جاءت آيات بعدها توضح موقف الكفار من المعجزات ، وإصرارهم على التكذيب ، وتطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإعراض عنهم وإمهالهم ليوم يخرجون فيه من الأجداث كأنهم جراد منتشر .
وتتابعت الآيات بعد ذلك ، تعرض أطرافا من أحوال الأمم السابقة مع رسلهم ، والعذاب الذي حاق بهم ، وبين كل قصة وأخرى تنبه الأذهان إلى أن القرآن الكريم ميسر لمن يطلب العظة والاعتبار .
منتهية إلى بيان أن كفار مكة ليسوا أقوى ولا أشد من الأمم السابقة ، وأنه ليس لهم أمان من العذاب ، ثم ختمت السورة بتهديد المكذبين المعاندين بمصائرهم يوم يسبحون في النار على وجوههم ، ويقال لهم : ذوقوا مس جهنم التي كنتم بها تكذبون ، وتطمئن المتقين إلى منازلهم في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
1- سورة القمر : هي السورة الرابعة والخمسون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فكان بعد سورة الطلاق ، وقبل سورة " ص " .
ويبلغ عدد السور التي نزلت قبلها ، سبعا وثلاثين سورة .
ويبلغ على الظن أن نزولها كان في السنوات الأولى من بعثته صلى الله عليه وسلم .
قال بعض العلماء : وكان نزولها في حدود سنة خمس قبل الهجرة . ففي الصحيح أن عائشة –رضي الله عنها- قالت : أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، وإني لجارية ألعب ، قوله –تعالى- : [ بل الساعة موعدهم ، والساعة أدهى وأمر ]( {[1]} ) .
2- وتسمى هذه السورة بسورة القمر ، وبسورة اقتربت الساعة ، وتسمى بسورة اقتربت ، حكاية لأول كلمة افتتحت بها .
روى الإمام مسلم وأهل السنن عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيد بسورتي " ق " و " اقتربت الساعة " .
وعدد آياتها : خمس وخمسون آية وهي من السور المكية الخالصة –على الرأي الصحيح- ، وقيل : هي مكية إلا ثلاث آيات منها ، وهي قوله –تعالى- : [ أم يقولون نحن جميع منتصر . سيهزم الجمع ويولون الدبر . بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ] فإنها نزلت يوم بدر ، وهذا القيل لا دليل له يعتمد عليه .
ويرده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : أنزل الله –تعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلم بمكة قبل يوم بدر : سيهزم الجمع ويولون الدبر ، وقال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول الله أي جمع يهزم ؟ فلما كان يوم بدر ، وانهزمت قريش ، نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتا بالسيف ، وهو يقول : [ سيهزم الجمع ويولون الدبر ] فكانت ليوم بدر .
وبذلك نرى أن هذا الحديث ، وحديث عائشة السابق ، يدلان على أن هذه الآيات مكية –أيضا- ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما قرأها في غزوة بدر على سبيل الاستشهاد بها .
3- والسورة الكريمة قد تحدثت في مطلعها عن اقتراب يوم القيامة ، وعن جحود المشركين للحق بعد إذ جاءهم ، وعما سيكونون عليه يوم القيامة من ندم وحسرة . قال –تعالى- [ اقتربت الساعة وانشق القمر . وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر . وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ] .
4- ثم تحدثت السورة الكريمة عن مصارع الغابرين ، فذكرت ما حل من هلاك ودمار ، بقوم نوح ، وهود ، ولوط –عليهم السلام- وما حل أيضا بفرعون وملئه من عقاب .
ثم ختم –سبحانه- السورة الكريمة ، ببيان مظاهر قدرته ، وبليغ حكمته ، ودقة نظامه في كونه ، وبشر المتقين بما يشرح صدورهم فقال –تعالى- : [ إنا كل شيء خلقناه بقدر . وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر . ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر . وكل شيء فعلوه في الزبر . وكل صغير وكبير مستطر . إن المتقين في جنات ونهر . في مقعد صدق عند مليك مقتدر ] .
5- والمتدبر في السورة الكريمة يراها قد اهتمت بالحديث عن أهوال يوم القيامة ، وعن تعنت المشركين وعنادهم ، وعن سنن الله –تعالى- في خلقه ، التي من أبرز مظاهرها ، نصر المؤمنين ، وخذلان الكافرين .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .
افتتحت السورة الكريمة بهذا الافتتاح الذى يبعث فى النفوس الرهبة والخشية ، فهو يخبر عن قرب انقضاء الدنيا وزوالها .
إذ قوله - تعالى - : { اقتربت الساعة } أى : قرب وقت حلول الساعة ، ودنا زمان قيامها .
والساعة فى الأصل : اسم لمدار قليل من الزمان غير معين ، وتحديدها بزمن معين اصطلاح عرفى ، وتطلق فى عرف الشرع على يوم القيامة .
وأطلق على يوم القيامة يوم الساعة ، لوقوعه بغتة ، أو لسرعة ما فيه من الحساب ، أو لأنه على طوله قدر يسير عند الله - تعالى - .
وقد وردت أحاديث كثيرة ، تصرح بأن ما مضى من الدنيا كثير بالنسبة لما بقى منها ، ومن هذه الأحاديث ما رواه البزار عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " خطب أصحابه ذات يوم ، وقد كادت الشمس أن تغرب . . فقال : " والذي نفسى بيده ما بقى من الدنيا فيما مضى منها ، إلا كما بقى من يومكم هذا فيما مضى منه " " .
وروى الشيخان عن سهل بن سعد قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " بعثت أنا والساعة هكذا " وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى .
وشبيه بهذا الافتتاح قوله - تعالى - : فى مطلع سورة الأنبياء : { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } وقوله - سبحانه - فى افتتاح سورة النحل : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } والمقصود من هذا الافتتاح المتحدث عن قرب يوم القيامة ، تذكير الناس بأهوال هذا اليوم ، وحضهم على حسن الاستعداد لاستقباله عن طريق الإيمان والعمل الصالح .
وقوله - تعالى - : { وانشق القمر } معطوف على ما قبله عطف جملة على جملة .
وقوله : { وانشق } من الانشقاق بمعنى الافتراق والانفصال .
أى : اقترب وقت قيام الساعة ، وانفصل وانفلق القمر بعضه عن بعض فلقتين ، معجزة للنبى - صلى الله عليه وسلم - ، وكان ذلك بمكة قبل هجرته - صلى الله عليه وسلم - بنحو خمس سنين ، وقد رأى هذا الانشقاق كثير من الناس .
وقد ذكر المفسرون كثيرا من الأحاديث فى هذا الشأن ، وقد بلغت الأحاديث مبلغ التواتر المعنوى .
قال الإمام ابن كثير : وهذا أمر متفق عليه بين العلماء - أى : انشقاق القمر- ، فقد وقع فى زمان النبى - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات .
ثم ذكر - رحمه الله - جملة من الأحاديث التى وردت فى ذلك ، ومنها ما رواه الشيخان عن أنس بن مالك قال : سأل أهل مكة النبى - صلى الله عليه وسلم - آية ، فانشق القمر بمكة مرتين ، فقال : { اقتربت الساعة وانشق القمر } .
وأخرج الإمام أحمد عن جبير بن مطعم عن أبيه قال : انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصار فلقتين : فلقة على هذا الجبل وفلقة على هذا الجبل .
فقالوا : سحرنا محمد ، فقالوا : إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم .
وروى الشيخان عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شقتين ، حتى نظروا إليه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اشهدوا " .
وقال الآلوسى : بعد أن ذكر عددا من الأحاديث فى هذا الشأن : والأحاديث الصحيحة فى الانشقاق كثيرة ، واختلف فى تواتره ، فقيل : هو غير متواتر : وفى شرح المواقف أنه متواتر . وهو الذى اختاره العلامة السبكى ، فقد قال : الصحيح عندى أن انشقاق القمر متواتر ، منصوص عليه فى القرآن ، مروى فى الصحيحين وغيرهما من طرق شتى ، لا يمترى فى تواتره .
وقد جاءت أحاديثه فى روايات صحيحة ، عن جماعة من الصحابة ، منهم عل بن أبى طالب ، وأنس ، وابن مسعود . .
ثم قال - رحمه الله - بعد أن ذكر شبهات المنكرين لحادث الانشقاق : والحاصل أنه ليس عند المنكر سوى الاستبعاد ، ولا يستطيع أن يأتى بدليل على الاستحالة الذاتية ولو انشق ، والاستبعاد فى مثل هذه المقامات قريب من الجنون . عند من له عقل سليم .
تفسير سورة القمر{[1]}
وهي مكية بإجماع إلا آية واحدة اختلف فيها ، فقال جمهور الناس : هي مكية ، وقال قوم : هي مما نزل يوم بدر ، وقيل : بالمدينة ، وهي قوله تعالى :{ سيهزم الجمع ويولون الدبر }{[2]} ، وسيأتي القول في ذلك .
{ اقتربت } معناه : قربت إلا أنه أبلغ ، كما أن اقتدر أبلغ من قدر . و : { الساعة } القيامة وأمرها مجهول التحديد لم يعلم ، إلا أنها قربت دون تحديد ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين » ، وأشار بالسبابة والوسطى{[10751]} . وقال أنس : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كادت الشمس تغيب فقال : «ما بقي من الدنيا فيما مضى إلا كمثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى »{[10752]} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إني لأرجو أن يؤخر الله أمتي نصف يوم »{[10753]} وهذا منه على جهة الرجاء والظن لم يجزم به خبراً ، فأناب الله به على أمله وأخر أمته أكثر من رجائه ، وكل ما يروى عن عمر الدنيا من التحديد فضعيف واهن .
وقوله : { انشق القمر } إخبار عما وقع في ذلك ، وذكر الثعلبي أنه قيل إن المعنى ينشق القمر يوم القيامة ، وهذا ضعيف الأمة على خلافه ، وذلك أن قريشاً سألت رسول الله آية فقيل مجملة ، وهذا قول الجمهور ، وقيل بل عاينوا شق القمر ، ذكره الثعلبي عن ابن عباس فأراهم الله انشقاق القمر ، فرآه رسول الله وجماعة من المسلمين والكفار ، فقال رسول الله «اشهدوا »{[10754]} وممن قال من الصحابة رأيته : عبد الله بن مسعود وجبير بن مطعم وأخبر به عبد الله بن عمر وأنس وابن عباس وحذيفة بن اليمان ، وقال المشركون عند ذلك : سحرنا محمد . وقال بعضهم : سحر القمر وقالت قريش استخبروا المسافرين القادمين عليكم ، فما ورد أحد إلا أخبر بانشقاقه وقال ابن مسعود : رأيته انشق فذهبت فرقة وراء جبل حراء ، وقال ابن زيد : كان يرى نصفه على ُقَعْيِقَعان والآخر على أبي قبيس . وقرأ حذيفة : «اقتربت الساعة وقد انشق القمر » ، وذكر الثعلبي عنه أن قراءته : «اقتربت الساعة انشق القمر » دون واو .