المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

9- والأنصار الذين نزلوا المدينة وأقاموا بها ، وأخلصوا الإيمان من قبل نزول المهاجرين بها ، يحبُّون مَن هاجر إليهم من المسلمين ، ولا يحسون في نفوسهم شيئاً مما أوتى المهاجرون من الفيء ، ويقدمون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم حاجة ، ومن يُحْفَظ - بتوفيق الله - من بخل نفسه الشديد فأولئك هم الفائزون بكل ما يحبون .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

وتبوأوا دار الهجرة والإيمان حتى صارت موئلا ومرجعا يرجع إليه المؤمنون ، ويلجأ إليه المهاجرون ، ويسكن بحماه المسلمون إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر ، فلم يزل أنصار الدين تأوي إلى الأنصار ، حتى انتشر الإسلام وقوي ، وجعل يزيد شيئا شيئا فشيئا ، وينمو قليلا قليلا ، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن ، والبلدان بالسيف والسنان .

الذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } وهذا لمحبتهم لله ولرسوله ، أحبوا أحبابه ، وأحبوا من نصر دينه .

{ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي : لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها ، وهذا يدل على سلامة صدورهم ، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنها .

ويدل ذلك على أن المهاجرين ، أفضل من الأنصار ، لأن الله قدمهم بالذكر ، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم ، ولأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة .

وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي : ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم ، وتميزوا بها على من سواهم ، الإيثار ، وهو أكمل أنواع الجود ، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها ، وبذلها للغير مع الحاجة إليها ، بل مع الضرورة والخصاصة ، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي ، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها ، ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه ، حين آثر ضيفه بطعامه وطعام أهله وأولاده وباتوا جياعا ، والإيثار عكس الأثرة ، فالإيثار محمود ، والأثرة مذمومة ، لأنها من خصال البخل والشح ، ومن رزق الإيثار فقد وقي شح نفسه { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ووقاية شح النفس ، يشمل وقايتها الشح ، في جميع ما أمر به ، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه ، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله ، ففعلها طائعا منقادا ، منشرحا بها صدره ، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه ، وإن كان محبوبا للنفس ، تدعو إليه ، وتطلع إليه ، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، وبذلك يحصل الفلاح والفوز ، بخلاف من لم يوق شح نفسه ، بل ابتلي بالشح بالخير ، الذي هو أصل الشر ومادته ، فهذان{[1037]}  الصنفان ، الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام ، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم ، وأدركوا به من قبلهم ، فصاروا أعيان المؤمنين ، وسادات المسلمين ، وقادات المتقين{[1038]} .


[1037]:- كذا في ب، وفي أ: فهؤلاء.
[1038]:- كذا في ب، وفي أ: المؤمنين.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

ثم مدح - سبحانه - بعد ذلك الأنصار ، الذين يحبون من هاجر إليهم فقال : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } .

والجملة الكريمة معطوفة على { الْمُهَاجِرِينَ } أو مبتدأ وخبره : { يُحِبُّونَ } والتبوؤ : النزول فى المكان ، ومنه المباءة للمنزل الذى ينزل فيه الإنسان .

والمراد بالدار : المدينة المنورة ، وأل للعهد . أى : الدار المعهودة المعروفة وهى دار الهجرة .

وقوله : { والإيمان } منصوب بفعل مقدر ، أى : وأخلصوا الإيمان .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى عطف الإيمان على الدار ، ولا يقال : تبوأوا الإيمان ؟

قلت معناه : تبوأوا الدار وأخلصوا الإيمان . كقوله : علفتها تبنا وماء باردا .

أى : وجعلوا الإيمان مستقرا ومتوطنا لهم ، لتمكنهم منه ، واستقامتهم عليه ، كما جعلوا المدينة كذلك .

أو أراد : دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف فى الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ، ووضع المضاف إليه مقامه . .

أو سمى المدينة - لأنها دار الهجرة ، ومكان ظهور الإيمان - بالإيمان . .

وقوله : { مِن قَبْلِهِمْ } أى : من قبل المهاجرين ، وهو متعلق بقوله { تَبَوَّءُوا } .

وقوله : { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } خبر لمبتدأ ، أو حال من الذين تبوأوا الدار .

أى : هذه هى صفات المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم .

. . وهذا هو جزاؤهم .

أما الذين سكنوا دار الهجرة وهى المدينة المنورة ، من قبل المهاجرين ، وأخلصوا إيمانهم وعبادتهم لله - تعالى- ، فإن من صفاتهم أنهم يحبون إخوانهم الذين هاجروا إليهم حبا شديدا ، لأن الإيمان ربط قلوبهم برباط المودة والمحبة . وقوله : { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } صفة أخرى من صفات الأنصار .

ومعنى : { يَجِدُونَ } هنا : يحسون ويعلمون ، والضمير للأنصار ، وفى قوله { أُوتُواْ } للمهاجرين . والحاجة فى الأصل : اسم مصدر بمعنى الاحتياج ، أى الافتقار إلى الشىء .

والمراد بها هنا : المأرب أو الرغبة الناشئة عن التطلع إلى ما منحه النبى - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين دون الأنصار ، من فىء أو غيره .

أى : أن من صفات الأنصار - أيضا - أنهم لا تتطلع نفوسهم إلى شىء مما أعطى للمهاجرين من الفىء أو غيره ، لأن المحبة التى ربطت قلوب الأنصار بالمهاجرين ، جعلت الأنصار يرتفعون عن التشوف إلى شىء مما أعطاه النبى - صلى الله عليه وسلم - المهاجرين وحدهم . . .

ثم وصفهم - سبحانه - بصفة ثالثة كريمة فقال : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ . . . } .

والإيثار معناه : أن يؤثر الإنسان غيره على نفسه ، على سبيل الإكرام والنفع ، والخصاصة : شدة الحاجة ، وأصلها من خصاص البيت ، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتحات .

أى : أن من صفات الأنصار أنهم كانوا يقدمون فى النفع إخوانهم المهاجرين على أنفسهم ، ولو كانوا فى حاجة ماسة ، وفقر واضح ، إلى ما يقدمونه لإخوانهم المهاجرين .

ولقد ضرب الأنصار - رضى الله عنهم - أروع الأمثال وأسماها فى هذا المضمار ، ومن ذلك ما رواه الشيخان والترمذى والنسائى وغيرهم عن أبى هريرة قال : " أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أصابنى الجهد ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد شيئا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله " ؟ فقام رجل من الأنصار - وفى رواية أنه أبو طلحة - فقال : أنا يا رسول الله ، فذهب به إلى أهله ، فقال لامرأته : أكرمى ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : والله ما عندى إلا قوت الصيبة ! ! قال : إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم ، وتعالى فأطفئى السراج ، ونطوى بطوننا الليلة لضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعلت .

ثم غدا الضيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة " وأنزل الله فيهما : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ . . . } . "

وقوله - سبحانه - : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } تذييل قصد به حض الناس على التحلى بفضيلة السخاء والكرم .

والشح : يرى بعضهم أنه بمعنى البخل ، ويرى آخرون أن الشح غريزة فى النفس تحملها على الإمساك والتقتير ، وأما البخل فهو المنع ذاته ، فكأن البخل أثر من آثار الشح .

قال صاحب الكشاف : " الشح " - بالضم والكسر قد قرئ بهما - : اللؤم ، وأن تكون نفس المرء كزة حريصة على المنع كما قال الشاعر :

يمارس نفسا بين جنبيه كَزَّةً . . . إذا هَمَّ بالمعروف قالت له مهلا

وقد أضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها ، وأما البخل فهو المنع نفسه ، ومنه قوله - تعالى - : { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح . . } أى : ومن يوق - بتوفيق الله وفضله - شح نفسه وحرصها على الإمساك ، فيخالفها فيما تأمره به من المنع والتقتير . فأولئك الذين يخالفونها هم المفلحون ، الفائزون برضا الله - عز وجل - .

ومن الأحاديث التى وردت فى النهى عن الشح ، ما أخرجه مسلم - فى صحيحه - عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

6

والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ، يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . .

وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار . هذه المجموعة التي تفردت بصفات ، وبلغت إلى آفاق ، لولا أنها وقعت بالفعل ، لحسبها الناس أحلاما طائرة ورؤى مجنحة ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق . .

والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم . . أي دار الهجرة . يثرب مدينة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين . كما تبوأوا فيها الإيمان . وكأنه منزل لهم ودار . وهو تعبير ذو ظلال . وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان . لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم ، وتسكن إليه أرواحهم ، ويثوبون إليه ويطمئنون له ، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار .

( يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) . . ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين . بهذا الحب الكريم . وبهذا البذل السخي . وبهذه المشاركة الرضية . وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء . حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة . لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين ! ( ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) . . مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع ، ومن مال يختصون به كهذا الفيء ، فلا يجدون في أنفسهم شيئا من هذا . ولا يقول : حسدا ولا ضيقا . إنما يقول : ( شيئا ) . مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم ، فلا تجد شيئا أصلا .

( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) . . والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا . وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيرا . وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديما وحديثا .

( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) . . فهذا الشح . شح النفس . هو المعوق عن كل خير . لأن الخير بذل في صورة من الصور . بذل في المال . وبذل في العاطفة . وبذل في الجهد . وبذل في الحياة عند الاقتضاء . وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائما أن يأخذ ولا يهم مرة أن يعطي . ومن يوق شح نفسه ، فقد وقي هذا المعوق عن الخير ، فانطلق إليه معطيا باذلا كريما . وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه .