأحد آخر ، ولو كان ذا قربى ، ولا يكتمان شيئا مما استحفظا عليه . . وإلا كانا من الآثمين . . وبذلك تنفذ شهادتهما .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِي بِهِۦ ثَمَنٗا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلۡأٓثِمِينَ} (106)

اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز ، قيل : إنه منسوخ رواه العَوْفي من ابن عباس . وقال{[10507]} حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم : إنها منسوخة . وقال آخرون - وهم الأكثرون ، فيما قاله ابن جرير - : بل هو محكم ؛ ومن ادعى النسخ فعليه البيان .

فقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ } هذا هو الخبر ؛ لقوله : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } فقيل تقديره : " شهادة اثنين " ، حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مَقَامه . وقيل : دل الكلام على تقدير أن يشهد اثنان .

وقوله : { ذَوَا عَدْلٍ } وصف الاثنين ، بأن يكونا عدلين .

وقوله : { مِنْكُمْ } أي : من المسلمين . قاله الجمهور . قال{[10508]} علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال : من المسلمين . رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : رُوي عن عُبيدة ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، ومجاهد ، ويحيى بن يَعْمُر ، والسُّدِّي ، وقتادة ، ومُقاتل بن حَيَّان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، نحو ذلك .

قال ابن جرير : وقال آخرون : عني : ذلك { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي : من حَي{[10509]} الموصي . وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدّة غيرهما .

وقوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن عَوْن ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا حبيب بن أبي عَمْرَة ، عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس في قوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } قال : من غير المسلمين ، يعني : أهل الكتاب .

ثم قال : وروي عن عبيدة ، وشُرَيْح ، وسعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين ، ويحيى بن يعمر ، وعكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، وإبراهيم النَّخَعِي ، وقتادة ، وأبي مِجْلزَ ، والسُّديِّ ، ومقاتل بن حيان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، نحو ذلك .

وعلى ما حكاه ابن جرير عن عكرمة وعبيدة في قوله : { مِنْكُمْ } أي : المراد من قبيلة الموصي ، يكون المراد هاهنا : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي : من غير قبيلة الموصي . وقد روى عن ابن أبي حاتم مثله عن الحسن البصري ، والزهري ، رحمهما الله .

وقوله : { إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ } أي : سافرتم ، { فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ } وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين ، أن يكون ذلك في سفر ، وأن يكون في وصية ، كما صرح بذلك شريح القاضي .

قال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو معاوية ووَكِيع قالا حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح قال : لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني{[10510]} إلا في سفر ، ولا تجوز في سفر إلا في وصية .

ثم رواه عن أبي كُرَيْب ، عن أبي بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي قال : قال شريح ، فذكر مثله .

وقد روي مثله عن الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله تعالى . وهذه المسألة من إفراده ، وخالفه الثلاثة فقالوا : لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين . وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضًا .

وقال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري قال : مضت السنّة أنه لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر ، إنما هي في المسلمين . {[10511]}

وقال ابن زيد : نزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام ، وذلك في أول الإسلام ، والأرض حرب ، والناس كفار ، وكان الناس يتوارثون بالوصية ، ثم نُسخت الوصية وفرضت الفرائض ، وعمل الناس بها .

رواه ابن جرير ، وفي هذا نظر ، والله أعلم .

وقال ابن جرير : اختلف في قوله : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } هل المراد به أن يوصي إليهما ، أو يشهدهما ؟ على قولين :

أحدهما : أن يوصي إليهما ، كما قال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط قال : سئل ابن مسعود ، رضي الله عنه ، عن هذه الآية قال{[10512]} هذا رجل سافر ومعه مال ، فأدركه قدره ، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته ، وأشهد عليهما عدلين من المسلمين .

رواه ابن أبي حاتم وفيه انقطاع .

والقول الثاني : أنهما يكونان شاهدين . وهو ظاهر سياق الآية الكريمة ، فإن لم يكن وصي ثالث معهما اجتمع فيهما الوصفان : الوصاية والشهادة ، كما في قصة تَمِيم الداري ، وعَدِيّ بن بَدَّاء ، كما سيأتي ذكرها آنفًا ، إن شاء الله ، وبه التوفيق .

وقد استشكل ابنُ جرير كونهما شاهدين ، قال : لأنا لا نعلم حُكْمًا يَحْلِفُ فيه الشاهد . وهذا لا يمنع الحكم الذي تضمنته هذه الآية الكريمة ، وهو حكم مستقل بنفسه ، لا يلزم أن يكون جاريًا على قياس جميع الأحكام ، على أن هذا حكم خاص بشهادة خاصة في محل خاص ، وقد اغتفر فيه من الأمور ما لم يغتفر في غيره ، فإذا قامت قرائن الريبة حلف هذا الشاهد بمقتضى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة .

وقوله تعالى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ } قال [ العوفي ، عن ]{[10513]} ابن عباس : يعني صلاة العصر . وكذا قال سعيد بن جبير ، وإبراهيم النَّخَعِي ، وقتادة ، وعِكْرِمة ، ومحمد بن سيرين . وقال الزهري : يعني صلاة المسلمين ، وقال السدي ، عن ابن عباس : يعني صلاة أهل دينهما .

والمقصود : أن يقام هذان الشاهدان{[10514]} بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم ، { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } أي : فيحلفان{[10515]} بالله { إِنِ ارْتَبْتُمْ } أي : إن ظهرت لكم منهما ريبة ، أنهما قد خانا أو غلا فيحلفان حينئذ بالله { لا نَشْتَرِي بِهِ } أي : بأيماننا . قاله مُقاتِل بن حيان { ثَمَنًا } أي : لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة ، { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } أي : ولو كان المشهود عليه قريبًا إلينا لا نحابيه ، { وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } أضافها إلى الله تشريفًا لها ، وتعظيمًا لأمرها .

وقرأ بعضهم : " ولا نكتم شهادة آلله " مجرورًا على القسم . رواها ابن جرير ، عن عامر الشعبي .

وحكي عن بعضهم أنه قرأ : " ولا نَكْتُمُ شهادةً الله " ، والقراءة الأولى هي المشهورة .

{ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ } أي : إن فعلنا شيئًا من ذلك ، من تحريف الشهادة ، أو تبديلها ، أو تغييرها{[10516]} أو كتمها بالكلية .

/خ107


[10507]:في د: "وقاله".
[10508]:في د: "قاله".
[10509]:في د: "من أهل".
[10510]:في د: "اليهود والنصارى".
[10511]:تفسير الطبري (11/166).
[10512]:في د: "قال ابن مسعود في هذه الآية".
[10513]:زيادة من د.
[10514]:في د: "أن قيامها".
[10515]:في د: "يحلفان".
[10516]:في د: "وتغييرها".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِي بِهِۦ ثَمَنٗا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلۡأٓثِمِينَ} (106)

القول في تأويل قوله تعالى : { يِا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأَصَابَتْكُم مّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنّآ إِذَاً لّمِنَ الاثِمِينَ } . .

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ " يقول : ليشهد بينكم إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ يقول : وقت الوصية ، اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ يقول : ذوا رشد وعقل وحِجا من المسلمين . كما :

حدثنا محمد بن بشار ، وعبيد الله بن يوسف الجبيري ، قالا : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، في قوله : " وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : ذوا عقل .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ فقال بعضهم : عني به : من أهل ملتكم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : شاهدان ذوا عدل منكم من المسلمين .

حدثنا عمروان بن موسى القزّاز ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا إسحاق بن سويد ، عن يحيى بن يعمر ، في قوله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ من المسلمين " .

حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، في قوله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : اثنان من أهل دينكم .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أشعث ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : سألته ، عن قول الله تعالى : اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ قال : من الملة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، بمثله ، إلا أنه قال فيه : من أهل الملة .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة عن هذه الاية : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : من أهل الملة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة ، فذكر مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن مهدي ، عن حماد ، عن ابن أبي نجيح ، وقال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، عن حماد بن زيد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : ذوا عدل من أهل الإسلام .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : من المسلمين .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان سعيد بن المسيب يقول : اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ : أي من أهل الإسلام .

وقال آخرون : عني بذلك : ذوا عدل من حيّ الموصي ، وذلك قول رُوِي عن عكرمة وعبيدة وعدّة غيرهما .

واختلفوا في صفة الاثنين اللذين ذكرهما الله في هذه الاَية ما هي ، وما هما ؟ فقال بعضهم : هما شاهدان يشهدان على وصية الموصي . وقال آخرون : هما وصيان .

وتأويل الذين زعموا أنهما شاهدان ، قوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ليشهد شاهدان ذوا عدل منكم على وصيتكم . وتأويل الذين قالوا : هما وصيان لا شاهدان ، قوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ بمعنى الحضور والشهود لما يوصيهما به المريض ، من قولك : شهدت وصية فلان ، بمعنى حضرته .

وأولى التأويلين بقوله : اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ تأويل من تأوّله بمعنى : أنهما من أهل الملة دون من تأوّله أنهما من حيّ الموصي .

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالاية ، لأن الله تعالى عم المؤمنين بخطابهم بذلك في قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " فغير جائز أن يُصرف ما عمه الله تعالى إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها . وإذ كان ذلك كذلك ، فالواجب أن يكون العائد من ذكرهم على العموم ، كما كان ذكرهم ابتداء على العموم .

وأَوْلَى المعنيين بقوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ اليمين ، لا الشهادة التي يقوم بها من عنده شهادة لغيره لمن هي عنده على من هي عليه عند الحكام لأنّا لا نعلم لله تعالى حكما يجب فيه على الشاهد اليمين ، فيكون جائزا صرف الشهادة في هذا الموضع إلى الشهادة التي يقوم بها بعض الناس عند الحكام والأئمة . وفي حكم الاية في هذه اليمين على ذوي العدل ، وعلى من قام مقامهم في اليمين بقوله : " تَحْبِسُوَنهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ فَيُقْسمِانِ باللّهِ " أوضح الدليل على صحة ما قلنا في ذلك من أن الشهادة فيه الأيمان دون الشهادة التي يقضي بها للمشهود له على المشهود عليه ، وفساد ما خالفه .

فإن قال قائل : فهل وجدت في حكم الله تعالى يمينا تجب على المدّعي فتوجه قولك في الشهادة في هذا الموضع إلى الصحة ؟ فإن قلت : لا ، تبين فساد تأويلك ذلك على ما تأوّلت ، لأنه يجب على هذا التأويل أن يكون المقسمان في قوله : " فإنْ عُثرَا على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما فآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ باللّهِ لشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما " هما المدعيين . وإن قلت بلى ، قيل لك : وفي أيّ حكم الله تعالى وجدت ذلك ؟ قيل : وجدنا ذلك في أكثر المعاني ، وذلك في حكم الرجل يدّعي قِبَل رجل مالاً ، فيقرّ به المدّعي عليه قبله ذلك ويدعي قضاءه ، فيكون القول قول ربّ الدين ، والرجل يعترف في يد الرجل السلعة ، فيزعم المعترَفة في يده أنه اشتراها من المدّعي أو أن المدّعي وهبها له ، وما أشبه ذلك مما يكثر إحصاؤه . وعلى هذا الوجه أوجب الله تعالى في هذا الموضع اليمين على المدّعيين اللذين عثرا على الجانيين فيما جنيا فيه .

واختلف أهل العربية في الرافع قوله : " شَهادَةُ بَيْنِكُمْ " ، وقوله : اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ . فقال بعض نحويي البصرة : معنى قوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ شهادة اثنين ذوي عدل ، ثم ألقيت الشهادة وأقيم الاثنان مقامها ، فارتفعا بما كانت الشهادة به مرتفعة لو جعلت في الكلام . قال : وذلك في حذف ما حذف منه وإقامة ما أقيم مقام المحذوف ، نظير قوله : وَاسأَلِ القَرْيَةَ وإنما يريد : واسأل أهل القرية ، وانتصبت القرية بانتصاب الأهل وقامت مقامه ، ثم عطف قوله : «أو آخران » على «الاثنين » .

وقال بعض نحويي الكوفة : رفع الاثنين بالشهادة : أي ليشهدكم اثنان من المسلمين ، أو آخران من غيركم . وقال آخر منهم : رفعت الشهادة ب «إذا حضر » . وقال : إنما رفعت بذلك لأنه قال : «إذا حضر » ، فجعلها شهادة محذوفة مستأنفة ، ليست بالشهادة التي قد رفعت لكلّ الخلق ، لأنه قال تعالى ذكره : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " ، وهذه شهادة لا تقع إلا في هذا الحال ، وليست مما ثبت .

وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : الشهادة مرفوعة بقوله : إذَا حَضَرَ لأن قوله : إذا حَضَرَ بمعنى : عند حضور أحدكم الموت ، والاثنان مرفوع بالمعنى المتوهم ، وهو أن يشهد اثنان ، فاكتفي من قيل أن يشهد بما قد جري من ذكر الشهادة في قوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الشهادة مصدر في هذا الموضع ، والاثنان اسم ، والاسم لا يكون مصدرا ، غير أن العرب قد تضع الأسماء مواضع الأفعال . فالأمر وإن كان كذلك ، فصرف كل ذلك إلى أصحّ وجوهه ما وجدنا إليه سبيلاً أولى بنا من صرفه إلى أضعفها .

القول في تأويل قوله تعالى : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " .

يقول تعالى ذكره للمؤمنين : ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت عدلان من المسلمين ، أو آخران من غير المسلمين .

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " فقال بعضهم : معناه : أو آخران من غير أهل ملتكم نحو الذي قلنا فيه .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا حميد بن مسعدة ، وبشر بن معاذ ، قالا : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " من أهل الكتاب .

حدثنا محمد بن بشار ، ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت قتادة يحدّث ، عن سعيد بن المسيب : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " : من أهل الكتاب .

حدثني أبو حفص الجبيري عبيد الله بن يوسف ، قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، مثله .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد ، مثله .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم وسليمان التيّمي ، عن سعيد بن المسيب ، أنهما قالا في قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قالا : من غير أهل ملتكم .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، قال : ثني من سمع سعيد بن جبير ، يقول ، مثل ذلك .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا التيمي ، عن أبي مجلز ، قال : من غير أهل ملتكم .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : إن كان قربه أحد من المسلمين أشهدهم ، وإلا أشهد رجلين من المشركين .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا قتيبة ، قال : حدثنا هشيم ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، وسعيد بن جبير ، في قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قالا : من غير أهل ملتكم .

حدثنا عمرو ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من أهل الكتاب .

حدثنا عمرو ، قال : حدثنا محمد بن سواء ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، مثله .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، مثله .

حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا إسحاق بن سويد ، عن يحيى بن يعمر ، في قوله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " من المسلمين ، فإن لم تجدوا من المسلمين ، فمن غير المسلمين .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن شريح ، في هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُم " قال : إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته ، فأشهد يهوديّا أو نصرانيا أو مجوسيا ، فشهادتهم جائزة . فإن جاء رجلان مسلمان فشهدا بخلاف شهادتهما ، أجيزت شهادة المسلمين ، وأبطلت شهادة الاخَرَيْن .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح : أنه كان لا يجيز شهادة اليهود والنصارى على مسلم إلا في الوصية ، ولا يجيز شهادتهما على الوصية إلا إذا كانوا في سفر .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو معاوية ووكيع ، قالا : حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح ، قال : لا تجوز شهادة اليهود والنصارى إلا في سفر ، ولا تجوز في سفر إلا في وصية .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح ، نحوه .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور عن إبراهيم ، قال : كتب هشام بن هبيرة لمسلمة عن شهادة المشركين على المسلمين ، فكتب : لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في وصية ، ولا يجوز في وصية إلا أن يكون الرجل مسافرا .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أشهب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : سألته عن قول الله تعالى : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير الملة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، بمثله .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة ، عن ذلك فقال : من غير أهل الملة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : من غير أهل الصلاة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : من غير أهل دينكم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : من غير أهل الملة .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أبو حرّة ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير أهل ملتكم .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن عثمان ، قال : حدثنا هشام بن محمد ، قال : سألت سعيد بن جبير عن قول الله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير أهل ملتكم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، عن حماد بن زيد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : من غير أهل ملتكم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير أهل الإسلام .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : قال أبو إسحاق : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من اليهود والنصارى . قال : قال شريح : لا تجوز شهادة اليهوديّ والنصرانيّ إلا في وصية ، ولا تجوز في وصية إلا في سفر .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا زكريا ، عن الشعبي : أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدَقُوقَا ، ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب . فقدما الكوفة ، فأتيا الأشعري فأخبراه ، وقدما بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأحلفهما ، وأمضى شهادتهما .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن مغيرة الأزرق ، عن الشعبيّ : أن أبا موسى قضى بها بَدقُوقا .

حدثنا عمرو ، قال : حدثنا عثمان بن الهيثم ، قال : حدثنا عوف ، عن محمد ، أنه كان يقول في قوله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " شاهدان من المسلمين وغير المسلمين .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " : من غير أهل الإسلام .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال : أخبرنا أبو حفص ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : من غير أهل الإسلام .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، قال : قال زيد بن أسلم في هذه الاية : " شَهادَةُ بَيْنِكُمْ . . . " الاية كلها . قال : كان ذلك في رجل تُوُفّيَ وليس عنده أحد من أهل الإسلام ، وذلك في أوّل الإسلام والأرض حرب والناس كفار ، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة ، وكان الناس يتوارثون بالوصية ، ثم نُسخت الوصية وفُرضت الفرائض ، وعمل المسلمون بها .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : أو آخران من غير حَيّكم وعشيرتكم .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عثمان بن الهيثم بن الجَهْم ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : شاهدان من قومكم ومن غير قومكم .

حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهريّ ، قال : مضت السنة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر ، إنما هي في المسلمين .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " أي من عشيرته " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير عشيرته .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن ثابت بن زيد ، عن عاصم ، عن عكرمة : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير أهل حيكم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن مهديّ ، عن ثابت بن زيد ، عن عاصم ، عن عكرمة : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير حيكم .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا ثابت بن زيد ، عن عاصم الأحول ، عن عكرمة في قول الله تعالى : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير أهل حيه يعني من المسلمين .

حدثني الحرث بن محمد ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا مبارك ، عن الحسن : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير عشيرتك ، ومن غير قومك كلهم من المسلمين .

حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : مسلمين من غير حيكم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، قال : سألت ابن شهاب عن قول الله تعالى : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ . . . إلى قوله : وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ " قلت : أرأيت الاثنين اللذين ذكر الله من غير أهل المرء الموصي أهما من المسلمين أم هما من أهل الكتاب ؟ وأرأيت الاخرين اللذين يقومان مقامهما ، أتراهما من غير أهل المرء الموصي ؟ أم هما من غير المسلمين ؟ قال ابن شهاب : لم نسمع في هذه الاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أئمة العامة سنة أذكرها ، وقد كنا نتذاكرها أناسا من علمائنا أحيانا ، فلا يذكرون فيها سنة معلومة ولا قضاء من إمام عادل ، ولكنه يختلف فيها رأيهم . وكان أعجبهم فيها رأيا إلينا الذين كانوا يقولون : هي فيما بين أهل الميراث من المسلمين ، يشهد بعضهم الميت الذي يرثونه ويغيب عنه بعضهم ، ويشهد من شهده على ما أوصى به لذوي القربى فيخبرون من غاب عنه منهم بما حضروا من وصية ، فإن سلموا جازت وصيته ، وإن ارتابوا أن يكونوا بدّلوا قول الميت وآثروا بالوصية من أرادوا ممن لم يوص لهم الميت بشيء حلف اللذان يشهدان على ذلك بعد الصلاة وهي صلاة المسلمين ، فيقسمان بالله : إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله ، إنا إذا لمن الاثمين ، فإذا أقسما على ذلك جازت شهادتهما وأيمانهما ما لم يعثر على أنهما استحقا إثما في شيء من ذلك ، فإن عثر قام آخران مقامهما من أهل الميراث من الخصم الذين ينكرون ما شهد به عليه الأوّلان المستحلفان أوّل مرّة ، فيقسمان بالله : لشهادتنا على تكذيبكما أو إبطال ما شهدتما به وما اعتدينا ، إنا إذن لمن الظالمين ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ، أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم . . . الاية .

وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالصواب تأويل من تأوّله : أو آخران من غير أهل الإسلام وذلك أن الله تعالى عرّف عباده المؤمنين عند الوصية شهادة اثنين من عدول المؤمنين أو اثنين من غير المؤمنين ، ولا وجه لأن يقال في الكلام صفة شهادة مؤمنين منكم أو رجلين من غير عشيرتكم ، وإنما يقال : صفة شهادة رجلين من عشيرتكم أو من غير عشيرتكم ، أو رجلين من المؤمنين أو من غير المؤمنين . فإذ كان لا وجه لذلك في الكلام ، فغير جائز صرف مغلق كلام الله تعالى إلا إلى أحسن وجوهه . وقد دللنا قبل على أن قوله تعالى : " ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " إنما هو من أهل دينكم وملتكم بما فيه كفاية لمن وفق لفهمه . وإذا صحّ ذلك بما دللنا عليه ، فمعلوم أن معنى قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " إنما هو : أو آخران من غير أهل دينكم وملتكم . وإذ كان ذلك كذلك ، فسواء كان الاخران اللذان من غير أهل ديننا يهوديين كانا أو نصرانيين أو مجوسيين أو عابدي وثن أو على أيّ دين كانا ، لأن الله تعالى لم يخصص آخرين من أهل ملة بعينها دون ملة بعد ألاّ يكونا من ( غير ) أهل الإسلام .

القول في تأويل قوله تعالى : " إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " .

يقول تعالى ذكره للمؤمنين : صفة شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت وقت الوصية ، أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم أيها المؤمنون أو رجلان آخران من غير أهل ملتكم ، إن أنتم سافرتم ذاهبين وراجعين في الأرض . وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله قيل للمسافر الضارب في الأرض . " فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " يقول : فنزل بكم الموت . ووجه أكثر التأويل هذا الموضع إلى معنى التعقيب دون التخيير وقالوا : معناه : شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم ، إن وجدا ، فإن لم يوجدا فآخران من غيركم ، وإنما فعل ذلك من فعله ، لأنه وجه معنى الشهادة في قوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إلى معنى الشهادة التي توجب للقوم قيام صاحبها عند الحاكم ، أو يبطلها .

ذكر بعض من تأوّل ذلك كذلك :

حدثنا عمران بن موسى القزّاز ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا إسحاق بن سويد ، عن يحيى بن يعمر ، في قوله : " ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " من المسلمين ، فإن لم تجدوا من المسلمين فمن غير المسلمين .

حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب في قوله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : اثنان من أهل دينكم ، أو آخران من غيركم من أهل الكتاب إذا كان ببلاد لا يجد غيرهم .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن شريح في هذه الاية : " شَهادَةُ بَيْنِكُمْ . . . إلى قوله : أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته ، فأشهد يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا ، فشهادتهم جائزة .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : هذا في الحضر ، أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ في السفر ، إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتَمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ هذا في الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين ، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس ، فيوصي إليهما .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، وسعيد بن جبير ، أنهما قالا في هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ . . . " الاية ، قال : إذا حضر الرجلَ الوفاة في سفر ، فيشهد رجلين من المسلمين ، فإن لم يجد رجلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ . . . إلى قوله : ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " فهذا لمن مات وعنده المسلمون ، فأمره الله أن يشهد على وصيته عدلين من المسلمين . ثم قال : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين ، فأمره الله تعالى بشهادة رجلين من غير المسلمين .

ووَجّه ذلك آخرون إلى معنى التخيير ، وقالوا : إنما عني بالشهادة في هذا الموضع الأيمان على الوصية التي أوصى إليهما وائتمان الميت إياهما على ما ائتمنهما عليه من مال ليؤدّياه إلى ورثته بعد وفاته إن ارتيب بهما . قالوا : وقد يأمن الرجل على ماله من رآه موضعا للأمانة ، من مؤمن وكافر ، في السفر والحضر . وقد ذكرنا الرواية عن بعض من قال هذا القول فيما مضى ، وسنذكر بقيته إن شاء الله تعالى بعد .

القول في تأويل قوله تعالى : " تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ فَيُقْسِمانِ باللّهِ إنِ ارْتَبْتُمْ لانَشْتَرِي بِهِ ثَمَنا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى " .

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله : شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ، إن شهد اثنان ذوا عدل منكم ، أو كان أوصى إليهما ، أو آخران من غيركم ، إن كنتم في سفر فحضرتكم المنية فأوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال وتركة لورثتكم ، فإذا أنتم أوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال فأصابتكم مصيبة الموت ، فأدّيا إلى ورثتكم ما ائتمنتموها وادّعوا عليهما خيانة خاناها مما ائتمنا عليه ، فإن الحكم فيهما حينئذ أن تحبسوهما ، يقول : تستوقفونهما بعد الصلاة . وفي الكلام محذوف اجتزئ بدلالة ما ظهر منه على ما حذف ، وهو : فأصابتكم مصيبة الموت وقد أسندتم وصيتكم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال ، فإنكم تحبسونهما من بعد الصلاة . " فَيُقْسِمَانِ بالله إنِ ارْتَبْتُمْ " يقول : يحلفان بالله إن اتهمتموهما بخيانة فيما ائتمنا عليه من تغيير وصية أوصى إليهما بها ، أو تبديلها . والارتياب : هو الاتهام . " لانَشْتَري به ثَمَنا " يقول : يحلفان بالله لانشتري بأيماننا بالله ثمنا ، يقول : لا نحلف كاذبين على عوض نأخذه عليه وعلى مال نذهب به أو لحقّ نجحده لهؤلاء القوم الذين أوصى إلينا وإليهم وصيتهم . والهاء في قوله «بِهِ » من ذكر الله ، والمعني به الحلف والقَسَم ولكنه لما كان قد جرى قبل ذلك ذكر القسم به ، فيعرف من معنى الكلام ، واكتفي به من إعادة ذكر القسم والحلف . " وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى " يقول : يقسمان بالله لا نطلب بإقسامنا بالله عوضا فنكذب فيها لأحد ، ولو كان الذي نقسم به له ذا قرابة منا .

وبنحو الذي قلنا في ذلك رُوِي الخبر عن ابن عباس . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين ، فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين ، فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله : لم نشتر بشهادتنا ثمنا قليلاً .

وقوله : " تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ " من صلاة الاخرين . ومعنى الكلام : أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم بهما ، فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربَى .

واختلفوا في الصلاة التي ذكرها الله تعالى في هذه الاية فقال : تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ فقال بعضهم : هي صلاة العصر .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا زكريا ، عن الشعبي : أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ، فلم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب . قال : فقدما الكوفة ، فأتيا الأشعريّ فأخبراه ، وقدما بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأحلفهما بعد العصر باالله : ما خانا ولا كذبا ولا بدّلا ولا كتما ولا غيّرا ، وإنها لوصية الرجل وتركته . قال : فأمضى شهادتهما .

حدثنا ابن بشار وعمرو بن عليّ ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : إذا كان الرجل بأرض الشرك فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب ، فإنهما يحلفان بعد العصر .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، بمثله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنكُمْ . . . إلى : فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " فهذا رجل مات بغربة من الأرض وترك تركته وأوصى بوصيته وشهد على وصيته رجلان ، فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد العصر . وكان يقال عندها تصير الأيمان .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم وسعيد بن جبير ، أنهما قالا في هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ " قالا : إذا حضر الرجل الوفاة في سفر ، فليشهد رجلين من المسلمين ، فإن لم يجد فرجلين من أهل الكتاب ، فإذا قدما بتركته ، فإن صدّقهما الورثة قبل قولهما ، وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر : بالله ما كذبنا ، ولا كتمنا ، ولا خُنّا ، ولا غَيّرنا .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يحيى بن القطان ، قال : حدثنا زكريا ، قال : حدثنا عامر : أن رجلاً توفي بدقوقا ، فلم يجد من يشهده على وصيته إلاّ رجلين نصرانيين من أهلها ، فأحلفهما أبو موسى دبر صلاة العصر في مسجد الكوفة : بالله ما كتما ولا غَيّرا ، وإن هذه الوصية . فأجازها .

وقال آخرون : بل يستحلفان بعد صلاة أهل دينهما وملتهما .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ . . . إلى قوله : ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : هذا في الوصية عند الموت يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ماله وعليه ، قال : هذا في الحضر : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ في السفر إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " هذا الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين ، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس ، فيوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه ، فيقبلان به ، فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا مال صاحبهم تركوا الرجلين ، وإن ارتابوا رفعوهما إلى السلطان ، فذلك قوله : " تَحْبِسُونَهُما منْ بَعْدِ الصّلاةِ . . . إن ارْتَبْتُمْ " . قال عبد الله بن عباس : كأني أنظر إلى العِلْجين حين انتهى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره ، ففتح الصحيفة فأنكر أهل الميت وخوّنوهما ، فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر ، فقلت له : إنهما لا يباليان صلاة العصر ، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما ، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما ، ويحلفان بالله لا نشتري ثمنا قليلاً ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله ، إنا إذن لمن الاثمين ، أن صاحبهم لبهذا أوصى ، وإن هذه لتركته . فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا : إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ، ولم تجز لكما شهادة وعاقبتكما فإذا قال لهما ذلك ، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها .

وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا ، قول من قال : تحبسونهما من بعد صلاة العصر لأن الله تعالى عرّف الصلاة في هذا الموضع بإدخال الألف واللام فيها ، ولا تدخلهما العرب إلاّ في معروف ، إما في جنس ، أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين . فإذا كان كذلك ، وكانت الصلاة في هذا الموضع مجمعا على أنه لم يعن بها جميع الصلوات ، لم يجز أن يكون مرادا بها صلاة المستحلف من اليهود والنصارى ، لأن لهم صلوات ليست واحدة ، فيكون معلوما أنها المعنية بذلك . فإذ كان ذلك كذلك ، صحّ أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم صحيحا عنه أنه إذ لاعن بين العجلانيين لاعن بينهما بعد العصر دون غيرها من الصلوات ، كان معلوما أن التي عنيت بقوله : " تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ " هي الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيرها لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه . هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت ، وذلك لقربه من غروب الشمس . وكان ابن زيد يقول في قوله : " لا نَشْتَري به ثَمَنا " ما :

حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنا " قال : نأخذ به رشوة .

القول في تأويل قوله تعالى : " وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ إنّا إذًا لَمِنَ الاثِمِينَ " .

اختلفت القراءة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ بإضافة الشهادة إلى الله ، وخفض اسم الله تعالى يعني : لا نكتم شهادة الله عندنا . وذكر عن الشعبيّ أنه كان يقرؤه كالذي :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن ابن عون ، عن عامر ، أنه كان يقرأ : " وَلا نَكْتُمُ شَهادَةً آللّهِ ، إنّا إذًا لَمِنَ الاثِمِينَ " بقطع الألف وخفض اسم الله . هكذا حدثنا به ابن وكيع .

وكأن الشعبيّ وجه معنى الكلام إلى أنهما يقسمان بالله لا نشتري به ثمنا ولا نكتم شهادة عندنا ، ثم ابتدأ يمينا باستفهام بالله أنهما إن اشتريا بأيمانهما ثمنا أو كتما شهادته عندهما لمن الاثمين . وقد رُوِي عن الشعبيّ في قراءة ذلك رواية تخالف هذه الرواية ، وذلك ما :

حدثني أحمد بن يوسف الثعلبي ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا عباد بن عباد ، عن ابن عون ، عن الشعبيّ ، أنه قرأ : " وَلا نَكْتُمُ شَهادَةً اللّهِ إنّا إذا لَمِنَ الاثِمِينَ " . قال أحمد ، قال أبو عبيد : تنوّن شهادة ، ويخفض «الله » على الاتصال . قال : وقد رواها بعضهم بقطع الألف على الاستفهام .

وحفظي أنا لقراءة الشعبيّ بترك الاستفهام . وقرأها بعضهم : «وَلا نَكْتُمُ شَهادَةً اللّهِ » بتنوين الشهادة ونصب اسم «الله » ، بمعنى : ولا نكتم الله شهادة عندنا .

وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب ، قراءة من قرأ : " وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ " بإضافة الشهادة إلى اسم «الله » وخفض اسم «الله » ، لأنها القراءة المستفيضة في قراءة الأمصار التي لا يتناكر صحتها الأمة . وكان ابن زيد يقول في معنى ذلك : ولا نكتم شهادة الله وإن كان صاحبها بعيدا .

حدثني بذلك يونس ، قال : أخبرنا ابن زيد عنه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِي بِهِۦ ثَمَنٗا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلۡأٓثِمِينَ} (106)

استؤنفت هذه الآي استئنافاً ابتدائياً لشرع أحكام التوثّق للوصية لأنّها من جملة التشريعات التي تضمّنتها هذه السورة ، تحقيقاً لإكمال الدين ، واستقصاء لما قد يحتاج إلى علمه المسلمون وموقعها هنا سنذكره .

وقد كانت الوصية مشروعة بآية البقرة ( 180 ) { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية } وتقدّم القول في ابتداء مشروعيتها وفي مقدار ما نسخ من حكم تلك الآية وما أحكم في موضعه هنالك . وحرص رسول الله على الوصية وأمر بها ، فكانت معروفة متداولة منذ عهد بعيد من الإسلام . وكانت معروفة في الجاهلية كما تقدّم في سورة البقرة . وكان المرء يوصي لمن يوصي له بحضرة ورثته وقرابته فلا يقع نزاع بينهم بعد موته مع ما في النفوس من حرمة الوصية والحرص على إنفاذها حفظاً لحقّ الميّت إذ لا سبيل له إلى تحقيق حقّه ، فلذلك استغنى القرآن عن شرع التوثّق لها بالإشهاد ، خلافاً لما تقدّم به من بيان التوثّق في التبايع بآية { وأشهدوا إذا تبايعتم } [ البقرة : 282 ] والتوثّق في الدين بآية { يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } [ البقرة : 282 ] الخ فأكملت هذه الآية بيان التوثّق للوصية اهتماماً بها ولجدارة الوصية بالتوثيق لها لضعف الذياد عنها لأنّ البيوع والديون فيها جانبان عالمان بصورة ما انعقد فيها ويذُبّان عن مصالحهما فيتّضح الحقّ من خلال سعيهما في إحقاق الحقّ فيها بخلاف الوصية فإنّ فيها جانباً واحداً وهو جانب الموصى له لأنّ الموصي يكون قد ماتَ وجانب الموصى له ضعيف إذ لا علم له بما عقد الموصي ولا بما ترك ، فكانت معرّضة للضياع كلّها أو بعضها .

وقد كان العرب في الجاهلية يستحفظون وصاياهم عند الموت إلى أحد يثقون به من أصحابهم أو كبراء قبيلتهم أو من حضر احتضار الموصي أو من كان أودع عند الموصي خَبَرَ عزمه . فقد أوصى نزارُ بن مَعَدّ وصية موجزة وأحال أبناءه على الأفعى الجرهمي أن يبيّن لهم تفصيل مراده منها .

وقد حدثت في آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام حادثة كانت سبباً في نزول هذه الآية . ولعلّ حدوثها كان مقارناً لنزول الآي التي قبلها فجاءت هذه الآية عقبها في هذا الموضع من السورة . ذلك أنّه كان في سنة تسع من الهجرة نزلت قضية : هي أن رجلين أحدهما تميم الداريُّ اللخمي والآخر عدي بن بدّاء ، كانا من نصارى العرب تاجرين ، وهما من أهل ( دارِين ) وكانا يتّجران بين الشام ومكةَ والمدينة . فخرج معهما من المدينة بُديل بن أبي مريم مولى بني سَهم وكان مسلماً بتجارة إلى الشام ، فمرض بديل ( قيل في الشام وقيل في الطريق برّاً أو بحراً ) وكان معه في أمتعته جام من فضة مخوّص بالذهب قاصداً به ملكَ الشام ، فلمّا اشتدّ مرضه أخذ صحيفة فكتب فيها ما عنده من المتاع والمال ودسّها في مطاوي أمتعته ودفع ما معه إلى تميم وعدي وأوصاهما بأن يبلّغاه مواليه من بني سهم .

وكان بديل مولى للعاصي بن وائل السهمي ، فولاؤه بعد موته لابن عمرو بن العاصي . وبعض المفسّرين يقول : إنّ ولاء بُديل لعَمرو بن العاصي والمطلب بن وداعة . ويؤيّد قولهم أنّ المطلب حلف مع عمرو بن العاصي على أنّ الجام لبديل بن أبي مريم . فلمّا رجعا باعا الجام بمكة بألف درهم ورجعا إلى المدينة فدفعا مَا لِبديل إلى مواليه . فلمّا نشروه وجدوا الصحيفة ، فقالوا لتميم وعدي : أين الجَامُ فأنكرا أن يكون دفع إليهما جاماً . ثم وُجد الجام بعد مدة يباع بمكة فقام عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة على الذي عنده الجام فقال : إنّه ابتاعه من تميم وعديّ . وفي رواية أنّ تميماً لما أسلم في سنة تسع تأثّم ممّا صنع فأخبر عمرو بن العاصي بخبر الجام ودفع له الخمسمائة الدرهم الصائرة إليه من ثمنه ، وطالب عمرو عدياً ببقية الثمن فأنكر أن يكون باعه . وهذا أمثل ما روي في سبب نزول هذه الآية . وقد ساقه البخاري تعليقاً في كتاب الوصايا . ورواه الترمذي في كتاب التفسير ، وقال : ليس إسناده بصحيح . وهو وإن لم يستوف شروط الصحة فقد اشتهر وتلقّى بالقبول ، وقد أسنده البخاري في « تاريخه » .

واتّفقت الروايات على أنّ الفريقين تفاضَوا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية في ذلك ، فحلف عَمرُو بن العاصي والمطّلب بن أبي وَدَاعة على أنّ تميماً وعدياً أخفيا الجام وأنّ بُديلاً صاحبه وما باعه ولا خرج من يده . ودفع لهما عدي خمسمائة درهم وهو يومئذٍ نصراني . وعدي هذا قيل : أسلم ، وعدّه ابن حبّان وابن منده في عداد الصحابة ، وقيل : مات نصرانياً ، ورجّح ذلك ابن عطية ، وهو قول أبي نعيم ، ويروى عن مقاتل ، ولم يذكره ابن عبد البر في الصحابة . واحتمل أن يكون نزولها قبل الترافع بين الخصم في قضية الجام ، وأن يكون نزولها بعد قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في تلك القضية لتكون تشريعاً لما يحدث من أمثال تلك القضية .

و { بينكم } أصل ( بين ) اسم مكان مبهم متوسّط بين شيئين يبيّنه ما يضاف هو إليه ، وهو هنا مجاز في الأمر المتعلّق بعدّة أشياء ، وهو مجرور بإضافة { شهادةُ } إليه على الاتّساع . وأصله ( شهادةٌ ) بالتنوين والرفع « بينكم » بالنصب على الظرفية . فخرج ( بين ) عن الظرفية إلى مطلق الاسمية كما خرج عنها في قوله تعالى : { لقد تقطّع بينكم } [ الأنعام : 94 ] في قراءة جماعة من العشرة برفع { بينكم } .

وارتفع { شهادةُ } على الابتداء ، وخبره { اثنان } . و { إذا حضر أحدكم الموت } ظرف زمان مستقبل . وليس في ( إذا ) معنى الشرط ، والظرف متعلّق ب { شهادة } لما فيه من معنى الفعل ، أي ليشهدْ إذا حضر أحدكم الموتُ اثنان ، يعني يجب عليه أن يشهد بذلك ويجب عليهما أن يَشهدا لقوله تعالى : { ولا يأبَ الشهداءُ إذا ما دُعوا } [ البقرة : 282 ] . و { حين الوصية } بدَل من { إذا حضر أحدكم الموتُ } بَدَلاً مطابقاً ، فإنّ حين حضور الموت هو الحين الذي يوصي فيه الناس غالباً . جيء بهذا الظرف الثاني ليتخلّص بهذا البدل إلى المقصود وهو الوصية .

وقد كان العرب إذا راوا علامة الموت على المريض يقولون : أوص ، وقد قالوا ذلك لعمر بن الخطاب حين أخبر الطبيب أنّ جرحه في أمعائه . ومعنى حضور الموت حضور علاماته لأن تلك حالة يتخيّل فيها المرءُ أنّ الموت قد حضر عنده ليصيّره ميتاً ، وليس المراد حصول الغرغرة لأنّ ما طُلب من الموصي أن يعمله يستدعي وقتاً طويلاً ، وقد تقدّم عند قوله : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً } في سورة البقرة ( 180 ) .

وقوله : { اثنان } خبر عن { شهادةُ } ، أي الشهادة على الوصية شهادة اثنين ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فأخذ إعرابه ، والقرينة واضحة والمقصود الإيجاز . فماصْدقُ { اثنان } شاهدان ، بقرينة قوله { شهادة بينكم } ، وقولِه : { ذوا عدل } . وهذان الشاهدان هما وصيّان من الميّت على صفة وصيّته وإبلاغها ، إلاّ أن يجعل الموصي وصياً غيرهما فيكونا شاهدين على ذلك . والعدل والعدالة متّحدان ، أي صاحبا اتّصَاف بالعدالة .

ومعنى { منكم } من المؤمنين ، كما هو مقتضى الخطاب بقوله : { يأيّها الذين آمنوا } ، لأنّ المتكلّم إذا خاطب مخاطبه بوصف ثم أتبعه بما يدلّ على بعضه كان معناه أنّه بعض أصحاب الوصف ، كما قال الأنصار يوم السقيفة : مِنَّا أمير ومِنْكم أمير . فالكلام على وصية المؤمنين . وعلى هذا درج جمهور المفسّرين ، وهو قول أبي موسى الأشعري ، وابن عبّاس ، وسعيد بن المسيّب ، وقتادة ، والأئمة الأربعة . وهو الذي يجب التعويل عليه ، وهو ظاهر الوصف بكلمة { منكم } في مواقعها في القرآن .

وقال الزهري ، والحسن ، وعكرمة : معنى قوله { منكم } من عشيرتكم وقرابتكم . ويترتّب على التفسير الأول أن يكون معنى مقابله وهو { من غيركم } أنّه من غير أهل ملّتكم . فذهب فريق ممّن قالوا بالتفسير الأول إلى إعمال هذا وأجازوا شهادة غير المسلم في السفر في الوصية خاصّة ، وخصّوا ذلك بالذميّ ، وهو قول أحمد ، والثوري ، وسعيد بن المسيّب ، ونُسب إلى ابن عبّاس ، وأبي موسى . وذهب فريق إلى أنّ هذا منسوخ بقوله تعالى : { وأشهدوا ذَوَيْ عدل منكم } [ الطلاق : 2 ] ، وهو قول مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، ونسب إلى زيد بن أسلم . وقد تمّ الكلام على الصورة الكاملة في شهادة الوصية بقوله : { ذوَا عدل منكم } .

وقوله : { أو آخران من غيركم } الآيات . . تفصيل للحالة التي تعرض في السفر . و ( أو ) للتقسيم لا للتخيير ، والتقسيمُ باعتبار اختلاف الحالين : حالِ الحاضر وحال المسافر ، ولذلك اقترن به قوله : { إنْ أنتم ضربتم في الأرض } ، فهو قيد لقوله : { أو آخران من غيركم } .

وجواب الشرط في قوله : { إن أنتم ضربتم في الأرض } محذوف دلّ عليه قوله : { أو آخران من غيركم } ، والتقدير : إنْ أنتم ضربتم في الأرض فشهادة آخَرَيْنِ من غيركم ، فالمصيرُ إلى شهادة شاهدَين من غير المسلمين عند من يراه مقيّد بشرط { إنْ أنتم ضربتم في الأرض } . والضرب في الأرض : السير فيها . والمراد به السفر ، وتقدّم عند قوله تعالى : { وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض } في سورة آل عمران ( 156 ) .

ومعنى : { فأصابتكم مصيبة الموت } حلّت بكم ، والفِعْل مستعمل في معنى المشارفة والمقاربة ، كما في قوله تعالى : { وليَخْشَ الذين لو تركوا من خَلْفهم ذرّيَّة } [ السناء : 9 ] ، أي لو شارفوا أن يتركوا ذرّيّة . وهذا استعمال من استعمال الأفعال . ومنه قولهم في الإقامة : قد قامت الصلاة .

وعُطف قولُه { فأصابتكم } على { ضربتم في الأرض } ، فكانَ من مضمون قوله قبله { إذا حضر أحدَكم الموت } . أعيد هنا لربط الكلام بعد ما فَصَل بينه من الظروف والشروط . وضمير الجمع في { أصابتكم } كضمير الجمع في { ضربتم في الأرض } .

والمصيبة : الحادثة التي تحلّ بالمرء من شرّ وضرّ ، وتقدّم عند قوله تعالى : { فإن أصابتكم مصيبة } في سورة النساء ( 72 ) .

وجملة { تحبسونهما } حال من { آخران } عند من جعل قوله { من غيركم } بمعنى من غير أهل دينكم . وأمّا عند من جعله بمعنى من غير قبيلتكم فإنّه حال من { اثنان } ومن { آخران } لأنّهما متعاطفان ب ( أو ) . فهما أحد قسمين ، ويكون التحليف عند الاسْترابة . والتحليف على هذا التأويل بعيد إذ لا موجب للاسترابة في عدلين مسلمين .

وضمير الجمع في { تحبسونهما } كضميري { ضربتم وأصابتكم } . وكلّها مستعملة في الجمع البدَلي دون الشمولي ، لأنّ جميع المخاطبين صالحون لأن يعتريهم هذا الحكم وإنّما يحلّ ببعضهم . فضمائر جمع المخاطبين واقعة موقع مُقتضَى الظاهر كلُّها . وإنّما جاءت بصيغة الجمع لإفادة العموم ، دفعاً لأن يتوهّم أنّ هذا التشريع خاصّ بشخصين معيّنين لأنّ قضية سبب النزول كانت في شخصين ؛ أو الخطاب والجمع للمسلمين وحكّامهم .

والحَبس : الإمساك ، أي المنع من الانصراف . فمنه ما هو بإكراه كحبس الجاني في بيت أو إثقافه في قيد . ومنه ما يكون بمعنى الانتظار ، كما في حديث عتبان بن مالك فغدا عليّ رسول الله وأبو بكر إلى أن قال وحبسناه على خزير صنعناه ، أي أمسكناه . وهذا هو المراد في الآية ، أي تمسكونهما ولا تتركونهما يغادِرَانِكم حتّى يتحمّلا الوصية . وليس المرادّ به السجن أو ما يقرب منه ، لأنّ الله تعالى قال : { ولا يضارّ كاتب ولا شهيد } [ البقرة : 282 ] .

وقوله : { من بعد الصلاة } توقيت لإحضارهما وإمساكهما لأداء هذه الشهادة . والإتيانُ ب ( مِن ) الابتدائية لتقريب البَعديّة ، أي قرب انتهاء الصلاة . وتحتمل الآية أنّ المراد بالصلاة صلاة من صلوات المسلمين ، وبذلك فسّرها جماعة من أهل العلم ، فمنهم من قال : هي صلاة العصر . وروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أحْلف تميماً الداري وعَدي بنَ بدّاء في قضية الجام بعد العصر ، وهو قول قتادة ، وسعيد ، وشريح ، والشعبي .

ومنهم من قال : الظهر ، وهو عن الحسن . وتحتمل من بعد صلاة دينهما على تأويل من غيركم بمعنى من غير أهل دينكم . ونقل عن السديّ ، وابن عبّاس ، أي تُحضرونهما عقب أدائهما صلاتهما لأنّ ذلك قريب من إقبالهما على خشية الله والوقوف لعبادته .

وقوله : { فيقسمان بالله } عطف على { تحبسونهما } فعلم أنّ حبسهما بعد الصلاة لأجل أن يقسما بالله . وضمير { يقسمان } عائد إلى قوله { آخران } . فالحلف يحلفه شاهدا الوصية اللذان هما غير مسلمين لزيادة الثقة بشهادتهما لعدم الاعتداد بعدالة غير المسلم .

وقوله { إن ارتبتم } تظافرت أقوال المفسّرين على أنّ هذا شرط متّصل بقوله { تحبسونهما } وما عطف عليه . واستغني عن جواب الشرط لدلالة ما تقدّم عليه ليتأتّى الإيجاز ، لأنّه لو لم يقدّم لقيل : أو آخران من غيركم فإن ارتبتم فيهما تحبسونهما إلى آخره . فيقتضي هذا التفسير أنّه لو لم تَحصل الريبة في صدقهما لما لزم إحْضارهما من بعد الصلاة وقسمهما ، فصار ذلك موكولاً لِخيَرة الولي . وجملة الشرط معترضة بين فعل القسم وجوابه .

والوجه عندي أن يكون قوله { إن ارتبتم } من جملة الكلام الذي يقوله الشاهدان ، ومعناه أنّ الشاهدين يقولان : إن ارتبتم في شهادتنا فنحن نقسم بالله لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم الشهادة ، أي يقولان ذلك لاطمئنان نفس المُوصي ، لأنّ العدالة مظنّة الصدق مع احتمال وجود ما ينافيها ممّا لا يُطّلع عليه فأكّدت مظنّة الصدق بالحلف ؛ فيكون شُرع هذا الكلام على كلّ شاهد ليسْتوي فيه جميع الأحوال بحيث لا يكون توجيه اليمين في بعض الأحوال حَرجاً على الشاهدين الذين توجّهت عليهما اليمينُ من أنّ اليمين تعريض بالشكّ في صدقهما ، فكان فرض اليمين من قِبَل الشرع دافعاً للتحرّج بينهما وبين الوليّ ، لأنّ في كون اليمين شرطاً من عند الله معذرة في المطالبة بها ، كما قال جمهور فقهائنا في يمين القضاء التي تتوجّه على من يثبت حقّاً على ميّت أو غائب من أنّها لازمة قبل الحكم مطلقاً ولو أسقطها الوارث الرشيد . ولم أقف على مَن عرّج على هذا المعنى من المفسّرين إلاّ قول الكواشي في « تلخيص التفسير » : « وبعضُهم يقف على { يقسمان } ويبتدىء { بالله } قسماً ولا أحبّه » ، وإلاّ ما حكاه الصفاقسي في « مُعربَه » عن الجرجاني « أنّ هنا قولاً محذوفاً تقديره : فيقسمان بالله ويَقُولان » . ولم يظهر للصفاقسي ما الذي دعَا الجرجاني لِتقدير هذا القول . ولا أراه حمله عليه إلاّ جَعْلُ قوله { إن ارتبتم } من كلام الشاهديْن . وجوابُ الشرط محذوف يدلّ عليه جواب القسم ، فإنّ القسم أولى بالجواب لأنّه مقدّم على الشرط .

وقوله { لا نشتري به ثمناً } الخ ، ذلك هو المقسم عليه . ومعنى { لا نشتري به ثمناً } لا نعتاض بالأمر الذي أقسمنا عليه ثمناً ، أي عوضاً ، فضمير به ، عائد إلى القسم المفهوم من { يقسمان } .

وقد أفاد تنكير { ثمناً } في سياق النفي عمومَ كلّ ثمن . والمراد بالثمن العوَض ، أي لا نبدّل ما أقسمنا عليه بعوض كائناً ما كان العوضُ ، ويجوز أن يكون ضمير { به } عائداً إلى المقسم عليه وهو ما استشهدا عليه من صيغة الوصي بجميع ما فيها .

وقوله : { ولو كان ذا قُربى } حال من قوله { ثمناً } الذي هو بمعنى العوض ، أي ولو كان العوض ذا قربى ، أي ذا قربى منّا ، و« لو » شرط يفيد المبالغة فإذا كان ذا القربى لا يَرْضيانه عوّضاً عن تبديل شهادتهما فأوْلى ما هو دون ذلك . وذلك أنّ أعظم ما يدفع المرء إلى الحيف في عرف القبائل هو الحميّة والنصرة للقريب ، فذلك تصغر دونه الرّشى ومنافع الذات . والضمير المسْتتر في { كان } عائد إلى قوله { ثَمناً } . ومعنى كون الثمن ، أي العوض ، ذَا قربى أنّه إرضاء ذي القربى ونفعه فالكلام على تقدير مضاف ، وهو من دلالة الاقتضاء لأنّه لا معنى لجعل العوض ذات ذي القربى ، فتعيّن أنّ المراد شيء من علائقه يعيّنه المقام . ونظيره { حُرِّمت عليكم أمّهاتكم } [ النساء : 23 ] . وقد تقدّم وجه دلالة مثل هذا الشرط ب ( لو ) وتسميتها وصلية عند قوله تعالى : { ولو افتدى به } من سورة آل عمران ( 91 ) .

وقوله { ولا نكتم } عطف على { لا نشتري } ، لأنّ المقصود من إحلافهما أن يؤدّيا الشهادة كما تلقّياها فلا يغيّرا شيئاً منها ولا يكتماها أصلاً .

وإضافة الشهادة إلى اسم الجلالة تعظيم لخطرها عند الشهادة وغيره لأنّ الله لمّا أمر بأدائها كما هي وحَضّ عليها أضافها إلى اسمه حفظاً لها من التغيير ، فالتصريح باسمه تعالى تذكير للشاهد به حينَ القسم .

وفي قوله { ولا نكتم } دليل على أنّ المراد بالشهادة هنا معناها المتعارف ، وهو الإخبار عن أمر خاصّ يعرِض في مثله الترافعُ . وليس المراد بها اليمين كما توهّمه بعض المفسّرين فلا نطيل بردّه فقد ردّه اللفظ .

وجملة { إنَّا إذاً لمن الآثمين } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنّها جواب سؤال مقدّر بدليل وجود { إذنْ } ، فإنّه حرفُ جواب : استشعر الشاهدان سؤالاً من الذي حَلفا له بقولهما : لا نشتري به ثمناً ولا نكتم شهادة الله ، يقول في نفسه : لعلّكما لا تَبِرّان بما أقسمتما عليه ، فأجابا : إنّا إذَنْ لَمِن الآثمين ، أي إنّا نَعلم تبعة عدم البرّ بما أقسمنا عليه أن نكون من الآثمين ، أي ولا نرضى بذلك .

والآثمُ : مرتكب الإثم . وقد علم أنّ الإثم هو الحنث بوقوع الجملة استئنافاً مع « إذن » الدالّة على جواب كلام يختلج في نفس أولياء الميّت .