213- وإنَّ الناس طبيعة واحدة فيها الاستعداد للضلالة ، ومنهم من تستولي عليه أسباب الهداية ، ومنهم من تغلب عليه الضلالة ، ولذلك اختلفوا ، فبعث الله إليهم الأنبياء هداة ومبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتب مشتملة على الحق ، لتكون هي الحكم بين الناس فينقطع التنازع ، ولكن الذين انتفعوا بهدى النبيين هم الذين آمنوا فقط ، والذين هداهم الله في موضع الاختلاف إلى الحق ، والله هو الذي يوفق أهل الحق إذا أخلصوا .
{ كَانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ }
اختلف أهل التأويل في معنى الأمة في هذا الموضع ، وفي الناس الذين وصفهم الله بأنهم كانوا أمة واحدة فقال بعضهم : هم الذين كانوا بين آدم ونوح ، وهم عشرة قرون ، كلهم كانوا على شريعة من الحق ، فاختلفوا بعد ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا همام بن منبه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان بين نوح وآدم عشرة قرون ، كلهم على شريعة من الحق ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله «كانَ النّاسُ أمةً واحدةً فاختْلفُوا » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال : كانوا على الهدى جميعا ، فاختلفوا فَبَعَثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرينَ فكان أولَ نبيّ بعث نوح .
فتأويل الأمة على هذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس الدين ، كما قال النابغة الذبياني :
حَلَفْتُ فَلَمْ أتْركْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً *** وَهَلْ يَأثَمَنْ ذُو أُمّةٍ وَهُوَ طائِعُ
يعني ذا الدين . فكان تأويل الآية على معنى قول هؤلاء : كان الناس أمة مجتمعة على ملة واحدة ودين واحد ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .
وأصل الأمة الجماعة ، تجتمع على دين واحد ، ثم يكتفى بالخبر عن الأمة من الخبر عن الدين لدلالتها عليه كما قال جل ثناؤه : وَلَوْ شاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أمّةً وَاحِدَةً يراد به أهل دين واحد وملة واحدة . فوجه ابن عباس في تأويله قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً إلى أن الناس كانوا أهل دين واحد حتى اختلفوا .
وقال آخرون : بل تأويل ذلك كان آدم على الحق إماما لذرّيته ، فبعث الله النبيين في ولده ووجهوا معنى الأمة إلى الطاعة لله والدعاء إلى توحيده واتباع أمره من قول الله عزّ وجل : إنّ إبْرَاهيمَ كانَ أُمّةً قانِتا لِلّهِ حَنِيفا يعني بقوله أُمّةً إماما في الخير يقتدى به ، ويتبع عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كانَ النّاسُ أُمْةً وَاحِدَةً قال : آدم .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال : آدم ، قال : كان بين آدم ونوح عشرة أنبياء ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . قال مجاهد : آدم أمة وحده ، وكأنّ من قال هذا القول استجاز بتسمية الواحد باسم الجماعة لاجتماع أخلاق الخير الذي يكون في الجماعة المفرقة فيمن سماه بالأمة ، كما يقال : فلان أمة وحده ، يقول مقام الأمة . وقد يجوز أن يكون سماه بذلك لأنه سبب لاجتماع الأسباب من الناس على ما دعاهم إليه من أخلاق الخير ، فلما كان آدم صلى الله عليه وسلم سببا لاجتماع من اجتمع على دينه من ولده إلى حال اختلافهم سماه بذلك أمة .
وقال آخرون : معنى ذلك كان الناس أمة واحدة على دين واحد يوم استخرج ذرية آدم من صلبه ، فعرضهم على آدم . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً . وعن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب ، قال : كانوا أمة واحدة حيث عرضوا على آدم ففطرهم يومئذٍ على الإسلام ، وأقرّوا له بالعبودية ، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم . ثم اختلفوا من بعد آدم ، فكان أبيّ يقرأ : «كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللّهُ النَبِييّنَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ » إلى «فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ » وإن الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحدَةً قال : حين أخرجهم من ظهر آدم لم يكونوا أمة واحدة قط غير ذلك اليوم ، فبعث الله النبيين . قال : هذا حين تفرّقت الأمم .
وتأويل الآية على هذا القول نظير تأويل قول من قال بقول ابن عباس : إن الناس كانوا على دين واحد فيما بين آدم ونوح . وقد بينا معناه هنالك إلا أن الوقت الذي كان فيه الناس أمة واحدة مخالف الوقت الذي وقته ابن عباس .
وقال آخرون بخلاف ذلك كله في ذلك ، وقالوا : إنما معنى قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً على دين واحد ، فبعث الله النبيين . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً يقول : كان دينا واحدا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .
وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال : إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : كانَ النّاسُ أُمةً وَاحِدَةً يقول : دينا واحدا على دين آدم ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .
وكان الدين الذي كانوا عليه دين الحق . كما قال أبيّ بن كعب وكما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : هي في قراءة ابن مسعود : «اختلفوا عنه » عن الإسلام .
فاختلفوا في دينهم ، فبعث الله عند اختلافهم في دينهم النبيين مبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه رحمة منه جل ذكره بخلقه واعتذارا منه إليهم .
وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة من عهد آدم إلى عهد نوح عليهما السلام ، كما روى عكرمة ، عن ابن عباس ، وكما قاله قتادة .
وجائز أن يكون كان ذلك حين عرض على آدم خلقه . وجائز أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك . ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الحجة على أيّ هذه الأوقات كان ذلك ، فغير جائز أن نقول فيه إلا ما قال الله عز وجل من أن الناس كانوا أمة واحدة ، فبعث الله فيهم لما اختلفوا الأنبياء والرسل . ولا يضرّنا الجهل بوقت ذلك ، كما لا ينفعنا العلم به إذا لم يكن العلم به لله طاعة ، غير أنه أيّ ذلك كان ، فإن دليل القرآن واضح على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة ، إنما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحقّ دون الكفر بالله والشرك به . وذلك أن الله جل وعز قال في السورة التي يذكر فيها يونس : وَما كانَ النّاسُ إلاّ أُمّةً وَاحِدَةً فاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقتْ مِنْ رَبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فتوعد جل ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع ، ولا على كونهم أمة واحدة ، ولو كان اجتماعهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم كان الاختلاف بعد ذلك ، لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان ، ولو كان ذلك كذلك لكان الوعد أولى بحكمته جل ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد لأنها حال إنابة بعضهم إلى طاعته ، ومحال أن يتوعد في حال التوبة والإنابة ، ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك .
وأما قوله : فَبَعَثَ اللّهُ النَبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فإنه يعني أنه أرسل رسلاً يبشرون من أطاع الله بجزيل الثواب ، وكريم المآب ويعني بقوله وَمُنْذِرِينَ ينذرون من عصى الله فكفر به ، بشدة العقاب ، وسوء الحساب والخلود في النار وأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بالحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ يعني بذلك ليحكم الكتاب وهو التوراة بين الناس فيما اختلف المختلفون فيه فأضاف جل ثناؤه الحكم إلى الكتاب ، وأنه الذي يحكم بين الناس دون النبيين والمرسلين ، إذ كان من حكم من النبيين والمرسلين بحكم ، إنما يحكم بما دلهم عليه الكتاب الذي أنزل الله عزّ وجل ، فكان الكتاب بدلالته على ما دل وصفه على صحته من الحكم حاكما بين الناس ، وإن كان الذي يفصل القضاء بينهم غيره .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما اخْتَلَفَ فِيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ بَغْيا بَيْنَهُمْ .
يعني جل ثناؤه بقوله : وَما اخْتَلَفَ فِيهِ وما اختلف في الكتاب الذي أنزله وهو التوراة ، إلاّ الّذينَ أُوتُوهُ يعني بذلك اليهود من بني إسرائيل ، وهم الذين أوتوا التوراة والعلم بها . والهاء في قوله «أوتوه » عائدة على الكتاب الذي أنزله الله . مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ يعني بذلك : من بعد ما جاءتهم حجج الله وأدلته أن الكتاب الذي اختلفوا فيه وفي أحكامه عند الله ، وأنه الحق الذي لا يسعهم الاختلاف فيه ، ولا العمل بخلاف ما فيه . فأخبر عز ذكره عن اليهود من بني إسرائيل أنهم خالفوا الكتاب التوراة ، واختلفوا فيه على علم منهم ، ما يأتون متعمدين الخلاف على الله فيما خالفوه فيه من أمره وحكم كتابه .
ثم أخبر جل ذكره أن تعمدهم الخطيئة التي أنزلها ، وركوبهم المعصية التي ركبوها من خلافهم أمره ، إنما كان منهم بغيا بينهم . والبغي مصدر من قول القائل : بغى فلان على فلان بغيا إذا طغى واعتدى عليه فجاوز حدّه ، ومن ذلك قيل للجرح إذا أمدّ ، وللبحر إذا كثر ماؤه ففاض ، وللسحاب إذا وقع بأرض فأخصبت : بغى كل ذلك بمعنى واحد ، وهي زيادته وتجاوز حده . فمعنى قوله جل ثناؤه : وَما اخْتَلَفَ فِيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ بَغيْا بَيْنَهُمْ من ذلك . يقول : لم يكن اختلاف هؤلاء المختلفين من اليهود من بني إسرائيل في كتابي الذي أنزلته مع نبي عن جهل منهم به ، بل كان اختلافهم فيه ، وخلاف حكمه من بعد ما ثبتت حجته عليهم بغيا بينهم ، طلب الرياسة من بعضهم على بعض ، واستذلالاً من بعضم لبعض . كما :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : ثم رجع إلى بني إسرائيل في قوله : وَما اخْتَلَفَ فِيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ يقول : إلا الذين أوتوا الكتاب والعلم مِنْ بَعدِ ما جاءَتُهُمُ البَيّناتُ بَغيْا بَيْنَهُمْ يقول : بغيا على الدنيا وطلب ملكها وزخرفها وزينتها ، أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس . فبغى بعضهم على بعض ، وضرب بعضهم رقاب بعض .
ثم اختلف أهل العربية في «مِن » التي في قوله : مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ ما حكمها ومعناها ؟ وما المعنى المنتسق في قوله وَما اخْتَلَفَ فِيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جَاءَتْهُمُ البَيّناتُ بَغيْا بَيْنَهُمْ ؟ فقال بعضهم : من ذلك للذين أوتوا الكتاب وما بعده صلة له . غير أنه زعم أن معنى الكلام : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم من بعد ما جاءتهم البينات . وقد أنكر ذلك بعضهم فقال : لا معنى لما قال هذا القائل ، ولا لتقديم البغي قبل «من » ، لأن «من » إذا كان الجالب لها البغي ، فخطأ أن تتقدمه لأن البغي مصدر ، ولا تتقدم صلة المصدر عليه . وزعم المنكر ذلك أن «الذين » مستثنى ، وأن «من بعد ما جاءتهم البينات » مستثنى باستثناء آخر . وأن تأويل الكلام : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه ، ما اختلفوا فيه إلا بغيا ، ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات . فكأنه كرّر الكلام توكيدا . وهذا القول الثاني أشبه بتأويل الآية ، لأن القوم لم يختلفوا إلا من بعد قيام الحجة عليهم ومجيء البينات من عند الله ، وكذلك لم يختلفوا إلا بغيا ، فذلك أشبه بتأويل الآية .
القول في تأويل قوله تعالى : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لَما اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ بإذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم .
يعني جل ثناؤه بقوله : فَهَدَى اللّهُ : فوفق الذي آمنوا وهم أهل الإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم المصدّقين به وبما جاء به أنه من عند الله لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه . وكان اختلافهم الذي خذلهم الله فيه ، وهدى له الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فوفقتهم لإصابته : الجمعة ، ضلوا عنها وقد فرضت عليهم كالذين فرض علينا ، فجعلوها السبت فقال صلى الله عليه وسلم : «نَحْنُ الاَخِرُونَ السّابِقُونَ ، بَيْدَ أنّهُمْ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِنا وأُوتِيناهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، وَهَذَا اليَوْمُ الّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَهَدَانا اللّهُ لَهُ ، فَلِلْيَهُودِ غَدا وللنّصَارَى بَعْدَ غَدٍ » .
حدثنا بذلك أحمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عياض بن دينار الليثي ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم . فذكر الحديث .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي هريرة : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ بإذْنِهِ قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «نَحْنُ الاَخِرُونَ الأوّلُونَ يَوْمَ القِيامَةِ ، نَحْنُ أوّلُ النّاسِ دُخُولاً الجَنّة بَيْدَ أنّهُمْ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِنا وأُوتِيناهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، فَهَدَانا اللّهُ لِما اختَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ بإذْنِهِ فَهذَا الْيوْمُ الّذِي هَدانَا اللّهُ لهُ والنّاسُ لنَا فِيهِ تَبَعٌ ، غَدا لِلْيهُودِ ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنّصَارَى » .
وكان مما اختلفوا فيه أيضا ما قال ابن زيد ، وهو ما :
حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا للإسلام ، واختلفوا في الصلاة ، فمنهم من يصلى إلى المشرق ، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس ، فهدانا للقبلة واختلفوا في الصيام ، فمنهم من يصوم بعض يوم ، وبعضهم بعض ليلة ، وهدانا الله له . واختلفوا في يوم الجمعة ، فأخذت اليهود السبت وأخذت النصارى الأحد ، فهدانا الله له . واختلفوا في إبراهيم ، فقالت اليهود كان يهوديا ، وقالت النصارى كان نصرانيا ، فبرأه الله من ذلك ، وجعله حنيفا مسلما ، وما كان من المشركين للذين يدّعونه من أهل الشرك . واختلفوا في عيسى ، فجعلته اليهود لفرية ، وجعلته النصارى ربا ، فهدانا الله للحق فيه فهذا الذي قال جل ثناؤه : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ بإذْنهِ .
قال : فكانت هداية الله جل ثناؤه الذين آمنوا بمحمد ، وبما جاء به لما اختلف هؤلاء الأحزاب من بني إسرائيل الذين أوتوا الكتاب فيه من الحق بإذنه أن وفقهم لإصابة ما كان عليه من الحقّ من كان قبل المختلفين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية إذ كانوا أمة واحدة ، وذلك هو دين إبراهيم الحنيف المسلم خليل الرحمن ، فصاروا بذلك أمة وسطا ، كما وصفهم به ربهم ليكونوا شهداء على الناس . كما :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فهداهم الله عند الاختلاف أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف ، أقاموا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف ، واعتزلوا الاختلاف فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة كانوا شهداء على قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم شعيب ، وآل فرعون ، أن رسلهم قد بلغوهم ، وأنهم كذبوا رسلهم . وهي في قراءة أبيّ بن كعب : «ليكونوا شهداء على الناس يوم القيامة ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم » . فكان أبو العالية يقول في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ يقول : اختلف الكفار فيه ، فهدى الله الذي آمنوا للحق من ذلك وهي في قراءة ابن مسعود : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا «عنه » عن الإسلام .
وأما قوله : بإذْنِهِ فإنه يعني جل ثناؤه بعلمه بما هداهم له ، وقد بينا معنى الإذن إذ كان بمعنى العلم في غير الموضع بما أغنى عن إعادته ههنا .
وأما قوله : وَاللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم فإنه يعني به : والله يسدد من يشاء من خلقه ويرشده إلى الطريق القويم على الحق الذي لا اعوجاج فيه ، كما هدى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه بغيا بينهم ، فسدّدهم لإصابة الحق والصواب فيه .
وفي هذه الآية البيان الواضح على صحة ما قاله أهل الحق من أن كل نعمة على العباد في دينهم أو دنياهم ، فمن الله عز وجل .
فإن قال لنا قائل : وما معنى قوله : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيه أهداهم للحق أم هداهم للاختلاف ؟ فإن كان هداهم للاختلاف فإنما أضلهم ، وإن كان هداهم للحق فيكف قيل : فَهَدَى اللّهَ الّذِين آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ؟ قيل : إن ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه ، وإنما معنى ذلك : فهدى الله الذين آمنوا للحق فيما اختلف فيه من كتاب الله الذين أوتوه ، فكفر بتبديله بعضهم ، وثبت على الحقّ والصواب فيه بعضهم ، وهم أهل التوراة الذين بدّلوها ، فهدى الله للحق مما بدلوا وحرّفوا الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
قال أبو جعفر : فإن أشكل ما قلنا على ذي غفلة ، فقال : وكيف يجوز أن يكون ذلك كما قلت ، و«مِنْ » إنما هي في كتاب الله في «الحق » واللام في قوله : لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وأنت تحوّل اللام في «الحقّ » ، و«من » في «الاختلاف » في التأويل الذي تتأوله فتجعله مقلوبا ؟ قيل : ذلك في كلام العرب موجود مستفيض ، والله تبارك وتعالى إنما خاطبهم بمنطقهم ، فمن ذلك قول الشاعر :
كانَتْ فَريضَةَ ما تَقَولُ كمَا *** كانَ الزّنَاءُ فَريضَة الرّجْمِ
وإنما الرجم فريضة الزنا . وكما قال الاَخر :
إنّ سِرَاجا لَكرِيمٌ مَفْخَرُهْ *** تَحْلَى بِهِ العَينُ إذَا ما تَجْهَرُهْ
وإنما سراج الذي يحلى بالعين ، لا العين بسراج .
وقد قال بعضهم : إن معنى قوله فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ أن أهل الكتب الأول اختلفوا ، فكفر بعضهم بكتاب بعض ، وهي كلها من عند الله ، فهدى الله أهل الإيمان بمحمد للتصديق بجميعها ، وذلك قول ، غير أن الأول أصحّ القولين ، لأن الله إنما أخبر باختلافهم في كتاب واحد .
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 213 )
قال أبي بن كعب وابن زيد : المراد ب { الناس } بنو آدم حين أخرجهم الله نسماً من ظهر آدم ، أي كانوا على الفطرة .
وقال مجاهد : «الناس آدم وحده »( {[1983]} ) .
وقال ابن عباس وقتادة : { الناس } القرون التي كانت بين آدم ونوح ، وهي عشرة ، كانوا على الحق حتى اختلفوا فبعث الله تعالى نوحاً فمن بعده .
وقال قوم : الناس نوح ومن في سفينته ، كانوا مسلمين ثم بعد ذلك اختلفوا( {[1984]} ) .
وقال ابن عباس أيضاً : كان الناس أمة واحدة كفاراً ، يريد في مدة نوح حين بعثه الله( {[1985]} ) ، و { كان } على هذه الأقوال هي على بابها من المضي المنقضي ، وتحتمل الآية معنى سابعاً وهو أن يخبر عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق . لولا منّ الله عليهم وتفضله بالرسل إليهم ، ف { كان } على هذا الثبوت لا تختص بالمضي فقط ، وذلك كقوله تعالى : { وكان الله غفوراً رحيماً } [ النساء : 96-99-100-152 ، الفرقان : 70 ، الأحزاب : 5 - 59 ، الفتح : 14 ] ، والأمة الجماعة على المقصد الواحد ، ويسمى الواحد أمة إذا كان منفرداً بمقصد ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في قس بن ساعدة : «يحشر يوم القيامة أمة وحده »( {[1986]} ) ، وقرأ أبي كعب «كان البشر أمة واحدة » ، وقرأ ابن مسعود «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث » ، وكل من قدر { الناس } في الآية مؤمنين قدر في الكلام فاختلفوا( {[1987]} ) ، وكل من قدرهم كفاراً كانت بعثة { النبيين } إليهم( {[1988]} ) ، وأول الرسل على ما ورد في الصحيح في حديث الشفاعة نوح ، لأن الناس يقولون له : أنت أول الرسل ، والمعنى إلى تقويم كفار وإلا فآدم مرسل إلى بنيه يعلمهم الدين والإيمان ، و { مبشرين } معناه بالثواب على الطاعة ، و { منذرين } معناه من العقاب على المعاصي ، ونصب اللفظتين على الحال ، و { الكتاب } اسم الجنس ، والمعنى جميع الكتب .
وقال الطبري : «الألف واللام في الكتاب للعهد ، والمراد التوارة » ، و { ليحكم } مسند إلى الكتاب في قول الجمهور .
وقال قوم : المعنى ليحكم الله( {[1989]} ) ، وقرأ الجحدري( {[1990]} ) «ليُحَكم » على بناء الفعل للمفعول ، وحكى عنه مكي «لنحكم » .
قال القاضي أبو محمد : وأظنه تصحيفاً لأنه لم يحك عنه البناء للمفعول كما حكى الناس ، والضمير في { فيه } عائد على { ما } من قوله : { فيما } ، والضمير في { فيه } الثانية يحتمل العود على الكتاب ويحتمل على الضمير الذي قبله ، والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له ، وخصهم بالذكر تنبيهاً منه تعالى على الشنعة في فعلهم والقبح الذي واقعوه . و { البينات } الدلالات والحجج ، و { بغياً } منصوب على المفعول له ، والبغي التعدي بالباطل ، و { هدى } معناه أرشد ، وذلك خلق الإيمان في قلوبهم ، وقد تقدم ذكر وجوه الهدى في سورة الحمد ، والمراد ب { الذين آمنوا } .
من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم .
فقالت طائفة : معنى الآية : أن الأمم كذب( {[1991]} ) بعضهم كتاب بعض فهدى الله أمة محمد التصديق بجميعها .
وقالت طائفة : إن الله هدى المؤمنين للحق فيما اختلف فيه أهل الكتابين من قولهم : إن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً .
وقال ابن زيد : من قبلتهم ، فإن قبلة اليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى المشرق ، ومن يوم الجمعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له ، فلليهود غد ، وللنصارى بعد غد »( {[1992]} ) ، ومن صيامهم( {[1993]} ) وجميع ما اختلفوا فيه .
وقال الفراء : في الكلام قلب ، واختاره الطبري ، قال : وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه . ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه وعساه غير الحق في نفسه ، نحا إلى هذا الطبري في حكايته عن الفراء .
قال القاضي أبو محمد : وادعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز( {[1994]} ) وسوء نظر ، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ورصفه ، لأن قوله { فهدى } يقتضي أنهم أصابوا الحق ، وتم المعنى في قوله { فيه } ، وتبين بقوله { من الحق } جنس ما وقع الخلاف فيه .
قال المهدوي : «وقدم لفظ الخلاف على لفظ الحق اهتماماً ، إذ العناية إنما هي بذكر الاختلاف » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وليس هذا عندي بقوي ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «لما اختلفوا عنه من الحق » أي عن الإسلام .
و { بإذنه } قال الزجّاج : معناه بعلمه ، وقيل : بأمره ، والإذن( {[1995]} ) هو العلم والتمكين ، فإن اقترن بذلك أمر صار أقوى من الإذن بمزية ، وفي قوله تعالى : { والله يهدي من يشاء } رد على المعتزلة في قولهم إن العبد يستبد بهداية نفسه .