والدليل على أن الله لو طلب منكم أموالكم وأحفاكم بسؤالها ، أنكم تمتنعون منها ، أنكم { تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } على هذا الوجه ، الذي فيه مصلحتكم الدينية والدنيوية .
{ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ } أي : فكيف لو سألكم ، وطلب منكم أموالكم في غير أمر ترونه مصلحة عاجلة ؟ أليس من باب أولى وأحرى امتناعكم من ذلك .
ثم قال : { وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ } لأنه حرم نفسه ثواب الله تعالى ، وفاته خير كثير ، ولن يضر الله بترك الإنفاق شيئا .
فإن الله هو { الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ } تحتاجون إليه في جميع أوقاتكم ، لجميع أموركم .
{ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا } عن الإيمان بالله ، وامتثال ما يأمركم به { يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } في التولي ، بل يطيعون الله ورسوله ، ويحبون الله ورسوله ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }
ثم تختتم السورة الكريمة بالدعوة إلى الإِنفاق فى سبيل الله فقال : { هَا أَنتُمْ هؤلاء } - أيها المؤمنون - { تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله } أى : فى وجوه الخير التى على رأسها الجهاد فى سبيل إعلاء كلمة الله ، ونصرة دينه .
{ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ } أى : فمنكم - أيها المخاطبون - من يبخل بماله عن الإِنفاق فى وجوه الخير { وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } أى : ومن يبخل فإنما يبخل عن داعى نفسه لا عن داعى ربه ، أو فإنما يبخل على نفسه . يقال : بخل عليه وعنه - كفرح وكرم - بمعنى ، لأن البخل فيه معنى المنع والإِمساك ومعنى التضييق على مُنِع عنه المعروف ، فعدى بلفظ { عَن } نظرا للمعنى الأول ، ولفظ { على } نظرا للمعنى الثانى :
{ والله } - تعالى - هو { الغني وَأَنتُمُ الفقرآء } إليه ، لاحتياجكم إلى عونه احتياجا تاما ، { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ } أى : وإن تعرضوا عن هذا الإِرشاد الحكيم .
{ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } أى : يخلق بدلكم قوما آخرين .
{ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } أى : ثم لا يكونوا أمثالكم فى الإِعراض عن الخير ، وفى البخل بما آتاهم الله من فضله .
والمتأمل فى هذه الآية يراها قد اشتملت على أسمى ألوان الدعوة إلى الإِيمان والسخاء ، والنهى عن الجحود والبخل .
وبعد فهذا تفسير وسيط لسورة محمد - صلى الله عليه وسلم - نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده .
وفي النهاية يواجههم بواقع حالهم تجاه دعوتهم إلى البذل في سبيل الله ؛ ويعالج شح النفوس بالمال بالوسائل القرآنية ، كما عالج شحها في ذات النفس عند الجهاد :
( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله . فمنكم من يبخل . ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه . والله الغني وأنتم الفقراء . وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) . .
والآية ترسم صورة وصفية لواقع الجماعة المسلمة يومذاك . ولواقع الناس تجاه الدعوة إلى البذل في كل بيئة . فهي تقرر أن منهم من يبخل . ومعنى هذا أن هنالك من لا يبخلون بشيء . وقد كان هذا واقعا ، سجلته الروايات الكثيرة الصادقة ، وسجله القرآن في مواضع أخرى . وقد حقق الإسلام في هذا المجال مثلا تحسب من خوارق الأمثال في البذل والتضحية عن رضى وعن فرح بالبذل والعطاء . ولكن هذا لم يمنع أن يكون هنالك من يبخل بالمال . ولعل الجود بالنفس أرخص عند بعضهم من الجود بالمال !
والقرآن يعالج هذا الشح في هذه الآية :
( ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ) . .
فما يبذله الناس إن هو إلا رصيد لهم مذخور ، يجدونه يوم يحتاجون إلى رصيد ، يوم يحشرون مجردين من كل ما يملكون . فلا يجدون إلا ذلك الرصيد المذخور . فإذا بخلوا بالبذل ، فإنما يبخلون على أنفسهم ؛ وإنما يقللون من رصيدهم ؛ وإنما يستخسرون المال في ذواتهم وأشخاصهم ؛ وإنما يحرمونها بأيديهم !
أجل . فالله لا يطلب إليهم البذل ، إلا وهو يريد لهم الخير ، ويريد لهم الوفر ، ويريد لهم الكنز والذخر . وما يناله شيء مما يبذلون ، وما هو في حاجة إلى ما ينفقون :
( والله الغني وأنتم الفقراء ) . .
فهو الذي أعطاكم أموالكم ، وهو الذي يدخر لكم عنده ما تنفقونه منها . وهو الغني عما أعطاكم في الدنيا ، الغني عن أرصدتكم المذخورة في الآخرة . وأنتم الفقراء في الدارين وفي الحالين . أنتم الفقراء إلى رزقه في الدنيا ، فما لكم من قدرة على شيء من الرزق إلا أن يهبكم إياه . وأنتم الفقراء إلى أجره في الآخرة ، فهو الذي يتفضل به عليكم ، وما أنتم بموفين شيئا مما عليكم ، فضلا على أن يفضل لكم شيء في الآخرة ، إلى أن يتفضل عليكم .
ففيم البخل إذن وفيم الشح ? وكل ما في أيديكم ، وكل ما ينالكم من أجر على ما تنفقون هو من عند الله ، ومن فضل الله ?
ثم الكلمة الأخيرة وهي فصل الخطاب . .
إن اختيار الله لكم لحمل دعوته تكريم ومن وعطاء . فإذا لم تحاولوا أن تكونوا أهلا لهذا الفضل ، وإذا لم تنهضوا بتكاليف هذه المكانة ، وإذا لم تدركوا قيمة ما أعطيتم فيهون عليكم كل ما عداه . . فإن الله يسترد ، ما وهب ، ويختار غيركم لهذه المنة ممن يقدر فضل الله :
( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ، ثم لا يكونوا أمثالكم ) . .
وإنها لنذارة رهيبة لمن ذاق حلاوة الإيمان ، وأحس بكرامته على الله ، وبمقامه في هذا الكون وهو يحمل هذا السر الإلهي العظيم . ويمشي في الإرض بسلطان الله في قلبه ؛ ونور الله في كيانه ؛ ويذهب ويجيء وعليه شارة مولاه . .
وما يطيق الحياة وما يطعمها إنسان عرف حقيقة الإيمان وعاش بها ثم تسلب منه ، ويطرد من الكنف ، وتوصد دونه الأبواب . لا بل إن الحياة لتغدو جحيما لا يطاق عند من يتصل بربه ثم يطبق دونه الحجاب .
إن الإيمان هبة ضخمة ، لا يعدلها في هذا الوجود شيء ؛ والحياة رخيصة رخيصة ، والمال زهيد زهيد ، حين يوضع الإيمان في كفة ، ويوضع في الكفة الأخرى كل ما عداه . .
ومن ثم كان هذا الإنذار أهول ما يواجهه المؤمن وهو يتلقاه من الله . .
وقوله : { هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ } أي : لا يجيب إلى ذلك { وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ } أي : إنما نقص نفسه من الأجر ، وإنما يعود وبال ذلك عليه ، { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ } أي : عن كل ما سواه ، وكل شيء فقير إليه دائما ؛ ولهذا قال : { وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ } أي : بالذات إليه . فوصفه بالغنى وصف لازم له ، ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم ، [ أي ] {[26726]} لا ينفكون عنه .
وقوله : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا } أي : عن طاعته واتباع شرعه{[26727]} { يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } أي : ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره .
وقال{[26728]} ابن أبي حاتم ، وابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني مسلم بن خالد ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] {[26729]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } ، قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدل بنا ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ قال : فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي ثم قال : " هذا وقومه ، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس " {[26730]} تفرد به مسلم بن خالد الزنجي ، ورواه عنه غير واحد ، وقد تكلم فيه بعض الأئمة ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { هَا أَنتُمْ هََؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَمِنكُم مّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنّمَا يَبْخَلُ عَن نّفْسِهِ وَاللّهُ الْغَنِيّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمّ لاَ يَكُونُوَاْ أَمْثَالَكُم } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين : ها أنْتُمْ أيها الناس هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ يقول : تدعون إلى النفقة في جهاد أعداء الله ونُصرة دينه فمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ بالنفقة فيه ، وأدخلت «ها » في موضعين ، لأن العرب إذا أرادت التقريب جعلت المكنيّ بين «ها » وبين «ذا » ، فقالت : ها أنت ذا قائما ، لأن التقريب جواب الكلام ، فربما أعادت «ها » مع «ذا » ، وربما اجتزأت بالأولى ، وقد حُذفت الثانية ، ولا يقدّمون أنتم قبل «ها » ، لأن ها جواب فلا تقرب بها بعد الكلمة .
وقال بعض نحويي البصرة : جعل التنبيه في موضعين للتوكيد .
وقوله : وَمَنْ يَبْخَلْ فإنّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ يقول تعالى ذكره : ومن يبخل بالنفقة في سبيل الله ، فإنما يبخل عن بخل نفسه ، لأن نفسه لو كانت جوادا لم تبخل بالنفقة في سبيل الله ، ولكن كانت تجود بها وَاللّهُ الغَنِيّ وأنْتُمُ الفُقَرَاءُ يقول تعالى ذكره : ولا حاجة لله أيها الناس إلى أموالكم ولا نفقاتكم ، لأنه الغنيّ عن خلقه والخلق الفقراء إليه ، وأنتم من خلقه ، فأنتم الفقراء إليه ، وإنما حضكم على النفقة في سبيله ، ليُكسبكم بذلك الجزيل من ثوابه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لَتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فإنّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللّهُ الغَنِيّ وأنْتُمُ الفُقَرَاءُ قال : ليس بالله تعالى ذكره إليكم حاجة وأنتم أحوج إليه .
وقوله تعالى ذكره : وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ يقول تعالى ذكره : وإن تتولوا أيها الناس عن هذا الدين الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم ، فترتدّوا راجعين عنه يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ يقول : يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلاً منكم يصدّقون به ، ويعملون بشرائعه ثُمّ لا يكُونُوا أمْثالَكُمْ يقول : ثم لا يبخلوا بما أُمروا به من النفقة في سبيل الله ، ولا يضيعون شيئا من حدود دينهم ، ولكنهم يقومون بذلك كله على ما يُؤمرون به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ يقول : إن توليتم عن كتابي وطاعتي أستبدل قوما غيركم . قادر والله ربنا على ذلك على أن يهلكهم ، ويأتي من بعدهم من هو خير منهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ قال : إن تولوا عن طاعة الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ .
وذُكر أنه عنى بقوله : يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيرَكُمْ : العجم من عجم فارس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بَزِيع البغدادي أبو سعيد ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن مسلم بن خالد ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : لما نزلت وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ ثُمّ لا يكُونُوا أمْثالَكُمْ كان سَلْمان إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله من هؤلاء القوم الذين إن تولينا استُبدِلوا بنا ، قال : فضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ، فقال : «مِنْ هَذَا وَقَوْمِهِ ، وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أنّ الدّينَ تَعَلّقَ بالثّرَيّا لَنالَتْهُ رِجالٌ مِنْ أهْل فارِسِ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مسلم بن خالد ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ ، ثُمّ لا يكُونُوا أمْثالَكُمْ قالُوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولّينا استبدلوا بنا ، ثم لا يكونوا أمثالنا ، فضرب على فخذ سلمان قال : «هَذَا وَقَوْمُهُ ، وَلَوْ كانَ الدّينُ عِنْدَ الثّرَيّا لَتَناوَلَهُ رِجالٌ مِنَ الفُرْسِ » .
حدثنا أحمد بن الحسن الترمذيّ ، قال : حدثنا عبد الله بن الوليد العَدَني ، قال : حدثنا مسلم بن خالد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : نزلت هذه الآية وسلمان الفارسيّ إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحكّ ركبته ركبته وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ ثُمّ لا يَكُونُوا أمْثالَكُم قالوا : يا رسول الله ومن الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا ، قال : فضرب فخذ سلمان ثم قال : «هَذَا وَقَوْمُهُ » .
وقال : مجاهد في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيرَكُمْ من شاء .
وقال آخرون : هم أهل اليمن . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عوف الطائيّ ، قال : حدثنا أبو المغيرة ، قال : حدثنا صفوان بن عمرو ، قال : حدثنا راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جُبير وشريح بن عبيد ، في قوله : وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ ثُمّ لا يكُونُوا أمْثالَكُمْ قال : أهل اليمن .
{ ها أنتم هؤلاء } أي أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون وقوله : { تدعون لتنفقوا في سبيل الله } استئناف مقرر لذلك ، أو صلة ل { هؤلاء } على أنه بمعنى الذين وهو يعم نفقة الغزو والزكاة وغيرهما . { فمنكم من يبخل } ناس يبخلون وهو كالدليل على الآية المتقدمة . { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } فإن نفع الإنفاق وضر البخل عائدان إليه ، والبخل يعدى بعن وعلى لتضمنه معنى الإمساك والتعدي فإنه إمساك عن مستحق . { والله الغني وأنتم الفقراء } فما يأمركم به فهو لاحتياجكم إليه فإن امتثلتم فلكم وإن توليتم فعليكم . { وإن تتولوا } عطف على { إن تومنوا } . { يستبدل قوما غيركم } يقم مقامكم قوما آخرين . { ثم لا يكونوا أمثالكم } في التولي والزهد في الإيمان ، وهم الفرس لأنه سئل عليه الصلاة والسلام عنه وكان سلمان إلى جنبه فضرب فخذه وقال : " هذا وقومه " : أو الأنصار أو اليمن أو الملائكة .
ثم وقف تعالى عباده المؤمنين على جهة التوبيخ لبعضهم { ها أنتم هؤلاء } وكرر هاء التنبيه تأكيداً .
وقوله : { عن نفسه } يحتمل معنيين ، أحدهما : فإنما يبخل عن شح نفسه ، والآخر أن يكون بمنزلة على ، لأنك تقول : بخلت عليك وبخلت عنك ، بمعنى : أمسكت عنك .
وقوله تعالى : { والله الغني وأنتم الفقراء } معنى مطرد في قليل الأشياء وكثيرها .
وقوله تعالى : { يستبدل قوماً غيركم } قيل الخطاب لقريش ، والقوم الغير هم أهل المدينة . وقال عبد الرحمن بن جبير وشريح بن عبيد{[10391]} : الخطاب لمن حضر المدينة . والقوم الغير : فارس . وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذا وكان سلمان إلى جنبه فوضع يده على فخذه وقال : «قوم هذا ، لو كان الدين بالثريا لناله رجال من أهل فارس »{[10392]} .
وقوله : { أمثالكم } معناه في الخلاف والتولي والبخل بالأموال ونحو هذا ، وحكى الثعلبي أن القوم الغير{[10393]} : هم الملائكة عليهم السلام .
نجز تفسير سورة القتال ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً .
{ هَآ أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سبيل الله فمنكم من يبخل ، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ، والله الغني وأنتم الفقراء } .
كلام المفسرين من قوله : { ولا يسألْكُم أموالَكم } إلى قوله : { عن نفسه } [ محمد : 36 38 ] يعرب عن حَيرة في مراد الله بهذا الكلام . وقد فسرناه آنفاً بما يشفي وبقي علينا قوله : { ها أنتم هؤلاء تُدْعَوْن لتنفقوا } الخ كيف موقعه بعد قوله : { ولا يسألكم أموالكم } فإن الدعوة للإنفاق عين سؤال الأموال فكيف يجمع بين ما هنا وبين قوله آنفاً { ولا يسألكم أموالكم } .
فيجوز أن يكون المعنى : تُدْعَون لتنفقوا في سبيل الله لتدفعوا أعداءكم عنكم وليس ذلك لينتفع به الله كما قال : { والله الغني وأنتم الفقراء } . ونظم الكلام يقتضي أن هذه دعوة للإنفاق في الحال وليس إعلاماً لهم بأنهم سيدعون للإنفاق فهو طلبٌ حاصل . ويحمل { تدْعَون } على معنى تؤمرون أي أمر إيجاب .
ويجوز أن يحمل { تدعون } على دعوة الترغيب ، فتكون الآية تمهيداً للآيات المقتضية إيجاب الإنفاق في المستقبل مثل آية { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } [ التوبة : 41 ] ونحوها ، ويجوز أن يكون إعلاماً بأنهم سيدعون إلى الإنفاق في سبيل الله فيما بعد هذا الوقت فيكون المضارع مستعملاً في زمن الاستقبال والمضارع يحتمله في أصْل وضعه .
وعلى الاحتمالين فقوله : { فمنكم من يبْخل ومن يبْخل فإنما يبْخل عن نفسه } إما مسوق مساق التوبيخ أو مساق التنبيه على الخطإ في الشح ببذل المال في الجهاد الذي هو محلّ السياق لأن المرء قد يبخل بُخلاً ليس عائداً بخلُه عن نفسه .
ومعنى قوله : { فإنما يبخل عن نفسه } على الاحتمال الأول فإنما يبْخل عن نفسه إذ يتمكن عدّوه من التسلط عليه فعاد بُخله بالضر عليه ، وعلى الاحتمال الثاني فإنما يبْخل عن نفسه بحرمانها من ثواب الإنفاق .
والقصر المستفاد من { إنما } قصر قلب باعتبار لازم بُخله لأن الباخل اعتقد أنه منع من دَعاه إلى الإنفاق ولكن لازم بخله عاد عليه بحرمان نفسه من منافع ذلك الإنفاق ، فالقصر مجاز مرسل مركَّب . وفعل ( بخل ) يتعدى ب { عن } لما فيه من معنى الإمساك ويتعدى ب ( على ) لما فيه من معنى التضييق على المبخول عليه . وقد عدي هنا بحرف { عن } .
{ وها أنتم هؤلاء } مركب من كلمة ( ها ) تنبيه في ابتداء الجملة ، ومن ضمير الخطاب ثم من ( هَا ) التنبيه الداخلة على اسم الإشارة المفيدة تأكيد مدلول الضمير . ونظيرُه قوله : { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا } في سورة النساء ( 109 ) . والأكثر أن يكون اسم الإشارة في مثله مجرداً عن ( ها ) اكتفاء ب ( هاء ) التنبيه التي في أول التركيب كقوله تعالى : { ها أنتم أولاء تحبونهم } في سورة آل عمران ( 119 ) .
وجملة { تُدْعَون } في موضع الحال من اسم الإشارة ، ومجموع ذلك يفيد حصول مدلول جملة الحال لصاحبها حصولاً واضحاً .
وزعم كثير من النحاة أن عدم ذكر اسم الإشارة بعد ( ها أنا ) ونحوه لحن ، لأنه لم يسمع دخول ( ها ) التنبيه على اسم غير اسم الإشارة كما ذكره صاحب « مغني اللبيب » ، بناء على أن ( ها ) التنبيه المذكورة في أول الكلام هي التي تدخل على أسماء الإشارة في نحو : هذا وهؤلاء ، وأن الضمير الذي يذكر بعدها فصل بينها وبين اسم الإشارة . ولكن قد وقع ذلك في كلام صاحب « المغني » في ديباجة كتابه إذ قال : وها أنا بائح بما أسررته ، وفي موضعين آخرين منه نبه عليهما بدر الدين الدماميني في شرحه « المزج على المغني » ، وذكر في شرحه الذي بالقول المشتهر ب« الحواشي الهندية » أن تمثيل الزمخشري في « المفصل » بقوله : ها إن زيداً منطلق يقتضي جواز : ها أنا أفعل ، لكن الرضِيّ قال : لم أعثر بشاهد على وقوع ذلك .
وجملة { والله الغني وأنتم الفقراء } تذييل للشيء قبلها فالله الغني المطلق ، والغني المطلق لا يسأل الناس مالاً في شيء ، والمخاطبون فقراء فلا يطمع منهم البذل فتعين أن دعاءهم لينفقوا في سبيل الله دعاء بصرف أموالهم في منافعهم كما أشار إلى ذلك قوله : { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } .
والتعريف باللام في { الغني } وفي { الفقراء } تعريف الجنس ، وهو فيهما مؤذن بكمال الجنس في المخبر عنه ، ولما وقعا خبرين وهما معرفتان أفادا الحصْر ، أي قصر الصفة على الموصوف ، أي قصر جنس الغنِيّ على الله وقصر جنس الفقراء على المخاطبين ب { أنتم } وهو قصر ادعائي فيهما مرتب على دلالة ال على معنى كمال الجنس ، فإن كمال الغنى لله لا محالة لعمومه ودوامه ، وإن كان يثبت بعض جنس الغني لغيره . وأما كمال الفقر للناس فبالنسبة إلى غنى الله تعالى وإن كانوا قد يغْنَون في بعض الأحوال لكن ذلك غنًى قليل وغير دائم .
{ وإن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أمثالكم } .
عطف على قوله : { وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم } [ محمد : 36 ] . والتولي : الرجوع ، واستعير هنا لاستبدال الإيمان بالكفر ، ولذلك جعل جزاؤه استبدال قوم غيرهم كما استبدلوا دينَ الله بدين الشرك .
والاستبدال : التبديل ، فالسين والتاء للمبالغة ، ومفعوله { قوماً } . والمستبدَل به محذوف دل على تقديره قوله { غيركم } ، فعلم أن المستبدل به هو ما أضيف إليه ( غير ) لِتعيّن انحصار الاستبدال في شيئين ، فإذا ذكر أحدهما علم الآخر . والتقدير : يستبدل قوماً بكم لأن المستعمَل في فعل الاستبدال والتبديل أن يكون المفعولُ هو المعوَّض ومجرور الباء هو العوَض كقوله : { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } تقدم في سورة البقرة ( 61 ) . وإن كان كلا المتعلقين هو في المعنى معوض وعوض باختلاف الاعتبار ، ولذلك عدل في هذه الآية عن ذكر المجرور بالباء مع المفعول للإيجاز . والمعنى : يتخذ قوماً غيركم للإيمان والتقوى ، وهذا لا يقتضي أن الله لا يوجد قوماً آخرين إلاّ عند ارتداد المخاطبين ، بل المراد : أنكم إن ارتددتم عن الدين كان لله قوم من المؤمنين لا يرتدون وكان لله قوم يدخلون في الإيمان ولا يرتدون .
روى الترمذي عن أبي هريرة قال : تَلا رسول الله هذه الآية وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } . قالوا : ومن يُستبدَل بنا ؟ قال : فضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على منكب سَلْمان الفارسي ثم قال : هذا وقومُه ، هذا وقومه » قال الترمذي حديث غريب . وفي إسناده مقال . وروى الطبراني في « الأوسط » : هذا الحديث على شرطِ مسلم وزاد فيه " والذي نفسي بيده لو كان الإيمانُ منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس " .
وأقول هو يدل على أن فارس إذا آمنوا لا يرتدون وهو من دلائل نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم فإن العرب ارتد منهم بعض القبائل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وارتدّ البربر بعد فتح بلادهم وإيمانهم ثنتي عشرة مرة فيما حكاه الشيخ أبو محمد ابن أبي زيد ، ولم يرتد أهل فارس بعد إيمانهم .
و { ثم } للترتيب الرتبي لإفادة الاهتمام بصفة الثبات على الإيمان وعلوّها على مجرد الإيمان ، أي ولا يكونوا أمثالكم في التولِّي . والجملة معطوفة ب ( ثم ) على جملة { يستبدل قوماً غيركم } فهي في حيّز جواب الشرط والمعطوف على جواب الشرط بحرف من حروف التشريك يجوز جزمه على العطف ، ويجوز رفعه على الاستئناف . وقد جاء في هذه الآية على الجزم وجاء في قوله تعالى : { وإن يقاتلوكم يولُّوكم الأدبار ثم لا ينصرون } [ آل عمران : 111 ] على الرفع . وأبدى الفخر وجهاً لإيثار الجزم هنا وإيثار الاستئناف هنالك فقال : وهو مع الجواز فيه تدقيق وهو أن ههنا لا يكون متعلقاً بالتولّي لأنهم إن لم يتولوا يكونون ممن يأتي الله بهم على الطاعة ، وإن تولوا لا يكونون مثلهم لكونهم عاصين وكون من يأتي الله بهم مطيعين ، وأما هنالك فسواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا يُنصرون فلم يكن للتعليق أي بالشرط هنالك وجه فرفع بالابتداء وههنا جُزم للتعليق اه . وهو دقيق ويزاد أن الفعل المعطوف على الجزاء في آية آل عمران وقع في آخر الفاصلة التي جرت أخواتها على حرف الواو والنون فلو أوثر جزم الفعل لأزيلت النون فاختلّت الفاصلة .