القول في تأويل قوله تعالى : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فاسَتْجَبْنَا ليونس دعاءه إيانا ، إذ دعانا في بطن الحوت ، ونجيناه من الغمّ الذي كان فيه بحبْسناه في بطن الحوت وغمه بخطيئته وذنبه وكذَلكَ نُنْجِي المُؤْمِنِينَ يقول جلّ ثناؤه : وكما أنجينا يونس من كرب الحبس في بطن الحوت في البحر إذ دعانا ، كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمران بن بكار الكُلاعيّ ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن ، قال : ثني بشر بن منصور ، عن عليّ بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : سمعت سعد بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «اسْمُ اللّهِ الّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أجابَ وَإذَا سُئلَ بِهِ أعْطَى ، دَعْوَةُ يُونُسَ بْنِ مَتّى » . قال : فقلت : يا رسول الله ، هي ليونس بن متى خاصة أم لجماعة المسلمين ؟ قالَ : «هيَ لِيُونُسَ بْنِ مَتّى خاصّةً ، وللْمُؤْمِنِينَ عامّةً إذَا دَعَوْا بِها ألَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللّهِ تَبارَكَ وَتَعالى فَنادَى فِي الظّلُماتِ أنْ لا إلَهَ إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ فاسْتَجَبْنا لَهُ وَنّجيّنْاهُ مِنَ الغَمّ وكَذلكَ نُنْجِي المُؤْمنينَ ؟ فهو شرط الله لمن دعاه بها » .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : نُنْجِي المُؤْمِنِينَ فقرأت ذلك قرّاء الأمصار ، سوى عاصم ، بنونين الثانية منهما ساكنة ، من أنجيناه ، فنحن ننجيه . وإنما قرءوا ذلك كذلك وكتابته في المصاحف بنون واحدة ، لأنه لو قرىء بنون واحدة وتشديد الجيم ، بمعنى ما لم يسمّ فاعله ، كان «المؤمنون » رفعا ، وهم في المصاحف منصوبون ، ولو قرىء بنون واحدة وتخفيف الجيم ، كان الفعل للمؤمنين وكانوا رفعا ، ووجب مع ذلك أن يكون قوله «نجى » مكتوبا بالألف ، لأنه من ذوات الواو ، وهو في المصاحف بالياء .
فإن قال قائل : فكيف كتب ذلك بنون واحد ، وقد علمت أن حكم ذلك إذا قرىء : نُنْجِي أن يُكتب بنونين ؟ قيل : لأن النون الثانية لما سكنت وكان الساكن غير ظاهر على اللسان حذفت كما فعلو ذلك ب «إلاّ » لا ، فحذفوا النون من «إنْ » لخفائها ، إذ كانت مندغمة في اللام من «لا » . وقرأ ذلك عاصم : «نُجّي المُؤمِنِينَ » بنون واحدة ، وتثقيل الجيم ، وتسكين الياء . فإن يكن عاصم وجه قراءته ذلك إلى قول العرب : ضرب الضرب زيدا ، فكنى عن المصدر الذي هو النجاء ، وجعل الخبر أعني خبر ما لم يسمّ فاعله المؤمنين ، كأنه أراد : وكذلك نُجّي النّجاءُ المؤمنين ، فكنى عن النجاء فهو وجه ، وإن كان غيره أصوب ، وإلا فإن الذي قرأ من ذلك على ما قرأه لحنّ ، لأن المؤمنين اسم على القراءة التي قرأها ما لم يسمّ فاعله ، والعرب ترفع ما كان من الأسماء كذلك . وإنما حمل عاصما على هذه القراءة أنه وجد المصاحف بنون واحدة وكان في قراءته إياه على ما عليه قراءة القرّاء إلحاق نون أخرى ليست في المصحف ، فظنّ أن ذلك زيادة ما ليس في المصحف ، ولم يعرف لحذفها وجها يصرفه إليه .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة التي لا أستجيز غيرها في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، من قراءته بنونين وتخفيف الجيم ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها وتخطئتها خلافه .
الاستجابة : مبالغة في الإجابة . وهي إجابة توبته مما فرط منه . والإنجاء وقع حين الاستجابة إذ الصحيح أنه ما بقي في بطن الحوت إلا ساعة قليلة ، وعطف بالواو هنا بخلاف عطف { فكشفْنا } على { فاستجبنا } وإنجاؤه هو بتقدير وتكوين في مزاج الحوت حتى خرج الحوت إلى قرب الشاطىء فتقاياه فخرج يسبَح إلى الشاطىء .
وهذا الحوت هو من صنف الحوت العظيم الذي يبتلع الأشياء الضخمة ولا يقضمها بأسنانه . وشاع بين الناس تسمية صنففٍ من الحوت بحوت يونس رجماً بالغيب .
وجملة { وكذلك ننجي المؤمنين } تذييل . والإشارة ب { كذلك } إلى الإنجاء الذي أُنجي به يونس ، أي مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين من غُموم بحسب من يقع فيها أن نجاته عسيرة . وفي هذا تعريض للمشركين من العرب بأن الله منجي المؤمنين من الغمّ والنكد الذي يلاقونه من سوء معاملة المشركين إياهم في بلادهم .
واعلم أن كلمة { فنجّيَ } كتبت في المصاحف بنون واحدة كما كتبت بنون واحدة في قوله في [ سورة يوسف : 110 ] { فننجي من نشاء } ووجّه أبو علي هذا الرسم بأن النون الثانية لما كانت ساكنة وكان وقوع الجيم بعدها يقتضي إخفاءها لأن النون الساكنة تخفى مع الأحرف الشجرية وهي الجيم والشين والضاد فلما أُخفيت حذفت في النطق فشابَه إخفاؤُها حالةَ الإدغام فحذَفَها كاتبُ المصحف في الخطّ لخفاء النطق بها في اللفظ ، أي كما حذفوا نون ( إن ) مع ( لا ) في نحو إلا فعلوه من حيث إنها تدغم في اللام .
وقرأ جمهور القراء بإثبات النونين في النطق فيكون حذف إحدى النونين في الخط مجرد تنبيه على اعتبارٍ من اعتبارات الأداء . وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم بنون واحدة وبتشديد الجيم على اعتبار إدغام النون في الجيم كما تدغم في اللام والراء . وأنكر ذلك عليهما أبو حاتم والزجّاج وقالا : هو لَحن . ووجّه أبو عبيد والفراء وثعلب قراءتهما بأن نُجِي سكنت ياؤه ولم تحرك على لغة من يقول بَقِي ورضِي فيسكن الياء كما في قراءة الحسن { وذروا ما بقِي من الرِبا } [ البقرة : 278 ] بتسكين ياء { بقي . وعن أبي عبيد والقُتبي أن النون الثانية أدغمت في الجيم .
ووجّه ابن جني متابعاً للأخفش الصغير بأن أصل هذه القراءة : نُنَجّي بفتح النون الثانية وتشديد الجيم فحذفت النون الثانية لتوالي المثلين فصار نُجي . وعن بعض النحاة تأويل هذه القراءة بأن نُجِّي فعل مضي مبني للنائب وأن نائب الفاعل ضمير يعود إلى النجاء المأخوذ من الفعل ، أو المأخوذ من اسم الإشارة في قوله وكذلك .
وانتصب { المؤمنين } على المفعول به على رأي من يجوز إنابة المصدر مع وجود المفعول به . كما في قراءة أبي جعفر { ليُجزَى } بفتح الزاي { قوماً بما كانوا يكسبون } [ الجاثية : 14 ] بتقدير ليجزَى الجزاءُ قوماً . وقال الزمخشري في « الكشاف » : إن هذا التوجيه بارد التعسف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.