ثم بين - سبحانه - ما حدث لموسى بعد أن اقترب من النار فقال : { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يا موسى إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى } .
أى : فلما أتى موسى - عليه السلام - إلى النار ، واقترب منها . . . { نُودِيَ } من قبل الله - عز وجل - { ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ } الذى خلقك فسواك فعدلك . . . { فاخلع نَعْلَيْكَ } تعظيما لأمرنا . وتأدبا فى حضرتنا .
وقوله { إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى } تعليل للأمر بخلع النعل ، أى : أزل نعليك من رجليك لأنك الآن موجود بالوادى { المقدس } أى : المظهر المبارك ، المسمى طوى : فهو عطف بيان من الوادى .
وقال هاهنا { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } أي : الذي يكلمك ويخاطبك ، { فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } قال علي بن أبي طالب ، وأبو ذر ، وأبو أيوب ، وغير واحد من السلف : كانتا من جلد حمار غير ذكيّ .
وقيل : إنما أمره بخلع نعليه تعظيمًا للبقعة .
قال سعيد بن جبير : كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل{[19226]} الكعبة .
وقيل : ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافيًا غير منتعل . وقيل : غير ذلك ، والله أعلم .
وقوله : { طُوًى } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو اسم للوادي .
وكذا قال غير واحد ، فعلى هذا يكون عطف بيان .
وقيل : عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه .
وقيل : لأنه قُدّس مرتين ، وطوى له البركة وكررت : والأول أصح ، كقوله{[19227]} { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } [ النازعات : 16 ] .
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «إني » بكسر الألف على الابتداء ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «أني » بفتح الألف على معنى «لأجل أني » { أنا ربك فاخلع نعليك } ، و { نودي } قد توصل بحرف الجر وأنشد أبو علي : [ الكامل ]
ناديت باسم ربيعة بن مكدم . . . ان المنوه باسمه الموثوق{[8082]}
واختلف المتأولون في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين ، فقالت فرقة كانتا من جلد حمار ميت فأمر بطرح النجاسة ، وقالت فرقة بل كانت نعلاه من جلد بقرة ذكي لكن أمر بخلعها لينال بركة الوادي المقدس وتمس قدماه تربة الوادي ، وتحتمل الآية معنى آخر هو الأليق بها عندي ، وذلك أن الله تعالى أمره أن يتواضع لعظم الحال التي حصل فيها ، والعرف عند الملوك أن تخلع النعلان ويبلغ الإنسان إلى غاية تواضعه ، فكأن موسى عليه السلام أمر بذلك على هذا الوجه ، ولا نبالي كانت نعلاه من ميتة أو غيرها ، و { المقدس } معناه المطهر ، و { طوى } معناه مرتين مرتين ، فقالت فرقة معناه قدس مرتين ، وقالت فرقة معناه طويته أنت ، أي سرت به ، أي طويت لك الأرض مرتين من طيك ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «طوىً » بالتنوين على أنه اسم المكان ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «طوى » على أنه اسم البقعة دون تنوين ، وقرأ هؤلاء كلهم بضم الطاء ، وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو بكسر الطاء ، وقرأت فرقة «طاوي » وقالت فرقة هو اسم الوادي ، و «طوى » على التأويل الأول بمنزلة قولهم ثنى وثنى أي مثنياً .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 11]
يقول تعالى ذكره: فلما أتى النارَ موسى، ناداه ربه:"يا موسَى إنّي رَبّك فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ"...
واختلف أهل العلم في السبب الذي من أجله أمر الله موسى بخلع نعليه؛ فقال بعضهم: أمره بذلك، لأنهما كانتا من جلد حمار ميت، فكره أن يطأ بهما الوادي المقدّس، وأراد أن يمسه من بركة الوادي...
وقال آخرون: كانتا من جلد بقر، ولكن الله أراد أن يطأ موسى الأرض بقدميه، ليصل إليه بركتها...
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: أمره الله تعالى ذكره بخلع نعليه ليباشر بقدميه بركة الوادي، إذ كان واديا مقدسا.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب، لأنه لا دلالة في ظاهر التنزيل على أنه أمر بخلعهما من أجل أنهما من جلد حمار ولا لنجاستهما، ولا خبر بذلك عمن يلزم بقوله الحجة، وإن في قوله "إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ "بعقبه دليلاً واضحا، على أنه إنما أمره بخلعهما لما ذكرنا...
وأما قوله: "إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ "فإنه يقول: إنك بالوادي المطهر المبارك... واختلف أهل التأويل في تأويل قوله "طُوًى"؛
فقال بعضهم: معناه: إنك بالوادي المقدس طويته، فعلى هذا القول من قولهم (طوى) مصدر خرج من غير لفظه، كأنه قال: طويت الوادي المقدس طوى... عن ابن عباس: قوله: "إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ طُوًى" يعني الأرض المقدسة، وذلك أنه مرّ بواديها ليلاً فطواه، يقال: طويت وادي كذا وكذا طوى من الليل، وارتفع إلى أعلى الوادي، وذلك نبيّ الله موسى صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: مرّتين، وقال: ناداه ربه مرّتين، فعلى قول هؤلاء (طوى) مصدر أيضا من غير لفظه، وذلك أن معناه عندهم: نودي يا موسى مرّتين نداءين...
وروى ذلك آخرون: «عليّ ثِنىً»: أي مرّة بعد أخرى، وقالوا: طُوىً وثنىً بمعنى واحد...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنه قدّس طوى مرّتين...
وقال آخرون: بل طُوى: اسم الوادي...
وقال آخرون: بل هو أمر من الله لموسى أن يطأ الوادي بقدميه... عن عكرمة، في قوله: "طُوًى" قال: طأ الوادي...
وأولى القولين عندي بالصواب قراءة من قرأه بضم الطاء والتنوين... وهو عندي اسم الوادي.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فلما أتاها نودي يا موسى} أي نداء وحي {يا موسى} {إني أنا ربك فاخلع نعليك} قال بعضهم: إنما أمره أن يخلع نعليه لأنهما كانا من جلد ميتة. وقال قائلون: أمَرَهُ بنزع نعليه لتمس قدماه بركة ذلك الوادي...وليس لنا أن نفسر ذلك أنه لماذا أمره بذلك، إذ له أن يأمر بخلع نعليه لا لمعنى، وليس لنا أن نقول: أمره لهذا، أو لعله أمره بذلك لمعنى آخر، أو لا لمعنى، فيخرج ذلك مخرج الشهادة على الله تعالى.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
والوادي المقدس عبارة عن مقام الكليم موسى عليه السلام مع الله تعالى في الوادي، وإنما تقدس الوادي بما أنزل فيه من الذكر، وسمع كلام الله تعالى.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قرأ أبو عمرو وابن كثير «أَنّي» بالفتح، أي: نودي بأني {أَنَاْ رَبُّكَ} وكسر الباقون، أي: نودي فقيل يا موسى، أو لأنّ النداء ضرب من القول فعومل معاملته. تكرير الضمير في {إني أَنَاْ رَبُّكَ} لتوكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة... [فاخلع نعليك]... والقرآن يدل على أن ذلك احترام للبقعة وتعظيم لها وتشريف لقدسها...
{طُوًى} بالضم والكسر منصرف وغير منصرف بتأويل المكان والبقعة. وقيل: مرتين، نحو ثنى أي: نودي نداءين، أو قدس الوادي كرة بعد كرة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فلما أتاها نودي يا موسى: إني أنا ربك..) نودي بهذا البناء للمجهول. فما يمكن تحديد مصدر النداء ولا اتجاهه. ولا تعيين صورته ولا كيفيته. ولا كيف سمعه موسى أو تلقاه.. نودي بطريقة ما فتلقى بطريقة ما. فذلك من أمر الله الذي نؤمن بوقوعه، ولا نسأل عن كيفيته، لأن كيفيته وراء مدارك البشر وتصورات الإنسان يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى.. إنك في الحضرة العلوية. فتجرد بقدميك. وفي الوادي الذي تتجلى عليه الطلعة المقدسة، فلا تطأه بنعليك.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتفريع الأمر بخلع النعلين على الإعلام بأنه ربّه إشارة إلى أن ذلك المكان قد حلّه التقديس بإيجاد كلام من عند الله فيه. والخلع: فصل شيء عن شيء كان متّصلاً به. والنعلان: جلدان غليظان يجعلان تحت الرجل ويشدّان برباط من جلد لوقاية الرِّجل ألم المشي على التّراب والحصى، وكانت النعل تجعل على مثال الرجل. وإنما أمره الله بخلع نعليه تعظيماً منه لذلك المكان الذي سيسمع فيه الكلام الإلهي... أقول: وفيه أيضاً زيادة خشوع. وقد اقتضى كلا المعنيين قوله تعالى: {إنَّكَ بالوادِ المُقَدَّسِ} فحرف التوكيد مفيد هنا التعليل كما هو شأنه في كل مقام لا يقتضي التأكيد. وهذه خصوصية من جهات فلا يؤخذ منها حكمٌ يقتضي نزع النعل عند الصلاة.