22- وقد أرسلنا الرياح حاملة بالأمطار وحاملة بذور الإنبات ، وأنزلنا منها الماء وجعلناه سقيا لكم ، وأن ذلك خاضع لإرادتنا ، ولا يتمكن أحد من التحكم فيه حتى يصير عنده كالخزائن{[106]} .
{ 22 } { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ }
أي : وسخرنا الرياح ، رياح الرحمة تلقح السحاب ، كما يلقح الذكر الأنثى ، فينشأ عن ذلك الماء بإذن الله ، فيسقيه الله العباد ومواشيهم وأرضهم ، ويبقى في الأرض مدخرا لحاجاتهم وضروراتهم ما هو مقتضى قدرته ورحمته ، { وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } أي : لا قدرة لكم على خزنه وادخاره ، ولكن الله يخزنه لكم ويسلكه ينابيع في الأرض رحمة بكم وإحسانا إليكم .
ثم انتقل - سبحانه - من الاستدلال على وحدانيته وقدرته بظواهر السماء وبظواهر الأرض ، إلى الاستدلال على ذلك بظواهر الرياح والأمطار فقال - تعالى - : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } والآية الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك : { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } وما بينهما اعتراض لتحقيق ما سبق ذكره من النعم .
والمراد بإرسال الرياح هنا : نقلها من مكان إلى آخر بقدرة الله - تعالى - وحكمته .
وقوله { لواقح } يصح أن يكون جمع لاقح . وأصل اللاقح : الناقة التي قبلت اللقاح فحملت الجنين في بطنها . .
ووصف - سبحانه - الرياح بكونها لواقح . لأنها حوامل تحمل ما يكون سببا في نزول الأمطار كما تحمل النوق الأجنة في بطونها .
أى : وأرسلنا بقدرتنا ورحمتنا الرياح حاملة للسحاب وللأمطار ولغيرهما ، مما يعود على الناس بالنفع والخير والبركة .
ويصح أن يكون لفظ { لواقح } جمع ملقح - اسم فاعل - وهو الذي يلقح غيره ، فتكون الرياح ملقحة لغيرها كما يلقح الذكر الأنثى .
قال الإِمام ابن كثير : قوله { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } أى : تلقح السحب فتدر ماء ، وتلقح الأشجار فتتفتح عن أوراقها وأكمامها .
وقال بعض العلماء : ومعنى الإِلقاح أن الرياح تلقح السحاب بالماء بتوجيه عمل الحرارة والبرودة متعاقبين ، فينشأ عن ذلك البخار الذي يصير ماء في الجو ، ثم ينزل مطرًا على الأرض ، وأنها تلقح الشجر ذا الثمرة ، بأن تنقل إلى نوره غبرة دقيقة من نوْر الشجر الذكر ، فتصلح ثمرته أو تثبت . .
وهذا هو الإبار . وبعضه لا يحصل إلا بتعليق الطلع الذكر على الشجرة المثمرة . وبعضه يكتفى منه بغرس شجرة ذكر في خلال شجر الثمر
ومن بلاغة الآية الكريمة ، إيراد هذا الوصف - لواقح - لإِفادة كلا العملين اللذين تعملهما الرياح - وهما الحمل للسحاب والمطر وغيرهما ، أو التلقيح لغيرها - .
وقوله { فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ . . } تفريع على ما تقدم .
أى : وأرسلنا الرياح بقدرتنا من مكان إلى آخر ، حالة كونها حاملة للسحاب وغيره ، فأنزلنا - بسبب هذا الحمل - من جهة السماء ، ماء كثيرًا هو المطر ، لتنتفعوا به في شرابكم ، وفى معاشكم ، وفى غير ذلك من ضرورات حياتكم .
قال - تعالى - : { هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وَمِن كُلِّ الثمرات . . . } وقوله { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } تتميم لنعمة إنزال الماء .
أى : أنزلنا المطر من السماء ، وليست خزائنه عندكم . وإنما نحن الخازنون له ، ونحن الذين ننزله متى شئنا ، ونحن الذين نمنعه متى شئنا ، كما قال - تعالى - قبل ذلك : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } .
ويصح أن يكون المعنى : أنزلنا المطر من السماء فجعلناه لسقياكم ، وأنتم لستم بقادرين على خزنه وحفظه في الآبار والعيون وغيرها ، وإنما نحن القادرون على ذلك . قال - تعالى - { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ }
ومما يرسله الله بقدر معلوم الرياح والماء :
( وأرسلنا الرياح لواقح ، فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه . وما أنتم له بخازنين )
أرسلنا الرياح لواقح بالماء ، كما تلقح الناقة بالنتاج ؛ فأنزلنا من السماء ماء مما حملت الرياح ، فأسقيناكموه فعشتم به :
فما من خزائنكم جاء ، إنما جاء من خزائن الله ونزل منها بقدر معلوم .
والرياح تنطلق وفق نواميس كونية ، وتحمل الماء وفقا لهذه النواميس ؛ وتسقط الماء كذلك بحسبها . ولكن من الذي قدر هذا كله من الأساس ? لقد قدره الخالق ، ووضع الناموس الكلي الذي تنشأ عنه كل الظواهر :
( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ، وما ننزله إلا بقدر معلوم ) .
ونلحظ في التعبير أنه يرد كل حركة إلى الله حتى شرب الماء . . ( فأسقيناكموه ) . . والمقصود أننا جعلنا خلقتكم تطلب الماء ، وجعلنا الماء صالحا لحاجتكم ، وقدرنا هذا وذاك . وأجريناه وحققناه بقدر الله . والتعبير يجيء على هذا النحو لتنسيق الجو كله ، ورجع الأمر كله إلى الله حتى في حركة تناول الماء للشراب . لأن الجو جو تعليق كل شيء في هذا الكون بإرادة الله المباشرة وقدره المتعلق بكل حركة وحادث . . سنة الله هنا في حركات الأفلاك كسنته في حركات الأنفس . . تضمن المقطع الأول سنته في المكذبين ، وتضمن المقطع الثاني سنته في السماوات والأرضين ، وفي الرياح والماء والاستقاء . وكله من سنة الله التي يجري بها قدر الله . وهذه وتلك موصولتان بالحق الكبير الذي خلق الله به السماوات والأرض والناس والأشياء سواء .
وقوله : { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } أي : تلقح السحاب فتدر ماء ، وتلقح الشجر فتتفتح عن أوراقها وأكمامها .
هذه " الرياح " ذكرها بصيغة الجمع ، ليكون منها الإنتاج ، بخلاف الريح العقيم فإنه أفردها ، ووصفها بالعقيم ، وهو عدم الإنتاج ؛ لأنه لا يكون إلا من{[16126]} شيئين فصاعدا .
وقال الأعمش ، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن قيس بن السكن ، عن عبد الله بن مسعود في قوله : { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } قال : ترسل الرياح ، فتحمل الماء من السماء ، ثم تَمْري السحاب ، حتى تدر كما تَدر اللَّقحَة .
وكذا قال ابن عباس ، وإبراهيم النخعي ، وقتادة .
وقال الضحاك : يبعثها الله على السحاب ، فتُلقحه ، فيمتلئ{[16127]} ماء .
وقال عُبَيْد بن عُمَير الليثي : يبعث الله المُبشرّة فتَقمُّ الأرض قَمًّا ثم بعث الله المثيرة{[16128]} فتثير السحاب ، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب ، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر ، ثم تلا{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ }
وقد روى ابن جرير ، من حديث عُبَيْس{[16129]} بن ميمون ، عن أبي المُهَزَّم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الريح الجنوب من الجنة ، وهي [ الريح اللواقح ، وهي التي ]{[16130]} ذكر الله في كتابه ، وفيها منافع للناس " {[16131]} وهذا إسناد ضعيف .
وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحُمَيدي في مسنده : حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار ، أخبرني يزيد بن جُعْدبة الليثي : أنه سمع عبد الله بن مِخْراق ، يحدث عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق في الجنة ريحا بعد الريح بسبع سنين ، وإن من دونها بابا مغلقا ، وإنما يأتيكم الريح من ذلك الباب ، ولو فتح لأذرت ما بين السماء والأرض من شيء ، وهي عند الله الأزَيبُ ، وهي فيكم الجنوب " {[16132]}
وقوله : { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } أي : أنزلناه لكم عَذْبًا يُمكنكم أن تشربوا منه ، ولو نشاء لجعلناه أجاجًا . كما ينبه الله{[16133]} على ذلك في الآية الأخرى في سورة " الواقعة " ، وهو{[16134]} قوله : { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ } [ الواقعة : 68 - 70 ] وفي قوله : { هُوَ الَّذِي أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } [ النمل : 10 ]
وقوله : { وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } قال سفيان الثوري : بمانعين .
ويحتمل أن المراد : وما أنتم له بحافظين ، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ، ونجعله معينا وينابيع{[16135]} في الأرض ، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به ، ولكن من رحمته أنزله وجعله عذبا ، وحفظه في العيون والآبار والأنهار وغير ذلك . ليبقى لهم في طول السنة ، يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } .
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة القرّاء : وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ ، وقرأه بعض قرّاء أهل الكوفة : «وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ » فوحّد الريح وهي موصوفة بالجمع أعنى بقوله : «لواقح » . وينبغي أن يكون معنى ذلك : أن الريح وإن كان لفظها واحدا ، فمعناها الجمع لأنه يقال : جاءت الريح من كلّ وجه ، وهبّت من كلّ مكان ، فقيل لواقح لذلك ، فيكون معنى جمعهم نعتها وهي في اللفظ واحدة معنى قولهم : أرض سباسب ، وأرض أغفال ، وثوب أخلاق ، كما قال الشاعر :
جاءَ الشّتاءُ وقَمِيصي أخْلاقْ *** شَرَاذِمٌ يَضْحَكُ مِنْهُ التّوّاقْ
وكذلك تفعل العرب في كلّ شيء اتسع .
واختلف أهل العربية في وجه وصف الرياح باللقح وإنما هي ملقحة لا لاقحة ، وذلك أنها تلقح السحاب والشجر ، وإنما توصف باللقح الملقوحة لا الملقح ، كما يقال : ناقة لاقح . وكان بعض نحويي البصرة يقول : قيل : الرياح لواقح ، فجعلها على لاقح ، كأن الرياح لقحت ، لأن فيها خيرا فقد لقحت بخير . قال : وقال بعضهم : الرياح تلقح السحاب ، فهذا يدلّ على ذلك المعنى لأنها إذا أنشأته وفيها خير وصل ذلك إليه . وكان بعض نحويي الكوفة يقول : في ذلك معنيان : أحدهما أن يجعل الريح هي التي تلقح بمرورها على التراب والماء فيكون فيها اللقاح ، فيقال : ريح لاقح ، كما يقال : ناقة لاقح ، قال : ويشهد على ذلك أنه وصف ريح العذاب فقال : عَلَيهِمُ الرّيحَ الْعَقِيمَ فجعلها عقيما إذا لم تلقح . قال : والوجه الاَخر أن يكون وصفها باللقح وإن كانت تلقح ، كما قيل : ليل نائم والنوم فيه وسرّكاتم ، وكما قيل : المبروز والمختوم ، فجعل مبروزا ولم يقل مبرزا بَنَاهُ على غير فعله ، أي أن ذلك من صفاته ، فجاز مفعول لمفعل كما جاز فاعل لمفعول إذا لم يرد البناء على الفعل ، كما قيل : ماء دافق .
والصواب من القول في ذلك عندي : أن الرياح لواقح كما وصفها به جلّ ثناؤه من صفتها ، وإن كانت قد تلقح السحاب والأشجار ، فهي لاقحة ملقحة ، ولقحها : حملها الماء ، وإلقاحها السحاب والشجر : عملها فيه ، وذلك كما قال عبد الله بن مسعود .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربي ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن قيس بن سكن ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله : وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ قال : يرسل الله الرياح فتحمل الماء ، فتجري السحاب ، فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن قيس بن سكن ، عن عبد الله : وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ قال : يبعث الله الريح فتلقح السحاب ، ثم تمريه فتدر كما تدر اللقحة ، ثم تمطر .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا أسباط بن محمد ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن قيس بن السكن ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله : وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ قال » : يرسل الرياح ، فتحمل الماء من السحاب ، ثم تمري السحاب ، فتدر كما تدر اللقحة .
فقد بين عبد الله بقوله : يرسل الرياح فتحمل الماء ، أنها هي اللاقحة بحملها الماء وإن كانت ملقحة بإلقاحها السحاب والشجر .
وأما جماعة أُخَر من أهل التأويل ، فإنهم وجّهوا وصف الله تعالى ذكره إياها بأنها لواقح إلى أنه بمعنى ملقحة ، وأن اللواقح وُضعت ملاقح ، كما قال نهشل بن حريّ :
لِيُبْكَ يَزِيدُ بائِسٌ لِضَرَاعَةً *** وأشْعَثُ ممّنْ طَوّحَتْهُ الطّوَائحُ
يريد المطاوح . وكما قال النابغة :
كليني لِهَمَ يا أُمَيْمَةَ ناصِبِ *** ولَيْلٍ أُقاسيهِ بَطيءِ الكوَاكبِ
بمعنى : مُنْصِب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم في قوله : وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ قال : تلقح السحاب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبراهيم ، مثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، قوله : وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ قال : لواقح للشجر . قلت : أو للسحاب ؟ قال : وللسحاب ، تمريه حتى يمطر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي سنان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عبيد بن عمير ، قال : يبعث الله المبشرة فَتَقُمّ الأرض قَمّا ، ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب ، ثم يبعث الله المؤلّفة فتؤلف السحاب ، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر . ثم تلا عبيد : وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ يقول : لواقح للسحاب ، وإن من الريح عذابا وإن منها رحمة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : لَوَاقِحَ قال : تلقح الماء في السحاب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن عباس : لَوَاقِحَ قال : تُلقح الشجر وتُمري السحاب .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ الرياح يبعثها الله على السحاب فتلقحه فيمتلىء ماء .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أحمد بن يونس ، قال : حدثنا عبيس بن ميمون ، قال : حدثنا أبو المهزم ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «الرّيحُ الجَنُوبُ مِنَ الجَنّةِ ، وَهِيَ الرّيحُ اللّوَاقِحُ ، وَهِيَ التي ذَكَرَ اللّهُ تَعَالى فِي كِتابِهِ وَفِيها منَافِعٌ للنّاسِ » .
حدثني أبو الجماهر الحمصي أو الحضرمي محمد بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا عبد العزيز بن موسى ، قال : حدثنا عبيس بن ميمون أبو عبيدة ، عن أبي المهزم ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله سواء .
وقوله : فأنْزَلْنا مِنَ السّماءِ ماءً فأسْقَيْنا كمُوهُ يقول تعالى ذكره : فأنزلنا من السماء مطرا فأسقيناكم ذلك المطر لشرب أرضكم ومواشيكم . ولو كان معناه : أنزلناه لتشربوه ، لقيل : فسقينا كموه . وذلك أن العرب تقول إذا سقت الرجل ماء شربه أو لبنا أو غيره : «سقيته » بغير ألف إذا كان لسقيه ، وإذا جعلوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته ، قالوا : «أسقبته وأسقيت أرضه وماشيته » ، وكذلك إذا استسقت له ، قالوا «أسقيته واستسقيته » ، كما قال ذو الرّمّة :
وَقَفْتُ على رَسْمٍ لِمَيّةَ ناقَتِي *** فَمَا زِلْتُ أبْكي عِنْدَهُ وأُخاطِبُهْ
وأُسْقِيهِ حتى كادَ مِمّا أبُثّهُ *** تُكَلّمُني أحْجارُهُ ومَلاعِبُهْ
وكذلك إذا وَهَبْتَ لرجل إهابا ليجعله سقاء ، قلت : أسقيته إياه .
وقوله : وَما أنْتُمْ لَهُ بِخازِنِيَنَ يقول : ولستم بخازني الماء الذي أنزلنا من السماء فأسقينا كموه فتمنعوه من أسقيه لأن ذلك بيدي وإليّ ، أسقيه من أشاء وأمنعه من أشاء . كما :
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : سفيان : وَما أنْتمْ لَهُ بِخازِنِينَ قال : بمانعين .
يقال : لقحت الناقة والشجرة فهي لاقحة : إذا حملت ، والرياح تلقح الشجر والسحاب ، فالوجه في الريح أنها ملقحة لا لاقحة ، وتتجه صفة { الرياح } ب { لواقح } على أربعة أوجه :
أولها وأولاها : أن نجعلها لاقحة حقيقية ، وذلك أن الرياح منها ما فيها عذاب أو حر ونار ، ومنها ما فيه رحمة ومطر أو نصر أو غير ذلك ، فإذا بها تحمل ما حملتها القدرة ، أو ما علقته من الهواء أو التراب أو الماء الذي مرت عليه ، فهي لاقحة بهذا الوجه ، وإن كانت أيضاً تلقح غيرها وتصير إليه نفعها . والعرب تسمي الجنوب الحامل واللاقحة ، وتسمي الشمال الحايل{[7148]} والعقيم ومحوة ، لأنها تمحو السحاب . وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «الريح الجنوب من الجنة ، وهي اللواقح التي ذكر الله ، وفيها منافع للناس »{[7149]} ؛ ومن هذا قول الطرماح :
قلق لا فبان الريا . . . ح للاقح منها وحائل{[7150]}
من نسل جوابة الآفاق{[7151]} . . . فجعلها حاملاً تنسل .
قال القاضي أبو محمد : ويخرج هذا على أنها ملقحة فلا حجة فيه .
والثاني : أن يكون وصفها ب { لواقح } من باب قولهم : ليل نائم ، أي فيه نوم ومعه ، ويوم عاصف ونحوه : فهذا على طريق المجاز .
والثالث : أن توصف الرياح ب { لواقح } على جهة النسب ، أي ذات لقح ، كقول النابغة :
كليني لهم يا أميمة ناصب{[7152]} . . . أي ذي نصب .
والرابع : أن تكون { لواقح } جمع ملقحة على حذف زوائدة ، فكأنه لقحة ، فجمعها كما تجمع لاقحة ، ومثله قول الشاعر [ سيبويه ] : [ الطويل ]
ليبك يزيد ضارع لخصومة . . . وأشعث ممن طوحته الطوائح{[7153]}
وإنما طوحته المطاوح ، وعلى هذا النحو فسرها أبو عبيدة في قوله : { لواقح } ملاقح ، وكذلك العبارة عنها في كتاب البخاري : لواقح ملاقح ملقحة .
وقرأ الجمهور «الرياح » بالجمع ، وقرأ الكوفيون - حمزة وطلحة بن مصرف والأعمش ويحيى بن وثاب - «الريح » بالإفراد ، وهي للجنس ، فهي في معنى الجمع ، ومثلها الطبري بقولهم : «قميص أخلاق وأرض أغفال »{[7154]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله من حيث هو أجزاء كثيرة تجمع صفته ، فكذلك ريح لواقع لأنها متفرقة الهبوب ، وكذلك : دار بلاقع ، أي كل موضع منها بلقع .
وقال الأعمش : إن في قراءة عبد الله «وأرسلنا الرياح يلقحن » ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الريح من نفس الرحمن »{[7155]} ، ومعنى الإضافة هنا هي من إضافة خلق إلى خالق ، كما قال : { من روحي } [ الحجر : 29 ] ومعنى نفس الرحمن : أي من تنفيسه وإزالته الكرائب والشدائد . فمن التنفس بالريح النصر بالصبا{[7156]} وذرو الأرزاق بها ، وما لها من الخدمة في الأرزاق وجلب الأمطار وغير ذلك مما يكثر عده .
ولقد حدثت أن ابن أبي قحافة رحمه الله فسر هذا الحديث بنحو هذا وأنشد في تفسيره : [ الطويل ]
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت . . . على نفس محزون تجلت همومها{[7157]}
وهذا من جملة التنفيس والعرب تقول : أسقى وسقى بمعنى واحد ، وقال لبيد : [ الوافر ]
سقى قومي بني مجد واسقى . . . نميراً ، والقبائل من هلال{[7158]}
فجاء باللغتين ، وقال أبو عبيدة : أما إذا كان من سقي الشفة خاصة فلا يقال إلا سقى ، وأما إذا كان لسقي الأرض والثمار وجملة الأشياء فيقال : أسقى ، وأما الداعي لأرض أو غيرها بالسقي ، فإنما يقال فيه : أسقى ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]
وقفت على رسم ِلمية ناقتي . . . فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه . . . تكلمني أحجاره وملاعبه{[7159]}
انتقال من الاستدلال بظواهر السماء وظواهر الأرض إلى الاستدلال بظواهر كرة الهواء الواقعة بين السماء والأرض ، وذلك للاستدلال بفعل الرياح والمنة بما فيها من الفوائد .
والإرسال : مجاز في نقل الشيء من مكان إلى مكان . وهذا يدل على أن الرياح مستمرة الهبوب في الكرة الهوائية . وهي تظهر في مكان آتية إليه من مكان آخر وهكذا . . . .
و { لواقح } حال من { الرياح } . وقع هذا الحال إدماجاً لإفادة معنيين كما سيأتي عن مالك رحمه الله .
و { لواقح } صالحٌ لأن يكون جمع لاَقح وهي الناقة الحبلى . واستعمل هنا استعارة للريح المشتملة على الرطوبة التي تكون سبباً في نزول المطر ، كما استعمل في ضدها العقيم ضد اللاقح في قوله تعالى { إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } [ سورة الذاريات : 41 ] .
وصالح لأن يكون جمع مُلقح وهو الذي يجعل غيره لاقحاً ، أي الفحل إذا ألقح الناقة ، فإن فواعل يجيء جمعَ مُفعل مذكرٍ نادراً كقول الحارث أو ضرار النهشلي :
لبيك يزيد ضارع لخصومة *** ومختبط مما تطيحُ الطوايح
روعي فيه جواز تأنيث المشبه به . وهي جمع الفحول لأن جمع ما لا يعقل يجوز تأنيثه .
ومعنى الإلقاح أن الرياح تلقح السحاب بالماء بتوجيه عمل الحرارة والبرودة متعاقبين فينشأ عن ذلك البخار الذي يصير ماء في الجو ثم ينزل مطراً على الأرض ؛ وأنها تلقح الشجر ذي الثمرة بأن تَنقُلَ إلى نَوْره غبرة دقيقة من نور الشجر الذكر فتصلح ثمرته أو تثبت ، وبدون ذلك لا تثبت أو لا تصلح . وهذا هو الإبّار . وبعضه لا يحصل إلا بتعليق الطلع الذكر على الشجرة المثمرة . وبعضه يكتفي منه بغرس شجرة ذكر في خلال شجر الثمر .
ومن بلاغة الآية إيراد هذا الوصف لإفادة كلا العمليْن اللّذين تعملهما الرياح ، وقد فُسرت الآية بهما . واقتصر جمهور المفسرين على أنها لواقح السحاب بالمطر .
وروى أبو بكر بن العربي عن مالك أنه قال : قال الله تعالى { وأرسلنا الرياح لواقح } فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل ولا أريد ما ييبس في أكمامه ولكن يحبب حتى يكون لو يبس حينئذٍ لم يكن فساداً لا خير فيه . ولقاح الشجر كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت ما يثبت .
وفرع قوله { فأنزلنا من السماء ماء } على قوله { وأرسلنا الرياح } .
وقرأ حمزة { وأرسلنا الريح لواقح } بإفراد « الريح » وجمع « لواقح » على إرادة الجنس والجنس له عدة أفراد .
و { أسقيناكموه } بمعنى جعلناه لكم سقياً ، فالهمزة فيه للجعل . وكثر إطلاق أسقى بمعنى سقى .
واستعمل الخزن هنا في معنى الخزن في قوله آنفاً { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } [ سورة الحجر : 21 ] أي وما أنتم له بحافظين ومنشئين عندما تريدون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وذلك أن الله يرسل الريح، فتأخذ الماء بكيل معلوم من سماء الدنيا، ثم تثير الرياح والسحاب، فتلقى الريح السحاب بالماء الذي فيها من ماء النبت، ثم تسوق تلك الرياح السحاب إلى الأرض التي أمر الرعد أن يمطرها، فذلك قوله سبحانه: {فأنزلنا من السماء ماء}، يعنى المطر، {فأسقيناكموه وما أنتم}، يعني: يا بني آدم، {له بخازنين}، يقول: لستم أنتم بخازنيها، فتكون مفاتيحها بأيديكم ولكنها بيدي...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... اختلف أهل العربية في وجه وصف الرياح باللقح وإنما هي ملقحة لا لاقحة، وذلك أنها تلقح السحاب والشجر، وإنما توصف باللقح الملقوحة لا الملقح، كما يقال: ناقة لاقح. وكان بعض نحويي البصرة يقول: قيل: الرياح لواقح، فجعلها على لاقح، كأن الرياح لقحت، لأن فيها خيرا فقد لقحت بخير. قال: وقال بعضهم: الرياح تلقح السحاب، فهذا يدلّ على ذلك المعنى لأنها إذا أنشأته وفيها خير وصل ذلك إليه. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: في ذلك معنيان: أحدهما أن يجعل الريح هي التي تلقح بمرورها على التراب والماء فيكون فيها اللقاح، فيقال: ريح لاقح، كما يقال: ناقة لاقح، قال: ويشهد على ذلك أنه وصف ريح العذاب فقال:"عَلَيهِمُ الرّيحَ الْعَقِيمَ" فجعلها عقيما إذا لم تلقح. قال: والوجه الآخر أن يكون وصفها باللقح وإن كانت تلقح، كما قيل: ليل نائم والنوم فيه وسرّ كاتم...
والصواب من القول في ذلك عندي: أن الرياح لواقح كما وصفها به جلّ ثناؤه من صفتها، وإن كانت قد تلقح السحاب والأشجار، فهي لاقحة ملقحة، ولقحها: حملها الماء، وإلقاحها السحاب والشجر: عملها فيه...
وأما جماعة أُخَر من أهل التأويل، فإنهم وجّهوا وصف الله تعالى ذكره إياها بأنها لواقح إلى أنه بمعنى ملقحة... عن الحسن، قوله: "وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ "قال: لواقح للشجر. قلت: أو للسحاب؟ قال: وللسحاب، تمريه حتى يمطر...
وقوله: "فأنْزَلْنا مِنَ السّماءِ ماءً فأسْقَيْناكمُوهُ" يقول تعالى ذكره: فأنزلنا من السماء مطرا فأسقيناكم ذلك المطر لشرب أرضكم ومواشيكم، ولو كان معناه: أنزلناه لتشربوه، لقيل: فسقيناكموه. وذلك أن العرب تقول إذا سقت الرجل ماء شربه أو لبنا أو غيره: «سقيته» بغير ألف إذا كان لسقيه، وإذا جعلوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته، قالوا: «أسقيته وأسقيت أرضه وماشيته»، وكذلك إذا استسقت له، قالوا «أسقيته واستسقيته»...
وقوله: "وَما أنْتُمْ لَهُ بِخازِنِيَنَ" يقول: ولستم بخازني الماء الذي أنزلنا من السماء فأسقيناكموه فتمنعوه من أسقيه لأن ذلك بيدي وإليّ، أسقيه من أشاء وأمنعه من أشاء...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{وأرسلنا الرياح لواقح}، إنما إلقاحها في إيقاع الازدواج بين الهواء والأرض..
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ}: فجعلناه لكم سقيا، {وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين} نفى عنهم ما أثبته لنفسه في قوله: {وَإِن مّن شيء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} كأنه قال: نحن الخازنون للماء، على معنى نحن القادرون على خلقه في السماء وإنزاله منها، وما أنتم عليه بقادرين: دلالة على عظيم قدرته وإظهاراً لعجزهم.
... {وأرسلنا الرياح لواقح} فاعلم أن هذا هو النوع الخامس من دلائل التوحيد...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" وأنزلنا من السماء "أي من السحاب. وكل ما علاك فأظلك يسمى سماء. وقيل: من جهة السماء. "ماء "أي قطرا.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{وما أنتم له بخازنين} قادرين متمكنين من إخراجه، نفى عنهم ما أثبته لنفسه، أو حافظين في الغدران والعيون والآبار، وذلك أيضا يدل على المدبر الحكيم كما تدل حركة الهواء في بعض الأوقات من بعض الجهات على وجه ينتفع به الناس، فإن طبيعة الماء تقتضي الغور فوقوفه دون حد لا بد له من سبب مخصص.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هذه "الرياح "ذكرها بصيغة الجمع، ليكون منها الإنتاج، بخلاف الريح العقيم فإنه أفردها، ووصفها بالعقيم، وهو عدم الإنتاج؛ لأنه لا يكون إلا من شيئين فصاعدا...
{فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} أي: أنزلناه لكم عَذْبًا يُمكنكم أن تشربوا منه، ولو نشاء لجعلناه أجاجًا. كما ينبه الله على ذلك في الآية الأخرى في سورة "الواقعة"، وهو قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 68 -70] وفي قوله: {هُوَ الَّذِي أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النمل: 10]...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما تم ما أراد من آيتي السماء والأرض، وختمه بشمول قدرته لكل شيء، أتبعه ما ينشأ عنهما مما هو بينهما مودعاً في خزائن قدرته فقال: {وأرسلنا} أي بما لنا من التصريف الباهر {الرياح} جمع ريح، وهي جسم لطف منبث في الجو سريع المر {لواقح} أي حوامل تحمل الندى ثم تمجه في السحاب التي تنشئها، فهي حوامل للماء، لواحق بالجو، قوته على ذلك عالية حساً ومعنى؛ والريح: هواء متحرك، وحركته بعد أن كان ساكناً لا بد لها من سبب، وليس هو نفس كونه هواء ولا شيئاً من لوازم ذاته، وإلا لدامت حركته. فليست إلا بتحريك الفاعل الواحد المختار {فأنزلنا} أي بعظمتنا بسبب تلك السحائب التي حملتها الرياح {من السماء} أي الحقيقية أو جهتها أو السحاب، لأن الأسباب المتراقية بسند الشيء تارة إلى القريب منها وتارة إلى البعيد وأخرى إلى الأبعد {ماء} وهو جسم مائع سيال، به حياة كل حيوان من شأنه الاغتذاء {فأسقيناكموه} جعلناه لكم سقياً، يقال: سقيته ماء أي ليشربه، وأسقيته أي مكنته منه ليسقي به ماشيته ومن يريد. ونفى سبحانه عن غيره ما أثبته أولاً لنفسه فقال {وما أنتم له} أي ذلك الماء {بخازنين}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومما يرسله الله بقدر معلوم الرياح والماء: (وأرسلنا الرياح لواقح، فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه. وما أنتم له بخازنين) أرسلنا الرياح لواقح بالماء، كما تلقح الناقة بالنتاج؛ فأنزلنا من السماء ماء مما حملت الرياح، فأسقيناكموه فعشتم به: (وما أنتم له بخازنين).. فما من خزائنكم جاء، إنما جاء من خزائن الله ونزل منها بقدر معلوم. والرياح تنطلق وفق نواميس كونية، وتحمل الماء وفقا لهذه النواميس؛ وتسقط الماء كذلك بحسبها. ولكن من الذي قدر هذا كله من الأساس؟ لقد قدره الخالق، ووضع الناموس الكلي الذي تنشأ عنه كل الظواهر: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم).
ونلحظ في التعبير أنه يرد كل حركة إلى الله حتى شرب الماء.. (فأسقيناكموه).. والمقصود أننا جعلنا خلقتكم تطلب الماء، وجعلنا الماء صالحا لحاجتكم، وقدرنا هذا وذاك. وأجريناه وحققناه بقدر الله. والتعبير يجيء على هذا النحو لتنسيق الجو كله، ورجع الأمر كله إلى الله حتى في حركة تناول الماء للشراب. لأن الجو جو تعليق كل شيء في هذا الكون بإرادة الله المباشرة وقدره المتعلق بكل حركة وحادث.. سنة الله هنا في حركات الأفلاك كسنته في حركات الأنفس.. تضمن المقطع الأول سنته في المكذبين، وتضمن المقطع الثاني سنته في السماوات والأرضين، وفي الرياح والماء والاستقاء. وكله من سنة الله التي يجري بها قدر الله. وهذه وتلك موصولتان بالحق الكبير الذي خلق الله به السماوات والأرض والناس والأشياء سواء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال من الاستدلال بظواهر السماء وظواهر الأرض إلى الاستدلال بظواهر كرة الهواء الواقعة بين السماء والأرض، وذلك للاستدلال بفعل الرياح والمنة بما فيها من الفوائد. والإرسال: مجاز في نقل الشيء من مكان إلى مكان. وهذا يدل على أن الرياح مستمرة الهبوب في الكرة الهوائية. وهي تظهر في مكان آتية إليه من مكان آخر وهكذا...
ومعنى الإلقاح أن الرياح تلقح السحاب بالماء بتوجيه عمل الحرارة والبرودة متعاقبين فينشأ عن ذلك البخار الذي يصير ماء في الجو ثم ينزل مطراً على الأرض؛ وأنها تلقح الشجر ذي الثمرة بأن تَنقُلَ إلى نَوْره غبرة دقيقة من نور الشجر الذكر فتصلح ثمرته أو تثبت، وبدون ذلك لا تثبت أو لا تصلح. وهذا هو الإبّار. وبعضه لا يحصل إلا بتعليق الطلع الذكر على الشجرة المثمرة. وبعضه يكتفي منه بغرس شجرة ذكر في خلال شجر الثمر. ومن بلاغة الآية إيراد هذا الوصف لإفادة كلا العمليْن اللّذين تعملهما الرياح، وقد فُسرت الآية بهما. واقتصر جمهور المفسرين على أنها لواقح السحاب بالمطر.
... {أسقيناكموه} بمعنى جعلناه لكم سقياً، فالهمزة فيه للجعل.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{وما أنتم له بخازنين}...يتولى الله خزنها رحمة منه بالإنسان، إذ قيام الإنسان بخزنها كلها والمحافظة عليها ليس في الإمكان.