المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَأَرۡسَلۡنَا ٱلرِّيَٰحَ لَوَٰقِحَ فَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَسۡقَيۡنَٰكُمُوهُ وَمَآ أَنتُمۡ لَهُۥ بِخَٰزِنِينَ} (22)

يقال : لقحت الناقة والشجرة فهي لاقحة : إذا حملت ، والرياح تلقح الشجر والسحاب ، فالوجه في الريح أنها ملقحة لا لاقحة ، وتتجه صفة { الرياح } ب { لواقح } على أربعة أوجه :

أولها وأولاها : أن نجعلها لاقحة حقيقية ، وذلك أن الرياح منها ما فيها عذاب أو حر ونار ، ومنها ما فيه رحمة ومطر أو نصر أو غير ذلك ، فإذا بها تحمل ما حملتها القدرة ، أو ما علقته من الهواء أو التراب أو الماء الذي مرت عليه ، فهي لاقحة بهذا الوجه ، وإن كانت أيضاً تلقح غيرها وتصير إليه نفعها . والعرب تسمي الجنوب الحامل واللاقحة ، وتسمي الشمال الحايل{[7148]} والعقيم ومحوة ، لأنها تمحو السحاب . وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «الريح الجنوب من الجنة ، وهي اللواقح التي ذكر الله ، وفيها منافع للناس »{[7149]} ؛ ومن هذا قول الطرماح :

قلق لا فبان الريا . . . ح للاقح منها وحائل{[7150]}

ومن قول أبي وجزة :

من نسل جوابة الآفاق{[7151]} . . . فجعلها حاملاً تنسل .

قال القاضي أبو محمد : ويخرج هذا على أنها ملقحة فلا حجة فيه .

والثاني : أن يكون وصفها ب { لواقح } من باب قولهم : ليل نائم ، أي فيه نوم ومعه ، ويوم عاصف ونحوه : فهذا على طريق المجاز .

والثالث : أن توصف الرياح ب { لواقح } على جهة النسب ، أي ذات لقح ، كقول النابغة :

كليني لهم يا أميمة ناصب{[7152]} . . . أي ذي نصب .

والرابع : أن تكون { لواقح } جمع ملقحة على حذف زوائدة ، فكأنه لقحة ، فجمعها كما تجمع لاقحة ، ومثله قول الشاعر [ سيبويه ] : [ الطويل ]

ليبك يزيد ضارع لخصومة . . . وأشعث ممن طوحته الطوائح{[7153]}

وإنما طوحته المطاوح ، وعلى هذا النحو فسرها أبو عبيدة في قوله : { لواقح } ملاقح ، وكذلك العبارة عنها في كتاب البخاري : لواقح ملاقح ملقحة .

وقرأ الجمهور «الرياح » بالجمع ، وقرأ الكوفيون - حمزة وطلحة بن مصرف والأعمش ويحيى بن وثاب - «الريح » بالإفراد ، وهي للجنس ، فهي في معنى الجمع ، ومثلها الطبري بقولهم : «قميص أخلاق وأرض أغفال »{[7154]} .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله من حيث هو أجزاء كثيرة تجمع صفته ، فكذلك ريح لواقع لأنها متفرقة الهبوب ، وكذلك : دار بلاقع ، أي كل موضع منها بلقع .

وقال الأعمش : إن في قراءة عبد الله «وأرسلنا الرياح يلقحن » ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الريح من نفس الرحمن »{[7155]} ، ومعنى الإضافة هنا هي من إضافة خلق إلى خالق ، كما قال : { من روحي } [ الحجر : 29 ] ومعنى نفس الرحمن : أي من تنفيسه وإزالته الكرائب والشدائد . فمن التنفس بالريح النصر بالصبا{[7156]} وذرو الأرزاق بها ، وما لها من الخدمة في الأرزاق وجلب الأمطار وغير ذلك مما يكثر عده .

ولقد حدثت أن ابن أبي قحافة رحمه الله فسر هذا الحديث بنحو هذا وأنشد في تفسيره : [ الطويل ]

فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت . . . على نفس محزون تجلت همومها{[7157]}

وهذا من جملة التنفيس والعرب تقول : أسقى وسقى بمعنى واحد ، وقال لبيد : [ الوافر ]

سقى قومي بني مجد واسقى . . . نميراً ، والقبائل من هلال{[7158]}

فجاء باللغتين ، وقال أبو عبيدة : أما إذا كان من سقي الشفة خاصة فلا يقال إلا سقى ، وأما إذا كان لسقي الأرض والثمار وجملة الأشياء فيقال : أسقى ، وأما الداعي لأرض أو غيرها بالسقي ، فإنما يقال فيه : أسقى ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]

وقفت على رسم ِلمية ناقتي . . . فما زلت أبكي عنده وأخاطبه

وأسقيه حتى كاد مما أبثه . . . تكلمني أحجاره وملاعبه{[7159]}

قال القاضي أبو محمد : على أن بيت لبيد دعاء ، وفيه اللغتان .


[7148]:اي التي لا تحمل خير، يقال: حالت الناقة تحيل حيالا: لم تحل، قال الشاعر: من سراة الهجان صلبها العض ض ورعي الحمى وطول الحيال
[7149]:أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب، وابن جرير، وأبو الشيخ في العظمة، و ابن مردويه، و الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه، وللحديث بقية هي (والشمال من النار تخرج فتمر بالجنة فيصيبها نعمة منها فبردها هذا من ذلك (. (الدر المنثور، وفتح القدير).
[7150]:اللاقح: الجنوب، والحائل: الشمال، وتسمى الشمال عقيما، كما سماها الطرماح حائلا، وقال أبو علي في الحجة: "الرياح أربع: الشمال، والجنوب، والصبا، و الدبور، فأما الشمال فمن عن يمين القبلة، والجنوب من عن شمالها، والصبا والدبور متقابلتان، فالصبا من قبل المشرق، والدبور من قبل المغرب، وإذا جاءت الريح بين الصبا والشمال فهي النكباء".
[7151]:هذا جزء من البيت، وقد سبق الاستشهاد به و الحديث عنه في هذا الجزء عند تفسير قوله تعالى في الآية (12) من هذه السورة : {كذلك نسلكه في قلوب المجرمين}، والبيت بتمامه: حتى سلكن الشوى منهن في مسك من نسل جوابة الآفاق مهداج والشاهد هنا أنه جعل الريح التي تجوب الآفاق حاملا بماء تكونت منه بعد ذلك برك أدخلت فيها الحمر الوحشية قوائمها.
[7152]:البيت بتمامه: كليي لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب وهو مطلع قصيدة للنابغة يمدح بها عمرو بن الحارث الأعرج، حين هرب من النعمان بن المنذر، وفيه يطلب إلى أميمة أن تتركه لهذا الهم الذي ينصب فيه ويتعب، ولهذا الليل الطويل الذي لا يريد أن يفارقه. والشاهد هنا أن "ناصب" بمعنى "ذي نصب" على جهة النسب، وهذا رأي من الآراء التي قيلت في البيت، وقال الأصمعي: ناصب: ذي نصب، مثل: ليل نائم، اي ذو نوم، ورجل دارع، أي ذو درع، وكذلك قال سيبويه، وقال في اللسان: هم ناصب: منصب، و حكى أبو علي نصبه ل (هم). فهل يا ترى يريد أنه اسم فاعل قياسي جار على فعله، وليس على النسب ولا على التجوز في الإسناد؟
[7153]:هذا البيت لنهشل بن حري، وقد استشهد به أبو عبيدة عند تفسير هذه الآية ونسبه لنهشل، وكذلك نسبه البغدادي لنهشل، وأورده صاحب (اللسان ـ طيح) مع اختلاف في بعض الألفاظ ، قال: وأنشد سيبويه ـ البيت، ثم قال ـ أي سيبويه ـ : "الطوائح" على حذف الزائد، أو على النسب.
[7154]:عبادة الطبري تقول: "إن الريح وإن كان لفظها واحدا فمعناها الجمع، لأنه يقال: جاءت الريح من كل جانب، فقيل: لواقح لذلك، فيكون معنى جمعهم نعتها وهي في اللفظ واحدة معنى قولهم: أرض سباسب، وأرض أغفال، وثوب أخلاق، كما قال الشاعر: جاء الشتاء وقميصي أخلاق شرازم يضحك منه التواق وكذلك تفعل العرب في كل شيء اتسع". ا هـ. والسباسب: جمع سبسب، و هي المفازة أو الأرض البعيدة المستوية، وأغفال: لا علم فيها، و التواق في البيت هو ابن الراجز، قال ذلك في (اللسان ـ خلق).
[7155]:النص الذي وجدناه في هذا المعنى هو ما وراه البخاري في الأدب، وأبو داود، والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة: (الريح من روح الله، تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، واسألوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها)، قال الإمام السيوطي: حديث صحيح. (الجامع الصغير).
[7156]:الصبا: ريح مهبها من مشرق الشمس إذا استوى الليل والنهار (مؤنث). (المعجم الوسيط).
[7157]:ويروى: "على قلب محزون"، وتجلت همومها: ذهبت وانكشفت عنها. والبيت غير منسوب.
[7158]:قال صاحب (اللسان ـ سقى): "سقا الله الغيث وأسقاه، وقد جمعها لبيد في قوله: سقى قومي . . . البيت" ثم قال: "ويقال: سقيته لشفته، وأسقيته لماشيته وأرضه". وهذا يتفق تماما مع ما قاله ابن عطية، ومع ما نقله عن أبي عبيدة.
[7159]:البيتان في الديوان، وقد استشهد بهما الطبري في تفسيره، وأبو عبيدة في كتابه "مجاز القرآن"، قال: يقال: سقيت الرجل ماء وشرابا من لبن وغير ذلك، وليس فيه إلا لغة واحدة بغير ألف، إذا كان في الشفة، وإذا جعلت له شربا فهو أسقيته وأسقيت أرضه وإبله، لا يكون غير هذا، وكذلك إذا استقيت له. وهو يتفق مع كلام المؤلف هنا إلا في النقطة الأخيرة، لأن ابن عطية يقول: "بيت لبيد دعاء وفيه اللغتان". والرسم: الأثر الباقي من الدار بعد أن عفت وأسقيه: أدعو له بالسقيا. وأبثه أشكو إليه، وقد أبدع الشاعر في تصويره وكاد يحرك الأحجار والملاعب.