اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَرۡسَلۡنَا ٱلرِّيَٰحَ لَوَٰقِحَ فَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَسۡقَيۡنَٰكُمُوهُ وَمَآ أَنتُمۡ لَهُۥ بِخَٰزِنِينَ} (22)

قوله : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } الآية " لَواقِحَ " : حالٌ مقدرة من " الرِّياحِ " ، وفي اللواقح أقوال :

أحدها : أنها جميع " مُلْقِح " ؛ لأنه من ألْقَحَ يُلقحُ ، فهو ملقحٌ ، وجمعه مَلاقح ، فحذفت الميم ؛ تخفيفاً ، يقال : ألْقحَتِ الريحُ السَّحاب ، كما يقال : ألْقحَ الفَحْلُ الأنثَى ؛ ومثله : الطَّوائِح ، وأصله المطارحُ ؛ لأنه من أطَاحَ يُطِيحُ ، قال : [ الطويل ]

لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخصًومَةٍ *** ومُخْتَبِطٌ ممَّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ{[19484]}

وهذا قول أبي عبيدة .

والثاني : أنه جمع لاَقِح ، يقال : لقَحَتِ الريحُ : إذا حملتِ الماء ، وقال الأزهري{[19485]} : حَوامِلُ تَحْمِلُ السَّحابَ ؛ كقولك : ألقحتِ الناقةُ ، فلَقِحتْ ، إذا حملتِ الجَنينَ في بَطْنِهَا ، فشُبِّهتِ الريحُ بِهَا ؛ ومنه قوله : [ الطويل ]

إذّا لَقِحَتْ حَرْبٌ عَوانٌ مُضرَّةٌ *** ضَرُوسٌ تُهِرُّ النَّاس أنْيَابُهَا عُصْلُ{[19486]}

الثالث : أنَّها جمع لاقحٍ ، على النسب ؛ كالابنِ وتامرِ ، أي : ذات لقاحٍ ، لأنَّ الرِّيحَ إذا مَرَّت على الماءِ ، ثُم مرَّت على السَّحابِ ، والماءِ ، كان فيها لقاحٌ قاله الفراء .

فصل

قال ابن عباس -رضي الله عنهما- : الرياحُ لوَاقِحُ الشَّجر والسَّحاب{[19487]} ؛ وهو قول الحسن ، وقتادة ، والضحاك ؛ لأنها تحمل الماء إلى السحاب ؛ وأصله من قولهم : لقَحتِ الناقة ، وألْقَحَهَا الفحلُ ، إذا ألقى الماء فيها فحملت .

قال ابن مسعودٍ في تفسير هذه الآية : بعث الله الرياحَ ؛ لتلقيح السحاب ، فتحمل الماء ، وتمجّه في السحاب ، ثم إنه يعصرُ السحاب ، ويدره كما يدر اللقحة{[19488]} .

وقال عبيدٌ بن عمير : يبعثُ الله الريح المبشرة ، فتقم الأرض قماً ، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب ، ثم يبعث المؤلفة ، فتؤلف السحاب بعضه إلى بعضٍ ، فتجعله ركاماً ، ثم يبعث اللوَاقِحُ ، فتلقح الشَّجر ثم تلا عبيد : " وأرسلنا الرياح لواقح " {[19489]} قال أبو بكر بنِ عيَّاشٍ -رضي الله عنه- : لا تقطر القطرةُ من السماء إلا بعد أن تعمل الرياحُ الأربعة فيها ، فالصَّبا تُهيِّجه ، والشَّمالُ تَجمعُه والجَنوبُ تُدرُّه ، والدَّبُور تُفرِّقه{[19490]} .

فصل

قال القرطبيُّ : " روي عن مالك -رضي الله عنه- في قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } ، أي : ذوات لقح ، فلقاحُ القمح عندي أن يحبب ويسنبل ، ولقاح الشَّجر كُلها : أن تثمر ويسقط منها ما يسقط ، ويثبت منها ما يثبت " .

قال ابن العربيِّ -رحمه الله- : إنما عوَّل مالكٌ على هذا التفسير على تشبيه الشجر بلقاح الجملِ ، وإنَّ الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه الروحُ ، كان بمنزلةِ تحبب الثَّمر ، وتسنبله ؛ لأنه سمِّي باسم تشتركُ فيه كلُّ حاملةٍ ، وهو اللِّقاحُ ، وعليه جاء الحديث :

" نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الحبِّ حتَّى يَشْتد " {[19491]} .

قال ابن عبد البرِّ : " الإبارُ عند أهل العلم في النخل : التَّلقيحُ ، وهو أن يأخذ شيئاً من طَلع ذكور النخلِ ؛ فيدخله بين ظهراني طلع الإناث ، [ ومعنى ]{[19492]} ذلك في سائر الثمار [ ظهور الثمرة ]{[19493]} من التِّين ، وغيره ، حتَّى تكون الثَّمرة مرئية ، حين ينظر إليها ، والمعتبر عند مالك -رضي الله عنه- وأصحابه فيما يذكر من الثِّمار التذكير ، وفيما لا يذكر أن يثبت من نواره ما يثبت ويسقط ما يسقط ، وفي الزروع ظهوره من الأرض " .

فصل

قال -عليه الصلاة والسلام- " مِنَ ابتَاعَ نَخْلاً بَعْندَ أن تُؤبَّر ، فَثمَرتُهَا لِلبَائعِ ، إلاَّ أن يَشْترِطَ المُبتَاعُ " {[19494]} فلا يدخل الثمر المؤبَّر مع الأصولِ في البيع إلا بالشرط ؛ لأنها موجودة يحاطُ بها أَمَنَةً من السقوط غالباً ، بخلاف التي لم تؤبَّر ، إذ ليس سقوطها غالباً ، بخلاف التي لم تؤبر ، إذ ليس سقوطها مأموناً ، فلم يتحقق لها وجود ، فلم يجز للبائع اشتراطها ، ولا استثناؤها ؛ لِأنها كالجنين .

فصل هل يجوز لمن اشترى النخل فقط أن يشتري الثمر قبل طيبه ؟

اشترى النَّخل ، وبقي الثمر للبائع ، جاز لمشتري الأصل شراءُ الثمرة قبل طيبها ، في المشهور عن مالكٍ -رحمه الله- ويرى لها حكم التبعيةِ ، وإن انفردت بالعقدِ ، وعنه في رواية أنه لا يجوز ، وبه قال الشافعيُّ ، وأبو حنيفة ، والثَّوريُّ ، وأهل الظاهر .

فصل في النهي عن بيع الملاقح والمضامين

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بَيعِ المَلاقحِ والمَضامِيِن{[19495]} والمَلاقِحُ : الفحول من الإبل ، الواحد مقلحٌ ، والمَلاقِحُ –أيضا- الإناث التي في بطونها أولادها ، الواحدة : ملقحة –بفتح القاف- ، والملاقيح ما في بطون النوقِ من الأجنَّة ، الواحدة : مَلْقُوحةٌ ، من قولهم : لَقحْتُ ، كالمَحْمُومِ من حَمّ ، والمَجْنُون من جنّ ، وفي هذا جاء النَّهيُ .

قال أبو عبيدة : المَضامِينُ ما في البطونِ وهي الأجنَّةِ ، والمَلاقِيحُ : ما في أصلابِ الفحُولِ ، وهو قول سعيد بن المُسيَّبِ ، وغيره .

وقيل : بالعكسِ .

ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع [ المَجْر ]{[19496]} وهو بيع ما في بطُونِ الأمَّهاتِ .

قال ابن عابس -رضي الله عنهما- ما هَبَّتْ ريح قَطُّ إلاَّ جَثَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلى رُكْبتَيْهِ ، وقال : " اللَّهُمَّ اجْعلهَا رحْمة ، ولا تَجْعلهَا عَذاباً ، اللَّهُمَّ اجْعَلهَا رِيَاحاً ولا تَجْعلهَا رِيحاً " {[19497]} قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في كتاب الله -عز وجل- : { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } [ القمر : 19 ] ، { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم } [ الذاريات : 41 ] وقال تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } [ الحجر : 22 ] وقال تعالى : { يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ } [ الروم : 46 ] .

قوله تعالى : { فَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } ، قد تقدّم أنَّ الماء : هل ننزل من السماء أو من السحاب .

وقوله : { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } ، قال الأزهريُّ : " تَقُولُ العربُ لِكُلِّ ما فِي بُطونِ الأنْعَامِ ، ومِنَ السَّماءِ ، أو نهْرٍ يَجْري : أسْقَيْتُه ، أي : جعلته شَرْباً له ، وجعلتُ له منها مَسْقى لشرب أرضه أو ماشيته ، فإذا كانت السُّقْيَا لِسقْيهِ ، قالوا : سَقاهُ ، ولم يقولوا : أسْقَاه " .

ويؤكده اختلاف القراء في قوله : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } ، فقرؤوا باللغتين ، وسيأتي بيانهما في السورة التي بعدها ، ولم يختلفوا في قوله : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ } [ الإنسان : 21 ] ، وفي قوله : { والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } [ الشعراء : 79 ] .

قال أبو علي : سَقَيْتُه حتَّى رَوِيَ ، وأسْقَيتهُ نَهْراً ، جعلتهُ شُرْباً ، وقوله : { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } جعلناه سُقْياً لكم ، وربما قالوا في " أسْقَى " سَقَى ؛ كقول لبيدٍ يصفُ سحاباً : [ الوافر ]

أقُولُ وصَوْبُهُ منِّي بَعِيدٌ *** يَحُطُّ السَّيْبُ مِنْ قُللِ الجِبَالِ

سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى *** نُمَيْراً والقَبائِلَ مِنْ هِلالِ{[19498]}

فقوله : " سَقَى قَوْمي " ليس يريد به ما يروى عطاشهم ، ولكن يريد رزقهم سَقْياً لبلادهم ، يخصبون بِها ، وبعيدٌ أن يَسْألَ لِقومِهِ ما يروي العطاش به ولغيرهم ما يخصبون به ، فأما سَقَيَا السَّقيَّة ، فلا يقال فيها : أسْقاهُ . وأما قول ذي الرُّمة : [ الطويل ]

وأسْقِيهِ حتَّى كَادَ ممَّا أبُثُّهُ *** تُكلِّمُنِي أحْجَارهُ ومَلاعِبُه{[19499]}

[ يريد بقوله : " أسقيه " : أدعو له بالسقاء ، وأقول : سقاه الله ]{[19500]} .

واتَّصل الضميران هنا : لاختلافهما رتبة ، ولو فصل ثانيهما ، لجاز عند غير سيبويه وهذا كما تقدم في قوله تعالى : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } [ هود : 28 ] .

قوله تعالى : { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } جملة مستأنفة ، و " لَهُ " متعلق ب " خَازِنينَ " ، والمعنى : أنَّ المطر في خَزائِننِا ، ولا في خَزائِنكُمْ . [ وقال سفيان : لستم بمانعين ]{[19501]} .


[19484]:تقدم.
[19485]:ينظر: تهذيب اللغة 5/90.
[19486]:تقدم.
[19487]:ذكره الرازي في "تفسيره" (19/139).
[19488]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/505) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/179) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والخرائطي في "مكارم الأخلاق".
[19489]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/505) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/179) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة".
[19490]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/47).
[19491]:أخرجه الحاكم (2/19) والبيهقي (5/303) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه إنما اتفقوا على حديث نافع عن ابن عمر في النهي عن بيع التمر حتى يزهى.
[19492]:في ب: ويعتبر.
[19493]:سقط في ب.
[19494]:أخرجه البخاري (5/49) كتاب المساقاة: باب الرجل يكون له ممر أو شرب... حديث (2379) ومسلم (3/1173) كتاب البيوع: باب من باع نخلا عليها ثمر، حديث (80/1543) والترمذي (1244) والنسائي (7/297) من حديث ابن عمر.
[19495]:ذكره الهيثمي في "المجمع" (4/107) عن أبي هريرة وقال: رواه البزار وفيه صالح ابن أبي الأخضر وهو ضعيف. وله شاهد من حديث ابن عباس. ذكره الهيثمي في "المجمع" (4/107) وقال: رواه الطبراني في الكبير والبزار وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة وثقه أحمد وضعفه جمهور الأئمة.
[19496]:في ب: الملاقيح.
[19497]:أخرجه الشافعي في "المسند" (1/175) رقم (502) وأبو يعلى (4/341) رقم (2456) والطبراني في "الكبير" (11/213) رقم (11533) وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/135 – 136) وقال: وفيه حسين بن قيس الملقب بحنش وهو متروك وقد وثقه حصين بن نمير وبقية رجاله رجال الصحيح. وذكره الحافظ ابن حجر في "المطالب العالية" (3371) وعزاه إلى مسدد وأبي يعلى. وقال البوصيري: رواه أبو يعلى ومسدد بسند ضعيف لضعف حسين بن قيس.
[19498]:تقدم برقم 521.
[19499]:سقط في ب.
[19500]:سقط في ب.
[19501]:سقط من ب.