و " لو " في قوله - تعالى - : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ . . } ، حرف امتناع لامتناع . أي : حرف شرط يدل على امتناع وقوع جوابه ؛ لأجل امتناع وقوع شرطه ، وقد امتنع هنا إهلاك الناس ، لامتناع إرادة الله - تعالى - ذلك .
وقوله : { يؤاخذ } ، مفاعلة من المؤاخذة بمعنى العقوبة ، فالمفالعة فيه بمعنى الفعل المجرد . فمعنى آخذ الله - تعالى - الناس يؤاخذهم : أخذهم وعاقبهم بسبب ذنوبهم .
والأخذ بمعنى العقاب ، قد جاء فى القرآن الكريم في آيات كثيرة : ومن ذلك قوله - تعالى - { وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } ، والباء في : { بظلمهم } ، للسببية ، والظلم : مجاوزة الحدود التي شرعها الله - تعالى - وأعظمه الإِشراك بالله - تعالى - كما قال - تعالى - { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ، والمراد من المؤاخذة بسبب ظلمهم : تعجيل العقوبة لهم في الدنيا .
والضمير في قوله - سبحانه - { عليها } ، يعود على الأرض . وصح عود الضمير عليها مع أنه لم يسبق ذكر لها ؛ لأن قوله : { من دابة } ، يدل على ذل ؛ لأنه من المعلوم ، أن الدواب تدب على الأرض .
ونظيره قوله - تعالى - في آية أخرى : { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } ، وقوله : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } ، أى : الشمس . فإنه وإن كان لم يجر لها ذكر إلا أن المقام يدل عليها .
ورجوع الضمير إلى غير مذكور في الكلام إلا أن المقام يدل عليه ، كثير في كلام العرب ، ومنه قول حاتم الطائي :
أماوي ما يغنى الثراء عن الفتى . . . إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقوله : حشرجت وضاق بها ، المقصود به الروح أو النفس ، ولم يجر لها ذكر ، إلا أن قوله : وضاق بها الصدر ، يعين أن المراد بها النفس .
والمراد بالساعة في : { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً } ، مطلق الوقت الذي هو غاية في القلة .
والمعنى : ولو عاجل الله - تعالى - الناس بالعقوبة ، بسبب ما اجترحوه من ظلم وآثام ، لأهلكهم جميعا ، وما ترك على ظهر الأرض من دابة تدب عليها ، ولكنه - سبحانه - فضلا منه وكرما ، لا يعاجلهم بالعقوبة التي تستأصلهم ، بل يؤخرهم { إلى أَجَلٍ مسمى } ، أي : إلى وقت معين محدد تنتهى عنده حياتهم ، وهذا الوقت المحدد لا يعلمه إلا هو - سبحانه - { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } ، أي : فإذا حان الوقت المحدد لهلاكهم ، فارقوا هذه الدنيا بدون أدنى تقديم أو تأخير عن هذا الوقت .
هذا ، ومن العلماء من ذهب إلى أن المراد بالناس هنا : الكفار خاصة ؛ لأنهم هم الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى .
ويبدو لنا أن المراد بالناس هنا : العموم ؛ لأن قوله : { من دابة } ، يشمل كل ما يطلق عليه اسم الدابة ؛ ولأن النكرة فى سياق النفي إذا زيدت قبلها لفظة " من " ، تكون نصا صريحا في العموم .
وإلى العموم أشار ابن كثير عند تفسيره للآية بقوله : " يخبر الله - تعالى - عن حلمه بخلقه مع ظلمهم ، وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة ، أي : لأهلك جميع دواب الأرض تبعا لإِهلاك بنى آدم . ولكن الرب - جل وعلا - يحلم ويستر ويُنظر . . " .
وقال القرطبى : فإن قيل : فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم ؟
فالجواب : يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء ، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة ، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا أراد الله - تعالى - بقوم عذابا ، أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم - وأعمالهم - "
وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله - تعالى - : { وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } ، وقوله - تعالى - : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } ، وقوله - تعالى - : { إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }
وقوله : { ولو يؤاخذ الله الناس } الآية ، وآخذ هو تفاعل من أخذ ، كأن أحد المتواخذين يأخذ من الآخر ، إما بمعصية ، كما هي في حق الله تعالى ، أو بإذاية في جهة المخلوقين ، فيأخذ الآخر من الأول بالمعاقبة والجزاء ، وهي لغتان واخذ وآخذ ، و { يؤاخذ } يصح أن يكون من آخذ ، وأما كونها من واخذ فبين ، والضمير في { عليها } عائد على الأرض ، وتمكن ذلك مع أنه لم يجر لها ذكر لشهرتها ، وتمكن الإشارة لها كما قال لبيد في الشمس :
حتى إذا ألقت يداً في كافر . . . وأجنَّ عورات البلاد ظلامُها{[7345]}
ومنه قول تعالى : { حتى توارت بالحجاب }{[7346]} [ ص : 32 ] ، ولم يجر للشمس ذكر ، وقوله : { من دابة } ، دخلت { من } ؛ لاستغراق الجنس ، وظاهر الآية أن الله تعالى أخبر أنه لو أخذ الناس بعقاب يستحقونه بظلمهم ، في كفرهم ومعاصيهم ، لكان ذلك العقاب يهلك منه جميع ما يدب على الأرض من حيوان ، فكأنه بالقحوط أو بأمر يصيبهم من الله تعالى ، وعلى هذا التأويل قال بعض العلماء : كاد الجُعَل{[7347]} أن يهلك بذنوب بني آدم ، ذكره الطبري ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الله تعالى ليهزل الحوت في الماء والطير في الهواء بذنوب العصاة »{[7348]} ، وسمع أبو هريرة رجلاً يقول : إن الظالم لا يهلك إلا نفسه ، فقال أبو هريرة : بلى إن الله ليهلك الحبارى في وكرها هزالاً{[7349]} بذنوب الظلمة ، وقد نطقت الشريعة في أخبارها بأن الله تعالى أهلك الأمم بريها وعاصيها بذنوب العصاة منهم ، وقالت فرقة : قوله : { من دابة } ، يريد من أولئك الظلمة فقط ، ويدل على هذا التخصيص ، أن الله لا يعاقب أحداً بذنب أحد ، واحتج بقول الله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى }{[7350]} [ الأنعام : 164 ] ، وهذا معنى آخر ، وذلك أن الله تعالى لا يجعل العقوبة تقصد أحداً بسبب إِذْنَاب غيره ، ولكن إذا أرسل عذاباً على أمة عاصية ، لم يمكن البري التخليص من ذلك العذاب ، فأصابه العذاب ، لا بأنه له مجازاة ، ونحو هذا قوله :
{ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة }{[7351]} [ الأنفال : 25 ] ، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال «نعم إذا كثر الخبث »{[7352]} ، ثم لا بد من تعلق ظلم ما بالأبرياء ، وذلك بترك التغير ومداهنة أهل الظلم ، ومداومة جوارهم ، و «الأجل المسمى » في هذه الآية هو بحسب شخص شخص ، وفي معنى الآية مع أمائرها اختصار وإيجاز .
هذا اعتراض في أثناء التوبيخ على كفرهم الذي من شرائعه وأد البنات . فأما وصف جعلهم لله البناتِ اللاتي يأنفون منها لأنفسهم ، ووصف ذلك بأنه حُكم سوء ، و وصف حالهم بأنها مَثَل سوء ، وعرفهم بأخصّ عقائدهم أنهم لا يؤمنون بالآخرة ، أتبع ذلك بالوعيد على أقوالهم وأفعالهم .
والظّلم : الاعتداء على الحقّ . وأعظمه الاعتداء على حقّ الخالق على مخلوقاته ، وهو حقّ إفراده بالعبادة ، ولذلك كان الظلم في القرآن إذا لم يعدّ إلى مفعول نحو { ظلموا أنفسهم } [ سورة آل عمران : 117 ] مراداً منه أعظم الظلم وهو الشرك حتى صار ذلك حقيقة عرفية في مصطلح القرآن ، وهو المراد هنا من هذا الإنذار . وأما الظلم الذي هو دون الإشراك بالله فغير مراد هنا لأنه مراتب متفاوتة كما يأتي قريباً فلا يقتضي عقاب الاستئصال على عمومه .
والتعريف في { الناس } يحمل على تعريف الجنس ليشمل جميع الناس ، لأن ذلك أنسب بمقام الزجر ، فليس قوله تعالى : { الناس } مراداً به خصوص المشركين من أهل مكة الذين عادت عليهم الضمائر المتقدمة في قوله : { ليكفروا بما آتيناهم } [ سورة النحل : 55 ] وما بعده من الضمائر ، وبذلك لا يكون لفظ { الناس } إظهاراً في مقام الإضمار .
وضمير { عليها } صادق على الأرض وإن لم يجر لها ذكر في الكلام فإن المقام دالّ عليها . وذلك استعمال معروف في كلامهم كقوله تعالى : { حتى توارت بالحجاب } [ سورة ص : 32 ] يعني الشمس ، ويقولون : أصبحت باردة ، يريدون الغَداة ، ويقول أهل المدينة : ما بين لابتيها أحد يفعل كذا ، يريدون لابتي المدينة .
والدّابة : اسم لما يدبّ على الأرض ، أي يمشي ، وتأنيثه بتأويل ذات . وخصّ اسم دابة } في الاستعمال بالإطلاق على ما عدا الإنسان مما يمشي على الأرض .
وحرف { لو } حرف امتناع لامتناععٍ ، أي حرف شرط يدلّ على امتناع وقوع جوابه لأجل امتناع وقوع شرطه . وشرط { لو } ملازمٌ للزمن الماضي فإذا وقع بعد { لَوْ } مضارع انصرف إلى الماضي غالباً .
فالمعنى : لو كان الله مؤاخذاً الخلق على شركهم لأفناهم من الأرض وأفنى الدوابّ معهم ، أي ولكنه لم يؤاخذهم .
ودليل انتفاء شرط { لو } هو انتفاء جوابها ، ودليل انتفاء جوابها هو المشاهدة ، فإن الناس والدوابّ ما زالوا موجودين على الأرض .
ووجه الملازمة بين مؤاخذة الظالمين بذنوبهم وبين إفناء الناس غير الظالمين وإفناء الدوابّ أن الله خلق الناس ليعبدوه ، أي ليعترفوا له بالإلهية والوحدانية فيها ، لقوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ سورة الذاريات : 56 ] ، وأن ذلك مودع في الفطرة لقوله تعالى : { وإذ أخذ ربّك من بني ءادم من ظهورهم ذرّياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا } [ سورة الأعراف : 172 ] .
فنعمة الإيجاد تقضي على العاقل أن يشكر موجِدَه ، فإذا جحد وجوده أو جحد انفراده بالإلهية فقد نقض العهد الذي وُجد على شرطه ، فاستحقّ المحو من الوجود بالاستئصال والإفناء .
وبذلك تعيّن أن المراد من الظلم في قوله تعالى : { بظلمهم } الإشراكُ أو التعطيل . وأما ما دون ذلك من الاهتداء على حقّ الله بمعصية أمره ، أو على حقوق المخلوقات باغتصابها فهو مراتب كثيرة ، منها اعتداء أحد على وجود إنسان آخر محترم الحياة فيُعدمه عمداً ، لذلك جزاؤه الإفناء لأنه أفنى مماثله ، ولا يتعدّاه إلى إفناء من معه ، وما دون ذلك من الظلم له عقاب دون ذلك ، فلا يستحقّ شيء غير الشرك الإهلاكَ ، ولكنّ شأن العقاب أن يقصر على الجاني .
فوجه اقتضاء العقاببِ على الشرك إفناءَ جميع المشركين ودوابّهم أن إهلاك الظالمين لا يحصل إلا بحوادث عظيمة لا تتحدّد بمساحة ديارهم ، لأن أسباب الإهلاك لا تتحدّد في عادة نظام هذا العالم ، فلذلك يتناول الإهلاكُ الناس غير الظالمين ويتناول دوابّهم .
وإذ قد كان الظلم ، أي الإشراك لم تخل منه الأرض لزم من إهلاك أهل الظلم سريان الإهلاك إلى جميع بقاع الأرض فاضمحلّ الناس والدوابّ فيأتي الفناء في قرون متوالية من زمن نوح مثلاً ، فلا يوجد على الأرض دابّة في وقت نزول الآية .
فأما من عسى أن يكون بين الأمّة المشركة مِن صالحين فإن الله يقدّر للصالحين أسباب النّجاة بأحوال خارقة للعادة كما قال تعالى : { وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسّهم السوء ولا هم يحزنون } [ سورة الزمر : 61 ] . وقد أخبر الله تعالى بأنه نجّى هوداً والذين آمنوا معه ، وأخبر بأنه نجّى أنبياء آخرين . وكفاك نجاة نوح عليه السلام والذين آمنوا معه من الطوفان في السفينة .
وقد دلّ قوله تعالى : { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } أن تأخيرهم متفاوت الآجال ، ففي مدد تلك الآجال تبقى أقوام كثيرة تعمُر بهم الأرض ، فذلك سبب بقاء أمم كثيرة من المشركين ومن حولهم .
واقتضى قوله تعالى : { من دابة } إهلاكَ دوابّ الناس معهم لو شاء الله ذلك ، لأن استئصال أمّة يشتمل على استئصال دوابّها ، لأنّ الدوابّ خلقت لنفع الناس فلا بدع أن يستأصلها الله إذا استأصل ذويها .
والاقتصار على ذكر دابّة في هذه الآية إيجاز ، لأنه إذا كان ظلم الناس مفضياً إلى استئصال الدوابّ كان العِلم بأنه مفض إلى استئصال الظالمين حاصلاً بدلالة الاقتضاء .
وهذا في عذاب الاستئصال ، وأما ما يصيب الناس من المصائب والفتن الوارد فيه قوله تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة } [ سورة الأنفال : 25 ] فذلك منوط بأسباب عادية ، فاستثناء الصالحين يقتضي تعطيل دواليب كثيرة من دواليب النظام الفطري العام ، وذلك لا يريد الله تعطيله لما يستتبع تعطيله من تعطيل مصالح عظيمة والله أعلم بذلك .
فقد جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله يقول : إذا أراد الله بقوم عذاباً أصاب العذابُ من كان فيهم ثم يُبعثون على نيّاتهم ، أي يكون للمحسن الذي أصابه العذاب تبعاً جزاءٌ على ما أصابه من مصيبة غيره .
وإنما الذي لا ينال البريء هو العقاب الأخروي الذي جعله الله جزاء على التكليف ، وهو معنى قوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [ سورة الأنعام : 164 ] .
وفي هذه الآية إشارة إلى أن الدوابّ التي على الأرض مخلوقة لأجل انتفاع الإنسان ، فلذلك لم يكن استعمال الإنسان إيّاها فيما تصلح له ظلماً لها ، ولا قتلها لأكلها ظلماً لها .
والمؤاخذة : الأخذ المقصود منه الجزاء ، فهو أخذ شديد ، ولذلك صيغت له صيغة المفاعلة الدالة على الكثرة ، فدلّ على أن المؤاخذة المنتفية بلو } هي الأخذ العاجل المناسب للمجازاة ، لأن شأن الجزاء في العرف أن لا يتأخر عن وقت حصول الذنب .
ولهذا جاء الاستدراك بقوله تعالى : { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } . فموقع الاستدراك هنا أنه تعقيب لقوله تعالى : { ما ترك عليها من دابة } .
والأجل : المدّة المعيّنة لفعل ما . والمسمّى : المعيّن ، لأن التسمية تعيين الشيء وتمييزه ، وتسمية الآجال تحديدها .
وتقدم نظير هذه عند قوله تعالى : { ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } في سورة الأعراف ( 34 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال عز وجل: {ولو يؤاخذ الله الناس}... {بظلمهم}، يعني: بما علموا من الكفر والتكذيب، لعجل لهم العقوبة، {ما ترك عليها من دابة}، يعني: فوق الأرض من دابة، يعني: يقحط المطر، فتموت الدواب،
{ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى}، الذي وقت لهم في اللوح المحفوظ،
{فإذا جاء أجلهم}، يعني: وقت عذابهم في الدنيا،
{لا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون}، يعني: لا يتأخرون عن أجلهم حتى يعذبوا في الدنيا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَلَوْ يُؤاخِذُ اللّهُ" عصاة بني آدم بمعاصيهم، "ما تَرَكَ عَلَيْها"، يعني على الأرض، "مِنْ دَابّةٍ "تدبّ عليها. "ولَكِنْ يُؤخّرُهُمْ"، يقول: ولكن بحلمه يؤخر هؤلاء الظلمة فلا يُعاجلهم بالعقوبة، "إلى أجَلٍ مُسَمّى"، يقول: إلى وقتهم الذي وُقّت لهم. "فإذَا جاءَ أجَلُهُمْ"، يقول: فإذا جاء الوقت الذي وُقّت لهلاكهم، "لا يَسْتَأْخِرُونَ" عن الهلاك ساعة فيمهلون، "وَلا يَسْتَقْدِمُونَ" له حتى يستوفُوا آجالهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
دل قوله: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم}، أن له أن يستأصلهم، ويهلكهم بما كان منهم، لكنه بفضله تركهم إلى المدة التي لهم؛ لأنه لو لم يكن له ذلك، لم يكن للوعيد الذي أوعد معنى...
ثم اختلف في قوله: {بظلمهم} قال بعضهم: هذا للكفرة خاصة، وقال بعضهم: لهم وللمؤمنين ولكل مرتكب زلة؛ إذ ما من أحد ارتكب زلة إلا وقد استوجب العقوبة والمؤاخذة بها، لكنه بفضله عفا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...أخبر الله تعالى أنه لوكان ممن يؤاخذ الكفار والعصاة بذنوبهم، ويعاجلهم بعقوباتهم، واستحقاق جناياتهم وظلمهم، "لما ترك "على وجه الأرض أحدا ممن يستحق ذلك من الظالمين. وإنما يؤخرهم تفضلا منه ليراجعوا التوبة، أو لما في ذلك من المصلحة لباقي المكلفين والاعتبار بهم، فلا تغتروا بالإمهال، إنكم مثلهم في استحقاق العقاب على ظلمكم. وقيل في وجه تعميمهم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنين قولان:
أحدهما -إن الإهلاك وإن عمهم فهو عذاب الظالم دون المؤمن؛ لأن المؤمن يعوض عليه.
الثاني- أن يكون ذلك خاصة. والتقدير ما ترك عليها من دابة من أهل الظلم.
وقوله: "ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى"، يعني: الأجل الذي قدره لموتهم وهلاكهم، فإذا جاء ذلك الأجل، لا يتقدمون عليه لحظة ولا يتأخرون.
وقوله:"عليها"، يعني: على الأرض لدلالة قوله: "ما ترك عليها من دابة"، أي: دابة عليها؛ لأنها تدب على الأرض.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي: لو عاملهم بما استحقوا عاجلاً لَحَلَّ الاستئصالُ بهم، ولكنَّ الحُكْمَ سَبَقَ بإمهالهم، وسَيَلْقَوْن غِبَّ أعمالِهم في مآلهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...ونحو هذا قوله: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال: 25]، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال «نعم إذا كثر الخبث»، ثم لا بد من تعلق ظلم ما بالأبرياء، وذلك بترك التغير ومداهنة أهل الظلم، ومداومة جوارهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان السياق للحكمة، وكان الظلم -الذي هو إيقاع الشيء في غير موقعه- شديد المنافاة لها، وكان الشرك -الذي هذا سياقه- أظلم الظلم، قال معبراً بالوصف الشامل لما وقع منهم منه بالفعل، ولما هم منطوون عليه، وهو وصف لهم، ولم يباشروه إلى الآن بالفعل، قال: {بظلمهم}، أي: يعاملهم معاملة الناظر لخصمه، المعامل له بمحض العدل من غير نظر إلى الفضل، وعبر بصيغة المفاعلة؛ لأن دلالتها على المناقشة أبلغ. {ما ترك}، ولما اقتضى الحال ذكر الظلم، وكان سياق هذه الآية أغلظ من سياق فاطر، عبر بما يشمل كل محمول الأرض، سواء كان على الظهر أو في البطن، مغموراً بالماء أو لا، فقال تعالى: {عليها}، أي: الأرض؛ المعلوم أنها مستقرهم المدلول عليها التراب، وأعرق في النفي، فقال تعالى: {من دآبة}، أي: نفس تدب على وجه الأرض؛ لأن الكل إما ظالم يعاقب بظلمه، وإما من مصالح الظالم؛ فيهلكه عقوبة للظالم، أو لأنه ما خلقهم إلا للبشر، فإذا أهلكهم أهلكهم، كما وقع قريب منه في زمن نوح عليه السلام، {ولكن}، لا يفعل بهم ذلك، فهو {يؤخرهم}، إمهالاً بحكمته وحلمه، {إلى أجل مسمى}، ضربه لهم في الأزل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والله خلق هذا الخلق -البشري- وأنعم عليه بآلائه. وهو وحده الذي يفسد في الأرض ويظلم، وينحرف عن الله ويشرك؛ ويطغى بعضه على بعض، ويؤذي سواه من الخلق.. والله بعد هذا كله يحلم عليه ويرأف به، ويمهله وإن كان لا يهمله. فهي الحكمة تصاحب القوة، وهي الرحمة تصاحب العدل. ولكن الناس يغترون بالإمهال، فلا تستشعر قلوبهم رحمة الله وحكمته، حتى يأخذهم عدله وقوته. عند الأجل المسمى الذي ضربه الله لحكمة، وأمهلهم إليه لرحمة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والظّلم: الاعتداء على الحقّ. وأعظمه الاعتداء على حقّ الخالق على مخلوقاته، وهو حقّ إفراده بالعبادة، ولذلك كان الظلم في القرآن إذا لم يعدّ إلى مفعول نحو {ظلموا أنفسهم} [سورة آل عمران: 117] مراداً منه أعظم الظلم وهو الشرك حتى صار ذلك حقيقة عرفية في مصطلح القرآن، وهو المراد هنا من هذا الإنذار. وأما الظلم الذي هو دون الإشراك بالله فغير مراد هنا لأنه مراتب متفاوتة كما يأتي قريباً فلا يقتضي عقاب الاستئصال على عمومه...
والتعريف في {الناس} يحمل على تعريف الجنس ليشمل جميع الناس، لأن ذلك أنسب بمقام الزجر، فليس قوله تعالى: {الناس} مراداً به خصوص المشركين من أهل مكة الذين عادت عليهم الضمائر المتقدمة في قوله: {ليكفروا بما آتيناهم} [سورة النحل: 55] وما بعده من الضمائر، وبذلك لا يكون لفظ {الناس} إظهاراً في مقام الإضمار...
والدّابة: اسم لما يدبّ على الأرض، أي يمشي، وتأنيثه بتأويل ذات. وخصّ اسم دابة} في الاستعمال بالإطلاق على ما عدا الإنسان مما يمشي على الأرض. وحرف {لو} حرف امتناع لامتناع، أي حرف شرط يدلّ على امتناع وقوع جوابه لأجل امتناع وقوع شرطه. وشرط {لو} ملازمٌ للزمن الماضي فإذا وقع بعد {لَوْ} مضارع انصرف إلى الماضي غالباً...
فالمعنى: لو كان الله مؤاخذاً الخلق على شركهم لأفناهم من الأرض وأفنى الدوابّ معهم، أي ولكنه لم يؤاخذهم. ودليل انتفاء شرط {لو} هو انتفاء جوابها، ودليل انتفاء جوابها هو المشاهدة، فإن الناس والدوابّ ما زالوا موجودين على الأرض. ووجه الملازمة بين مؤاخذة الظالمين بذنوبهم وبين إفناء الناس غير الظالمين وإفناء الدوابّ أن الله خلق الناس ليعبدوه، أي ليعترفوا له بالإلهية والوحدانية فيها، لقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [سورة الذاريات: 56]، وأن ذلك مودع في الفطرة لقوله تعالى: {وإذ أخذ ربّك من بني ءادم من ظهورهم ذرّياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا} [سورة الأعراف: 172]. فنعمة الإيجاد تقضي على العاقل أن يشكر موجِدَه، فإذا جحد وجوده أو جحد انفراده بالإلهية فقد نقض العهد الذي وُجد على شرطه، فاستحقّ المحو من الوجود بالاستئصال والإفناء...
وقد دلّ قوله تعالى: {ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} أن تأخيرهم متفاوت الآجال، ففي مدد تلك الآجال تبقى أقوام كثيرة تعمُر بهم الأرض، فذلك سبب بقاء أمم كثيرة من المشركين ومن حولهم...
والمؤاخذة: الأخذ المقصود منه الجزاء، فهو أخذ شديد، ولذلك صيغت له صيغة المفاعلة الدالة على الكثرة، فدلّ على أن المؤاخذة المنتفية ب (لو) هي الأخذ العاجل المناسب للمجازاة، لأن شأن الجزاء في العرف أن لا يتأخر عن وقت حصول الذنب. ولهذا جاء الاستدراك بقوله تعالى: {ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى}. فموقع الاستدراك هنا أنه تعقيب لقوله تعالى: {ما ترك عليها من دابة}. والأجل: المدّة المعيّنة لفعل ما. والمسمّى: المعيّن، لأن التسمية تعيين الشيء وتمييزه، وتسمية الآجال تحديدها.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
والتعبير بالمضارع في قوله تعالى: {ولو يؤاخذ الله...} فيه نفى للمؤاخذة في المستقبل، كما لم يؤاخذ في الماضي، لأن الله عدل لا يأخذ المطيع بجريمة العاصي، ولا يأخذ العجماء بجريمة الإنسان...
{ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى}، حيث يمكن تمييز الظالم من العادل، والمسيئ من المطيع، والمسئول من غير المسئول... والسين والتاء للطلب، والمعنى ليس لهم أن يطلبوا التأخير والتقديم، بل هو لاحق بهم ما يستقبلهم والله أعلم...
عندنا هنا: الأخذ والمؤاخذة.. الأخذ: هو تحصيل الشيء واحتواؤه، ويدل هذا على أن الآخذ له قدرة على المستمسك بنفسه أو بغيره... {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد "102 "} (سورة هود) لماذا أخذها الله؟ أخذها لأنها أخذت منه حقوقه في أن يكون إلهاً واحداً فأنكرتها، وحقوقه في تشريع الصالح فأنكرنها... ويبين الحق سبحانه أن هذه المؤاخذة لو حدثت ستكون بسبب من الناس أنفسهم، فيقول سبحانه: {بظلمهم}... أول الظلم أنهم أنكروا الوحدانية، يقول تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} (سورة لقمان 13)، فكأنهم أخذوا من الله تعالى حقه في الوحدانية، وأخذوا من الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا كذاب، وأخذوا من الكتاب فقالوا: "سحر مبين". كل هذا ظلم...
. فالحق تبارك وتعالى لو آخذهم بما أخذوا، أخذوا شيئاً فأخذ الله شيئاً، لو عاملهم هذه المعاملة، ما ترك على ظهرها من دابة... لذلك نجد في آيات الدعاء: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (سورة البقرة 286)، أي: أننا أخذنا منك يا رب الكثير، بما حدث منا من إسراف وتقصير وعمل على غير مقتضى أمرك، فلا تؤاخذنا بما بدر منا. فلو آخذ الله الناس بما اقترفوا من ظلم...
. فما ذنب الدابة؟ ماذا فعلت؟ نقول: لأن الدابة خلقت من أجلهم، وسخرت لهم، وهي من نعم الله عليهم، فليست المسألة إذن نكاية في الدابة، بل فيمن ينتفع بها، وقد يراد العموم لكل الخلق...
فإذا لم يؤاخذ الله الناس بظلمهم في الدنيا فهل يتركهم هكذا لا بل: {ولكن يؤخرهم إلى أجلٍ مسمى}، هذا الأجل انقضاء دنيا، وقيام آخرة، حتى لو لم يؤمنوا بالآخرة، فإن الله تعالى يمهلهم في الدنيا، كما قال تعالى في آية أخرى:... وقد يكون في هذا الأجل المسمى خير للحق، فكثير من الصحابة كانوا يدخلون المعارك، ويحبون أن يقتلوا أهل الكفر فلاناً وفلاناً، ثم لا يتمكنون من ذلك ولا يصيبونهم، فيحزنون لذلك. ولكن أجل هؤلاء لم يأت بعد، وفي علم الله تعالى أن هؤلاء الكفار سيؤمنون، وأن إيمانهم سينفع المسلمين، وكأن القدر يدخرهم: إما أن يؤمنوا، وإما أن تؤمن ذرياتهم...
وقد آمن عمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم. من هؤلاء الذين نجوا كان خالد بن الوليد سيف الله المسلول...
{فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}... المعنى: إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة، وإذا لم يجئ لا يستقدمون. والله أعلم...