لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف ، ذكر حال المؤمنين فقال : { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ } الذين تحزبوا ، ونزلوا منازلهم ، وانتهى الخوف ، { قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ } في قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ }
{ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } فإنا رأينا ، ما أخبرنا به { وَمَا زَادَهُمْ } ذلك الأمر { إِلَّا إِيمَانًا } في قلوبهم { وَتَسْلِيمًا } في جوارحهم ، وانقيادًا لأمر اللّه .
ثم بين - سبحانه - على سبيل التشريف والتكريم - ما قاله المؤمنون الصادقون عندما شاهدوا جيوش الأحزاب ، فقال - تعالى - : { وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } .
واسم الإِشارة { هذا } يعود إلى ما رأوه من الجيوش التى جاء بها المشركون ، أو إلى ما حدث لهم من ضيق وكرب بسبب ذلك .
أى : وحين رأى المؤمنون الصادقون جيوش الأحزاب وقد أقبلت نحو المدينة ، لم يهنوا ولم يجزعوا ، بل ثبتوا على إيمانهم وقالوا { هذا } الذى نراه من خطر داهم ، هو ما وعدنا به الله ورسوله ، وأن هذا الخطر سيعقبه النصر ، وهذا الضيق سيعقبه الفرج ، وهذا العسر سيأتى بعد اليسر .
قال الآلوسى ما ملخصه : وأرادوا بقولهم ذلك ، ما تضمنه قوله - تعالى - فى سورة البقرة : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } وكان نزول هذه الآية قبل غزوة الخندق بحول - كما جاء عن ابن عباس .
وفى رواية عن ابن عباس - أيضا - " أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا " ، أى : فى آخر تسع ليال أو عشر ، أى : من وقت الاخبار ، أو من غرة الشهر فلما رأوهم قد أقبلوا فى الموعد الذى حدده صلى الله عليه وسلم قالوا ذلك .
وقوله - تعالى - : { وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ } داخل فى حيز ما قالوه .
أى : قالوا عندما شاهدوا جيوش الأحزاب : هذا ما وعدنا الله ورسوله ، وقالوا - أيضا - على سبيل التأكيد وقوة اليقين والتعظيم لذات الله ، ولشخصية رسوله : وصدق الله ورسوله ، أى : وثبت صدق الله - تعالى - فى أخباره ، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم فى أقواله .
والضمير فى قوله : { وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } يعود إلى ما رأوه من جيوش الأحزاب ومن شدائد نزلت بهم بسبب ذلك .
أى - وما زادهم ما شهدوه من جيوش الأحزاب ، ومن بلاء أحاط بهم بسبب ذلك ، إلا إيمانا بقدرة الله - تعالى - وتسليما لقضائه وقدره ، وأملا فى نصره وتأييده
ثم تأتي صورة الإيمان الواثق المطمئن ؛ وصورة المؤمنين المشرقة الوضيئة ، في مواجهة الهول ، وفي لقاء الخطر . الخطر الذي يزلزل القلوب المؤمنة ، فتتخذ من هذا الزلزال مادة للطمأنينة والثقة والاستبشار واليقين :
( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله . وصدق الله ورسوله . وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) . .
لقد كان الهول الذي واجهه المسلمون في هذا الحادث من الضخامة ؛ وكان الكرب الذي واجهوه من الشدة ؛ وكان الفزع الذي لقوه من العنف ، بحيث زلزلهم زلزالا شديدا ، كما قال عنهم أصدق القائلين : ( هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ) . .
لقد كانوا ناسا من البشر . وللبشر طاقة . لا يكلفهم الله ما فوقها . وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية ؛ وبشارة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لهم ، تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق . . على الرغم من هذا كله ، فإن الهول الذي كان حاضرا يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم .
ومما يصور هذه الحالة أبلغ تصوير خبر حذيفة . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يحس حالة أصحابه ، ويرى نفوسهم من داخلها ، فيقول : " من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع . يشرط له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الرجعة . أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة " . . ومع هذا الشرط بالرجعة ، ومع الدعاء المضمون بالرفقة مع رسول الله في الجنة ، فإن أحدا لا يلبي النداء . فإذا عين بالاسم حذيفة قال : فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني ! . . ألا إن هذا لا يقع إلا في أقصى درجات الزلزلة . .
ولكن كان إلى جانب الزلزلة ، وزوغان الأبصار ، وكرب الأنفاس . . كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله ؛ والإدراك الذي لا يضل عن سنن الله ؛ والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن ؛ وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها . ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سببا في انتظار النصر . ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه : متى نصر الله ? ألا إن نصر الله قريب ) . . وها هم أولاء يزلزلون . فنصر الله إذن منهم قريب ! ومن ثم قالوا : ( هذا ما وعدنا الله ورسوله . وصدق الله ورسوله ) . . ( وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) . .
( هذا ما وعدنا الله ورسوله ) . . هذا الهول ، وهذا الكرب ، وهذه الزلزلة ، وهذا الضيق . وعدنا عليه النصر . . فلا بد أن يجيء النصر : ( وصدق الله ورسوله ) . . صدق الله ورسوله في الإمارة وصدق الله ورسوله في دلالتها . . ومن ثم اطمأنت قلوبهم لنصر الله ووعد الله : ( وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) . .
لقد كانوا ناسا من البشر ، لا يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر ، وضعف البشر . وليس مطلوبا منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري ؛ ولا أن يخرجوا من إطار هذا الجنس ؛ ويفقدوا خصائصه ومميزاته . فلهذا خلقهم الله . خلقهم ليبقوا بشرا ، ولا يتحولوا جنسا آخر . لا ملائكة ولا شياطين ، ولا بهيمة ولا حجرا . . كانوا ناسا من البشر يفزعون ، ويضيقون بالشدة ، ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة . ولكنهم كانوا - مع هذا - مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله ؛ و تمنعهم من السقوط ؛ وتجدد فيهم الأمل ، وتحرسهم من القنوط . . وكانوا بهذا وذاك نموذجا فريدا في تاريخ البشرية لم يعرف له نظير .
وعلينا أن ندرك هذا لندرك ذلك النموذج الفريد في تاريخ العصور . علينا أن ندرك أنهم كانوا بشرا ، لم يتخلوا عن طبيعة البشر ، بما فيها من قوة و ضعف . وأن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيأة لبني الإنسان ، في الاحتفاظ بخصائص البشر في الأرض مع الاستمساك بعروة السماء .
وحين نرانا ضعفنا مرة ، أو زلزلنا مرة ، أو فزعنا مرة ، أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق . . فعلينا ألا نيأس من أنفسنا ، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا ؛ أو أننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبدا ! ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلى جوار ضعفنا لأنه من فطرتنا البشرية ! ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا ! هنالك العروة الوثقى . عروة السماء . وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة ، ونسترد الثقة والطمأنينة ، ونتخذ من الزلزال بشيرا بالنصر . فنثبت ونستقر ، ونقوى ونطمئن ، ونسير في الطريق . .