{ وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدّوهَآ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ حَسِيباً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ } : إذا دعي لكم بطول الحياة والبقاء والسلامة . { فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْرُدّوها } يقول : فادعوا لمن دعا لكم بذلك بأحسن مما دعا لكم ، { أوْرُدّوها } يقول : أوردّوا التحية .
ثم اختلف أهل التأويل في صفة التحية التي هي أحسن مما حيا به المحيى ، والتي هي مثلها ، فقال بعضهم : التي هي أحسن منها أن يقول المسلّم عليه إذا قيل : «السلام عليكم » : وعليكم السلام ورحمة الله ، ويزيد على دعاء الداعي له¹ والردّ أن يقول : السلام عليكم مثلها ، كما قيل له ، أو يقول : وعليكم السلام ، فيدعو للداعي له مثل الذي دعا له . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها } يقول : إذا سلم عليك أحد ، فقل أنت : «وعليك السلام ورحمة الله » ، أو تقطع إلى «السلام عليك » ، كما قال لك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قوله : { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها } قال : في أهل الإسلام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج فيما قرىء عليه ، عن عطاء ، قال : في أهل الإسلام .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن شريح ، أنه كان يردّ : «السلام عليكم » ، كما يسلم عليه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن عون وإسماعيل بن أبي خالد ، عن إبراهيم ، أنه كان يردّ : السلام عليكم ورحمة الله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عطية ، عن ابن عمر أنه كان يردّ : وعليكم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فحيوا بأحسن منها أهل الإسلام ، أو ردّوها على أهل الكفر . ذكر من قال ذلك :
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن الحسن بن صالح ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : من سلم عليك من خلق الله ، فاردد عليه وإن كان مجوسيّا ، فإن الله يقول : { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها } .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا سالم بن نوح ، قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، في قوله : { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها } للمسلمين ، { أوْ رُدّوها } على أهل الكتاب .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها } للمسلمين ، { أوْ رُدّوها } على أهل الكتاب .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها } يقول : حيوا أحسن منها : أي على المسلمين { أوْ رُدّوها } أي على أهل الكتاب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد في قوله : { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها } قال : قال أبي : حقّ على كل مسلم حُيّي بتحية أن يحيي بأحسن منها ، وإذا حياه غير أهل الإسلام أن يردّ عليه مثل ما قال .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بتأويل الاَية قول من قال ذلك في أهل الإسلام ، ووجه معناه إلى أنه يردّ السلام على المسلم إذا حياه تحية أحسن من تحيته أو مثلها . وذلك أن الصحاح من الاَثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه واجب على كل مسلم ردّ تحية كل كافر أحسن من تحيته ، وقد أمر الله بردّ الأحسن¹ والمثل في هذه الاَية من غير تمييز منه بين المستوجب ردّ الأحسن من تحيته عليه والمردود عليه مثلها بدلالة يعلم بها صحة قول من قال : عنى بردّ الأحسن المسلم ، وبردّ المثل : أهل الكفر .
والصواب إذْ لم يكن في الاَية دلالة على صحة ذلك ولا بصحته أثر لازم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، أن يكون الخيار في ذلك إلى المسلّم عليه بين ردّ الأحسن أو المثل إلا في الموضع الذي خصّ شيئا من ذلك سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكون مسلما لها . وقد خصت السنة أهل الكفر بالنهي عن ردّ الأحسن من تحيتهم عليهم أو مثلها ، إلا بأن يقال : «وعليكم » ، فلا ينبغي لأحد أن يتعدّى ما حدّ في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأما أهل الإسلام ، فإن لمن سلم عليه منهم في الردّ من الخيار ما جعل الله له من ذلك . وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأويل ذلك بنحو الذي قلنا خبر¹ وذلك ما :
حدثني موسى بن سهل الرملي ، قال : حدثنا عبد الله بن السريّ الأنطاكي ، قال : حدثنا هشام بن لاحق ، عن عاصم الأحول ، عن أبي عثمان النهديّ ، عن سلمان الفارسي ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : السلام عليك يا رسول الله ! فقال : «وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللّهِ ! » . ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله ! فقال له رسول الله : «وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكاتُهُ ! » . ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ! فقال له : «وَعَلَيْكَ ! » فقال له الرجل : يا نبيّ الله بأبي أنت وأمي ، أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت عليّ ؟ فقال : «أنّكَ لَمْ تَدَعْ لَنا شَيْئا ، قال الله { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها } فرددناها عَلَيْكَ » .
فإت قال قائل : أفواجب ردّ التحية على ما أمر الله به في كتابه ؟ قيل : نعم ، وبه كان يقول جماعة من المتقدمين . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : ما رأيته إلا يوجبه قوله : { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن ، قال : السلام : تطوّع ، والردّ فريضة .
القول في تأويل قوله تعالى : { أنّ اللّهَ كانَ على كُلّ شَيْءٍ حَسِيبا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن الله كان على كل شيء مما تعملون أيها الناس من الأعمال من طاعة ومعصية حفيظا عليكم ، حتى يجازيكم بها جزاءه . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : حسيبا ، قال : حفيظا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وأصل الحسيب في هذا الموضع عندي فَعِيل من الحساب الذي هو في معنى الإحصاء ، يقال منه : حاسبت فلانا على كذا وكذا ، وفلان حاسبه على كذا وهو حسيبه ، وذلك إذا كان صاحب حسابه . وقد زعم بعض أهل البصرة من أهل اللغة أن معنى الحسيب في هذا الموضع : الكافي ، يقال منه : أحسبني الشيء يُحسبني أحسابا ، بمعنى : كفاني ، من قولهم : حسبي كذا وكذا . وهذا غلط من القول وخطأ ، وذلك أنه لا يقال في أحسبت الشيء : أحسبت على الشيء فهو حسيب عليه ، وإنما يقال : هو حسبه وحسيبه ، والله يقول : { إنّ اللّهَ كانَ على كُلّ شَيْءٍ حَسِيبا } .
عطف على جملة { من يشفع شفاعة حسنة } [ النساء : 85 ] باعتبار ما قُصد من الجملة المعطوفة عليها ، وهو الترغيب في الشفاعة الحسنة والتحذير من الشفاعة السيّئة ، وذلك يتضمّن الترغيب في قبول الشفاعة الحسنة ورَدّ الشفاعة السيّئة . وإذ قد كان من شأن الشفيع أن يَدخل على المستشفَع إليه بالسلام استئناساً له لقبول الشفاعة ، فالمناسبة في هذا العطف هي أنّ الشفاعة تقتضي حضور الشفيع عند المشفوع إليه ، وأنّ صفة تلقّي المشفوع إليه للشفيع تؤذن بمقدار استعداده لقبول الشفاعة ، وأنّ أول بَوادر اللقاء هو السلام وردّه ، فعلّم الله المسلمين أدب القبول واللقاء في الشفاعة وغيرها وقد كان للشفاعات عندهم شأن عظيم . وفي الحديث : مرّ رجل فقال رسول الله : ماذا تقولون فيه ؟ قالوا : هذا جدير إن شفع أن يشفَّع . . الحديث حتى إذا قبل المستشفَع إليه الشفاعة كان قد طيَّب خاطر الشفيع ، وإذا لم يقبل كان في حسن التحية مرضاة له على الجملة . وهذا دأب القرآن في انتهاز فرص الإرشاد والتأديب .
وبهذا البيان تنجلي عنك الحيرة التي عرضت في توجيه انتظام هذه الآية مع سابقتها ، وتستغني عن الالتجاء إلى المناسبات الضعيفة التي صاروا إليها .
وقد دلّ قوله : { فحيُّوا بأحسن منها } على الأمر بردّ السلام ، ووجوب الردّ لأنّ أصل صغية الأمر أن يكون للوجوب على مقتضى مذهب الجمهور في محمل صيغة الأمر ، ولذلك اتّفق الفقهاء على وجوب ردّ السلام ، ثم اختلفوا إذا كان المسلَّم عليهم جماعة هل يجب الردّ على كلّ واحد منهم : فقال مالك : هو واجب على الجماعة وجوبَ الكفاية فإذا رَد واحد من الجماعة أجزأ عنهم ، وورد في ذلك حديث صحيح ؛ على أنّه إذا كانت الجماعة كثيرة يصير ردّ الجميع غوغاء . وقال أبو حنيفة : الردّ فرض على كلّ شخص من الجماعة بعينه . ولعلّ دليله في ذلك القياس .
ودلّ قوله : { وإذا حييتم بتحية } على أنّ ابتداء السلام شيء معروف بينهم ، ودليله قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها } وسيأتي في سورة النور ( 27 ) .
وأفاد قوله : { بأحسن منها أو ردّوها } التخيير بين الحالين ، ويُعلم من تقديم قوله : { بأحسنَ منها } أنّ ذلك أفضل .
وحيَيَّ أصله في اللغة دَعَا له بالحياة ، ولعلّه من قبيل النحت من قول القائل : حيّاك الله ، أي وهب لك طول الحياة . فيقال للملك : حياك الله . ولذلك جاء في دعاء التشهَّد ( التحيَّات لِلّه ) أي هو مستحقّها لا ملوك الناس . وقال النابغة :
يُحَيَّوْنَ بالرّيْحَانِ يومَ السَّبَاسِبِ
أي يحيون مع تَقَديم الريحان في يوم عيد الشعانين وكانت التحيّة خاصّة بالملوك بدعاء ( حيّاك الله ) غالباً ، فلذلك أطلقوا التحية على المُلْك في قول زهير بن جَنَّات الكلبي :
ولَكُلّ ما نال الفتى *** قد نلتُه إلاّ التحيَّة
يريد أنّه بلغَ غاية المجد سوى الملك . وهو الذي عناه المعريّ بقوله :
تحيةُ كِسْرى في الثناء وتُبَّعِ *** لِرْبعِكِ لا أرضَى تَحِيَّةَ أرْبُعِ
وهذه الآية من آداب الإسلام : علّم الله بها أن يَردّوا على المسلّم بأحسنَ من سلامه أو بما يماثله ، ليبطل ما كان بين الجاهلية من تفاوت السادة والدهماء . وتكون التحيّة أحسن بزيادة المعنى ، فلذلك قالوا في قوله تعالى : { فقالوا سلاماً قال سلام } [ الذاريات : 25 ] : أنّ تحية إبراهيم كانت أحسن إذ عُبِّر عنها بما هو أقوى في كلام العرب وهو رفع المصدر للدلالة على الثبات وتناسِي الحدوث المؤذن به نصب المصدر ، وليس في لغة إبراهيم مثل ذلك ولكنّه من بديع الترجمة ، ولذلك جاء في تحيّة الإسلام : السلام عليكم ، وفي ردّها وعليكم السلام لأنّ تقديم الظرف فيه للاهتمام بضمير المخاطب . وقال بعض الناس : إنّ الواو في ردّ السلام تفيد معنى الزيادة فلو كان المُسلِّم بلغ غاية التحية أن يقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فإذا قال الرادّ : « وعليكم السلام » الخ ، كان قد ردّها بأحسن منها بزيادة الواو ، وهذا وهم .
ومعنى ( ردّوها ) ردّوا مثلها ، وهذا كقولهم : عندي درهم ونصفه ، لظهور تعذّر ردّ ذات التحيّة ، وقوله تعالى : { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها } [ النساء : 176 ] فعاد ضمير « وهو » وهاء « يرثها » إلى اللفظين لا إلى الذاتين ، ودلّ الأمر على وجوب ردّ السلام ، ولا دلالة في الآية على حكم الابتداء بالسلام ، فذلك ثابت بالسنّة للترغيب فيه . وقد ذكروا أنّ العرب كانوا لا يقدّمون اسم المسلَّم عليه المجرور بعَلى في ابتداء السلام إلاّ في الرثاء ، في مثل قول عبدة بن الطيب :
عليك السلام الله قيس بن عاصم *** ورحمته ما شاء أن يترحّما
عليك سلام من أمير وباركت *** يد الله في ذاك الأديم الممّزق
يرثي عثمان بن عفّان أو عمَر بن الخطاب . روى أبو داوود أنّ جابر بن سليم سلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : عليك السلام يا رسول الله ، فقال له : " إنّ عليك السلامُ تحيةُ الموتى ، قل ، السلام عليك " . والتذييل بقوله : { إنّ الله كان على كلّ شيء حسيباً } لقصد الامتنان بهذه التعليمات النافعة .
والحسيب : العليم وهو صفة مشبَّهة : من حَسِب بكسر السين الذي هو من أفعَال القلب ، فحُوّل إلى فعُل بضمّ عينه لمَّا أريد به أنّ العلم وصف ذاتي له ، وبذلك نقصت تعديته فاقتصر على مفعول واحد ، ثمّ ضمّن معنى المحصي فعدي إليه بعلى . ويجوز كونه من أمثلة المبالغة . قيل : الحسيب هنا بمعنى المحاسب ، كالأكيل والشريب . فعلى كلامهم يكون التذييل وعداً بالجزاء على قدرِ فضل ردّ السلام ، أو بالجزاء السَّيّء على ترك الردّ من أصله ، وقد أكدّ وصف الله بحسيب بمؤكّدين : حرف ( إنّ ) وفعل ( كَانَ ) الدالّ على أنّ ذلك وصف مقرّر أزلي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها}، نزلت في نفر بخلوا بالسلام، {فحيوا بأحسن منها أو ردوها}: فردوا عليه أحسن مما قال، قال: فيقول: وعليك ورحمة الله وبركاته، أو يرد عليه مثل ما سلم عليه. {إن الله كان على كل شيء} من أمر التحية، إن رددت عليها أحسن منها أو مثلها، {حسيبا}: شهيدا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ}: إذا دعي لكم بطول الحياة والبقاء والسلامة. {فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْرُدّوها}: فادعوا لمن دعا لكم بذلك بأحسن مما دعا لكم، {أوْرُدّوها}: أوردّوا التحية.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة التحية التي هي أحسن مما حيا به المحيي، والتي هي مثلها؛
فقال بعضهم: التي هي أحسن منها أن يقول المسلّم عليه إذا قيل: «السلام عليكم»: وعليكم السلام ورحمة الله، ويزيد على دعاء الداعي له¹، والردّ أن يقول: السلام عليكم مثلها، كما قيل له، أو يقول: وعليكم السلام، فيدعو للداعي له مثل الذي دعا له... في أهل الإسلام.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فحيوا بأحسن منها أهل الإسلام، أو ردّوها على أهل الكفر. عن ابن عباس، قال: من سلم عليك من خلق الله، فاردد عليه وإن كان مجوسيّا، فإن الله يقول: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها}.
وأولى التأويلين بتأويل الآية قول من قال ذلك في أهل الإسلام، ووجه معناه إلى أنه يردّ السلام على المسلم إذا حياه تحية أحسن من تحيته أو مثلها. وذلك أن الصحاح من الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه واجب على كل مسلم ردّ تحية كل كافر أحسن من تحيته، وقد أمر الله بردّ الأحسن، والمثل في هذه الآية من غير تمييز منه بين المستوجب ردّ الأحسن من تحيته عليه والمردود عليه مثلها بدلالة يعلم بها صحة قول من قال: عنى بردّ الأحسن المسلم، وبردّ المثل: أهل الكفر.
والصواب إذْ لم يكن في الآية دلالة على صحة ذلك ولا بصحته أثر لازم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يكون الخيار في ذلك إلى المسلّم عليه بين ردّ الأحسن أو المثل إلا في الموضع الذي خصّ شيئا من ذلك سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون مسلما لها. وقد خصت السنة أهل الكفر بالنهي عن ردّ الأحسن من تحيتهم عليهم أو مثلها، إلا بأن يقال: «وعليكم»، فلا ينبغي لأحد أن يتعدّى ما حدّ في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما أهل الإسلام، فإن لمن سلم عليه منهم في الردّ من الخيار ما جعل الله له من ذلك. وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأويل ذلك بنحو الذي قلنا خبر وذلك ما: حدثني موسى بن سهل الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن السريّ الأنطاكي، قال: حدثنا هشام بن لاحق، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهديّ، عن سلمان الفارسي، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليك يا رسول الله! فقال: «وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللّهِ!». ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله! فقال له رسول الله: «وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكاتُهُ!». ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته! فقال له: «وَعَلَيْكَ!» فقال له الرجل: يا نبيّ الله بأبي أنت وأمي، أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت عليّ؟ فقال: «أنّكَ لَمْ تَدَعْ لَنا شَيْئا، قال الله {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها} فرددناها عَلَيْكَ».
فإن قال قائل: أفواجب ردّ التحية على ما أمر الله به في كتابه؟ قيل: نعم، وبه كان يقول جماعة من المتقدمين. عن الحسن، قال: السلام: تطوّع، والردّ فريضة.
{أنّ اللّهَ كانَ على كُلّ شَيْءٍ حَسِيبا}: إن الله كان على كل شيء مما تعملون أيها الناس من الأعمال من طاعة ومعصية حفيظا عليكم، حتى يجازيكم بها جزاءه... وأصل الحسيب في هذا الموضع عندي فَعِيل من الحساب الذي هو في معنى الإحصاء، يقال منه: حاسبت فلانا على كذا وكذا، وفلان حاسبه على كذا وهو حسيبه، وذلك إذا كان صاحب حسابه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} ذكر التحية، ولم يذكر ما تلك التحية؟ واسم التحية تقع على أشياء من نحو ما جعل الصلاة تحية للمسجد، والطرف تحية للبيت وغير ذلك مما يكثر عددها. لكن أهل التأويل أجمعوا على صرف هذه التحية إلى السلام دون غيرها من التحية التي ذكرنا، ألا ترى أنه قال عز وجل: {أو ردوها}؟ ولو كان غيرها أراد لم يقل {أو ردوها} لأن غيرها من التحية لا ترد، إذ في الرد ترك القبول، ولم يأمر بذلك، دل أنه أراد بالتحية السلام. ويدل على ذلك آيات من كتاب الله تعالى؛ قال الله عز وجل {فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله} (النور: 61) فجعل تحية الملائكة للمؤمنين السلام، كقوله تعالى: {سلام عليكم بما صبرتم} (الرعد: 24) وجعل تحية أهل الجنة السلام كقوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما} (مريم: 62) وكقوله تعالى: {وتحيتهم فيها سلام} (يونس: 10) وتحية الملائكة بعضهم على بعض بالسلام، ألا ترى أنه قال عز وجل {فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله}؟ الآية (النور: 61)...
فعلى ذلك يمكن أن يكون المراد من قوله تعالى: {وإذا حييتم بتحية} السلام وجعل الله عز وجل السلام علما وشعارا فيما بين المسلمين وأمانا يؤمن بعضهم بعضا من شره، ألا ترى أن أهل الريبة لا يسلمون، ولا يردون السلام؟ وإن كانوا لا يعرفون تفسيره ولا معناه، ولكن على الطبع جعل ذلك لهم. والسلام: قيل: هو اسم من أسماء الله تعالى، فهو يحتمل وجوها: منها: أنه سلام مسلم طاهر عن الأشباه والأشكال، وسلام عدل منزه عن العيوب كلها والجور والظلم؛ وقوله تعالى: {رحمت الله} (هود: 73) أي برحمته ينجو من نجاء، ويسعد من سعد {وبركاته} به ينال كل خير، وهي اسم كل خير، ألا ترى أن التحليل من الصلاة بقوله صلى الله عليه وسلم:"السلام عليكم ورحمة الله" (الطبراني في الكبير 6114) على ما جعل ترحيمها باسم الله؟ فعلى ذلك جعل الافتتاح بما به جعل الختم... ويسلم الراكب على الماشي، والقائم على القاعد. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنه) قال: "يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القائم، والقائم على الجالس، والصغير على الكبير "(البيهقي في شعب الإيمان 8867). وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، وإن قام، والقوم جلوس، فلسلم، فليست الأولى بأحق من الأخرى" (الترمذي 2706). وعن جابر رضي الله عنه (أنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تشبه بغيرنا فليس منا" (الترمذي 2695) وقال "لا تسلموا تسليم اليهود والنصارى؛ فإن تسليم النصارى بالأكف وتسليم اليهود بالإشارة" (الديلمي في الفردوس 7323)...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
أكثر المفسرين على أن المراد بالتحية هاهنا: السلام، وأصل التحية: هو دعاء بالحياة، وهو في الشريعة عبارة عن السلام، والسلام: دعاء السلامة، وقد تكون التحية بمعنى: الملك والبقاء، ومنه: التحيات لله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
عن أبي يوسف رحمه الله: من قال لآخر: أقرئ فلاناً السلام، وجب عليه أن يفعل. وعن النخعي: السلام سنة والردّ فريضة. وعن ابن عباس: الردّ واجب. وما من رجل يمرّ على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلا نزع عنهم روح القدس وردّت عليه الملائكة. ولا يرد السلام في الخطبة، وقراءة القرآن، جهراً ورواية الحديث، وعند مذاكرة العلم، والأذان، والإقامة، وعن أبي يوسف: لا يسلم على لاعب النرد والشطرنج، والمغني، والقاعد لحاجته، ومطير الحمام، والعاري من غير عذر في حمام أو غيره. وذكر الطحاوي: أن المستحب ردّ السلام على طهارة. قالوا: ويسلم الرجل إذا دخل على امرأته. ولا يسلم على أجنبية. ويسلم الماشي على القاعد. والراكب على الماشي، وراكب الفرس على راكب الحمار، والصغير على الكبير، والأقل على الأكثر. وإذا التقيا ابتدرا. وعن أبي حنيفة: لا تجهر بالرد يعني الجهر الكثير.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّحِيَّةُ تَفْعِلَةٌ مِنْ حَيَّ، وَكَانَ الْأَصْلُ فِيهَا مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَك بِهِ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُك وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِك؛ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالَتْ لَهُ: وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» إلَّا أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: إنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ يَلْقَى أَحَدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ لَهُ: اسْلَمْ، عِشْ أَلْفَ عَامٍ، أَبَيْتَ اللَّعْنَ. فَهَذَا دُعَاءٌ فِي طُولِ الْحَيَاةِ أَوْ طِيبِهَا بِالسَّلَامَةِ مِنْ الذَّامِّ أَوِ الذَّمِّ، فَجُعِلَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ وَالْعَطِيَّةُ الشَّرِيفَةُ بَدَلًا مِنْ تِلْكَ، وَأَعْلَمَنَا أَنَّ أَصْلَهَا آدَم.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ}:
الْأَوَّلُ: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ} أَنَّهُ فِي الْعُطَاسِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُشَمِّتِ.
الثَّانِي: إذَا دُعِيَ لِأَحَدِكُمْ بِطُولِ الْبَقَاءِ فَرُدُّوا عَلَيْهِ أَوْ بِأَحْسَنَ مِنْهُ.
الثَّالِثُ: إذَا قِيلَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ جَوَابَ كِتَابٍ، فَقَالَ فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالسَّلَامُ لِهَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}. فَاسْتَشْهَدَ مَالِكٌ فِي هَذَا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَدِّ الْجَوَابِ إذَا رَجَعَ الْجَوَابُ عَلَى حَقٍّ. كَمَا رُوِيَ رَجَعَ الْمُسْلِمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}:
أَحَدُهُمَا: أَحْسَنَ مِنْهَا أَيْ الصِّفَةِ، إذَا دَعَا لَك بِالْبَقَاءِ فَقُلْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّهَا أَحْسَنُ مِنْهَا فَإِنَّهَا سُنَّةُ الْآدَمِيَّةِ، وَشَرِيعَةُ الْحَنِيفِيَّةِ.
الثَّانِي: إذَا قَالَ لَك سَلَامٌ عَلَيْك فَقُلْ: وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ رُدُّوهَا}:
اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا فِي السَّلَامِ.
الثَّانِي: أَنَّ أَحْسَنَ مِنْهَا هُوَ فِي الْمُسْلِمِ، وَأَنَّ رَدَّهَا بِعَيْنِهَا هُوَ فِي الْكَافِرِ؛ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إذَا سَلَّمُوا عَلَيْك قَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقُولُوا عَلَيْكُمْ». كَذَلِكَ كَانَ سُفْيَانُ يَقُولُهَا. وَالْمُحْدَثُونَ يَقُولُونَ بِالْوَاوِ، وَالصَّوَابُ سُقُوطُ الْوَاوِ؛ لِأَنَّ قَوْلَنَا لَهُمْ: عَلَيْكُمْ رَدٌّ، وَقَوْلَنَا وَعَلَيْكُمْ مُشَارَكَةٌ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَكَانَتْ عَائِشَةُ مَعَ النَّبِيِّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتِ الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْك السَّامُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ فَفَهِمَتْ عَائِشَةُ قَوْلَهُمْ؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْلًا يَا عَائِشَةُ فَقَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْت عَلَيْكُمْ؟ إنَّهُ يُسْتَجَابُ لَنَا فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيّ».
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:...
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى السَّلَام عَلَيْكُمْ، فَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرُ سَلَّمَ يُسَلِّمُ سَلَامَةً وَسَلَامًا، كَلَذَاذَةٍ وَلَذَاذًا، وَقِيلَ لِلْجَنَّةِ دَارُ السَّلَامِ، لِأَنَّهَا دَارُ السَّلَامَةِ مِنَ الْفَنَاءِ وَالتَّغَيُّرِ وَالْآفَاتِ.
وَقِيلَ: السَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ، وَلَا يُدْرِكُهُ آفَاتُ الْخَلْقِ. فَإِذَا قُلْت: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَيَحْتَمِلُ اللَّهُ رَقِيبٌ عَلَيْكُمْ. وَإِنْ أَرَدْت بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ عَقْدُ السَّلَامَةِ وَذِمَامُ النَّجَاةِ.
حَدَّثَنَا الْحَضْرَمِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مُنِيرٍ، أَخْبَرَنَا النَّيْسَابُورِيُّ، أَنْبَأَنَا النسائيّ، أَنْبَأْنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: «قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَتَدْرِي مَا السَّلَامُ؟ تَقُولُ: أَنْتَ مِنِّي آمِنٌ».
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ وَرَدُّهُ فَرْضٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنْهُمْ: السَّلَامُ وَرَدُّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إنْ كَانَتْ جَمَاعَةً، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا كَفَى وَاحِدٌ.
فَالسَّلَامُ فَرْضٌ مَعَ الْمَعْرِفَةِ، سُنَّةٌ مَعَ الْجَهَالَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ إنْ لَمْ تُسَلِّمْ عَلَيْهِ تَغَيَّرَتْ نَفْسُهُ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ السَّلَامُ عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ: مِنْ قَائِمٍ عَلَى قَاعِدٍ، وَمَارٍّ عَلَى جَالِسٍ، وَقَلِيلٍ عَلَى كَثِيرٍ، وَصَغِيرٍ عَلَى كَبِيرٍ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِهِ.
الأول: أنه لما أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم أيضا بأن الأعداء لو رضوا بالمسألة فكونوا أنتم أيضا راضين بها، فقوله: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} كقوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}.
الثاني: أن الرجل في الجهاد كان يلقاه الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه، فقد لا يلتفت إلى سلامه عليه ويقتله، وربما ظهر أنه كان مسلما، فمنع الله المؤمنين عنه وأمرهم أن كل من يسلم عليهم ويكرمهم بنوع من الإكرام يقابلونه بمثل ذلك الإكرام أو أزيد، فإنه إن كان كافرا لا يضر المسلم إن قابل إكرام ذلك الكافر بنوع من الإكرام، أما إن كان مسلما وقتله ففيه أعظم المضار والمفاسد... وفي الآية مسائل:
المسألة الثانية: اعلم أن عادة العرب قبل الإسلام أنه إذا لقي بعضهم بعضا قالوا: حياك الله واشتقاقه من الحياة كأنه يدعو له بالحياة، فكانت التحية عندهم عبارة عن قول بعضهم لبعض حياك الله، فلما جاء الإسلام أبدل ذلك بالسلام، فجعلوا التحية اسما للسلام. قال تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} ومنه قول المصلي: التحيات لله، أي السلام من الآفات لله... واعلم أن قول القائل لغيره: السلام عليك أتم وأكمل من قوله: حياك الله، وبيانه من وجوه: الأول: أن الحي إذا كان سليما كان حيا لا محالة، وليس إذا كان حيا كان سليما، فقد تكون حياته مقرونة بالآفات والبليات، فثبت أن قوله: السلام عليك أتم وأكمل من قوله: حياك الله.
الثاني: أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فالابتداء بذكر الله أو بصفة من صفاته الدالة على أنه يريد إبقاء السلامة على عباده أكمل من قوله: حياك الله. الثالث: أن قول الإنسان لغيره: السلام عليك فيه بشارة بالسلامة، وقوله: حياك الله لا يفيد ذلك، فكان هذا أكمل.
ومما يدل على فضيلة السلام القرآن والأحاديث والمعقول؛
الأول: اعلم أن الله تعالى سلم على المؤمن في اثني عشر موضعا: أولها: أنه تعالى كأنه سلم عليك في الأزل، ألا ترى أنه قال في وصف ذاته: {الملك القدوس السلام}.
وثانيها: أنه سلم على نوح وجعل لك من ذلك السلام نصيبا، فقال: {قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك} والمراد منه أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وثالثها: سلم عليك على لسان جبريل، فقال:
{تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر} قال المفسرون: إنه عليه الصلاة والسلام خاف على أمته أن يصيروا مثل أمة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، فقال الله: لا تهتم لذلك فإني وإن أخرجتك من الدنيا، إلا أني جعلت جبريل خليفة لك، ينزل إلى أمتك كل ليلة قدر ويبلغهم السلام مني.
ورابعها: سلم عليك على لسان موسى عليه السلام حيث قال: {والسلام على من اتبع الهدى} فإذا كنت متبع الهدى وصل سلام موسى إليك. وخامسها: سلم عليك على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: {الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى} وكل من هدى الله إلى الإيمان فقد اصطفاه، كما قال: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا}. وسادسها: أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بالسلام على سبيل المشافهة، فقال: {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم}. وسابعها: أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالتسليم عليك قال: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها}.
وثامنها: سلم عليك على لسان ملك الموت فقال: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم}.
وتاسعها: السلام من الأرواح الطاهرة المطهرة، قال تعالى: {وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين}.
وعاشرها: سلم الله عليك على لسان رضوان خازن الجنة فقال تعالى: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا} إلى قوله: {وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم}. والحادي عشر: إذا دخلوا الجنة فالملائكة يزورونهم ويسلمون عليهم قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}. والثاني عشر: السلام من الله من غير واسطة وهو قوله: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} وقوله: {سلام قولا من رب رحيم} وعند ذلك يتلاشى سلام الكل لأن المخلوق لا يبقى على تجلي نور الخالق.
الوجه الثاني: من الدلائل القرآنية الدالة على فضيلة السلام أن أشد الأوقات حاجة إلى السلامة والكرامة ثلاثة أوقات: وقت الابتداء، ووقت الموت، ووقت البعث، والله تعالى لما أكرم يحيى عليه السلام فإنما أكرمه بأن وعده السلام في هذه الأوقات الثلاثة فقال: {وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا} وعيسى عليه السلام ذكر أيضا ذلك فقال: {والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا}.
الوجه الثالث: أنه تعالى لما ذكر تعظيم محمد عليه الصلاة والسلام قال:
{إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}...
وأما ما يدل من الأخبار على فضيلة السلام فما روي أن عبد الله بن سلام قال: لما سمعت بقدوم الرسول عليه الصلاة والسلام دخلت في غمار الناس، فأول ما سمعت منه: « يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصِلوا الأرحام وصَلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام».
وأما ما يدل على فضل السلام من جهة المعقول فوجوه:
الأول: قالوا: تحية النصارى وضع اليد على الفم، وتحية اليهود بعضهم لبعض الإشارة بالأصابع، وتحية المجوس الانحناء، وتحية العرب بعضهم لبعض أن يقولوا: حياك الله، وللملوك أن يقولوا: أنعم صباحا، وتحية المسلمين بعضهم لبعض أن يقولوا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، ولا شك أن هذه التحية أشرف التحيات وأكرمها.
الثاني: أن السلام مشعر بالسلامة من الآفات والبليات. ولا شك أن السعي في تحصيل الصون عن الضرر أولى من السعي في تحصيل النفع. الثالث: أن الوعد بالنفع يقدر الإنسان على الوفاء به وقد لا يقدر، أما الوعد بترك الضرر فإنه يكون قادرا عليه لا محالة، والسلام يدل عليه. فثبت أن السلام أفضل أنواع التحية.
المسألة العاشرة: المصافحة عند السلام عادة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: «إذا تصافح المسلمان تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر».
المسألة الثانية عشرة: إذا استقبلك رجل واحد فقل سلام عليكم، واقصد الرجل والملكين فإنك إذا سلمت عليهما ردا السلام عليك، ومن سلم الملك عليه فقد سلم من عذاب الله.
المسألة الثالثة عشرة: إذا دخلت بيتا خاليا فسلم، وفيه وجوه: الأول: إنك تسلم من الله على نفسك. والثاني: إنك تسلم على من فيه من مؤمني الجن. والثالث: أنك تطلب السلامة ببركة السلام ممن في البيت من الشياطين والمؤذيات.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ذلك موجباً للإعراض عنهم رأساً ومنابذتهم قولاً وفعلاً، وبين سبحانه وتعالى أن التحية ليست من وادي الشفاعة، وأن الشفاعة تابعة للعمل، والتحية تابعة للظاهر، فقال سبحانه وتعالى عاطفاً على ما تقديره: فلا تشفعوا فيهم وأنتم تعلمون سوء مقاصدهم، فقال معبراً بأداة التحقق بشارة لهم بأنهم يصيرون -بعد ما هم فيه الآن من النكد- ملوكاً، وفي حكم الملوك، يحبون ويشفع عندهم، وحثاً على التواضع: {وإذا حييتم بتحية} أي تحية كانت إذا كانت مشروعة، وأصل التحية الملك، واشتقاقها من الحياة، فكأن حياة الملك هي الحياة، وما عداها عدم، ثم أطلقت على كل دعاء يبدأ به عند اللقاء؛ وقال الأصبهاني: لفظ التحية صار كناية عن الإكرام، فجميع أنواع الإكرام تدخل تحت لفظ التحية {فحيوا بأحسن منها} كأن تزيدوا عليها {أو ردوها} أي من غير زيادة ولا نقص، وذلك دال على وجوب رد السلام -من الأمر، وعلى الفور- من الفاء والإجماع موافق لذلك، وترك الجواب إهانة، والإهانة ضرر، والضرر حرام؛ قال الأصبهاني: والمبتدئ يقول: السلام عليكم، والمجيب يقول: وعليكم السلام، ليكون الافتتاح والاختتام بذكر الله سبحانه وتعالى.
وما أحسن جعلها تالية لآية الجهاد إشارة إلى أن من بذل السلام وجب الكف عنه ولو كان في الحرب، على أن من مقتضيات هاتين الآيتين أن مبني هذه السورة على الندب إلى الإحسان والتعاطف والتواصل، وسبب ذلك إما المال وقد تقدم الأمر به في قوله تعالى {وإذا حضر القسمة} [النساء: 8]، وإما غيره ومن أعظمه القول، لأنه ترجمان القلب الذي به العطف، ومن أعظم ذلك الشفاعة والتحية، قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم والأربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه "والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم "فناسب ذكر هاتين الآيتين بعد ذكر آية الجهاد المختتمة بالبأس والتنكيل.
ولما كانت الشفاعة أعظمها في الإحسان قدمت ولا سيما و موجبها الإعراض، ومقصد السورة التواصل، فشأنها أهم والنظر إليها آكد، ثم رغب في الإحسان في الرد، ورهب من تركه بقوله معللاً: {إن الله} أي الذي له الإحاطة علماً وقدرة {كان} أي أزلاً وأبداً {على كل شيء حسيباً} أي محصياً لجميع المتعددات دقيقها وجليلها، كافياً لها في أقواتها ومثوباتها، محاسباً بها، مجازياً عليها، وذلك كله شأن المقيت.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بعد أن علم الله المؤمنين طريقة الشفاعة الحسنة والسيئة وهي من أسباب التواصل بين الناس، علّمهم سنة التحية بينهم وبين إخوانهم الضعفاء والأقوياء في الإيمان وحسن الأدب بينهم وبين من يلقونه في أسفارهم فقال: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها}، وهذا ما يراه الأستاذ في وجه الاتصال والمناسبة بين الآية والتي قبلها...
التحية مصدر حياة إذا قال له حيّاك الله. هذا هو الأصل ثم صارت التحية اسما لكل ما يقوله المرء لمن يلاقيه أو يقبل هو عليه من نحو دعاء أو ثناء كقولهم أنعم صباحا وأنعم مساء، وقالوا عم صباحا ومساء، وجعلت تحية المسلمين السلام للإشعار بأن دينهم دين السلام والأمان وأنهم أهل السلم ومحبو السلامة، ومن التحيات الشائعة في بلادنا إلى هذا اليوم: أسعد الله صباحكم، أسعد الله مساءكم وهذا بمعنى قول العرب القدماء أنعم صباحا ومساء ونهارك سعيد، وليلتك سعيدة وهذا مترجم عن الإفرنجية.
وقد أوجب الله تعالى علينا في هذه الآية أن نجيب من حيانا بأحسن من تحيته أو بمثلها أو عينها كأن نقول له الكلمة التي يقولها وهذا هو ردها، وفسروه بأن تقول لمن قال السلام عليكم، بقولك وعليكم السلام، والأحسن أي تقول وعليكم السلام ورحمة الله، فإذا قال هذا في تحيته فالأحسن أن تقول وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وهكذا يزيد المجيب على المبتدئ كلمة أو أكثر. وأقول قد يكون أحسن الجواب بمعناه أو كيفية أدائه وإن كان بمثل لفظ المبتدئ بالتحية أو مساويه في الألفاظ أو ما هو أخصر منه، فمن قال لك أسعد الله صباحكم ومساءكم، فقلت له أسعد الله جميع أوقاتكم كانت تحيتك أحسن من تحيته، ومن قال لك السلام عليكم بصوت خافت يشعر بقلة العناية فقلت له وعليكم السلام بصوت أرفع وإقبال يشعر بالعناية وزيادة الإقبال والتكريم كنت قد حييته بتحية أحسن من تحيته في صفتها، وإن كانت مثلها في لفظها. والناس يفرقون في القيام للزائرين بين من يقوم بحركة خفيفة وهمة تشعر بزيادة العناية ومن يقوم متثاقلا، ومن أهل دمشق من يشترطون في العناية بالقيام إظهار الاندهاش فيقولون قام له باندهاش أو قام بغير اندهاش.
علم من الآية أن الجواب عن التحية له مرتبتان أدناهما ردها بعينها وأعلاهما الجواب عنها بأحسن منها. فالمجيب مخير وله أن يجعل الأحسن لكرام الناس كالعلماء والفضلاء، ورد عين التحية لمن دونهم. وروي عن قتادة وابن زيد أن جواب التحية بأحسن منها للمسلمين وردها بعينها لأهل الكتاب، وقيل للكفار عامة. ولا دليل على هذه التفرقة من لفظ الآية ولا من السنة. وقد روى ابن جرير عن ابن عباس (رضي الله عنه) أنه قال من سلم عليك من خلق الله فرد عليه وإن كان مجوسيا فإن الله يقول: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} أقول وقد نزلت هذه الآية في سياق أحكام الحرب ومعاملة المحاربين والمنافقين ومن قال لخصمه "السلام عليكم "فقد أمنه على نفسه وكانت العرب تقصد هذا المعنى والوفاء من أخلاقهم الراسخة ولذلك عدّ الأستاذ الإمام ذكر التحية مناسبا للسياق بكونها من وسائل السلام، ولما صار لفظ السلام تحية المسلمين صارت التحية به عنوانا على الإسلام كما يأتي في قوله تعالى من هذه السورة {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} [النساء:94].
ومما ينبغي بيانه هنا أن بعض المسلمين يكرهون أن يحييهم غيرهم بلفظ السلام ويرون أنه لا ينبغي رد السلام على غير المسلم، أي يرون أنه لا ينبغي لغير المسلم أن يتأدب بشيء من آداب الإسلام، وفاتهم أن الآداب الإسلامية إذا سرت في قوم يألفون المسلمين ويعرفون فضل دينهم وربما كان ذلك أجذب لهم إلى الإسلام، ومن صفات المؤمن أنه يألف ويؤلف، وقد سئلت عن هذه الآية وآية النور: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} [النور:27] هل السلام فيهما على إطلاقه وعمومه فيشمل المسلمين أم هو خاص بالمسلمين فأجبت في المجلد الخامس من المنار (ص853 -585) بما نصه:
ج: إن الإسلام دين عام ومن مقاصده نشر آدابه وفضائله في الناس ولو بالتدريج وجذب بعضهم إلى بعض ليكون البشر كلهم إخوة. ومن آداب الإسلام التي كانت فاشية في عهد النبوة إفشاء السلام إلا مع المحاربين لأن من سلم على أحد فقد أمنه فإذا فتك به بعد ذلك كان خائنا ناكثا للعهد. وكان اليهود يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فيرد عليهم السلام حتى كان من بعض سفهائهم تحريف السلام بلفظ (السام) أي الموت فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجيبهم بقوله: (وعليكم) وسمعت عائشة واحدا منهم يقول له: السام عليك. فقالت له: وعليك السام واللعنة. فانتهرها عليه الصلاة والسلام مبينا لها أن المسلم لا يكون فاحشا ولا سبابا وأن الموت علينا وعليهم. وروي عن بعض الصحابة كابن عباس أنهم كانوا يقولون للذمي: السلام عليك. وعن الشعبي من أئمة السلف أنه قال لنصراني سلم عليه: عليك السلام ورحمة الله تعالى. قيل له في ذلك فقال "أليس في رحمة الله يعيش "وفي حديث البخاري الأمر بالسلام على من تعرف ومن لا تعرف. وروى ابن المنذر عن الحسن أنه قال: {فحيوا بأحسن منها} للمسلمين {أو ردّوها} لأهل الكتاب وعليه يقال للكتابي في رد السلام عين ما يقوله وإن كان فيه ذكر الرحمة.
هذه لمحة مما روي عن السلف ثم جاء الخلف فاختلفوا في السلام على غير المسلم فقال كثيرون إنهم لا يُبدؤون بالسلام لحديث ورد في ذلك وحملوا ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على الحاجة أي لا يسلم عليهم ابتداء إلا لحاجة. وأما الرد فقال بعض الفقهاء إنه واجب كرد سلام المسلم وقال بعضهم إنه سنة وفي الخانية من كتب الحنفية: ولو سلم يهودي أو نصراني أو مجوسي فلا بأس بالرد. وهذا يدل على أنه مباح عند هذا القائل لا واجب ولا مسنون مع أن السنة وردت به في الصحيح.
أما ما ورد من حق المسلم على المسلم فلا ينافي حق غيره، فالسلام حق عام، ويراد به أمران: مطلق التحية وتأمين من تسلم عليه من الغدر والإيذاء وكل ما يسئ، وقد روى الطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة: "أن الله تعالى جعل السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا" وأكثر الأحاديث التي وردت في السلام عامة وذكر في بعضها المسلم كما ذكر في بعضها غيره كحديث الطبراني المذكور آنفا.
أما جعل تحية الإسلام عامة فعندي أن ذلك مطلوب وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن اليهود كانوا يسلمون على المسلمين فيردون عليهم فكان من تحريفهم ما كان سببا لأمر النبي صلى الله تعالى عليه والسلم بأمر المسلمين أن يردوا عليهم بلفظ "وعليكم" حتى لا يكونوا مخدوعين للمحرفين. ومن مقتضى القواعد أن الشيء يزول بزوال سببه. ولم يرد أن أحدا من الصحابة نهى اليهود عن السلام، لأنهم لم يكونوا ليحظروا على الناس آداب الإسلام، ولكن خلف من بعدهم خلف أرادوا أن يمنعوا غير المسلم من كل شيء يعمله المسلم حتى من النظر في القرآن وقراءة الكتب المشتملة على آياته وظنوا أن هذا تعظيم للدين، وصون له عن المخالفين، وكلما زادوا بعدا عن حقيقة الإسلام زادوا إيغالا في هذا الضرب من التعظيم، وإنهم ليشاهدون النصارى في هذا العصر يجتهدون بنشر دينهم ويوزعون كثيرا من كتبه على الناس مجانا ويعلمون أولاد المخالفين لهم في مدارسهم ليقربوهم من دينهم ويجتهدون في تحويل الناس إلى عاداتهم وشعائرهم ليقربوا من دينهم... ومع هذا كله نرى المسلمين لا يزالون يحبون منع غيرهم من الأخذ بآدابهم وعاداتهم ويزعمون أن هذا تعظيم للدين، وكأن هذا التعظيم لا نهاية له إلا حجب هذا الدين عن العالمين، إن هذا لهو البلاء المبين، وسيرجعون عنه بعد حين "اه.
هذا ما أفتينا به منذ بضع سنين وحديث عائشة المشار إليه في الفتوى رواه الشيخان في صحيحيهما. والرد على أهل الكتاب" بلفظ وعليكم "رواه الشيخان أيضا عن أنس، ورويا عن أبي هريرة عدم ابتدائنا إياهم بالسلام ولعل ذلك كان لأسباب خاصة اقتضاها ما كان بينهم وبين المسلمين من الحروب وكانوا هم المعتدين فيها، روى أحمد عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني راكب غدا إلى اليهود فلا تبدؤوهم بالسلام وإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم) 296 فيظهر هنا أنه نهاهم أن يبدؤوهم لأن السلام تأمين وما كان يحب أن يؤمنهم وهو غير أمين منهم لما تكرر من غدرهم ونكثهم للعهد معه فكان ترك السلام عليهم تخويفا لهم ليكونوا أقرب إلى المواتاة، وقد نقل النووي في شرح مسلم جواز ابتدائهم بالسلام عن ابن عباس وأبي أمامة وابن محيريز (رضي الله عنه) قال وهو وجه لأصحابنا. وعندي أن الحاجة إلى معرفة سبب الأحاديث لأجل فهم المراد منها أشد من الحاجة إلى معرفة سبب نزول القرآن، لأن القرآن كله هداية عامة للناس يجب تبليغها، وفي الأحاديث ما ليس فيه من الأمور الخاصة والرأي الذي لم يقصد به أن يكون دينا ولا هداية عامة ولا أن يبلغ للناس، فتوقف فهمها على معرفة أسبابها أظهر.
والذي عليه جماهير المسلمين في البلاد التي نعرفها أنهم يبدؤون أهل الكتاب بغير السلام من أنواع التحية المعروفة. بعد كتابة هذا راجعت (زاد المعاد) فإذا هو يقول في حديث النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام:"قيل إن هذا كان في قضية خاصة لما ساروا إلى بني قريظة "وتردد في كونه حكما عاما لأهل الذمة أو خاصا بمن كانت حاله مثل حالهم وذكر خلاف السلف في المسألة بعد حديث مسلم المطلق في النهي عن الابتداء.
هذا وإن ابتداء السلام سنة مؤكدة عند الجمهور وقيل واجب، وأما رده فالجمهور على وجوبه. وظاهر الآية أن رد كل تحية واجب وليس الوجوب خاصا بتحية السلام. ويكفي أن يسلم بعض الجماعة وأن يرد بعض من يلقى عليهم السلام لأن الجماعة لتضامنها واتحادها، يقوم فيها الواحد مقام الجميع.
والسنة أن يسلم القادم على من يقدم عليهم وإذا تلاقى الرجلان فالسنة أن يبدأ الكبير في السن أو القدر بالسلام.
ومن آداب السلام ما ثبت في الصحيحين أنه" يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير "وروى البخاري سلام الصغير على الكبير. ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم مرّ بصبيين فسلم عليهم. والترمذي أنه مرّ بنسوة فأومأ بيده بالتسليم، وقال بعض العلماء المستحب أن يسلم الرجال على النساء المحارم مطلقا والعجائز الأجنبيات دون غيرهن. وكان (صلى الله عليه وسلم) يسلم على القوم عند المجيء وعند الانصراف. ذكره ابن القيم في الهدي وقال وكان يسلم بنفسه على من يواجهه ويحمل السلام لمن يريد السلام عليه من الغائبين عنه ويتحمل السلام لمن يبلغه إليه، وإذا بلغه أحد السلام عن غيره يرد عليه وعلى المبلغ به وكان يبدأ من لقيه بالسلام، وإذا سلم عليه أحد رد عليه مثل تحيته أو أفضل منها على الفور من غير تأخير إلا لعذر مثل حالة الصلاة وحالة قضاء الحاجة، وكان يسمع المسلم عليه رده، ولم يكن يرد بيده ولا رأسه ولا إصبعه إلا في الصلاة فإنه كان يرد إشارة. ثبت عنه ذلك في عدة أحاديث ولم يجيء عنه ما يعارضها إلا بشيء باطل لا يصح عنه (وذكر الحديث الذي يرويه أبو عطفان عن أبي هريرة في إعادة صلاة من أشار إشارة تفهم وأبو عطفان مجهول).
وورد في صفات المسلمين في حديث الصحيحين إفشاء السلام وكونه سبب الحب بينهم، ومنها حديث (أن أفضل الإسلام وخيره إطعام الطعام وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) وصح (أفشوا السلام بينكم تحابوا) رواه الحاكم عن أبي موسى و (أفشوا السلام تسلموا) رواه البخاري في الأدب المفرد وأبو يعلى وابن حبان عن البراء، وفي صحيح البخاري قال عمّار: ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان (الإنصاف من نفسك وبذل السلام للعالم والإنفاق من الإقتار) فهذا من أدب الإسلام العالي الذي لا يكاد يجمعه غيره.
{إن الله كان على كل شيء حسيبا} الحسيب المحاسب على العمل كالجليس بمعنى المجالس قال الراغب ويطلق على المكافئ وقال بعضهم معناه الكافي من حسبك كذا إذا كان يكفيك. قال الأستاذ الإمام المعنى أنه رقيب عليكم في مراعاة هذه الصلة بينكم بالتحية وفيه تأكيد لأمر هذه الصلة بين الناس وأقوال إن فيها أيضا إشعارا بحظر ترك إجابة من يسلم علينا ويحيينا وأنه تعالى يحاسبنا على ذلك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم استطرد السياق بعد ذكر الشفاعة إلى الأمر برد التحية بخير منها أو بمثلها. والتحية في المجتمع علاقة من العلاقات التي تدور بها عجلة الحياة في يسر، إذا اتبع الأدب الواجب فيها.. والمناسبة قريبة بينها -في جو المجتمع- وبين الشفاعة التي سبق التوجيه فيها:
وقد جاء الإسلام بتحيته الخاصة، التي تميز المجتمع المسلم؛ وتجعل كل سمة فيه -حتى السمات اليومية العادية- متفردة متميزة؛ لا تندغم ولا تضيع في سمات المجتمعات الأخرى ومعالمها..
جعل الإسلام تحيته:"السلام عليكم" أو "السلام عليكم ورحمة الله "أو "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته".. والرد عليها بأحسن منها بالزيادة على كل منها -ما عدا الثالثة فلم تبق زيادة لمستزيد- فالرد على الأولى [وعليكم السلام ورحمة الله] والرد على الثانية [وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته]. والرد على الثالثة [وعليكم..] إذ أنها استوفت كل الزيادات، فترد بمثلها... وهكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم..
ونقف أمام اللمسات الكامنة في آية التحية هذه:
إنها -أولا- تلك السمة المتفردة، التي يحرص المنهج الإسلامي على أن يطبع بها المجتمع المسلم بحيث تكون له ملامحه الخاصة، وتقاليده الخاصة -كما أن له شرائعه الخاصة ونظامه الخاص- وقد سبق أن تحدثنا عن هذه الخاصية بالتفصيل عند الكلام عن تحويل القبلة، وتميز الجماعة المسلمة بقبلتها، كتميزها بعقيدتها. وذلك في سورة البقرة من قبل في الظلال.
وهي -ثانيا- المحاولة الدائمة لتوثيق علاقات المودة والقربى بين أفراد الجماعة المسلمة.. وإفشاء السلام، والرد على التحية بأحسن منها، من خير الوسائل لإنشاء هذه العلاقات وتوثيقها. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل خير؟ قال:"تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف".. هذا في إفشاء السلام بين الجماعة المسلمة ابتداء. وهو سنة. أما الرد عليها فهو فريضة بهذه الآية.. والعناية بهذا الأمر تبدو قيمتها عند الملاحظة الواقعية لآثار هذا التقليد في إصفاء القلوب، وتعارف غير المتعارفين؛ وتوثيق الصلة بين المتصلين.. وهي ظاهرة يدركها كل من يلاحظ آثار مثل هذا التقليد في المجتمعات، ويتدبر نتائجها العجيبة!
وهي -ثالثا- نسمة رخية في وسط آيات القتال قبلها وبعدها.. لعل المراد منها أن يشار إلى قاعدة الإسلام الأساسية.. السلام.. فالإسلام دين السلام. وهو لا يقاتل إلا لإقرار السلام في الأرض، بمعناه الواسع الشامل. السلام الناشئ من استقامة الفطرة على منهج الله.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
تجاوب المسلم مع المبادرات الروحية:
إن الله يريد للإنسان المسلم أن يعبر عن تجاوبه وتفاعله مع كل المبادرات الروحية والعاطفية؛ فإذا حيّاه إنسان بتحية، فعليه أن يردها بتحية مماثلة أو أحسن منها، لأن التحية بادرة محبة وعاطفة، ولا سيما إذا كانت التحية تحية الإسلام، وهي كلمة «السلام عليكم»، لأن هذه الكلمة توحي بكل الأحاسيس والأفكار والأجواء التي تحملها كلمة السلام، في ما توحيه من المبادرة التي يقدمها الإنسان لأخيه، ليعبر له فيها بأن علاقته به هي العلاقة التي توحي بالأمن والطمأنينة وعدم الاعتداء، ويطلب منه أن يبادله بها، سلاماً بسلام، ومحبة بمحبة. والله لا يريد من الإنسان أن يتنكر لهذه الدعوة ولهذه العاطفة، ولذا اعتبر ردّ السلام واجباً عند الفقهاء، انطلاقاً من هذه الآية. وقد يكون ذلك أحد الوسائل الإسلامية التي يستهدف الإسلام منها توثيق الروابط بين الناس وبين المؤمنين بشكل خاص، وللتأكيد على أن يكون الإنسان إيجابياً في هذا المجال، فيمد اليد بكل محبة لليد التي تمتد إليه لتصافحه أو لتصالحه أو لتعاهده، في حدود العلاقات الإنسانية التي لا تتنكر للمبادئ والقيم...
وقد يظهر من الآية أنّ التحية، إذا استوحينا منها المعنى العام، كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمامين الباقر والصادقصلى الله عليه وسلم أن المراد بالتحية في الآية السلام وغيره من البرّ تشمل كل مبادرة صادرة من الإنسان تجاه الإنسان الآخر، كالرسالة المعبرة عن الحب، وبطاقات المعايدة والهدية والزيارة، مما يصدق عليه كلمة التحية عرفاً...