ثم قال تعالى : { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا } أي : من القبائح والباطل القولي والفعلي .
{ ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } أي : بالخير الذي لم يفعلوه ، والحق الذي لم يقولوه ، فجمعوا بين فعل الشر وقوله ، والفرح بذلك ومحبة أن يحمدوا على فعل الخير الذي ما فعلوه .
{ فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } أي : بمحل نجوة منه وسلامة ، بل قد استحقوه ، وسيصيرون إليه ، ولهذا قال : { ولهم عذاب أليم }
ويدخل في هذه الآية الكريمة أهل الكتاب الذين فرحوا بما عندهم من العلم ، ولم ينقادوا للرسول ، وزعموا أنهم هم المحقون في حالهم ومقالهم ، وكذلك كل من ابتدع بدعة قولية أو فعلية ، وفرح بها ، ودعا إليها ، وزعم أنه محق وغيره مبطل ، كما هو الواقع من أهل البدع .
ودلت الآية بمفهومها على أن من أحب أن يحمد ويثنى عليه بما فعله من الخير واتباع الحق ، إذا لم يكن قصده بذلك الرياء والسمعة ، أنه غير مذموم ، بل هذا من الأمور المطلوبة ، التي أخبر الله أنه يجزي بها المحسنين له الأعمال والأقوال ، وأنه جازى بها خواص خلقه ، وسألوها منه ، كما قال إبراهيم عليه السلام : { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } وقال : { سلام على نوح في العالمين ، إنا كذلك نجزي المحسنين } وقد قال عباد الرحمن : { واجعلنا للمتقين إماما } وهي من نعم الباري على عبده ، ومننه التي تحتاج إلى الشكر .
ثم حكى - سبحانه - رذيلة أخرى من رذائل أهل الكتاب المتعددة ، وهى أنهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، ويفرحون بما أتوا ، وبين سوء عاقبتهم بسبب تلك الأخلاق القبيحة فقال : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
والخطاب فى قوله { لاَ تَحْسَبَنَّ } موجه إلى النبى صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له الخطاب .
والنهى موجه إلى حسبان أن يكون فى هؤلاء الأشرار خير .
أى أن الله تعالى ، ينهى نبيه صلى الله عليه وسلم ، نهيا مؤكدا عن أن يظن خيرا فى هؤلاء الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا .
و " المفازة " مصدر ميمى بمعنى الفوز . وقيل هى اسم مكان أى محل فوز ونجاة .
والمعنى : لا تظن يا محمد أن هؤلاء الأشرار { الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ } أى يفرحون بما فعلوا من بيعهم الدين بالدنيا واستبدالهم الذى هو أدنى بالذى هو خير ، والذين { يُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } أي يحبون أن يمدحهم الناس على ما لم يفعلوه من الوفاء بالعهود ، ومن إظهار الحق وعدم كتمانه ، فإنهم فعلوا الشرور والآثام . ثم لم يحاولوا أن يستروا ما اقترفوه من آثام ، بل يطلبون من الناس أن يمدحوهم على ما ارتكبوه من منكرات ، فهم ممن قال الله فيهم { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } لا تحسبن هؤلاء الأشرار { بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب } أى بمنجاة منه ، بل لهم عذاب مؤلم أشد الإيلام بسبب ما اجترحوه من سيئات .
وقوله { الذين يَفْرَحُونَ } هو المفعول الأول لتحسب ، والمفعول الثانى محذوف والتقدير : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا موفقين . أو مهتدين ، أو صالحين .
وحذف هذا المفعول الثانى لدلالة ما بعده عليه وهو قوله { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ } ولتذهب النفس كل مذهب فيما يتناسب مع الوصف الذى وصفهم به - سبحانه - ، وهو أنهم يفعلون القبيح ويحبون أن يحمدهم الناس عليه .
وقوله { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب } بيان لسوء عاقبتهم بسبب أفعالهم السيئة وهو تأكيد لقوله { لاَ تَحْسَبَنَّ } .
قال الزجاج : جرت عادة العرب أنهم إذا طالت القصة أو الكلام أعادوا لفظ حسب وما أشبهه ، للإعلام بأن الذى جرى متصل بالكلام الأول والأول متصل به . فتقول . لا تظن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا وكذا فلا تظنه صادقا . فيفيد " لا تظنن " توكيدا وتوضيحا .
والتعبير عن النجاة من العذاب الأليم ، ولكنهم لن ينجوا منه أبدا ، ولذا أكد - سبحانه - عدم نجاتهم بقوله { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
فذكر - سبحانه - عذابهم الأليم بالسلب والإيجاب ، فنفى أولا أنهم بمنجاة منه ، وأخبر ثانيا أنهم واقعون فيه .
هذا ، وقد ذكر كثير من العلماء أن هذه الآية الكريمة نزلت فى شان أحبار اليهود فقد روى الشيخان والترمذى والنسائي ، وغيرهم عن حميد بن عبد الرحمن ابن عوف أن مروان قال لبوابه رافع : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له لئن كان كل امرىء منا فرح بما أوتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل لنعذ بن جميعا .
فقال ابن عباس : مالكم وهذه ، وإنما نزلت هذه فى أهل الكتاب ثم تلا ابن عباس : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } إلى قوله { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقال ابن عباس : " سألهم النبى صلى الله عليه وسلم عن شىء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، ثم خرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه " .
وذكر بعض العلماء أن هذه الآية نزلت فى شأن المنافقين ، فقد روى البخارى عن أبى سعيد الخدرى أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو ، اعتذروا إليه وحلفوا وأحبو أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزت ، { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ } .
قال العلماء : ولا منافاة بين الروايتين ، لأن الآية عامة فى جميع ما ذكر . وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد حدثتنا عن جملة من رذائل أهل الكتاب ، فقد حكت قولهم { إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } وحكت قولهم { أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار } ووصفتهم بكتمان الحق ونبذه وراء ظهورهم ، كما وصفتهم بأنهم يفرحون بما أتوا وييحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، وردت على أكاذيبهم بما يدحضها وأنذرتهم بسوء مصيرهم ، وساقت للمؤمنين من ألوان التسلية ما يخفف عنهم مصابهم ، ويجعلهم يسيرون فى هذه الحياة بعزم ثابت ، وهمة عالية ، ونفس مطمئنة .
{ لاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وّيُحِبّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : عُنِيَ بذلك قوم من أهل النفاق كانوا يقعدون خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا العدو ، فإذا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سهل بن عسكر وابن عبد الرحيم البرقي ، قالا : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير ، قال : ثني زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري : أن رجالاً من المنافقين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ، وإذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم من السفر اعتذروا إليه وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فأنزل الله تعالى فيهم : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أتَوْا } . . . الاَية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } قال : هؤلاء المنافقون يقولون النبي صلى الله عليه وسلم : لو قد خرجت لخرجنا معك ، فإذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم تخلفوا وكذبوا ، ويفرحون بذلك ، ويرون أنها حيلة احتالوا بها .
وقال آخرون : عُنِي بذلك قوم من أحبار اليهود كانوا يفرحون بإضلالهم الناس ، ونسبة الناس إياهم إلى العلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، حدثنا قال : سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس أو سعيد بن جبير : { وَإذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ } إلى قوله { وَلهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ } يعني : فنحاصا وأشيع وأشباههما من الأحبار الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زينوا للناس من الضلالة { ويُحبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بما لم يَفْعَلُوا } أن يقول لهم الناس علماء وليسوا بأهل علم ، لم يحملوهم على هدى ولا خير ، ويحبون أن يقول لهم الناس : قد فعلوا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أنه حدثه عن ابن عباس بنحو ذلك ، إلا أنه قال : وليسوا بأهل علم ، لم يحملوهم على هدى .
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك قوم من اليهود فرحوا باجتماع كلمتهم على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحبون أن يحمدوا بأن يقال لهم أهل صلاة وصيام . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم ، يقول في قوله : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا } فإنهم فرحوا باجتماعهم على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : قد جمع الله كلمتنا ، ولم يخالف أحد منا أحدا أنه نبيّ ، وقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، ونحن أهل الصلاة والصيام . وكذبوا ، بل هم أهل كفر وشرك وافتراء على الله ، قال الله : { يُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : { لاَ تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } قال : كانت اليهود أمر بعضكم بعضا ، فكتب بعضهم إلى بعض أن محمدا ليس بنبيّ ، فاجمعوا كلمتكم ، وتمسكوا بدينكم وكتابكم الذي معكم . ففعلوا وفرحوا بذلك ، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم ، ففرحوا بذلك ، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم ، وفرحوا بذلك حين اجتمعوا عليه ، وكانوا يزكون أنفسهم ، فيقولون : نحن أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الزكاة ، ونحن على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله فيهم : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا } من كتمان محمد صلى الله عليه وسلم : { ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } أحبوا أن تحمدهم العرب بما يزكون به أنفسهم ، وليسوا كذلك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن أبي الجَحّاف ، عن مسلم البطين ، قال : سأل الحجاج جلساءه عن هذه الاَية : { لا تَحْسَبنّ الّذِيَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا } قال سعيد بن جبير : بكتمانهم محمدا ، { ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } قال : هو قولهم : نحن على دين إبراهيم عليه السلام .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { لاَ تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } : هم أهل الكتاب أنزل عليهم الكتاب ، فحكموا بغير الحقّ ، وحرّفوا الكلم عن مواضعه ، وفرحوا بذلك ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فرحوا بأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل الله ، وهم يزعمون أنهم يعبدون الله ، ويصومون ، ويصلون ، ويطيعون الله¹ فقال الله جلّ ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا } كفروا بالله وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، { ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } من الصلاة والصوم ، فقال الله جلّ وعزّ لمحمد صلى الله عليه وسلم : { فَلا تَحْسَبَنّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ العَذَابِ ولَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ } .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا من تبديلهم كتاب الله ، ويحبون أن يحمدهم الناس على ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : { لاَ تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا } قال : يهود ، فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب وحمدهم إياهم عليه ، ولا تملك يهود ذلك .
وقال آخرون : معنى ذلك : أنهم فرحوا بما أعطى الله تعالى آل إبراهيم عليه السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي المعلى ، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الاَية : { ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } قال : اليهود يفرحون بما آتى الله إبراهيم عليه السلام .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي المعلى العطار ، عن سعيد بن جبير ، قال : هم اليهود ، فرحوا بما أعطى الله تعالى إبراهيم عليه السلام .
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك قوم من اليهود سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكتموه ، ففرحوا بكتمانهم ذلك إياه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني ابن أبي مليكة أن علقمة بن أبي وقاص أخبره : أن مروان قال لرافع : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له : لئن كان كل امرىء منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ، ليعذبنا الله أجمعين ! فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه ؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود ، فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فأروه أن قد استجابوا لله بما أخبروه عنه مما سألهم ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه . ثم قال : { وَإذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ } . . . الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن أبي مليكة ، أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان بن الحكم قال لبوابه : يا رافع اذهب إلى ابن عباس ، فقل له : لئن كان كل امرىء منا فرح بما أتى وأحبّ أن يحمد بما لم يفعل معذّبا ، لنعذبن جميعا فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الاَية ؟ إنما أنزلت في أهل الكتاب . ثم تلا ابن عباس : { وَإذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَيُبَيّنُنّهُ للنّاسِ } إلى قوله : { أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } قال ابن عباس : سألهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما قد سألهم عنه ، فاستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه .
وقال آخرون : بل عني بذلك قوم من يهود أظهروا النفاق للنبيّ صلى الله عليه وسلم محبة منهم للحمد ، والله عالم منهم خلاف ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذكر لنا أن أعداء الله اليهود يهود خيبر أتوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فزعموا أنهم راضون بالذي جاء به ، وأنهم متابعوه وهم متمسكون بضلالتهم ، وأرادوا أن يحمدهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بما لم يفعلوا ، فأنزل الله تعالى : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } . . . الاَية .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : إن أهل خيبر أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقالوا : إنا على رأيكم وهيئتكم ، وإنا لكم ردء ، فأكذبهم الله ، فقال : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا } . . . الاَيتين .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، قال : جاء رجل إلى عبد الله ، فقال : إن كعبا يقرأ عليك السلام ، ويقول : إن هذه الاَية لم تنزل فيكم : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } قال : أخبروه أنها نزلت وهو يهوديّ .
وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرحُونَ بِمَا أتَوْا } . . . الاَية ، قول من قال : عني بذلك أهل الكتاب الذين أخبر الله جلّ وعزّ أنه أخذ ميثاقهم ، ليبيننّ للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يكتمونه ، لأن قوله : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا } . . . الاَية في سياق الخبر عنهم ، وهو شبيه بقصتهم مع اتفاق أهل التأويل على أنهم المعنيون بذلك ، فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الاَية : لا تحسبن يا محمد الذين يفرحون بما أتوا من كتمانهم الناس أمرك ، وأنك لي رسول مرسل بالحقّ ، وهم يجدونك مكتوبا عندهم في كتبهم ، وقد أخذت عليهم الميثاق بالإقرار بنبوّتك ، وبيان أمرك للناس ، وأن لا يكتموهم ذلك ، وهم مع نقضهم ميثاقي الذي أخذت عليهم بذلك ، يفرحون بمعصيتهم إياي في ذلك ، ومخالفتهم أمري ، ويحبون أن يحمدهم الناس بأنهم أهل طاعة لله وعبادة وصلاة وصوم ، واتباع لوحيه ، وتنزيله الذي أنزله على أنبيائه ، وهم من ذلك أبرياء أخلياء لتكذيبهم رسوله ، ونقضهم ميثاقه الذي أخذ عليهم ، لم يفعلوا شيئا مما يحبون أن يحمدهم الناس عليه ، فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ، ولهم عذاب أليم . وقوله : { فَلا تَحْسَبَنّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ العَذَابِ } فلا تظنهم بمنجاة من عذاب الله الذي أعدّه لأعدائه في الدنيا من الخسف والمسخ والرجف والقتل ، وما أشبه ذلك من عقاب الله ، ولا هم ببعيد منه . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { فَلا تَحْسَبَنّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ العَذَابِ } قال : بمنجاة من العذاب .
قال أبو جعفر : { وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ } يقول : ولهم عذاب في الاَخرة أيضا مؤلم ، مع الذي لهم في الدنيا معجل .
{ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن ضم الباء جعل الخطاب له وللمؤمنين ، والمفعول الأول { الذين يفرحون } والثاني { بمفازة } ، وقوله { فلا تحسبنهم } تأكيد والمعنى : لا تحسبن الذين يفرحون بما فعلوا من التدليس وكتمان الحق ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الوفاء بالميثاق وإظهار الحق والإخبار بالصدق ، بمفازة بمنجاة من العذاب أي فائزين بالنجاة منه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء وفتح الباء في الأول وضمها في الثاني على أن الذين فاعل ومفعولا يحسبن محذوفان يدل عليهما مفعولا مؤكدة ، فكأنه قيل ؛ ولا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا فلا يحسبن أنفسهم بمفازة ، أو المفعول الأول محذوف وقوله فلا تحسبنهم تأكيد للفعل وفاعله ومفعوله الأول . { ولهم عذاب أليم } بكفرهم وتدليسهم . روي أنه عليه الصالة والسلام ( سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فأخبروه بخلاف ما كان فيها وأروه أنهم قد صدقوه وفرحوا بما فعلوا ) فنزلت . وقيل ؛ نزلت في قوم تخلفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحة في التخلف واستحمدوا به . وقيل : نزلت في المنافقين فإنهم يفرحون بمنافقتهم ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة .
اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى : { الذين يفرحون } فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وابن زيد وجماعة : الآية نزلت في المنافقين ، وذلك أنهم كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو تخلفوا عنه ، فإذا جاء اعتذروا إليه وقالوا : كانت لنا أشغال ونحو هذا ، فيظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم القبول ويستغفر لهم ، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية ، فكانوا يفرحون بما يأتونه ويفعلونه من التخلف والاعتذار ، ويحبون أن يقال لهم : إنهم في حكم المجاهدين لكن العذر حبسهم{[3773]} ، وقالت جماعة كثيرة من المفسرين إنما نزلت الآية في أهل الكتاب أحبار اليهود ثم اختلفوا فيما هو الذي أتوه وكيف أحبوا المحمدة ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه : أتوا إضلال أتباعهم عن الإيمان بمحمد وفرحوا بذلك لدوام رياستهم الدنيوية ، وأحبوا أن يقال عنهم : إنهم علماء بكتاب الله ومتقدم رسالاته{[3774]} ، وقال ابن عباس أيضاً والضحاك والسدي : أتوا أنهم تعاقدوا وتكاتبوا من كل قطر بالارتباط إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم والدفع في صدر نبوته ، وأحبوا أن يقال عنهم : إنهم أهل صلاة وصيام وعبادة ، وقالوا هم ذلك عن أنفسهم{[3775]} ، وقال مجاهد : فرحوا بإعجاب أتباعهم بتبديلهم تأويل التوراة ، وأحبوا حمدهم إياهم على ذلك ، وهم في الحقيقة لم يفعلوا شيئاً نافعاً ولا صحيحاً بل الحق أبلج{[3776]} ، وقال سعيد بن جبير : الآية في اليهود ، فرحوا بما أعطى الله آل إبراهيم من النبوءة والكتاب ، فهم يقولون : نحن على طريقهم ويحبون أن يحمدوا بذلك وهم ليسوا على طريقتهم ، وقراءة سعيد بن جبير : «أوتوا » بمعنى أعطوا بضم الهمزة والتاء ، وعلى قراءته يستقيم المعنى الذي قال . وقال ابن عباس أيضاً : إن الآية نزلت في قوم سألهم النبي عليه السلام عن شيء فكتموه الحق وقالوا له غير ذلك ، ففرحوا بما فعلوا وأحبوا أن يحمدوا بما أجابوا ، وظنوا أن ذلك قد قنع به واعتقدت صحته{[3777]} .
وقال قتادة : إن الآية في يهود خيبر ، نافقوا على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين مرة ، وقالوا : نحن معكم وعلى رأيكم وردء لكم وهم يعتقدون خلاف ذلك ، فأحبوا الحمد على ما أظهروا وفرحوا بذلك{[3778]} .
وقال الزجّاج : نزلت الآية في قوم من اليهود ، دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكلموه في أشياء ثم خرجوا ، فقالوا لمن لقوا من المسلمين : إن النبي أخبرهم بأشياء قد عرفوها فحمدهم المسلمون على ذلك وطمعوا بإسلامهم وكانوا قد أبطنوا خلاف ما أظهروا للمسلمين وتمادوا على كفرهم ، فنزلت الآية فيهم وقرأ جمهور الناس : «أتوا » بمعنى فعلوا ، كما تقول أتيت أمر كذا ، وقرأ مروان بن الحكم وإبراهيم النخعي : «آتوا » بالمد ، بمعنى أعطوا بفتح الهمزة والطاء .
قال أبو محمد : وهي قراءة تستقيم على بعض المعاني التي تقدمت ، وقرأ سعيد بن جبير وأبو عبد الرحمن السلمي ، «أوتوا » بمعنى أعطوا ، وقد تقدمت مع معناها وقرأ أبو عمرو وابن كثير ، { لا يحسبن الذي يفرحون } «فلا يحسِبنهم » بالياء من تحت فيهما وبكسر السين وبرفع الباء في يحسبنهم ، قال أبو علي : { الذين } رفع بأنه فاعل «يحسب » ، ولم تقع «يحسبن » على شيء ، وقد تجيء هذه الأفعال لغواً لا في حكم الجمل المفيدة نحو قول الشاعر : [ الطويل ]
وما خلت أبقى بيننا من مودة . . . عراض المذاكي المسنفات القلائصا{[3779]}
وقال الخليل : العرب تقول : ما رأيته يقول ذلك إلا زيد ، وما ظننته يقول ذلك إلا زيد فتتجه القراءة بكون قوله : «فلا تحسبنهم » بدلاً من الأول وقد عدي إلى مفعوليه وهما الضمير ، وقوله { بمفازة } فاستغني بذلك عن تعدية الأولى إليها كما استغني في قول الشاعر{[3780]} : [ الطويل ]
بأيّ كِتابٍ أَوْ بأيِّةِ سُنَّةٍ . . . تَرَى حُبَّهُمْ عاراً عليَّ وَتَحْسِبُ ؟
فاستغني بتعدية أحد الفعلين عن تعدية الآخر ، والفاء في قوله { فلا تحسبنهم } زائدة ، ولذلك حسن البدل ، إذ لا يتمكن أن تكون فاء عطف ولا فاء جزاء ، فلم يبق إلا أن تكون زائدة لا يقبح وجودها بين البدل والمبدل منه ، وقوله على هذه القراءة «فلا يحسبنهم » ، فيه تعدي فعل الفاعل إلى ضمير نفسه ، نحو ظننتني أخاه ، ورأيتني الليلة عند الكعبة ، ووجدتني رجعت من الإصغاء{[3781]} ، وذلك أن هذه الأفعال وما كان في معناها لما كانت تدخل على الابتداء والخبر أشبهت «أن » وأخواتها ، فكما تقول : إني ذاهب ، فكذلك تقول : ظننتني ذاهباً ، ولو قلت : أظن نفسي أفعل كذا لم يحسن ، كما يحسن : أظنني فاعلاً ، قرأ نافع وابن عامر : «لا يحسبن الذين » بالياء من تحت وفتح الباء ، وكسر نافع السين ، وفتحها ابن عامر «فلا تحسبنهم » بالتاء من فوق ، وفتح الباء ، والمفعولان اللذان يقتضيهما قوله «لا يحسبن الذين » محذوفان لدلالة ما ذكر بعده ، والكلام في ذلك كما تقدم في قراءة ابن كثير ، إلا أنه لا يجوز في هذا البدل الذي ذكره في قراءة ابن كثير وأبي عمرو لاختلاف الفعلين واختلاف فعليهما ، وقرأ حمزة «لا تحسبن » بالتاء من فوق وكسر السين «فلا تحسبنهم » بالتاء من فوق وكسر السين وفتح الباء ف { الذين } على هذه القراءة مفعول أول «لتحسبن » ، والمفعول الثاني محذوف لدلالة ما يجيء بعد عليه ، كما قيل آنفاً في المفعولين ، وحسن تكرار الفعل في قوله «فلا تحسبنهم » لطول الكلام ، وهي عادة العرب وذلك تقريب لذهن المخاطب ، وقرأ الضحاك بن مزاحم «فلا تحسبنهم » بالتاء من فوق وفتح السين وضم الباء ، و «المفازة » : مفعلة من فاز يفوز إذا نجا فهي بمعنى منجاة ، وسمي موضع المخاف مفازة على جهة التفاؤل ، قاله الأصمعي وقيل : لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك ، تقول العرب : فوز الرجل إذا مات قال ثعلب : حكيت لابن الأعرابي قول الأصمعي فقال : أخطأ ، قال لي أبو المكارم : إنما سميت «مفازة » لأن من قطعها فاز ، وقال الأصمعي : سمي اللديغ سليماً تفاؤلاً ، قال ابن الأعرابي : بل لأنه مستسلم لما أصابه ، وبعد أن نهى أن يحسبوا ناجين أخبر أن لهم عذابا .
تكملة لأحوال أهل الكتاب المتحدّث عنهم ببيان حالة خُلقهم بعد أن بيّن اختلال أمانتهم في تبليغ الدين ، وهذا ضرب آخر جاء به فريق آخر من أهل الكتاب فلذلك عبّر عنهم بالمَوصول للتوصّل إلى ذكر صلته العجيبة من حال من يفعل الشرّ والخسّة ثم لا يقف عند حدّ الانكسار لما فعل أو تطَلُّب الستر على شنعته ، بل يرتقي فيترقّب ثناء الناس على سوء صنعه ، ويتطلّب المحمدة عليه . وقيل : نزلت في المنافقين ، والخطاب لكلّ من يصلح له الخطاب ، والموصول هنا بمعنى المعرّف بلام العهد لأنّ أريد به قوم معيَّنون من اليهود أو المنافقين ، فمعنى { يفرحون بما أتوا } أنّهم يفرحون بما فعلوا ممّا تقدّم ذكره ، وهو نبذ الكتاب والاشتراء به ثمناً قليلاً وإنّما فرحهم بما نالوا بفعلهم من نفع في الدنيا .
ومعنى : { يُحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } أنّهم يحبّون الثناء عليهم بأنّهم حفظة الشريعة وحُرّاسها والعالمون بتأويلها ، وذلك خلاف الواقع . هذا ظاهر معنى الآية . وهو قول مجاهد . وعن ابن عباس أنّهم أتوا إضلال أتباعهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وأحبّوا الحمد بأنّهم علماء بكتب الدين .
وفي « البخاري » ، عن أبي سعيد الخدْري : أنّها نزلت في المنافقين ، كانوا يتخلّفون عن الغزو ويعتذرون بالمعاذير ، فيقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم ويحبّون أن يحمدوا بأنّ لهم نية المجاهدين ، وليس الموصول بمعنى لام الاستغراق . وفي « البخاري » : أنّ مروان بن الحكم قال لِبَوّابِه : « اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل : لئِنْ كان كلّ امرىء فرح بما أتَى وأحَبّ أن يُحمد بما لم يفعل معذّباً لنعذّبَنّ أجْمعون » قال ابن عباس : « وما لكم ولهذه إنّما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودَ ، فسألهم عن شيء فأخبروه بغيره فأرَوْه أنّهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه وفرِحوا بما أتوا من كتمانهم » ثم قرأ ابن عباس : { وإذ أخذ الله ميثاقَ الذين أوتوا الكتاب } [ آل عمران : 187 ] حتّى قوله : { لا تَحْسِبَنّ الذين يفرحون بما أتوا } [ آل عمران : 188 ] الآية . والمفازة : مكان الفوزَ . وهو المكان الذي مَن يحلّه يفوز بالسلامة من العدوّ سمّيت البيداء الواسعة مَفَازة لأنّ المنقطع فيها يفوز بنفسه من أعدائه وطلبة الوتر عنده وكانوا يتطلّبون الإقامة فيها . قال النابغة :
أوْ أضَعُ البيتَ في صَمَّاء مُظلمةٍ *** تُقَيّدُ العَيْر لا يسري بها الساري
تُدافع الناس عنّا حين نركبهــا *** من المظالم تُدْعَى أمّ صَبَّـــار
ولمّا كانت المفازة مجملة بالنسبة للفوز الحاصل فيها بيّن ذلك بقوله : { من العذاب } . وحرف ( مِن ) معناه البدلية ، مثل قوله تعالى : { لا يسمن ولا يغني من جوع } [ الغاشية : 7 ] ، أو بمعنى ( عن ) بتضمين مفازة معنى منجاة .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمور ، وأبو جعفر : لا يحسبنّ الذين يفرحون بالياء التحتية على الغيبة ، وقرأه الباقون بتاء الخطاب .
وأمّا سين ( تحسبن ) فقرأها بالكسر نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي ، وأبو جعفر ، ويعقوب . وقرأها بالفتح الباقون .
وقد جاء تركيب الآية على نظم بديع إذ حُذف المفعول الثاني لفعل الحسبان الأوّل لدلالة ما يدلّ عليه وهو مفعول { فلا تحسبنّهم } ، والتقدير : لا يحسبنّ الذين يفرحون إلخ أنْفسَهم . وأعيد فعل الحسبان في قوله : { فلا تحسبنهم } [ آل عمران : 188 ] مسنداً إلى المخاطب على طريقة الاعتراض بالفاء وأتي بعده بالمفعول الثاني : وهو { بمفازة من العذاب } [ آل عمران : 188 ] فتنازعه كلا الفعلين . وعلى قراءة الجمهور : { لا تَحسبنّ الذين يفرحون } [ آل عمران : 188 ] بتاء الخطاب يكون خطاباً لغير معيّن ليعمّ كلّ مخاطب ، ويكون قوله : { فلا تحسبنهم } اعتراضاً بالفاء أيضاً والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم مع ما في حذف المفعول الثاني لفعل الحسبان الأول ، وهو محلّ الفائدة ، من تشويق السامع إلى سماع المنهي عن حسبانه . وقرأ الجمهور فلا تحسبنّهم : بفتح الباء الموحدة على أنّ الفعل لخطاب الواحد ؛ وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب بضم الباء الموحدة على أنّه لخطاب الجمع ، وحيث إنّهما قرءا أوّله بياء الغيبة فضمّ الباء يجعل فاعل ( يحسبنّ ) ومفعوله متّحدين أي لا يحسبون أنفسهم ، واتّحاد الفاعل والمفعول للفعل الواحد من خصائص أفعال الظنّ كما هنا وألحقت بها أفعال قليلة ، وهي : ( وَجد ) و ( عَدِم ) و ( فَقَدَ ) .
وأمّا سين « تحسبنّهم » فالقراءات مماثلة لما في سين { يحسبنّ } .