قوله : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } الآية " لَواقِحَ " : حالٌ مقدرة من " الرِّياحِ " ، وفي اللواقح أقوال :
أحدها : أنها جميع " مُلْقِح " ؛ لأنه من ألْقَحَ يُلقحُ ، فهو ملقحٌ ، وجمعه مَلاقح ، فحذفت الميم ؛ تخفيفاً ، يقال : ألْقحَتِ الريحُ السَّحاب ، كما يقال : ألْقحَ الفَحْلُ الأنثَى ؛ ومثله : الطَّوائِح ، وأصله المطارحُ ؛ لأنه من أطَاحَ يُطِيحُ ، قال : [ الطويل ]
لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخصًومَةٍ *** ومُخْتَبِطٌ ممَّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ{[19484]}
والثاني : أنه جمع لاَقِح ، يقال : لقَحَتِ الريحُ : إذا حملتِ الماء ، وقال الأزهري{[19485]} : حَوامِلُ تَحْمِلُ السَّحابَ ؛ كقولك : ألقحتِ الناقةُ ، فلَقِحتْ ، إذا حملتِ الجَنينَ في بَطْنِهَا ، فشُبِّهتِ الريحُ بِهَا ؛ ومنه قوله : [ الطويل ]
إذّا لَقِحَتْ حَرْبٌ عَوانٌ مُضرَّةٌ *** ضَرُوسٌ تُهِرُّ النَّاس أنْيَابُهَا عُصْلُ{[19486]}
الثالث : أنَّها جمع لاقحٍ ، على النسب ؛ كالابنِ وتامرِ ، أي : ذات لقاحٍ ، لأنَّ الرِّيحَ إذا مَرَّت على الماءِ ، ثُم مرَّت على السَّحابِ ، والماءِ ، كان فيها لقاحٌ قاله الفراء .
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- : الرياحُ لوَاقِحُ الشَّجر والسَّحاب{[19487]} ؛ وهو قول الحسن ، وقتادة ، والضحاك ؛ لأنها تحمل الماء إلى السحاب ؛ وأصله من قولهم : لقَحتِ الناقة ، وألْقَحَهَا الفحلُ ، إذا ألقى الماء فيها فحملت .
قال ابن مسعودٍ في تفسير هذه الآية : بعث الله الرياحَ ؛ لتلقيح السحاب ، فتحمل الماء ، وتمجّه في السحاب ، ثم إنه يعصرُ السحاب ، ويدره كما يدر اللقحة{[19488]} .
وقال عبيدٌ بن عمير : يبعثُ الله الريح المبشرة ، فتقم الأرض قماً ، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب ، ثم يبعث المؤلفة ، فتؤلف السحاب بعضه إلى بعضٍ ، فتجعله ركاماً ، ثم يبعث اللوَاقِحُ ، فتلقح الشَّجر ثم تلا عبيد : " وأرسلنا الرياح لواقح " {[19489]} قال أبو بكر بنِ عيَّاشٍ -رضي الله عنه- : لا تقطر القطرةُ من السماء إلا بعد أن تعمل الرياحُ الأربعة فيها ، فالصَّبا تُهيِّجه ، والشَّمالُ تَجمعُه والجَنوبُ تُدرُّه ، والدَّبُور تُفرِّقه{[19490]} .
قال القرطبيُّ : " روي عن مالك -رضي الله عنه- في قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } ، أي : ذوات لقح ، فلقاحُ القمح عندي أن يحبب ويسنبل ، ولقاح الشَّجر كُلها : أن تثمر ويسقط منها ما يسقط ، ويثبت منها ما يثبت " .
قال ابن العربيِّ -رحمه الله- : إنما عوَّل مالكٌ على هذا التفسير على تشبيه الشجر بلقاح الجملِ ، وإنَّ الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه الروحُ ، كان بمنزلةِ تحبب الثَّمر ، وتسنبله ؛ لأنه سمِّي باسم تشتركُ فيه كلُّ حاملةٍ ، وهو اللِّقاحُ ، وعليه جاء الحديث :
" نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الحبِّ حتَّى يَشْتد " {[19491]} .
قال ابن عبد البرِّ : " الإبارُ عند أهل العلم في النخل : التَّلقيحُ ، وهو أن يأخذ شيئاً من طَلع ذكور النخلِ ؛ فيدخله بين ظهراني طلع الإناث ، [ ومعنى ]{[19492]} ذلك في سائر الثمار [ ظهور الثمرة ]{[19493]} من التِّين ، وغيره ، حتَّى تكون الثَّمرة مرئية ، حين ينظر إليها ، والمعتبر عند مالك -رضي الله عنه- وأصحابه فيما يذكر من الثِّمار التذكير ، وفيما لا يذكر أن يثبت من نواره ما يثبت ويسقط ما يسقط ، وفي الزروع ظهوره من الأرض " .
قال -عليه الصلاة والسلام- " مِنَ ابتَاعَ نَخْلاً بَعْندَ أن تُؤبَّر ، فَثمَرتُهَا لِلبَائعِ ، إلاَّ أن يَشْترِطَ المُبتَاعُ " {[19494]} فلا يدخل الثمر المؤبَّر مع الأصولِ في البيع إلا بالشرط ؛ لأنها موجودة يحاطُ بها أَمَنَةً من السقوط غالباً ، بخلاف التي لم تؤبَّر ، إذ ليس سقوطها غالباً ، بخلاف التي لم تؤبر ، إذ ليس سقوطها مأموناً ، فلم يتحقق لها وجود ، فلم يجز للبائع اشتراطها ، ولا استثناؤها ؛ لِأنها كالجنين .
فصل هل يجوز لمن اشترى النخل فقط أن يشتري الثمر قبل طيبه ؟
اشترى النَّخل ، وبقي الثمر للبائع ، جاز لمشتري الأصل شراءُ الثمرة قبل طيبها ، في المشهور عن مالكٍ -رحمه الله- ويرى لها حكم التبعيةِ ، وإن انفردت بالعقدِ ، وعنه في رواية أنه لا يجوز ، وبه قال الشافعيُّ ، وأبو حنيفة ، والثَّوريُّ ، وأهل الظاهر .
فصل في النهي عن بيع الملاقح والمضامين
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بَيعِ المَلاقحِ والمَضامِيِن{[19495]} والمَلاقِحُ : الفحول من الإبل ، الواحد مقلحٌ ، والمَلاقِحُ –أيضا- الإناث التي في بطونها أولادها ، الواحدة : ملقحة –بفتح القاف- ، والملاقيح ما في بطون النوقِ من الأجنَّة ، الواحدة : مَلْقُوحةٌ ، من قولهم : لَقحْتُ ، كالمَحْمُومِ من حَمّ ، والمَجْنُون من جنّ ، وفي هذا جاء النَّهيُ .
قال أبو عبيدة : المَضامِينُ ما في البطونِ وهي الأجنَّةِ ، والمَلاقِيحُ : ما في أصلابِ الفحُولِ ، وهو قول سعيد بن المُسيَّبِ ، وغيره .
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع [ المَجْر ]{[19496]} وهو بيع ما في بطُونِ الأمَّهاتِ .
قال ابن عابس -رضي الله عنهما- ما هَبَّتْ ريح قَطُّ إلاَّ جَثَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلى رُكْبتَيْهِ ، وقال : " اللَّهُمَّ اجْعلهَا رحْمة ، ولا تَجْعلهَا عَذاباً ، اللَّهُمَّ اجْعَلهَا رِيَاحاً ولا تَجْعلهَا رِيحاً " {[19497]} قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في كتاب الله -عز وجل- : { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } [ القمر : 19 ] ، { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم } [ الذاريات : 41 ] وقال تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } [ الحجر : 22 ] وقال تعالى : { يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ } [ الروم : 46 ] .
قوله تعالى : { فَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } ، قد تقدّم أنَّ الماء : هل ننزل من السماء أو من السحاب .
وقوله : { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } ، قال الأزهريُّ : " تَقُولُ العربُ لِكُلِّ ما فِي بُطونِ الأنْعَامِ ، ومِنَ السَّماءِ ، أو نهْرٍ يَجْري : أسْقَيْتُه ، أي : جعلته شَرْباً له ، وجعلتُ له منها مَسْقى لشرب أرضه أو ماشيته ، فإذا كانت السُّقْيَا لِسقْيهِ ، قالوا : سَقاهُ ، ولم يقولوا : أسْقَاه " .
ويؤكده اختلاف القراء في قوله : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } ، فقرؤوا باللغتين ، وسيأتي بيانهما في السورة التي بعدها ، ولم يختلفوا في قوله : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ } [ الإنسان : 21 ] ، وفي قوله : { والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } [ الشعراء : 79 ] .
قال أبو علي : سَقَيْتُه حتَّى رَوِيَ ، وأسْقَيتهُ نَهْراً ، جعلتهُ شُرْباً ، وقوله : { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } جعلناه سُقْياً لكم ، وربما قالوا في " أسْقَى " سَقَى ؛ كقول لبيدٍ يصفُ سحاباً : [ الوافر ]
أقُولُ وصَوْبُهُ منِّي بَعِيدٌ *** يَحُطُّ السَّيْبُ مِنْ قُللِ الجِبَالِ
سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى *** نُمَيْراً والقَبائِلَ مِنْ هِلالِ{[19498]}
فقوله : " سَقَى قَوْمي " ليس يريد به ما يروى عطاشهم ، ولكن يريد رزقهم سَقْياً لبلادهم ، يخصبون بِها ، وبعيدٌ أن يَسْألَ لِقومِهِ ما يروي العطاش به ولغيرهم ما يخصبون به ، فأما سَقَيَا السَّقيَّة ، فلا يقال فيها : أسْقاهُ . وأما قول ذي الرُّمة : [ الطويل ]
وأسْقِيهِ حتَّى كَادَ ممَّا أبُثُّهُ *** تُكلِّمُنِي أحْجَارهُ ومَلاعِبُه{[19499]}
[ يريد بقوله : " أسقيه " : أدعو له بالسقاء ، وأقول : سقاه الله ]{[19500]} .
واتَّصل الضميران هنا : لاختلافهما رتبة ، ولو فصل ثانيهما ، لجاز عند غير سيبويه وهذا كما تقدم في قوله تعالى : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } [ هود : 28 ] .
قوله تعالى : { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } جملة مستأنفة ، و " لَهُ " متعلق ب " خَازِنينَ " ، والمعنى : أنَّ المطر في خَزائِننِا ، ولا في خَزائِنكُمْ . [ وقال سفيان : لستم بمانعين ]{[19501]} .