184- وفرض الله عليكم الصيام في أيام معدودة قليلة لو شاء سبحانه لأطال مدته ولكنه لم يطلها ، ولم يكلفكم في الصوم ما لا تطيقون ، فمن كان مريضاً مرضاً يضر معه الصوم ، أو كان في سفر ، فله أن يفطر ويقضي الصوم بعد برئه من المرض أو رجوعه من السفر ، أما غير المريض والمسافر ممن لا يستطيع الصوم إلا بمشقة لعذر دائم كشيخوخة ومرض لا يرجى برؤه فله الفطر حينئذٍ ، وعليه أن يطعم مسكيناً لا يجد قوت يومه ، ومن صام متطوعاً زيادة على الفرض فهو خير له ، لأن الصيام خير دائماً لمن يعلم حقائق العبادات .
وقوله : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } أي : معينات بالعد أو قليلات ، لأن القليل يسهل عده فيعد والكثير يؤخذ جزافاً .
والمراد بهذه الأيام المعدودات شهر رمضان عند جمهور العلماء .
قالوا : وتقريره أنه - سبحانه - قال أولا { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } وهذا محتمل ليوم ويومين ثم بينه بقوله : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } فزال بعض الاحتمال ثم بينه بقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } فعلى هذا الترتيب يمكن جعل الأيام المعدودات بعينها شهر رمضان ، وإذا أمكن ذلك فلا وجه لحمله على غيره .
وإنما عبر عن رمضان بأيام وهي جمع قلة ووصف بمعدودات وهي جمع قلة - أيضاً - تهوينا لأمره على المكلفين ، وإشعاراً لهم بأن الله - تعالى - ما فرض عليهم إلا ما هو في وسعهم وقدرتهم .
وقيل : إن المراد بالأيام المعدودات غير رمضان ، وذكروا أن المراد بها ثلاثة أيام من كل شهر وهي الأيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر مضافاً إليها يوم عاشوراء . ثم نسخ ذلك بوجوب صوم شهر رمضان .
والمعتمد بين المحققين من العلماء هو القول الأول ، لأنه - كما قال الإِمام الرازي - لا وجه لحمله على غيره ، والقول بالنسخ زيادة لا دليل عليها .
وقوله : { أَيَّاماً } منصوب على الظرفية ، أو بفعل مضمر مقدر أي : صوموا أياماً . وقوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } زيادة بيان ليسر شريعة الإِسلام بعد أن أخبرهم - سبحانه - بأن الصوم المفروض عليهم إنما هو أيام معدودات ، وتعجيل بتطمين نفوس السامعين لئلا يظنوا وجوب الصوم عليهم في كل حال .
والمرض : الخروج عن الاعتدال الخاص بالإِنسان ، بأن يصاب بانحراف في جسده يجعله في حالة وجع أو اضطراب بدني .
قال القرطبي : وللمريض حالتان :
إحداهما : ألا يطيق الصوم بحال فعليه الفطر واجباً .
الثانية : أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة فهذا يستحب له الفطر . . فالفطر مباح في كل مرض إلا المرض اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام .
وقوله : { أَوْ على سَفَرٍ } قال الآلوسي معناه : أو راكب سفر مستعل عليه متمكن منه ، بأن استغشل به قبل الفجر ، ففيه إيماء إلى أن من سافر في أثناء اليوم لم يفطر . واستدل بإطلاق السفر على أن السفر القصير وسفر المعصية مرخص للإِفطار . وأكثر العلماء على تقييده بالمباح وبما يلزمه العسر غالباً وهو السفر إلى المسافة المقدرة في الشرع " .
والعدة فعله من العد ، وهي بمعنى المعدود ، كالطحن بمعنى المطحون ومنه عدة المرأة .
والمعنى : لقد فرضنا عليكم الصوم أيها المؤمنون ، وجعلناه كما هو الشأن من كل ما شرعناه متسماً باليسر لا بالعسر ، ومن مظاهر ذلك أننا فرضنا عليكم صوم أيام معدودات وهي أيام شهر رمضان ، ولم نفرض عليكم صوم الدهر . وأننا شرعنا لمن كان مريضا مرضا يضره الصوم أو يعسر معه ، أو كان على سفر يشق عليه معه الصوم ، شرعنا له أن يفطر وأن يصوم بدل الأيام التي أفطرها أياما آخر مساوية لها في العدد .
قال الإِمام الرازي : قال القفال : أنظروا إلى عجب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف ، إذ أنه بين في أول الآية أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمم المتقدمة ، والغرض منه ما ذكرناه من أن الأمور الشاقة إذا عمت خفت . ثم ثانيا بين وجه الحكمة في إيجاب الصوم وهو أنه سبب الحصول التقوى فلو لم يفرض الصوم لفات هذا المقصود الشريف ، ثم بين ثالثاً أنه مختص بأيام معدودة فإنه لو جعله أبداً أو أكثر الأوقات لحصلت المشقة العظيمة . ثم بين .
رابعاً : أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لكونه أشرف الشهور بسبب هذه الفضيلة . ثم بين خامساً : إزالة المشقة في إلزامه أباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى أن يصيروا إلى الرفاهية والسكون . فهو - سبحانه- راعي في إيجاب الصوم هذه الوجوه من الرحمة فله الحمد على نعمة كثيراً " .
هذا ، وقد نص الفقهاء على أن الأفطار مشروع على سبيل الرخصة للمريض والمسافر ، وهما بالخيار في ذلك إن شاءا أفطر وإن شاءا صاما ، إلا أن أكثر الفقهاء قالوا : الصوم أفضل لمن قوى عليه .
والذي نراه الله - تعالى - قد أباح الفطر في رمضان بسبب المرض أو السفر ، لأن كلا منهما مظنة المشقة والحرج . والحكم الشرعي يوجد حيث توجد مظنته وينتفى حيث تنتفي . وعلى المسلم أن يقدر حال نفسه ، فإذا أيقن أو غلب على ظنه أن مرضه أو سفره ليس في الصوم معه مشقة أو عسر صام عملا يقول- تعالى- { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } . وإذا أيقن أو غلب على ظنه أن مرضه أو سفره يجعل الصوم شاقاً عليه أفطر عملا بقوله - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } فالمسألة ترجع إلى ضمير الفرد ودينه واستفتاء قلبه .
والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صام في السفر وأفطر ، وخير بعض أصحابه بين الصوم والفطر . فقد روى البخاري ومسلم عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم " وفي إحدى روايتي مسلم - في شهر رمضان - ، في يوم حار ، حتى ليضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحه " .
وروى الإِمام مسلم في صحيحه عن قزعة قال : " أتيت أبا سعيد الخدري فسألته عن الصوم في السفر فقال : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام ، قال : فنزلنا منزلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم ، فكانت رخصة . فمنا من صام ومنا من أفطر . ثم نزلنا منزلا آخر فقال : إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا . وكانت عزمة فأفطرنا . ثم قال : ولقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك من السفر " .
وروى الشيخان عن أنس بن مالك قال : كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
وهناك مسألة أخرى تعرض لها الفقهاء بالحديث وهي مسألة قضاء الأيام التي أفطرها المريض أو المسافر هل يقضيها متتابعة أو متفرقة وهل يقضيها على الفور أو على التراخي ؟
وجمهور الفقهاء على أن للمفطر في رمضان بسبب المرض أو السفر أن يقضي ما أفطره متتابعاً أو متفرقاً ؛ لأن قوله - تعالى - : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } . دل على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان ، لأن اللفظ - كما قال القرطبي - مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض .
وله كذلك أن يقضي ما عليه على الفور أو على التراخي على حسب ما يتيسر له . ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : يكون علىَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان ، وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا نص وزيادة بيان للآية " .
ويرى داود الظاهري أن على المفطر في رمضان بسبب المرض أو السفر أن يشرع في قضاء ما أفطره في اليوم الثاني من شوال المعاقب له ، وأن يتابع أيام القضاء .
والمعتمد بين العلماء هو قول الجمهور لقوة أدلته التي سبق بيانها .
وقوله - تعالى - : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } بيان لحكم آخر من أحكام الشريعة فيما يتعلق بصوم رمضان يتجلى فيه تيسير الله على عبادة فيما شرع لهم من عبادات .
ومعنى { يُطِيقُونَهُ } يقدرون عليه ويتحملونه بمشقة وتعب ، لأن الطاقة اسم للقدرة على الشيء مع الشدة والمشقة ، والوسع اسم للقدرة على الشيء على جهة السهولة .
قال الراغب : والطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإِنسان أن يفعله بمشقة ، وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء ، ومنه { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أي ما يصعب علينا مزاولته ، وليس معناه : " لا تحملنا ما لا قدرة لنا به " .
والعرب لا تقول فلان أطاق الشيء إلا إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف بحيث يتحمله بمشقة وعسر . فلا يقال - مثلا - فلان يطيق حمل نواة أو ريشة أو عشرة دراهم من حديد ، وإنما يقال : هو يطيق حمل قنطارين أو حمل الأمتعة الثقيلة .
وللعلماء أقوال في المراد بقوله - تعالى - { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } أشهرها :
1 - إن هذا راجع إلى المقيم الصحيح خيره الله - تعالى - بين الصوم وبين الفداء ، وكان ذلك في بدء الإِسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه فاشتد عليهم ، فرخص لهم في الإِقطار والفدية ، ثم نسخ ذلك وأوجب الله عليهم الصوم .
ويشهد لهذا القول ما جاء في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال : لما نزلت هذه الآية { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من أراد أن يفطر ويفتدي ، حتى نزلت الآية بعدها فنسختها .
وفي رواية للإِمام مسلم من طريق آخر عن سلمة - أيضاً - قال : كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء أفطر فافتدى بطعا مسكين حتى أنزلت هذه الآية { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } .
2 - ويرى بعض اللعماء أن قوله - تعالى - : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } إلخ ، ليس بمنسوخ بل هو محكم ، وأنه نزل في شأن الشيخ الكبير الهرم ، والمرأة العجوز ، إذا كانا لا يستطيعان الصيام فعليهما أن يفطرا وأن يطعما عن كل يوم مسكينا .
وأصحاب هذا الرأي يستدلون بما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فعليها أن يطعما مكان كل يوم مسكيناً " .
3 - وهناك رأى ثالث لبعض العلماء يرى أصحابه أن قوله - تعالى - { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } ليس بمنسوخ - أيضاً - بل هو محكم ، وأن معنى الآية عندهم : وعلى الذين يطيقونه ، أي : يقدرون على الصيام بمشقة شديدة إذا أرادوا أن يفطروا أن يطعموا عن كل يوم يفطرونه مسكيناً . ( بأن يقدموا له نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير ، أو قيمة ذلك ) .
ولم يقصروا ذلك على الرجل الكبير والمرأة العجوز - كما فعل أصحاب الرأي الثاني - وإنما أدخلوا في حكم الذين يقدرون على الصوم بمشقة وتعب المرضع والحامل إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ومن في حكمها ممن يشق عليهم الصوم مشقة كبيرة .
وأصحاب هذا الرأي يستدلون على ما ذهبوا إليه بمنطوق الآية ، إذا أن الوسع اسم للقدرة على الشيء على جهة السهولة ، والطاقة اسم للقدرة عليه مع الشدة والمشقة - كما سبق أن بينا - ، كما يستدلون - أيضاً - على ما ذهبوا إليه بقراءة { يُطِيقُونَهُ } - بضم الياء الأولى وتشديد الياء الثانية - أي يتجشمونه ، ويتكلفونه بمشقة وتعب ، وقد انتصر بعض العلماء لهذا الرأي بناء على أن منطوق الآية يؤيده .
كما انتصر بعضهم للرأي الأول بناء على أن الأحاديث الصحيحة تسانده وعلى أنه هو الأقرب إلى روح الشريعة الإِسلامية في التدرج في تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس ، كما انتصر بعضهم للرأي الثاني الذي روى عن ابن عباس .
وهناك أقوال أخرى في الآية رأينا أن نضرب عنها صفحاً لضعفها .
وقوله : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } حض من الله - تعالى - لعباده على الإِكثار من عمل الخير .
والتطوع : السعي في أن يكون الإِنسان فاعلا للطاعة باختياره بدون إكراه والخير : مصدر خار إذا حسن وشرف ، وهو منصوب لتضمين تطوع معنى أتى ، أو على أنه صفة لمصدر محذوف أي تطوعاً خيراً .
والمعنى : فمن تطوع خيراً بأن زاد على القدر المفروض في الفدية ، أو أطعم أكثر من مسكين ، أو جمع بين الإِطعام والصوم ، فتطوعه سيكون خيراً عند الله - سبحانه - لا يضيع أجر من أحسن عملا .
وقوله : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ترغيب في الصوم وتحبيب فيه . أي : وأن تصوموا أيها المطيقون للصوم ، أو أيها المكلفون جميعاً خير لكم من كل شيء سواه ، إن كنتم تعلمون فوائد الصوم في حياتكم ، وحسن جزائه في آخرتكم .
روى النسائي وابن خزيمة عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : " قلت يا رسول الله مرني بعمل قال : عليك بالصوم فإنه لا عدل له - أي لا يعادل ثوابه بشيء - فقلت يا رسول الله مرني بعمل ، فقال : عليك بالصوم فإنه لا عدل له . فقلت : يا رسول الله مرني بعمل أدخل به الجنة . فقال : عليك بالصوم فإنه لا مثل له " .
ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام ، فقال : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أي : المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر ؛ لما في ذلك من المشقة عليهما ، بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر . وأما الصحيح المقيم الذي يُطيق الصيام ، فقد كان مخيَّرًا بين الصيام وبين الإطعام ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر ، وأطعم عن كل يوم مسكينا ، فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم ، فهو خير ، وإن صام فهو أفضل من الإطعام ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وطاوس ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم من السلف ؛ ولهذا قال تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا المسعودي ، حدثنا عمرو بن مُرّة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه ، قال : أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال ، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال ؛ فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ، وهو يصلي{[9]} سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس ، ثم إن الله عز وجل أنزل عليه : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } [ البقرة : 144 ] فوجهَهُ اللهُ إلى مكة . هذا حول .
قال : وكانوا يجتمعون للصلاة ويُؤْذِنُ بها بعضهم بعضا حتى نَقَسُوا أو كادوا يَنْقُسُون . ثم إنّ رجلا من الأنصار ، يقال له : عبد الله بن زيد ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إني رأيت فيما يرى النائم - ولو قلتُ : إني لم أكن نائمًا لصدقتُ - أني {[10]}بينا أنا بين النائم واليقظان إذْ رأيت شخصًا عليه ثوبان أخضران ، فاستقبل القبلة ، فقال : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله - مثنى حتى فرغ من الأذان ، ثم أمهل ساعة ، ثم قال مثل الذي قال ، غير أنه يزيد في ذلك : قد قامت الصلاة - مرتين - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " علمها بلالا فَلْيؤذن بها " . فكان بلال أول من أذن بها . قال : وجاء عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ، [ إنه ]{[11]} قد طاف بي مثل الذي طاف به ، غير أنه سبقني ، فهذان حالان{[12]} .
قال : وكانوا يأتون الصلاة - قد سبقهم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ببعضها ، فكان الرجل يشير إلى الرجل إذًا كم صلى ، فيقول : واحدة أو اثنتين ، فيصليهما ، ثم يدخل مع القوم في صلاتهم . قال : فجاء معاذ فقال : لا أجده على حال أبدًا إلا كنتُ عليها ، ثم قضيتُ ما سبقني . قال : فجاء وقد سَبَقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها ، قال : فثَبَتَ معه ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه قَد سن لكم مُعَاذ ، فهكذا فاصنعوا " . فهذه ثلاثة أحوال{[13]} .
وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ، فجعل يصومُ من كل شهر ثلاثة أيام ، وصام عاشوراء ، ثم إن الله فرض عليه الصيام ، وأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } إلى قوله : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فكان مَنْ شاء صام ، ومن شاء أطعم مسكينًا ، فأجزأ ذلك عنه . ثم إن الله عز وجل أنزل الآية الأخرى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } إلى قوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فأثبت اللهُ صيامَه على المقيم الصحيح{[14]} ورخَّصَ فيه للمريض والمسافر ، وثبت الإطعامُ للكبير{[15]} الذي لا يستطيع الصيام ، فهذان حالان{[16]} .
قال : وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا ، فإذا ناموا امتنعوا ، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له : صرمة ، كان يعمل صائمًا حتى أمسى ، فجاء إلى أهله فصلى العشاء ، ثم نام فلم يأكل ولم يشرب ، حتى أصبح فأصبح صائما ، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدًا شديدًا ، فقال : ما لي أراك قد جَهِدْت جهدًا شديدا ؟ قال : يا رسول الله ، إني عملت أمس فجئتُ حين جئتُ فألقيتُ نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائمًا . قال : وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فأنزل الله عز وجل : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } إلى قوله : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }
وأخرجه أبو داود في سننه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث المسعودي ، به{[17]} .
وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أنها قالت : كان عاشوراء يصام ، فلما نزل فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر{[18]} . وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود ، مثله{[19]} .
وقوله : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كما قال معاذ : كان{[20]} في ابتداء الأمر : من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا . وهكذا روى البخاري عن سَلَمة بن الأكوع أنه قال : لما نزلت : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من أراد أن يُفْطر يفتدي ، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها{[21]} .
وروي أيضًا من حديث عبيد الله{[22]} عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : هي منسوخة .
وقال السدي ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال : لما نزلت هذه الآية : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } قال : يقول : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي : يتجشمونه ، قال عبد الله : فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا { فَمَنْ تَطَوَّعَ } قال : يقول : أطعم مسكينا آخر { فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } فكانوا كذلك حتى نسختها : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }
وقال البخاري أيضًا : حدثنا إسحاق ، أخبرنا روح ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، حدثنا عَمْرو بن دينار ، عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ : " وعلى الذين يُطَوَّقُونه فدية طعام مسكين " . قال ابن عباس : ليست منسوخة ، هو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما ، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا{[23]} .
وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، نحوه .
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا عبد الرحيم ، عن أشعث بن سوار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس [ قال ]{[24]} نزلت هذه الآية : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف ، فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينًا .
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد ، حدثنا الحسين بن محمد بن بِهْرام المحرمي ، حدثنا وهب بن بَقِيَّة ، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن ابن أبي ليلى ، قال : دخلت على عطاء في رمضان ، وهو يأكل ، فقال : قال ابن عباس : نزلت هذه الآية : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا ، ثم نزلت هذه الآية فنسخت الأولى ، إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينًا وأفطر . فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه ، بقوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وأما الشيخ الفاني [ الهرم ] {[25]}الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه ، لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء ، ولكن هل يجب عليه [ إذا أفطر ]{[26]} أن يطعم عن{[27]} كل يوم مسكينًا إذا كان ذا جِدة ؟ فيه قولان للعلماء ، أحدهما : لا يجب عليه إطعام ؛ لأنه ضعيف عنه لسنّه ، فلم يجب عليه فدية كالصبي ؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها ، وهو أحد قولي الشافعي . والثاني - وهو الصحيح ، وعليه أكثر العلماء - : أنه يجب عليه فدية عن كل يوم ، كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي : يتجشمونه ، كما قاله ابن مسعود وغيره ، وهو اختيار البخاري فإنه قال : وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام ، فقد أطعم أنس - بعد أن{[28]} كبر عامًا أو عامين - كل يوم مسكينًا خبزًا ولحما ، وأفطر{[29]} .
وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده ، فقال : حدثنا عُبَيد الله بن مُعَاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا عمران ، عن أيوب بن أبي تميمة{[30]} قال : ضعف أنس [ بن مالك ]{[31]} عن الصوم ، فصنع جفنة من ثريد ، فدعا ثلاثيِن مسكينًا فأطعمهم{[32]} .
ورواه عبد بن حميد ، عن روح بن عبادة ، عن عمران - وهو ابن حُدَير{[33]} - عن أيوب ، به .
ورواه عبد أيضًا ، من حديث ستة من أصحاب أنس ، عن أنس - بمعناه .
ومما يلتحق بهذا المعنى : الحامل والمرضع ، إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ، ففيهما خلاف كثير بين العلماء ، فمنهم من قال : يفطران ويفديان ويقضيان . وقيل : يفديان فقط ، ولا قضاء . وقيل : يجب القضاء بلا فدية . وقيل : يفطران ، ولا فدية ولا قضاء . وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه{[34]} . ولله الحمد والمنة .
{ أياما معدودات } مؤقتات بعدد معلوم ، أو قلائل . فإن القليل من المال يعد عدا والكثير يهال هيلا ، ونصبها ليس بالصيام لوقوع الفصل بينهما ، بل بإضمار صوموا لدلالة الصيام عليه ، والمراد به رمضان أو ما وجب صومه قبل وجوبه ونسخ به ، وهو عاشوراء أو ثلاثة أيام من كل شهر ، أو ب " كما كتب " على الظرفية ، أو على أنه مفعول ثان ل{ كتب عليكم } على السعة . وقيل معناه صومكم كصومهم في عدد الأيام ، لما روي : أن رمضان كتب على النصارى ، فوقع في برد أو حر شديد فحولوه إلى الربيع وزادوا عليه عشرين كفارة لتحويله . وقيل زادوا ذلك لموتان أصابهم . { فمن كان منكم مريضا } مرضا يضره الصوم أو يعسر معه . { أو على سفر } أو راكب سفر ، وفيه إيماء إلى أن من سافر أثناء اليوم لم يفطر . { فعدة من أيام أخر } أي فعليه صوم عدد أيام المرض ، أو السفر من أيام أخر إن أفطر ، فحذف الشرط والمضاف والمضاف إليه للعلم بها . وقرئ بالنصب أي فليصم عدة ، وهذا على سبيل الرخصة . وقيل على الوجوب وإليه ذهب الظاهرية وبه قال أبو هريرة رضي الله عنه { وعلى الذين يطيقونه } وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا . { فدية طعام مسكين } نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند فقهاء العراق ، ومد عند فقهاء الحجاز . رخص لهم في ذلك أول الأمر لما أمروا بالصوم فاشتد عليهم لأنهم لم يتعودوه ، ثم نسخ . وقرأ نافع وابن عامر برواية ابن ذكوان بإضافة الفدية إلى الطعام وجمع " المساكين " . وقرأ ابن عامر برواية هشام " مساكين " بغير إضافة الفدية إلى الطعام ، والباقون بغير إضافة وتوحيد مسكين ، وقرئ " يطوقونه " أي يكلفونه ويقلدونه في الطوق بمعنى الطاقة أو القلادة ويتطوقونه أي يتكلفونه ، أو يتقلدونه ويطوقونه بالإدغام ، و " يطيقونه " و " يطيقونه " على أن أصلهما يطيقونه من فيعل وتفيعل بمعنى يطوقونه ويتطوقونه ، وعلى هذه القراءات يحتمل معنى ثانيا وه والرخصة لمن يتعبه الصوم ويجهده وهم الشيوخ والعجائز- في الإفطار والفدية ، فيكون ثابتا وقد أول به القراءة المشهورة ، أي يصومونه جهدهم وطاقتهم . { فمن تطوع خيرا } فزاد في الفدية . { فهو } فالتطوع أو الخير . { خير له وأن تصوموا } أيها المطيقون ، أو المطوقون وجهدتم طاقتكم . أو المرخصون في الإفطار ليندرج تحته المريض والمسافر . { خير لكم } من الفدية أو تطوع الخير أو منهما ومن التأخير للقضاء . { إن كنتم تعلمون } ما في الصوم من الفضيلة وبراءة الذمة ، وجوابه محذوف دل عليه ما قبله أي اخترتموه . وقيل معناه إن كنتم من أهل العلم والتدبر علمتم أن الصوم خير لكم من ذلك .
قوله تعالى : { أياماً معدودات } ظرف للصيام مثل قولك الخروج يوم الجمعة ، ولا يضر وقوع الفصل بين { الصيام } وبين { أياماً } وهو قوله : { كما كتب } إلى { تتقون } لأن الفصل لم يكن بأجنبي عند التحقيق ، إذ الحال والمفعول لأجله المستفاد من ( لعلَّ ) كل ذلك من تمام عامل المفعول فيه وهو قوله صيام ، ومن تمام العاملِ في ذلك العامل وهو { كُتب } فإن عامل العامل في الشيء عامل في ذلك الشيء ولجواز الفصل بالأجنبي إذا كان المعمول ظرفاً ، لاتساعهم في الظروف وهذا مختار الزجاج والزمخشري والرضي ، ومَرجع هذه المسألة إلى تجنب تشتيت الكلام باختلال نظامه المعروف ، تجنباً للتعقيد المخل بالفصاحة .
والغالبُ على أحوال الأمم في جاهليتها وبخاصة العرب هو الاستكثار من تناول اللذات من المآكل والخمور ولهو النساء والدعة ، وكل ذلك يوفر القُوى الجسمانيةَ والدموية في الأجساد ، فتقوى الطبائع الحيوانية التي في الإنسان من القوة الشهوية والقوة الغضبية . وتطغَيَان على القوة العاقلة ، فجاءت الشرائع بشرع الصيام ، لأنه يفي بتهذيب تلك القوى ، إذ هو يمسك الإنسان عن الاستكثار من مثيرات إفراطها ، فتكون نتيجتُه تعديلَها في أوقات معينة هي مظنة الاكتفاء بها إلى أوقات أخرَى .
والصوم بمعنى إقلال تناول الطعام عن المقدار الذي يبلغ حد الشبع أو تركِ بعض المأكل : أصل قديم من أصول التقوى لدى المليين ولدى الحكماء الإشراقيين ، والحكمة الإشراقية مبناها على تزكية النفس بإزالة كدرات البهيمية عنها بقدر الإمكان ، بناء على أن للإنسان قوتين : إحداهما رُوحانية مُنبثة في قرارتها من الحواس الباطنية ، والأخرى حيوانية منبثة في قرارتها من الأعضاء الجسمانية كلها ، وإذ كان الغذاء يخلف للجسد ما يضيعه من قوته الحيوانية إضاعةً تنشأ عن العمل الطبيعي للأعضاء الرئيسية وغيرها ، فلا جرم كانت زيادة الغذاء على القدر المُحتاج إليه توفر للجسم من القوة الحيوانية فوق ما يحتاجه وكان نقصانه يقَتِّر عليه منها إلى أن يبلغ إلى المقدار الذي لا يمكن حفظ الحياة بدونه ، وكان تغلب مظهر إحدى القوتين بمقدار تضاؤل مظهر القوة الأخرى ، فلذلك وجدوا أن ضعف القوة الحيوانية يقلل معمولَها فتتغلب القوة الروحانية على الجسد ويتدرج به الأمر حتى يصير صاحب هذه الحال أقرب إلى الأرواح والمجردات منه إلى الحيوان ، بحيث يصير لا حَظَّ له في الحيوانية إلاّ حياة الجسم الحافظة لبقاء الروح فيه ، ولذلك لزم تعديل مقدار هذا التناقص بكيفية لا تفضي إلى اضمحلال الحياة ، لأن ذلك يضيع المقصود من تزكية النفس وإعدادِها للعوالم الأخروية ، فهذا التعادل والترجيح بين القوتين هو أصل مشروعية الصيام في الملل ووضعيته في حكمة الإشراق ، وفي كيفيته تختلف الشرائع اختلافاً مناسباً للأحوال المختصة هي بها بحيث لا يفيت المقصد من الحياتين ، ولا شك أن أفضل الكيفيات لتحصيل هذا الغرض من الصيام هو الكيفيَّة التي جاء بها الإسلام .
قيل في « هياكل النور » « النفوس الناطقة من جوهر الملكوت إنما شغلها عن عالمها القُوى البدنيةُ ومشاغلتها ، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية وضعف سلطان القوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحياناً إلى عالم القدس وتتصل بأبيها المقدس وتتلقّى منه المعارف » ، فمِنَ الصوم ترك البراهمة أكل لحوم الحيوان والاقتصار على النبات أو الألبان ، وكان حكماء اليونان يرتاضون على إقلال الطعام بالتدريج حتى يعتادوا تركه أياماً متوالية ، واصطلحوا على أن التدريج في إقلال الطعام تدريجاً لا يخشى منه انخرام صحة البدن أن يَزِن الحكيم شبعهُ من الطعام بأعواد من شجر التين رطبة ثم لا يجددها فيَزن بها كل يوم طعامه لا يزيد على زِنّتها وهكذا يستمر حتى تبلغ من اليبس إلى حد لا يُبس بعده فتكون هي زنة طعام كل يوم .
وفي « حكمة الإشراق » للسهروردي « وقبل الشروع في قراءة هذا الكتاب يرتاض أربعين يوماً تاركاً للحوم الحيوانات مقللاً للطعام منقطعاً إلى التأمل لنور الله اهـ » .
وإذ قد كان من المتعذر على الهيكل البشري بما هو مُسْتَوْدَعُ حياةٍ حيوانية أن يتجرد عن حيوانيته ، فمن المتعذر عليه الانقطاع البات عن إمداد حيوانيته بمطلوباتها فكان من اللاّزم لتطلب ارتقاء نفسه أن يتدرج به في الدرجات الممكنة من تهذيب حيوانيته وتخليصه من التوغل فيها بقدر الإمكان ، لذلك كان الصوم أهم مقدمات هذا الغرض ، لأن فيه خصلتين عظيمتين ؛ هما الاقتصاد في إمداد القوى الحيوانية وتعود الصبر بردها عن دواعيها ، وإذ قد كان البلوغ إلى الحد الأتم من ذلك متعذراً كما علمت ، حاول أساطين الحكمة النفسانية الإِقلال منه ، فمنهم من عالج الإقلال بنقص الكميات وهذا صوم الحكماء ، ومنهم من حاوله من جانب نقص أوقات التمتع بها وهذا صوم الأَديان وهو أبلغ إلى القصد وأظْهر في ملكة الصبر ، وبذلك يحصل للإِنسان دُربة على ترك شهواته ، فيتأهل للتخلق بالكمال فإن الحائل بينه وبين الكمالات والفضائل هو ضعف التحمل للانصراف عن هواه وشهواته :
إذَا المرء لم يَتْرُك طعاماً يُحِبُّه *** ولم يَنْهَ قلباً غاوياً حيث يمما
فيُوشك أن تلقَى له الدهرَ سُبَّةً *** إذا ذُكِرتْ أمثالُها تَمْلأُ الفمـا
فإن قلت : إذا كان المقصد الشرعي من الصوم ارتياضَ النفس على ترك الشهوات وإثارةَ الشعور بما يلاقيه أهلُ الخصاصة من ألم الجوع ، واستشعارَ المساواة بين أهل الجِدة والرفاهية وأهللِ الشظف في أصول الملذات بني الفريقين من الطعام والشراب واللهو ، فلماذا اختلفت الأديان الإلهية في كيفية الصيام ولماذا التزمت الديانة الإسلامية في كيفيته صورة واحدة ، ولم تَكِل ذلك إلى المسلم يتخذ لإِراضة نفسه ما يراه لائقاً به في تحصيل المقاصد المرادة ؟ .
قلت : شأن التعليم الصالح أن يَضبط للمتعلم قواعدَ وأساليبَ تبلغ به إلى الثمرة المطلوبة من المعارف التي يزاولها فإن مُعَلم الرياضة البدنية يضبط للتعلم كيفيات من الحركات بأعضائه وتطور قامته انتصاباً وركوعاً وقرْفصاء ، بعض ذلك يثمر قوة عضلاته وبعضها يثمر اعتدال الدورة الدموية وبعضها يثمر وظائف شرايينه ، وهي كيفيات حددها أهل تلك المعرفة وأَدْنَوْا بها حصول الثمرة المطلوبة ، ولو وُكل ذلك للطالبين لذهبت أوقات طويلة في التجارب وتعددت الكيفيات بتعدد أفهام الطالبين واختيارهم وهذا يدخل تحت قوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] .
والمراد بالأيام من قوله : { أياماً معدودات } شهر رمضان عند جمهور المفسرين ، وإنما عبر عن رمضان بأيام وهي جمع قلة ووصف بمعدودات وهي جمع قلة أيضاً ؛ تهوينا لأمره على المكلفين ، والمعدودات كناية عن القلة ؛ لأن الشيء القليل يعد عدا ؛ ولذلك يقولون : الكثير لا يعد ، ولأجل هذا اختير في وصف الجمع مجيئه في التأنيث على طريقة الجمع بألف وتاء وإن كان مجيئه على طريقة الجمع المكسر الذي فيه هاء تأنيث أكثر .
قال أبو حيان عند قوله تعالى الآتي بعده : { من أيام أخر } [ البقرة : 185 ] صفة الجمع الذي لا يعقل تارة تعامل معاملة الواحدة المؤنثة ، نحو قوله تعالى : { إلا أياماً معدودة } [ البقرة : 80 ] وتارة تعامل معاملة جمع المؤنث نحو : { أياماً معدودات } فمعدودات جمع لمعدودة ، وأنت لا تقول يوم معدودة وكلا الاستعمالين فصيح ، ويظهر أنه ترك فيه تحقيقاً وذلك أن الوجه في الوصف الجاري على جمع مذكر إذا أنثوه أن يكون مؤنثاً مفرداً ، لأن الجمع قد أول بالجماعة والجماعة كلمة مفردة وهذا هو الغالب ، غير أنهم إذا أرادوا التنبيه على كثرة ذلك الجمع أجروا وصفه على صيغة جمع المؤنث ليكون في معنى الجماعات وأن الجمع ينحل إلى جماعات كثيرة ، ولذلك فأنا أرى أن معدودات أكثر من معدودة ولأجل هذا قال تعالى : { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } [ البقرة : 80 ] لأنهم يقللونها غروراً أو تغريراً ، وقال هنا { معدودات } لأنها ثلاثون يوماً ، وقال في الآية الآتية :
{ الحج أشهر معلومات } [ البقرة : 197 ] وهذا مثل قوله في جمع جمل { جمالات } [ المرسلات : 33 ] على أحد التفسيرين وهو أكثر من جمال ، وعن المازني أن الجمع لما لا يعقل يجيء الكثير منه بصيغة الواحدة المؤنثة تقول : الجذوع انكسرت والقليل منه يجيء بصيغة الجمع تقول : الأجذاع انكسرن اه وهو غير ظاهر .
وقيل المراد بالأيام غير رمضان بل هي أيام وجب صومها على المسلمين عندما فرض الصيام بقوله : { أياماً معدودات } ثم نسخ صومها بصوم رمضان وهي يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وهي أيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وإليه ذهب معاذ وقتادة وعطاء ولم يثبت من الصوم المشروع للمسلمين قبل رمضان إلاّ صوم يوم عاشوراء كما في « الصحيح » وهو مفروض بالسنة ، وإنما ذكر أن صوم عاشوراء والأيام البيض كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت رواية ، فلا يصح كونها المراد من الآية لا لفظاً ولا أثراً ، على أنه قد نسخ ذلك كله بصوم رمضان كما دل عليه حديث السائل الذي قال : " لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلح إن صدق " .
تعقيب لحكم العزيمة بحكم الرخصة ، فالفاء لتعقيب الأخبار لا للتفريع ، وتقديمه هنا قبل ذكر بقية تقدير الصوم تعجيل بتطمين نفوس السامعين لئلا يظنوا وجوب الصوم عليهم في كل حال .
والمريض من قام به المرض وهو انحراف المزاج عن حد الاعتدال الطبيعي بحيث تثور في الجسد حمى أو وجع أو فشل .
وقد اختلف الفقهاء في تحديد المرض الموجب للفطر ، فأما المرض الغالب الذي لا يستطيع المريض معه الصوم بحال بحيث يخشى الهلاك أو مقاربته فلا خلاف بينهم في أنه مبيح للفطر بل يوجب الفطر ، وأما المرض الذي دون ذلك فقد اختلفوا في مقداره فذهب محققو الفقهاء إلى أنه المرض الذي تحصل به مع الصيام مشقة زائدة على مشقة الصوم للصحيح من الجوع والعطش المعتادين ، بحيث يسبب له أوجاعاً أو ضعفاً منهكاً أو تعاوده به أمراض ساكنة أو يزيد في انحرافه إلى حد المرض أو يخاف تمادي المرض بسببه . وهذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي على تفاوت بينهم في التعبير ، وأعدل العبارات ما نقل عن مالك ؛ لأن الله أطلق المرض ولم يقيده ، وقد علمنا أنه ما أباح للمريض الفطر إلاّ لأن لذلك المرض تأثيراً في الصائم ، ويكشف ضابط ذلك قول القرافي في الفرق الرابع عشر إذ قال : « إن المشاق قسمان : قسم ضعيف لا تنفك عنه تلك العبادة كالوضوء والغسل في زمن البرد وكالصوم ، وكالمخاطرة بالنفس في الجهاد ، وقسم هو ما تنفك عنه العبادة وهذا أنواع : نوع لا تأثير له في العبادة كوجع أصبع ، فإن الصوم لا يزيد وجع الأصبع وهذا لا التفات إليه ، ونوع له تأثير شديد مع العبادة كالخوف على النفس والأعضاء والمنافع وهذا يوجب سقوط تلك العبادة ، ونوع يقرب من هذا فيوجب ما يوجبه » .
وذهب ابن سيرين وعطاء والبخاري إلى أن المرض وهو الوجع والاعتلال يسوغ الفطر ولو لم يكن الصوم مؤثراً فيه شدة أو زيادة ؛ لأن الله تعالى جعل المرض سبب الفطر كما جعل السفر سبب الفطر من غير أن تدعو إلى الفطر ضرورة كما في السفر ، يريدون أن العلة هي مظنة المشقة الزائدة غالباً ، قيل دخل بعضهم على ابن سيرين في نهار رمضان وهو يأكل فلما فرغ قال : إنه وجعتني أصبعي هذه فأفطرت ، وعن البخاري قال : اعتللت بنيسابور علة خفيفة في رمضان فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه فقال لي : أفطرت يا أبا عبد الله قلت : نعم أخبرنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : من أي المرض أفطر ؟ قال : من أي مرض كان كما قال الله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً } وقيل : إذا لم يقدر المريض على الصلاة قائماً أفطر ، وإنما هذه حالة خاصة تصلح مثالاً ولا تكون شرطاً ، وعزي إلى الحسن والنخعي ولا يخفى ضعفه ؛ إذ أين القيام في الصلاة من الإفطار في الصيام ، وفي هذا الخلاف مجال للنظر في تحديد مدى الانحراف والمرض المسوغين إفطار الصائم ، فعلى الفقيه الإحاطة بكل ذلك ونقربه من المشقة الحاصلة للمسافر وللمرأة الحائض .
وقوله : { أو على سفر } أي أو كان بحالة السفر وأصل ( على ) الدلالة على الاستعلاء ثم استعملت مجازاً في التمكن كما تقدم في قوله تعالى : { على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] ثم شاع في كلام العرب أن يقولوا فلان على سفر أي مسافر ليكون نصاً في التلبس ، لأن اسم الفاعل يحتمل الاستقبال فلا يقولون على سفر للعازم عليه وأما قول . . . . . . :
ماذَا على البدر المحجَّبِ لو سَفَر *** إِن المعذَّب في هواه على سفر
أراد أنه على وشك الممات فخطأ من أخطاء المولدين في العربية ، فنبه الله تعالى بهذا اللفظ المستعمل في التلبس بالفعل ، على أن المسافر لا يفطر حتى يأخذ في السير في السفر دون مجرد النية ، والمسألة مختلف فيها فعن أنس بن مالك أنه أراد السفر في رمضان فرُحِّلتْ دابتُه وَلِبسَ ثياب السفر وقد تقارب غروب الشمس فدعا بطعام فأكل منه ثم رَكِب وقال : هذه السنة ، رواه الدارقطني ، وهو قول الحسن البصري ، وقال جماعة : إذا أصبح مقيماً ثم سافر بعد ذلك فلا يفطر يومه ذلك وهو قول الزهري ، ومالك والشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي ثور ، فإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة ، وبالغ بعض المالكية فقال : عليه الكفارة وهو قول ابن كنانة والمخزومي ، ومن العجب اختيار ابن العربي إياه ، وقال أبو عمر بن عبد البر : ليس هذا بشيء لأن الله أباح له الفطر بنص الكتاب ، ولقد أجاد أبو عمر ، وقال أحمد وإسحاق والشَّعْبي : يفطر إذا سافر بعد الصبح ورووه عن ابن عمر وهو الصحيح الذي يشهد له حديث ابن عباس في « صحيحي البخاري ومسلم » : « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فصام حتى بلغ عُسْفَانَ ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليُرِيَه فأَفْطَرَ حتى قدِم مكة » قال القرطبي : وهذا نص في الباب فسقط ما يخالفه .
وإنما قال تعالى : { فعدة من أيام أُخر } ولم يقل : فصيام أيام أخر ، تنصيصاً على وجوب صوم أيام بعدد أيام الفطر في المرض والسفر ؛ إذ العدد لا يكون إلاّ على مقدار مماثل . فمن للتبعيض إن اعتبر أيام أعم من أيام العدة أي من أيام الدهر أو السنة ، أو تكون من تمييز عدة أي عدة هي أيام مثل قوله : { بخمسة ألف من الملائكة } [ آل عمران : 125 ] .
ووصف الأيام بأُخر وهو جمع الأُخرى اعتباراً بتأنيث الجمع ؛ إذ كل جمع مؤنث ، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى آنفاً { أياماً معدودات } قال أبو حيَّان : واختير في الوصف صيغة الجمع دون أن يقال أخرى لئلا يظن أنه وصف لعدة ، وفيه نظر ؛ لأن هذا الظن لا يوقع في لَبس ؛ لأن عدة الأيام هي أيام فلا يعتني بدفع مثل هذا الظن ، فالظاهر أن العدول عن أخرى لمراعاة صيغة الجمع في الموصوف مع طلب خفة اللفظ .
ولفظ ( أخر ) ممنوع من الصرف في كلام العرب . وعلل جمهور النحويين منعه من الصرف على أصولهم بأن فيه الوصفية والعدل ، أما الوصفية ظاهرة وأما العدل فقالوا : لما كان جمع آخَر ومفرده بصيغة اسم التفضيل وكان غير معرَّف باللام كان حقه أن يلزم الإفرادَ والتذكير جريا على سَنن أصله وهو اسم التفضيل إذا جرد من التعريف باللام ومن الإضافة إلى المعرفة أَنه يَلزَمُ الإفرادَ والتذكير فلما نطقَ به العرب مطابقاً لموصوفه في التثنية والجمع علمنا أنهم عدلوا به عن أصله ( والعدول عن الأصل يوجب الثقل على اللسان ؛ لأنه غير معتاد الاستعمال ) فخففوه لمنعه من الصرف وكأنهم لم يفعلوا ذلك في تثنيته وجمعه بالألف والنون لقلة وقوعهما ، وفيه ما فيه .
ولم تبين الآية صفة قضاء صوم رمضان ، فأطلقت ( عدة من أيام أخر ) ، فلم تبين أتكون متتابعة أم يجوز تفريقها ؟ ولا وجوبَ المبادرة بها أو جوازَ تأخيرها ، ولا وجوبَ الكفارة على الفطر متعمداً في بعض أيام القضاء ، ويتجاذب النظر في هذه الثلاثة دليلُ التمسك بالإطلاق لعدم وجود ما يقيده كما يتمسك بالعام إذا لم يظهر المخصص ، ودليل أن الأصل في قضاء العبادة أن يكون على صفة العبادة المقضية .
فأما حكم تتابع أيام القضاء ، فروى الدارقطني بسند صحيح قالت عائشة نزلت { فعدة من أيام أُخر متتابعات } متتابعات فسقطت متتابعات ، تريد نسخت وهو قول الأئمة الأربعة وبه قال من الصحابة أبو هريرة ، وأبو عبيدة ، ومعاذ بن جبل ، وابن عباس ، وتلك رخصة من الله ، ولأجل التنبيه عليها أطلق قوله : { من أيام أُخر } ولم يقيد بالتتابع كما قال في كفارة الظهار وفي كفارة قتل الخطأ .
فلذلك ألغى الجمهور إعمال قاعدة جريان قضاء العبادة على صفة المقضي ولم يقيدوا مطلق آية قضاء الصوم بما قُيِّدَت به آية كفارة الظهار وكفارة قتل الخطأ . وفي « الموطأ » عن ابن عمر أنه يقول : يصوم قضاء رمضان متتابعاً من أفطره من مرض أو سفر ، قال الباجي في « المنتقى » : يحتمل أن يريد به الوجوب وأن يريد الاستحباب .
وأما المبادرة بالقضاء ، فليس في الكتاب ولا في السنة ما يقتضيها ، وقوله هنا : { فعدة من أيام أُخر } مراد به الأمر بالقضاء ، وأصل الأمر لا يقتضي الفور ، ومضت السنة على أن قضاء رمضان لا يجب فيه الفور بل هو موسَّع إلى شهر شعبان من السنة الموالية للشهر الذي أفطر فيه ، وفي « الصحيح » عن عائشة قالت : يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلاّ في شعبان . وهذا واضح الدلالة على عدم وجوب الفور ، وبذلك قال جمهور العلماء وشذ داود الظاهري فقال : يشرع في قضاء رمضان ثاني يوم من شوال المعاقب له .
وأما من أفطر متعمداً في يوم من أيام قضاء رمضان فالجمهور على أنه لا كفارة عليه ؛ لأن الكفارة شرعت حفظاً لحرمة شهر رمضان وليس لأيام القضاء حرمة وقال قتادة : تجب عليه الكفارة بناء على أن قضاء العبادة يساوي أصله .
عطف على قوله : { عليكم الصيام } والمعطوف بعض المعطوف عليه فهو في المعنى كبدل البعض أي وكتب على الذين يطيقونه فدية ؛ فإن الذين يطيقونه بعض المخاطبين بقوله : { كتب عليكم الصيام } .
والمطيق هو الذي أطاق الفعل أي كان في طوقه أن يفعله ، والطاقة أقرب درجات القدرة إلى مرتبة العجز ، ولذلك يقولون فيما فوق الطاقة : هذا ما لا يطاق ، وفسرها الفراء بالجَهد بفتح الجيم وهو المشقة ، وفي بعض روايات « صحيح البخاري » عن ابن عباس قرأ : ( وعلى الذين يُطَوَّقونه فلا يطيقونه ) . وهي تفسير فيما أحسب ، وقد صدر منه نظائر من هذه القراءة ، وقيل الطاقة القدرة مطلقاً .
فعلى تفسير الإطاقة بالجَهد فالآية مراد منها الرخصة على من تشتد به مشقة الصوم في الإفطار والفِدْية .
وقد سمَّوا من هؤلاء الشيخَ الهرم والمرأةَ المرضعَ والحاملَ فهؤلاء يفطرون ويطعمون عن كل يوم يفطرونه وهذا قول ابن عباس وأنس بن مالك والحسن البصري وإبراهيم النخعي وهو مذهب مالك والشافعي ، ثم من استطاع منهم القضاء قضى ومن لم يستطعه لم يقض مثل الهرم ، ووافق أبو حنيفة في الفطر ؛ إلاّ أنّه لم ير الفدية إلاّ على الهرم لأنه لا يقضي بخلاف الحامل والمرضع ، ومرجع الاختلاف إلى أن قوله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية } هل هي لأجل الفطر أم لأجل سقوط القضاء ؟ والآية تحتملهما إلاّ أنها في الأول أظهر ، ويؤيد ذلك فعل السلف ، فقد كان أنس بن مالك حين هرم وبلغ عَشْراً بعد المائة يفطر ويطعم لكل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً .
وعلى تفسير الطاقة بالقدرة فالآية تدل على أن الذي يقدر على الصوم له أن يعوضه بالإطعام ، ولما كان هذا الحكم غير مستمر بالإجماع قالوا في حمل الآية عليه : إنها حينئذٍ تضمنت حكماً كان فيه توسعة ورخصة ثم انعقد الإجماع على نسخه ، وذكر أهل الناسخ والمنسوخ أن ذلك فُرِض في أول الإسلام لما شق عليهم الصوم ثم نسخ بقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [ البقرة : 185 ] ونقل ذلك عن ابن عباس وفي البخاري عن ابن عمر وسلَمةَ بن الأكْوَع نسختْها آية { شهر رمضان } [ البقرة : 185 ] ثم أخرج عن ابن أبي ليلى قال : حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نَزَل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكيناً تركَ الصوم من يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسَختها : { وأن تصوموا خير لكم } ، ورويت في ذلك آثار كثيرة عن التابعين وهو الأقرب من عادة الشارع في تدرج تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس من تغيير معتادهم كما تدرج في تشريع منع الخمر .
ونلحق بالهرم والمرضع والحامل كلَّ من تلحقه مشقة أو توقُّع ضر مثلهم وذلك يختلف باختلاف الأمزجة واختلاف أزمان الصوم من اعتدال أو شدة برد أو حَر ، وباختلاف أعمال الصائم التي يعملها لاكتسابه من الصنائع كالصائغ والحدَّاد والحمامي وخدمة الأرض وسير البريد وحَمْل الأمتعة وتعبيد الطرقات والظِّئْرِ .
وقد فسرت الفدية بالإطعام إما بإضافة المبيَّن إلى بيانه كما قرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر وأبو جعفر : ( فديةُ طعام مساكين ) ، بإضافة فدية إلى طعام ، وقرأه الباقون بتنوين ( فدية ) وإبدال ( طعام ) من ( فدية ) .
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ( مساكين ) بصيغة الجمع جمع مسكين ، وقرأه الباقون بصيغة المفرد ، والإجماع على أن الواجب إطعام مسكين ، فقراءة الجمع مبنية على اعتبار جَمْع الذين يطيقونه من مقابلة الجمع بالجمع مثل ركب الناس دوابهم ، وقراءة الإفراد اعتبار بالواجب على آحاد المفطرين .
والإطعام هو ما يشبع عادةً من الطعام المتغذى به في البلد ، وقدره فقهاء المدينة مُدّاً بمد النبي صلى الله عليه وسلم من بُرّ أو شعير أو تمر .
تفريع على قوله : { وعلى الذين يطيقونه فدية } الخ ، والتطوع : السعي في أن يكون طائعاً غير مكره أي طاع طوعاً من تلقاء نفسه . والخير مصدر خار إذا حَسُن وشَرُف وهو منصوب لتضمين { تطوَّعَ } معنى أَتى ، أو يكون { خيراً } صفةً لمصدر محذوف أي تطوعاً خيراً .
ولا شك أن الخير هنا متطوع به فهو الزيادة من الأمر الذي الكلام بصدده وهو الإطعام لا محالة ، وذلك إطعام غير واجب فيحتمل أن يكون المراد : فمن زاد على إطعام مسكينٍ واحد فهو خير ، وهذا قول ابن عباس ، أو أن يكون : مَن أراد الإطعام مع الصيام ، قاله ابن شهاب ، وعن مجاهد : مَن زاد في الإطعام على المُدّ وهو بعيد ؛ إذ ليس المُدّ مصرحاً به في الآية ، وقد أطعم أنس بن مالك خبزاً ولحماً عن كل يوم أفطره حين شاخ .
و { خير } الثاني في قوله : { فهو خير له } يجوز أن يكون مصدراً كالأول ويكون المراد به خيراً آخر أي خير الآخرة . ويجوز أن يكون خير الثاني تفضيلاً أي فالتطوع بالزيادة أفضل من تركها وحذف المفضل عليه لظهوره .
الظاهر رجوعه لقوله : { وعلى الذين يطيقونه فدية } فإن كان قوله ذلك نازلاً في إباحة الفطر للقادر فقوله : { وأن تصوموا } ترغيب في الصوم وتأنيس به ، وإن كان نازلاً في إباحته لصاحب المشقة كالهَرِم فكذلك ، ويحتمل أن يرجع إلى قوله : { ومن كان مريضاً } وما بعده ، فيكون تفضيلاً للصوم على الفطر إلاّ أن هذا في السفر مختلف فيه بين الأئمة ، ومذهب مالك رحمه الله أن الصوم أفضل من الفطر وأما في المرض ففيه تفصيل بحسب شدة المرض .
وقوله : { إن كنتم تعلمون } تذييل أي تَعْلَمون فوائدَ الصوم على رجوعه لقوله : { وعلى الذين يطيقونه } إن كان المراد بهم القادرين أي إن كنتم تعلمون فوائد الصوم دنيا وثوابَه أُخرى ، أو إن كنتم تعلمون ثوابه على الاحتمالات الأخر . وجيء في الشرط بكلمة ( إنْ ) لأن علمهم بالأمرين من شأنه ألاّ يكون محققاً ؛ لخفاء الفائدتين .