ثم وجه القرآن نداء إلى المؤمنين بين لهم فيه بعض المحرمات المتعلقة بالأنفس والأموال ، بعد أن بين لهم قبل ذلك المحرمات من النساء والمحللات منهم ومظاهر فضله - سبحانه - بعباده ورحمته بهم فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين . . . كَرِيماً } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ( 29 ) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( 30 ) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ( 31 )
المراد بالأكل فى قوله { لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ } مطلق الأخذ الذى يشمل سائر التصرفات التى نهى الله عنها .
وخص الأكل بالذكر ؛ لأن المقصود الأعظم من الأموال هو التصرف فيها بالأكل .
والباطل : اسم لكل تصرف لا يبيحه الشرع كالربا والقمار والرشوة والغضب والسرقة والخيانة والظلم إلى غير ذلك من التصرفات المحرمة .
والمعنى . يأيها المؤمنون لا يحل لكم أن يأكل بعضكم مال غيره بطريقة باطلة لا يقرها الشرع ، ولا يرتضيها الدين ، كما أنه لا يحل لكم أن تتصرفوا فى الأموال التى تملكونها تصرفا منهيا عنه بأن تنفقوها فى وجوه المعاصى التى نهى الله عنها ؛ فإن ذلك يتنافى مع طبيعة هذا الدين الذى آمنتم به .
وناداهم - سبحانه - بصفة الإِيمان ، لتحريك حرارة العقيدة فى قلوبهم وإغرائهم بالاستجابة لما أمروا به أو نهو عنه .
وفى قوله { أَمْوَالَكُمْ } إشارة إلى أن هذه الأموال هى نعمة من الله لنا ، وأن على الأمة جميعها أن تصون هذه الأموال عن التصرفات الباطة التى لا تبيحها شريعة الله .
وفى قوله { بَيْنَكُمْ } إشارة إلى أن تبادل الأموال بين الأفراد والجماعات يجب أن يكون على أساس من الحق والعدل ولا يكون بالباطل أو بالظلم .
والاستثناء فى قوله { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } استثناء منقطع لأن التجارة ليست من جنس الأموال المأكولة بالباطل .
والمعنى : لا يحل لكم - أيها المؤمنون - أن تتصرفوا فى أموالكم بالطرق المحرمة ، لكن يباح لكم أن تتصرفوا فيها بالتجارة الناشئة عن تراض فيما بينكم ؛ لأنه لا يحل لمسلم أن يقتطع مال أخيه المسلم إلا عن طيب نفس منه .
والتجارة : اسم يقع على عقود المعارضات التى يقصد بها طلب الربح . وخصت بالذكر من بين سائر أسباب الملك ؛ لكونها أغلب وقوعا ولأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها .
أخرج الأصبهانى عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا ، وإذا وعدوا لم يخلفوا ، وإذا ائتمنوا لم يخونوا ، وإذا اشتروا لم يذموا ، وإذا باعوا لم يمدحوا ، وإذا كان عليهم لم يمطلوا ، وإذا كان لهم لم يعسروا " .
وكلمة { تِجَارَةً } قرأها عاصم وحمزة والكسائى بالنصب على أنها خبر لكان الناقصة ، واسم كان ضمير يعود عل الأموال أى إلا أن تكون الأموال المتداولة بينكم تجارة صادرة عن تراض منكم . وقرأها الباقون بالرفع على أنها فاعل لكان التامة أى : إلا أن تقع تجارة بينكم عن تراض منكم .
وقوله { عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } صفة لقوله { تِجَارَةً } ولفظ { عَن } للمجاوزة أى : إلا أن تكون تجارة صادرة عن تراض كائن منكم .
والتراضى : هو الرضا من الجانبين بما بدل عليه من لفظ أو عرف ، وهو أساس العقود بصفة عامة ، وأساس المبادلات المالية بصفة خاصة ، فلا بيع ولا شراء ولا إجارة ولا شركة ولا غيرها من عقود التجارة ما لم يتحقق الرضا .
قال بعضهم : وحقيقة التراضى لا يعلمها إلى الله - تعالى - والمراد هنا أمارته . كالإِيجاب والقبول وكالتعاطى عند القائل به . وقد قال - تعالى - { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } فدل ذلك على أن مجرد التراضى هو المناط . ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كتابة ، بأى لفظ وقع وعلى أى صفة كان ، وبأى إشارة مفيدة حصل .
وقال الآلوسى : والمراد بالتراضى مراضاة المتبايعين بما تعاقدوا عليه فى حال المبايعة وقت الإِيجاب والقبول عندنا . وعند المالكية والشافعية حالة الافتراق عن مجلس العقد وقيل التراضى : التخيير بعد البيع . . .
هذا ، وظاهر قوله - تعالى - { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } يفيد إباحة جميع أنواع التجارات ما دام قد حصل التراضى بين المتعاقدين ، ولكن هذا الظاهر غير مراد ؛ لأن الشارع قد حرم المتاجرة فى أشياء معينة حتى ولو تم التراضى بين المتعاقدين بين المتعاقدين فيها ، وذلك مثل المتاجرة فى الخمر والميتة ولحم الخنزير ، ومثل بيع الغرر والعبد الآبق ونحو ذلك مما نهى عنه الشارع من العقود والمعاملات .
وقوله { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } معطوف على ما قبله .
وللعلماء فى تأويله اتجاهات : فمنهم من يرى أن معناه : ولا يقتل بعضكم بعضا ، فإن قتل بعضكم لبعض قتل لأنفسكم . والتعبير عن قتل بعضهم لبعض بقتل أنفسهم للمبالغة فى الزجر عن هذا الفعل ، وبتصويره بصورة مالا يكاد يفعله عاقل .
وإلى هذا المعنى اتجه الفخر الرازى فقد قال : اتفقوا على أن هذا نهى عن أن يقتل بعضهم بعضا . وإنما قال : { أَنْفُسَكُمْ } لقوله صلى الله عليه وسلم " المؤمنون كنفس واحدة " ولأن العرب يقولون :
قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم ؛ لأن قتل بعضهم يجرى مجرى قتلهم .
ومنهم من يرى أن معناه النهى عن قتل الإِنسان لنفسه . ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبى هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من تردى من جبل فقتل نفسه فهو فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً . ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه فى يده يتحساه فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً . ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته فى يده يجأ - أى يطعن - بها فى بطنه فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً " .
وروى مسلم عن جابر بن سمرة قال : أتى النبى صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص - أى سهام عراض واحدها مشقص - فلم يصل عليه .
ومنهم من يرى أن معناه : لا تقتلوا أنفسكم بأكل بعضكم أموال بعض وبارتكابكم للمعاصى التى نهى الله عنها ، فإن ذلك يؤدى إلى إفساد أمركم ، وذهاب ريحكم ، وتمزق وحدتكم ، ولا قتل للأمم والجماعات أشد من فساد أمرها ، وذهاب ريحها .
وقد ذهب إلى هذا المعنى الإِمام ابن كثير فقد قال : وقوله : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } أى بارتكاب محارم الله - وتعاطى معاصيه ، وأكل أموالكم بينكم بالباطل .
والذى نراه أن الجملة الكريمة تتناول كل هذه الاتجاهات ، فهى تنهى المسلم عن أن يقتل نفسه ، كما أنها تنهاه عن أن يقتل غيره ، وهى أيضا تنهاه عن ارتكاب المعاصى التى تؤدى إلى هلاكه .
وقدم - سبحانه - النهى عن أكل الأموال بالباطل على النهى عن قتل الأنفس مع أن الثانى أخطر ، للإِشعار بالتدريج فى النهى من الشديد إلى الأشد ولأن وقوعهم فى أكل الأموال بالباطل كان أكثر منهم وأسهل عليهم من وقوعهم فى القتل .
وقد ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } لبيان أن ما نهى الله عنه من محرمات ، وما أباحه من مباحات ، إنما هو من باب الرحمة بالناس ، وعدم المشقة عليهم . فالله - تعالى- رءوف بعباده ومن مظاهر ذلك أنه لم يكلفهم إلا بما هو فى قدرتهم واستطاعتهم .
وهذه الآية الكريمة أصل عظيم فى حرمة الأموال والأنفس . ولقد أكد النبى صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فى خطبته فى حجة الوداع حيث قال : " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، فى شهركم هذا ، فى بلدكم هذا " .
نهى{[7167]} تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل ، أي : بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية ، كأنواع الربا والقمار ، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل ، وإن ظهرت في غالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا ، حتى قال ابن جرير :
حدثني ابن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول : إن رضيته أخذته وإلا رددته ورددت معه درهما - قال : هو الذي قال الله عز وجل : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا ابن فضيل ، عن داود الأودي عن عامر ، عن علقمة ، عن عبد الله [ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } ] {[7168]} قال : إنها [ كلمة ]{[7169]} محكمة ، ما نسخت ، ولا تنسخ إلى يوم القيامة .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لما أنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، والطعام هو أفضل الأموال ، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فكيف{[7170]} للناس{[7171]} ! فأنزل الله بعد ذلك : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ } [ النور : 61 ] الآية ، [ وكذا قال قتادة بن دعامة ]{[7172]} .
وقوله : { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ }{[7173]} قرئ : تجارة بالرفع وبالنصب ، وهو استثناء منقطع ، كأنه يقول : لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال ، لكن المتاجر{[7174]} المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال . كما قال [ الله ]{[7175]} تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ } [ الأنعام : 151 ] ، وكقوله { لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى } [ الدخان : 56 ] .
ومن هذه الآية الكريمة احتج الشافعي [ رحمه الله ]{[7176]} على أنه لا يصح البيع إلا بالقبول ؛ لأنه يدل على التراضي نَصا ، بخلاف المعاطاة فإنها قد لا تدل على الرضا ولا بد ، وخالف{[7177]} الجمهورَ في ذلك مالك وأبو حنيفة وأحمد وأصحابهم ، فرأوا أن الأقوال كما تدل على التراضي ، وكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعا ، فصححوا بيع المعاطاة مطلقا ، ومنهم من قال : يصح في المحقَّرات ، وفيما يعده الناس بيعا ، وهو احتياط نظر من محققي المذهب ، والله أعلم .
قال مجاهد : { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } بيعا{[7178]} أو عطاء يعطيه أحد أحدًا . ورواه ابن جرير [ ثم ]{[7179]} قال :
وحدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن القاسم ، عن{[7180]} سليمان الجُعْفي ، عن أبيه ، عن ميمون بن مهران قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البَيْعُ عن تَراض والخِيارُ بعد الصَّفقة ولا يحل لمسلم أن يغش{[7181]} مسلمًا " . هذا حديث مرسل{[7182]} .
ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس ، كما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " البيعان بالخيار ما لم يَتَفَرقا " وفي لفظ البخاري : " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا " {[7183]} .
وذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الشافعي ، وأحمد [ بن حنبل ]{[7184]} وأصحابهما ، وجمهورُ السلف والخلف . ومن ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام ، [ كما هو متفق عليه بين العلماء إلى ما هو أزيد من ثلاثة أيام ]{[7185]} بحسب ما يتبين فيه مال البيع ، ولو إلى سنة في القرية ونحوها ، كما هو المشهور عن مالك ، رحمه الله . وصححوا{[7186]} بيع المعاطاة مطلقا ، وهو قول في مذهب الشافعي ، ومنهم من قال : يصح بيع المعاطاة في المحقرات فيما يعده الناس بيعا ، وهو اختيار طائفة من الأصحاب .
وقوله : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } أي : بارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } أي : فيما أمركم به ، ونهاكم عنه .
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن{[7187]} بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن عمْران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جُبَير ، عن عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، أنه قال لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال : احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح ، قال : فلما قدمتُ على رسول الله صلى عليه وسلم ذكرت ذلك له ، فقال : " يا عمرو صَلَّيت بأصحابك وأنت جُنُبٌ ! " قال : قلت يا رسول الله{[7188]} إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد ، فأشفقت إن اغتسلت{[7189]} أن أهلكَ ، فذكرت{[7190]} قول الله [ عز وجل ]{[7191]} { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } فتيممت ثم صليت . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا .
وهكذا رواه أبو داود من حديث يحيى بن أيوب ، عن يزيد بن أبي حبيب ، به . ورواه أيضا عن محمد بن أبي سلمة ، عن ابن وهب ، عن ابن لهيعة وعمر بن الحارث ، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير المصري ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص ، عنه ، فذكر نحوه . وهذا ، والله أعلم ، أشبه بالصواب{[7192]} .
وقال أبو بكر بن مَرْدُوَيه : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد البَلْخِي ، حدثنا محمد بن صالح بن سهل البلخي ، حدثنا عُبَيد{[7193]} عبد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يوسف بن خالد ، حدثنا زياد بن سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن عمرو بن العاص صلى بالناس وهو جُنُب ، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له ، فدعاه فسأله عن ذلك ، فقال : يا رسول الله ، خفْتُ أن يقتلني البرد ، وقد قال الله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ] }{[7194]} قال : فسكت عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم{[7195]} .
ثم أورد ابن مَرْدُويه عند هذه الآية الكريمة من حديث الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَتَل نَفْسَه بِحَدِيدَةٍ فحديدته في يَدِهِ ، يَجَأ بها بَطْنه يوم القيامة في نار جَهَنَّمَ خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن قتل نفسه بسم ، فسمه في يده ، يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن تردى من جبل فقتل نفسه ، فهو مُتَرد{[7196]} في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " .
وهذا الحديث{[7197]} ثابت في الصحيحين{[7198]} وكذلك رواه أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وعن أبي قِلابة ، عن ثابت بن الضحاك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قتل نَفْسَه بشيء عُذِّبَ به يوم القيامة " . وقد أخرجه الجماعَةُ في كُتُبهم من طريق أبي قلابة{[7199]} وفي الصحيحين من حديث الحسن ، عن{[7200]} جُنْدب بن عبد الله البَجَلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان رَجُلٌ ممن{[7201]} كان قبلكم وكان به جُرْح ، فأخذ سكينًا نَحَر بهَا يَدَهُ ، فما رَقأ الدَّمُ حتى ماتَ ، قال الله عز وجل : عَبْدِي بادرنِي بِنَفْسه ، حرَّمت{[7202]} عليه الْجَنَّة " {[7203]} . ولهذا قال الله تعالى : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا }
{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } بما لم يبحه الشرع كالغصب والربا والقمار . { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } استثناء منقطع أي ، ولكن كون تجارة عن تراض غير منهي عنه ، أو اقصدوا كون تجارة . وعن تراض صفة لتجارة أي تجارة صادرة عن تراضي المتعاقدين ، وتخصيص التجارة من الوجوه التي بها يحل تناول مال الغير ، لأنها أغلب وأرفق لذوي المروءات ، ويجوز أن يراد بها الانتقال مطلقا . وقيل : المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله . وبالتجارة صرفه فيما يرضاه . وقرأ الكوفيون { تجارة } بالنصب على كان الناقصة وإضمار الاسم أي إلا أن تكون التجارة أو لجهة تجارة . { ولا تقتلوا أنفسكم } بالبخع كما تفعله جهلة الهند ، أو بإلقاء النفس إلى التهلكة . ويؤيده ما روي : أن عمرو بن العاص تأوله التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم أو بارتكاب ما يؤدي إلى قتلها . أو باقتراف ما يذلها ويرديها فإنه القتل الحقيقي للنفس . وقيل المراد بالأنفس من كان من أهل دينهم ، فإن المؤمنين كنفس واحدة . جمع في التوصية بين حفظ النفس والمال الذي هو شقيقها من حيث إنه سبب قوامها استبقاء لهم ريثما تستكمل النفوس ، وتستوفى فضائلها رأفة بهم ورحمة كما أشار إليه بقوله : { إن الله كان بكم رحيما } أي أمر ما أمر ونهى عما نهى لفرط رحمته عليكم . وقيل : معناه إنه كان بكم يا أمة محمد رحيما لما أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس ونهاكم عنه .
هذا استثناء ليس من الأول ، والمعنى : لكن إن كانت تجارة فكلوها{[3968]} .
وقرأ المدنيون وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو : «تجارةٌ » بالرفع على تمام «كان » وأنها بمعنى : وقع ، وقرأت فرقة ، هي الكوفيون حمزة وعاصم والكسائي : «تجارةً » بالنصب على نقصان «كان » ، وهو اختيار أبي عبيد .
قال القاضي أبو محمد : وهما قولان قويان ، إلا أن تمام «كان » يترجح عند بعض ، لأنها صلة «أن » فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها ، وهذا ترجيح ليس بالقوي ولكنه حسن ، و { أن } في موضع نصب ، ومن نصب «تجارة » جعل اسم كان مضمراً ، تقديره الأموال أموال تجارة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، أو يكون التقدير : إلا أن تكون التجارة تجارة ، ومثل ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إذا كان يوماً ذا كواكبَ أشنعا{[3969]}
أي : إذا كان اليوم يوماً ، والاستثناء منقطع في كل تقدير وفي قراءة الرفع . فأكل الأموال بالتجارة جائز بإجماع الأمّة ، والجمهور على جواز الغبن في التجارة ، مثال ذلك : أن يبيع الرجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة ، فذلك جائز ، ويعضده حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لا يبع حاضر لبادٍ »{[3970]} لأنه إنما أراد بذلك أن يبيع البادي باجتهاده ، ولا يمنع الحاضر الحاضر من رزق الله في غبنه ، وقالت فرقة : الغبن إذا تجاوز الثلث مردود ، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات ، وأما المتفاحش الفادح فلا ، وقاله ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله . و { عن تراض } معناه عن رضا ، إلا أنها جاءت من المفاعلة ، إذ التجارة من اثنين ، واختلف أهل العلم في التراضي ، فقالت طائفة : تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع ، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه : اختر فيقول : قد اخترت ، وذلك بعد العقدة أيضاً ، فينجزم حينئذ ، هذا هو قول الشافعي وجماعة من الصحابة ، وحجته حديث النبي صلى الله عليه وسلم «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار »{[3971]} وهو حديث ابن عمر وأبي برزة ، ورأيهما - وهما الراويان - أنه افتراق الأبدان .
قال القاضي أبو محمد : والتفرق لا يكون حقيقة إلا بالأبدان ، لأنه من صفات الجواهر ، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله : تمام التراضي أن يعقد البيع بالألسنة فتنجزم العقدة بذلك ويرتفع الخيار ، وقالا في الحديث المتقدم : إنه التفرق بالقول ، واحتج بعضهم بقوله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته }{[3972]} فهذه فرقة بالقول لأنها بالطلاق ، قال من احتج للشافعي : بل هي فرقة بالأبدان ، بدليل تثنية الضمير ، والطلاق لا حظّ للمرأة فيه ، وإنما حظها في فرقة البدن التي هي ثمرة الطلاق ، قال الشافعي : ولو كان معنى قوله : يتفرقا بالقول الذي هو العقد لبطلت الفائدة في قوله : البيعان بالخيار ، لأنه لا يشك في أن كل ذي سلعة مخير ما لم يعقد ، فجاء الإخبار لا طائل فيه ، قال من احتجّ لمالك : إنما القصد في الحديث الإخبار عن وجوب ثبوت العقد ، فجاء قوله : البيعان بالخيار توطئة لذلك ، وإن كانت التوطئة معلومة ، فإنها تهيىء النفس لاستشعار ثبوت العقد ولزومها ، واستدل الشافعي بقوله عليه السلام :
«لا يسم الرجل على سوم أخيه ، ولا بيع الرجل على بيع أخيه »{[3973]} فجعلها مرتبتين لأن حالة البيعين بعد العقد قبل التفرق تقتضي أن يفسد مفسد بزيادة في السلعة فيختارربها حل الصفقة الأولى ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الإفساد ، ألا ترى أنه عليه السلام قال : «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه »{[3974]} فهي في درجة ؛ لا يسم ، ولم يقل : لا ينكح على نكاح أخيه لأنه لا درجة بعد عقد النكاح تقتضي تخييراً بإجماع من الأمة ، قال من يحتج لمالك رحمه الله : قوله عليه السلام : لا يسم ولا يبع ، هي درجة واحدة كلها قبل العقد ، وقال : لا بيع تجوزاً في لا يسم ، إذ مآله إلى البيع ، فهي جميعاً بمنزلة قوله : لا يخطب ، والعقد جازم فيهما جميعاً .
قال القاضي أبو محمد : وقوله في الحديث «إلا بيع الخيار » معناه عند المالكين : المتساومان بالخيار ما لم يعقدا ، فإذا عقدا بطل الخيار إلا في بيع الخيار الذي عقد من أوله على خيار مدة ما ، فإنه لا يبطل الخيار فيه ، ومعناه عند الشافعيين : المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما ، إلا بيعاً يقول فيه أحدهما لصاحبه اختر فيختار ، فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا ، فإن فرض بيع خيار فالمعنى إلا بيع الخيار فإنه يبقي الخيار بعد التفرق بالأبدان ، وقوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } قرأ الحسن «ولا تقتّلوا » على التكثير ، فأجمع المتأولون أن المقصد بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضها ، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل ، أو بأن يحملها على غرر ربما مات منه ، فهذا كله يتناوله النهي ، وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد خوفاً على نفسه منه ، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه{[3975]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}: لا تأكلوها إلا بحقها، وهو الرجل يجحد حق أخيه المسلم، أو يقتطعه بيمينه، ثم استثنى ما استفضل الرجل من مال أخيه من التجارة، فلا بأس، فقال سبحانه: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم}: لا يقتل بعضكم بعضا، لأنكم أهل دين واحد. {إن الله كان بكم رحيما}، إذ نهى عن ذلك...
{لا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةٌ عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} وقال تبارك وتعالى: {وَءَاتُوا اَلْيَتَامى أَمْوَالَهُمْ} الآية، وقال: {وَءَاتُوا اَلنِّسَاء صَدُقَتاهِنَّ نِحْلَةً} إلى قوله: {هَنِيئًا مَّرِيئًا} مع آي كثير في كتاب الله عز وجل حظر فيها أموال الناس إلا بطيب أنفسهم، إلا بما فرض في كتاب الله عز وجل ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجاءت به حجة. قال أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا يحلبن أحدكم ماشية أخيه بغير إذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر؟». فأبان الله في كتابه أن ما كان ملكا لآدمي لم يحل بحال إلا بإذنه. وأبانه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجعل الحلال حلالا بوجه، حراما بوجه آخر، وأبانته السنة. (الأم: 2/245-246. ون أحكام الشافعي: 2/93
{لا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةٌ عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبَاوا وَأَحَلَّ اَللَّهُ اَلْبَيْعَ وَحَرَّمَ اَلرِّبَاواْ} فلم أعلم أحدا من المسلمين خالف في أنه لا يكون على أحد أن يملك شيئا إلا أن يشاء أن يملكه إلا الميراث، فإن الله عز وجل نقل ملك الأحياء إذا ماتوا إلى من ورثهم إياه شاءوا أو أبوا. ألا ترى أن الرجل لو أوصي له أو وهب له أو تصدق عليه أو ملك شيئا لم يكن عليه أن يملكه إلا أن يشاء. ولم أعلم أحدا من المسلمين اختلفوا في أن لا يخرج ملك المالك المسلم من يديه إلا بإخراجه إياه هو نفسه ببيع أو هبة أو غير ذلك أو عتق أو دين لزمه، فيباع في ماله. وكل هذا فعله لا فعل غيره. (الأم: 3/246.)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا}: صَدّقوا الله ورسوله، {لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ}: لا يأكل بعضكم أموال بعض بما حرم عليه من الربا والقمار، وغير ذلك من الأمور التي نهاكم الله عنها، إلا أن تكون تجارة. عن السدي: نهى عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل وبالربا والقمار والبخس والظلم، إلا أن تكون تجارة، ليربح في الدرهم ألفا إن استطاع.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية بالنهي عن أن يأكل بعضهم طعام بعض إلا بشراء، فأما قِرًى فإنه كان محظورا بهذه الآية، حتى نسخ ذلك بقوله في سورة النور: {لَيْسَ على الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ وَلا على أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ...}، فكان الرجل يتحرّج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية، فنسخ ذلك بالآية التي في سورة النور، فقال: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتَكُمْ أوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أوْ بُيُوتِ أُمّهاتِكُمْ»... إلى قوله: {جَمِيعا أوْ أشْتاتا} فكان الرجل الغنيّ يدعو الرجل من أهله إلى الطعام، فيقول: إني لأتجنح والتجنح: التحرّج ويقول: المساكين أحقّ مني به. فأحلّ من ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وأحلّ طعام أهل الكتاب.
وأولى هذين القولين بالصواب في ذلك قول السدي: وذلك أن الله تعالى ذكره حرّم أكل أموالنا بيننا بالباطل، ولا خلاف بين المسلمين أن أكل ذلك حرام علينا، فإن الله لم يحلّ قَطّ أكل الأموال بالباطل، وإذا كان ذلك كذلك فلا معنى لقول من قال: كان ذلك نهيا عن أكل الرجل طعام أخيه قِرى على وجه ما أذن له، ثم نسخ ذلك لنقل علماء الأمة جميعا وجها لها أن قِرى الضيف، وإطعام الطعام كان من حميد أفعال أهل الشرك والإسلام، التي حمد الله أهلها عليه وندبهم إليها، وإن الله لم يحرّم ذلك في عصر من العصور، بل ندب الله عباده، وحثهم عليه، وإذ كان ذلك كذلك فهو من معنى الأكل بالباطل خارج، ومن أن يكون ناسخا أو منسوخا بمعزل، لأن النسخ إنما يكون لمنسوخ، ولم يثبت النهي عنه، فيجوز أن يكون منسوخا بالإباحة. وإذ كان ذلك كذلك، صحّ القول الذي قلناه، من أن الباطل الذي نهى الله عن أكل الأموال به، هو ما وصفنا مما حرمه على عباده في تنزيله، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وشذّ ما خالفه.
واختلفت القراء في قراءة قوله: {إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فقرأها بعضهم: {إلاّ أنْ تَكُونَ تِجاَرةٌ} رفعا بمعنى: إلا أن توجد تجارة، أو تقع تجارة عن تراض منكم، فيحلّ لكم أكلها حينئذٍ بذلك المعنى... وقرأ ذلك آخرون: {إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً} نصبا، بمعنى: إلا أن تكون الأمْوَالُ التي تأكلونها بينكم تجارة عن تراض منكم، فيحل لكم هنالك أكلها، فتكون الأموال مضمرة في قوله: {إلاّ أنْ تَكُونَ} والتجارة منصوبة على الخبر. وكلتا القراءتين عندنا صواب جائز القراءة بهما، لاستفاضتهما في قراءة الأمصار مع تقارب معانيهما. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن قراءة ذلك بالنصب أعجب إليّ من قراءته بالرفع، لقوّة النصب من وجهين: أحدهما: أنّ في "تكون "ذكرا من الأموال¹، والاَخر: أنه لو لم يجعل فيها ذكر منها ثم أفردت بالتجارة وهي نكرة، كان فصيحا في كلام العرب النصب، إذ كانت مبنية على اسم وخبر... ففي هذه الاَية إبانة من الله تعالى ذكره عن تكذيب قول الجهلة من المتصوّفة المنكرين طلب الأقوات بالتجارات والصناعات، والله تعالى يقول: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}: اكتسابا أحلّ ذلك لها. عن قتادة: قال: التجارة رزق من رزق الله، وحلال من حلال الله لمن طلبها بصدقها وبرّها، وقد كنا نحدّث أن التاجر الأمين الصدوق مع السبعة في ظلّ العرش يوم القيامة.
{عَنْ تَراضٍ منكم} في تجارة أو بيع أو عطاء يعطيه أحد أحدا.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن القاسم، عن سليمان الجعفي، عن أبيه، عن ميمون بن مهران، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البَيْعُ عَنْ تَراضٍ، وَالخيارُ بَعْدَ الصّفْقَةِ، وَلا يَحِلّ لُمسْلمٍ أنْ يَغُشّ مُسْلِما».
واختلف أهل العلم في معنى التراضي في التجارة؛
فقال بعضهم: هو أن يخير كل واحد من المتبايعين بعد عقدهما البيع بينهما فيما تبايعا فيه من إمضاء البيع أو نقضه، أو يتفرّقا عن مجلسهما الذي تواجبا فيه البيع بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي تعاقداه بينهما قبل التفاسخ.
وعلة من قال هذه المقالة ما: حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «كُلّ بَيّعَيْنِ فَلا بَيْعَ بَيْنَهُما حتى يَتَفَرّقا إلاّ أنْ يَكُونَ خِيارا».
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أهْلَ البَقِيعِ!» فسمعوا صوته، ثم قال: «يا أهْلَ البَقِيعِ!» فاشرأبوا ينظرون حتى عرفوا أنه صوته، ثم قال: «يا أهْلَ البَقِيعِ لا يَتَفَرّقَنّ بَيّعانِ إلاّ عَنْ رِضا».
قالوا: فالتجارة عن تراض هو ما كان على بَيِّنَةِ النبي صلى الله عليه وسلم من تخيير كل واحد من المشترى والبائع في إمضاء البيع فيما يتبايعانه بينهما، أو نقضه بعد عقد البيع بينهما وقبل الافتراق، أو ما تفرّقا عنه بأبدانهما، عن تراض منهما بعد مواجبة البيع فيه عن مجلسهما، فما كان بخلاف ذلك فليس من التجارة التي كانت بينهما عن تراض منهما.
وقال آخرون: بل التراضي في التجارة تواجب عقد البيع فيما تبايعه المتبايعان بينهما عن رضا من كل واحد منهما ما ملك عليه صاحبه وملك صاحبه عليه، افترقا عن مجلسهما ذلك أو لم يفترقا، تخايرا في المجلس أو لم يتخايرا فيه بعد عقده.
وعلة من قال هذه المقالة: أن البيع إنما هو بالقول، كما أن النكاح بالقول، ولا خلاف بين أهل العلم في الإجبار في النكاح لأحد المتناكحين على صاحبه، افترقا أو لم يفترقا عن مجلسهما، الذي جرى ذلك فيه قالوا: فكذلك حكم البيع. وتأوّلوا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «البَيّعانِ بالخيارِ ما لَمْ يَتَفَرّقا» على أنه ما لم يتفرقا بالقول. وممن قال هذه المقالة مالك بن أنس، وأبو حنيفة، وأبو يوسف ومحمد.
وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا قول من قال: إن التجارة التي هي عن تراض بين المتبايعين: ما تفرق المتبايعان على المجلس الذي تواجبا فيه بينهما عقدة البيع بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي جرى بينهما، وعن تخيير كل واحد منهما صاحبه¹ لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البَيّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرّقا، أوْ يَكُونَ بَيْعُ خِيارٍ» وربما قال: «أوْ يَقُولُ أحَدُهُما للاَخَرِ اخْتَرْ».
فإذ كان ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحا، فليس يخلو قول أحد المتبايعين لصاحبه اختر، من أن يكون قبل عقد البيع، أو معه، أو بعده. فإن يكن قبله، فذلك الخلف من الكلام الذي لا معنى له، لأنه لم يملك قبل عقد البيع أحد المتبايعين على صاحبه، ما لم يكن له مالكا، فيكون لتخييره صاحبه فيما يملك عليه وجه مفهوم، ولا فيهما من يجهل أنه بالخيار في تمليك صاحبه ما هو له غير مالك بعوض يعتاضه منه، فيقال له: أنت بالخيار فيما تريد أن تحدثه من بيع أو شراء. أو يكون إن بطل هذا المعنى تخيير كل واحد منهما صاحبه مع عقد البيع، ومعنى التخيير في تلك الحال، نظير معنى التخيير قبلها، لأنها حالة لم يزل فيها عن أحدهما ما كان مالكه قبل ذلك إلى صاحبه، فيكون للتخيير وجه مفهوم. أو يكون ذلك بعد عقد البيع، إذا فسد هذان المعنيان. وإذا كان ذلك كذلك صحّ أن المعنى الاَخر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعني قوله: «ما لَمْ يَتَفَرَقّا» إنما هو التفرّق بعد عقد البيع، كما كان التخيير بعده، وإذا صحّ ذلك، فسد قول من زعم أن معنى ذلك: إنما هو التفرّق بالقول الذي به يكون البيع. وإذا فسد ذلك صحّ ما قلنا من أن التخيير والافتراق إنما هما معنيان بهما يكون تمام البيع بعد عقده، وصحّ تأويل من قال: معنى قوله: {إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} إلا أن يكون أكلكم الأموال التي يأكلها بعضكم لبعض عن ملك منكم عمن ملكتموها عليه بتجارة تبايعتموها بينكم، وافترقتم عنها، عن تراض منكم بعد عقد بينكم بأبدانكم، أو يخير بعضكم بعضا.
{وَلا تَقْتَلُوا أنْفُسَكُمْ إنّ اللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيما}: ولا يقتل بعضكم بعضا، وأنتم أهل ملة واحدة، ودعوة واحدة ودين واحد فجعل جلّ ثناؤه أهل الإسلام كلهم بعضهم من بعض، وجعل القاتل منهم قتيلاً في قتله إياه منهم بمنزلة قتله نفسه، إذ كان القاتل والمقتول أهل يد واحدة على من خالف ملتهما. {إنّ الله كانَ بِكُمْ رَحِيما}: إن الله تبارك وتعالى لم يزل رحيما بخلقه، ومن رحمته بكم كفّ بعضكم عن قتل بعض أيها المؤمنون، بتحريم دماء بعضكم على بعض إلا بحقها، وحظر أكل مال بعضكم على بعض بالباطل، إلا عن تجارة يملك بها عليه برضاه وطيب نفسه، لولا ذلك هلكتم وأهلك بعضكم بعضا قتلاً وسلبا وغصبا.
قد انتظم هذا العمومُ النهْيَ عن أكل مال الغير بالباطل وأكْلِ مال نفسه بالباطل؛ وذلك لأن قوله تعالى: {أَمْوَالَكُمْ} يقع على مال الغير ومال نفسه، كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قد اقتضى النهي عن قتل غيره وقتل نفسه؛ فكذلك قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ} نهيٌ لكل أحد عن أكل مال نفسه ومال غيره بالباطل. وأَكْلُ مال نفسه بالباطل إنْفَاقُه في معاصي الله؛ وأكْلُ مال الغير بالباطل قد قيل فيه وجهان، أحدهما: ما قال السدي وهو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم، وقال ابن عباس والحسن: أن يأكله بغير عِوَضٍ، فلما نزلت هذه الآية كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس إلى أن نُسخ ذلك بالآية التي في النور: {ليس على الأعمى حرج} [الفتح: 17] إلى قوله تعالى: {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم} [النور: 61] الآية. قال أبو بكر: يشبه أن يكون مراد ابن عباس والحسن أن الناس تحرَّجوا بعد نزول الآية أن يأكلوا عند أحد لا على أن الآية أوجبت ذلك؛ لأن الهبات والصدقات لم تكن محظورة قَطُّ بهذه الآية، وكذلك الأكل عند غيره اللهم إلا أن يكون المراد الأكْلُ عند غيره بغير إذنه، فهذا لَعَمْري قد تناولته الآية. وقد روى الشعبي عن علقمة عن عبدالله قال: "هي محكمة ما نُسِخَتْ ولا تُنْسخ إلى يوم القيامة". وروى الربيع عن الحسن قال: "ما نَسَخَها شيء من القرآن...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كل نفقة كانت لغير الله فهي أكل مالٍ بالباطل.
{وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ}: يعني بارتكاب الذنوب، ويقال تعريضها لمساخطته سبحانه. ويقال بنظركم إليها وملاحظتكم إياها. ويقال باستحسانكم شيئاً منها بإيثارها دون رضاء الحق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بالباطل}: بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار وعقود الربا {إِلا أَن تَكُونَ تجارة} إلا أن تقع تجارة. {عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ}: ولكن اقصدوا كون تجارة عن تراض منكم. أو ولكن كون تجارة عن تراض غير منهى عنه. وقوله: (عن تراض) صفة لتجارة، أي تجارة صادرة عن تراض. وخص التجارة بالذكر لأنّ أسباب الرزق أكثرها متعلق بها...
{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} من كان من جنسكم من المؤمنين. وعن الحسن: لا تقتلوا إخوانكم، أو لا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض الجهلة.
وعن عمرو بن العاص: أنه تأوله في التيمم لخوف البرد، فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم.
{إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} ما نهاكم عما يضركم إلا لرحمته عليكم. وقيل: معناه أنه أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصاً لخطاياهم، وكان بكم يا أمة محمد رحيماً حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْآيَةُ فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً}.
التِّجَارَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُعَاوَضَةِ، وَمِنْهُ الْأَجْرُ الَّذِي يُعْطِيهِ الْبَارِي عِوَضًا عَنِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ بَعْضٌ مِنْ فَضْلِهِ، فَكُلُّ مُعَاوَضَةٍ تِجَارَةٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ الْعِوَضُ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: {بِالْبَاطِلِ} أَخْرَجَ مِنْهَا كُلَّ عِوَضٍ لَا يَجُوزُ شَرْعًا مِنْ رِبًا أَوْ جَهَالَةٍ أَوْ تَقْدِيرِ عِوَضٍ فَاسِدٍ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَوُجُوهِ الرِّبَا.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ مُعَاوِضٍ إنَّمَا يَطْلُبُ الرِّبْحَ إمَّا فِي وَصْفِ الْعِوَضِ أَوْ فِي قَدْرِهِ؛ وَهُوَ أَمْرٌ يَقْتَضِيهِ الْقَصْدُ مِنَ التَّاجِرِ لَا لَفْظُ التِّجَارَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا شُرِطَ الْعِوَضُ فِي أَكْلِ الْمَالِ وَصَارَتْ تِجَارَةً خَرَجَ عَنْهَا كُلُّ عَقْدٍ لَا عِوَضَ فِيهِ يَرِدُ عَلَى الْمَالِ، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ، وَجَازَتْ عُقُودُ الْبُيُوعَاتِ بِأَدِلَّةٍ أُخَر مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.
وَهُوَ حَرْفٌ أُشْكِلَ عَلَى الْعُلَمَاءِ حَتَّى اضْطَرَبَتْ فِيهِ آرَاؤُهُمْ:
قَالَ بَعْضُهُمْ: التَّرَاضِي هُوَ التَّخَايُرُ بَعْدَ عَقْدِ الْبَيْعِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ مِنْ الْمَجْلِسِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَشُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَتَعَلَّقُوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ».
وَقَالَ آخَرُونَ: إذَا تَوَاجَبَا بِالْقَوْلِ فَقَدْ تَرَاضَيَا، يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالصَّحَابَةُ.
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ: إلَّا تِجَارَةً تَعَاقَدْتُمُوهَا وَافْتَرَقْتُمْ بِأَبْدَانِكُمْ عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ فِيهَا؛ وَهَذِهِ دَعْوَى إنَّمَا يَدُلُّ مُطْلَقُ الْآيَةِ عَلَى التِّجَارَةِ عَلَى الرِّضَا، وَذَلِكَ يَنْقَضِي بِالْعَقْدِ، وَيَنْقَطِعُ بِالتَّوَاجُبِ، وَبَقَاءُ التَّخَايُرِ فِي الْمَجْلِسِ لَا تَشْهَدُ لَهُ الْآيَةُ لَا نُطْقًا وَلَا تَنْبِيهًا، وَكُلُّ آيَةٍ وَرَدَتْ فِي ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْمُدَايَنَةِ وَالْمُعَامَلَةِ إنَّمَا هِيَ مُطْلَقَةٌ لَا ذِكْرَ لِلْمَجْلِسِ فِيهَا وَلَا لِافْتِرَاقِ الْأَبْدَانِ مِنْهَا؛ كَقَوْلِهِ: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}؛ فَإِذَا عَقَدَ وَلَمْ يُبْرِمْ لَمْ يَكُنْ وَفَاءٌ، وَإِذَا عَقَدَ وَرَجَعَ عَنْ عَقْدِهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْكَلَامِ وَالسُّكُوتِ فَرْقٌ، بَلِ السُّكُوتُ خَيْرٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ تَعَبٌ وَلَا الْتَزَمَ وَلَا أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ، فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ، وَتَقَدَّمَ الْعُذْرُ، وَإِذَا عَقَدَ وَحَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ كَلَامُهُ تَعَبًا وَلَغْوًا، وَمَا الْإِنْسَانُ لَوْلَا اللِّسَانُ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِلِسَانِهِ عَنْ عَقْدِهِ وَرِضَاهُ، فَأَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ بَعْدَ هَذَا؟
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي آيَةِ الدَّيْنِ: {وَلْيُمْلِل الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}، فَإِذَا أَمْلَى وَكَتَبَ وَأَعْطَى الْأُجْرَةَ ثُمَّ عَادَ وَمَحَا مَا كَتَبَ كَانَ تَلَاعُبًا وَفَسْخًا لِعَقْدٍ آخَرَ قَدْ تَقَرَّرَ...
فَإِنْ تَعَلَّقُوا بِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ فَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ الْقُرْآنِ إلَى الْأَخْبَارِ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا يَجِبُ، فَلَا نُدْخِلُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: هَذَا نَصٌّ عَلَى إبْطَالِ بَيْعِ الْمُكْرَهِ لِفَوَاتِ الرِّضَا فِيهِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى إبْطَالِ أَفْعَالِهِ كُلِّهَا حَمْلًا عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}:
الْأَوَّلُ: لَا تَقْتُلُوا أَهْلَ مِلَّتِكُمْ.
الثَّانِي: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
الثَّالِثُ: لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِفِعْلِ مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَالْأَكْثَرُ مِنْ الْعُلَمَاءِ.
وَكُلُّهَا صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَقْعَدَ مِنْ بَعْضٍ فِي الدِّينِ مِنْ اللَّفْظِ وَاسْتِيفَاءِ الْمَعْنَى.
وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِفِعْلِ مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَهُ، وَلَكِنَّ هَاهُنَا دَقِيقَةٌ مِنْ النَّظَرِ؛ وَهِيَ أَنَّ هَذَا الَّذِي اخْتَرْنَاهُ يَسْتَوْفِي الْمَعْنَى، وَلَكِنَّهُ مَجَازٌ فِي لَفْظِ الْقَتْلِ، وَعَلَى حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى صَرِيحِ الْقَتْلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: {أَنْفُسَكُمْ} مَجَازًا أَيْضًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْمَجَازِ فَمَجَازٌ يَسْتَوْفِي الْمَعْنَى وَيَقُومُ بِالْكُلِّ أَوْلَى؛ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}، فَتَدَبَّرُوهُ عَلَيْهِ.
الأول: أنه تعالى لما شرح كيفية التصرف في النفوس بسبب النكاح ذكر بعده كيفية التصرف في الأموال.
والثاني: قال القاضي: لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإيفاء المهور والنفقات، بين من بعد كيف التصرف في الأموال...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان غالب ما مضى مبنياً على الأموال تارة بالإرث، وتارة بالجعل في النكاح، حلالاً أو حراماً؛ قال تعالى -إنتاجاً مما مضى بعد أن بين الحق من الباطل وبين ضعف هذا النوع كله، فبطل تعليلهم لمنع النساء والصغار من الإرث بالضعف، وبعد أن بين كيفية التصرف في أمر النكاح بالأموال وغيرها حفظاً للأنساب، ذاكراً كيفية التصرف في الأموال، تطهيراً للإنسان، مخاطباً لأدنى الأسنان في الإيمان، ترفيعاً لغيرهم عن مثل هذا الشأن: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان والتزام الأحكام.
ولما كان الأكل أعظم المقاصد بالمال، وكان العرب يرون التهافت على الأكل أعظم العار وإن كان حلالاً؛ كنى به التناول فقال: {لا تأكلوا} أي تتناولوا {أموالكم} أي الأموال التي جعلها الله قياماً للناس {بينكم بالباطل} أي من التسبب فيها بأخذ نصيب النساء والصغار من الإرث، وبعضل بعض النساء وغير ذلك مما تقدم النهي عنه وغيره.
ولما نهى عن الأكل بالباطل، استدرك ما ليس كذلك فقال: {إلا أن تكون} أي المعاملة المدارة المتداولة بينكم {تجارة} هذا في قراءة الكوفيين بالنصب، وعلى قراءة غيرهم: إلا أن توجد تجارة كائنة {عن تراض منكم} أي غير منهي عنه من الشارع، ولعل الإتيان بأداة الاستثناء المتصل- والمعنى على المنقطع -للإشارة إلى أن تصرفات الدنيا كلها جديرة بأن يجري عليها اسم الباطل ولو لم يكن إلا معنياً بها تزهيداً فيها وصدّاً عن الاستكثار منها، وترغيباً فيما يدوم نفعه ببقائه، وهكذا كل استثناء منقطع في القرآن، من تأمله حق التأمل وجد للعدول عن الحرف الموضوع له- "وهو لكن "-إلى صورة الاستثناء حكمة بالغة- والله الموفق.
ولما كان المال عديل الروح ونهى عن إتلافه بالباطل، نهى عن إتلاف النفس، لكون أكثر إتلافهم لها بالغارات لنهب الأموال وما كان بسببها وتسبيبها على أن من أكل ماله ثارت نفسه فأدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل، فكان النهي عن ذلك أنسب شيء لما بنيت عليه السورة من التعاطف والتواصل فقال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} أي حقيقة بأن يباشر الإنسان قتل نفسه، أو مجازاً بأن يقتل بعضكم بعضاً، فإن الأنفس واحدة، وذلك أيضاً يؤدي إلى قتل نفس القاتل، فلا تغفلوا عن حظ أنفسكم من الشكر فمن غفل عن حظها فكأنما مثلها، ثم علله بما يلين أقسى الناس فقال: {إن الله} أي مع ما له من صفات العظمة التي لا تدانيها عظمة {كان بكم} أي خاصة حيث خفف عليكم ما شدده على من كان قبلكم {رحيماً} أي بليغ الرحمة حيث يسر لكم الطاعة ووفقكم لها فأبلغ سبحانه الترغيب في الامتثال؛
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
كان الكلام من أول السورة إلى هنا في معاملة اليتامى والأقارب والنساء ثم في معاملة سائر الناس ومدار الكلام في تلك المعاملات على المال، حتى أنه لما ذكر ما يحل وما يحرم من النساء لم يخرج الكلام عن أحكام المال، فقد ذكر ما يفرض لهن وما يجب من إيتائهن أجورهن، وبعد ذكر تلك الأنواع من الحقوق المالية ذكر قاعدة عامة للتعامل المالي فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} أضاف الأموال إلى الجميع فلم يقل لا يأكل بعضكم مال بعض للتنبيه على ما قررناه مرارا من تكافل الأمة في حقوقها ومصالحها، كأنه يقول إن مال كل واحد منكم هو مال أمتكم فإذا استباح أحدكم أن يأكل مال الآخر بالباطل كان كأنه أباح لغيره أكل ماله وهضم حقوقه لأن المرء يدان كما يدين. هذا ما عندي ونقل بعض من حضر الدرس على الأستاذ أنه قال أيضا إن في هذه الإضافة تنبيها إلى مسألة أخرى وهي أن صاحب المال الحائز له يجب عليه بذله أو البذل منه للمحتاج فكما لا يجوز للمحتاج أن يأخذ شيئا من مال غيره بالباطل كالسرقة والغصب، لا يجوز لصاحب المال أن يبخل عليه بما يحتاج إليه.
وأقول زيادة في البيان: إن مثل هذه الإضافة قد قررت في الإسلام قاعدة الاشتراك التي يرمي إليها الاشتراكيون في هذا الزمان ولكنهم لم يهتدوا إلى سنة عادلة فيها، ولو التمسوها في الإسلام لوجدوها، ذلك بأن الإسلام يجعل مال كل فرد من أفراد المتبعين له مالا لأمته كلها، مع احترام الحيازة والملكية وحفظ حقوقها فهو يوجب على كل ذي مال كثير حقوقا معينة للمصالح العامة، كما يوجب عليه وعلى صاحب المال القليل حقوقا أخرى لذوي الاضطرار من الأمة ومن جميع البشر ويحث فوق ذلك على البر والإحسان والصدقة الدائمة والصدقة المؤقتة والهدية.
فالبلاد التي يعمل فيها الإسلام لا يوجد فيها مضطر إلى القوت والستر قط سواء كان مسلما أو غير مسلم، لأن الإسلام يفرض على المسلمين فرضا قطعيا أن يزيلوا ضرورة كل مضطر، كما يفرض [في] أموالهم حقا آخر للفقراء والمساكين ومساعدة الغارمين الذين يبذلون أموالهم للإصلاح بين الناس ولغير ذلك من أنواع البر، ويرى كل من يقيم في تلك البلاد أن مال الأمة هو ماله لأنه إذا اضطر إليه يجده مذخورا له، وقد يصيبه منه حظ في غير حال الاضطرار، وقد جعل المال المعين المفروض في أموال الأغنياء تحت سيطرة الجماعة الحاكمة من الأمة لئلا يمنعه بعض من يمرض الإيمان في قلوبهم، وترك إلى أريحة الأفراد سائر ما أوجبه الشرع عليهم أو ندبهم إليه، وحثهم بإطلاق النصوص عليه، ورغبهم فيه، وذمهم على منعه، ليكون الدافع لهم إلى البذل من أنفسهم، فتقوى ملكات السخاء والنجدة والمروءة والرحمة فيها، ولم يبح للمحتاج أن يأخذ ما يحتاج إليه من أيديهم بدون إذنهم ومرضاتهم لأن في ذلك مفسدتين: مفسدة قطع أسباب تلك الفضائل وما في معناها. ومفسدة اتكال الكسالى على كسب غيرهم. ومن وراء هاتين المفسدتين انحطاط البشر وفساد نظام الاجتماع، فإن الناس خلقوا متفاوتين في الاستعداد؛ فمنهم المغمول المخلد إلى الكسل والخمول، ومنهم محب الشهرة والظهور، وتذليل صعاب الأمور، فإذا أبيح للكسالى البطالين، أن يقتاتوا على الكاسبين المجدين، فيأخذوا ما شاءوا أو احتاجوا من ثمرات كسبهم، بغير رضاهم ولا إذنهم، أفضت هذه الإباحة إلى الفوضى في الأموال، والضعف والتواني في الأعمال، والفساد في الأخلاق والآداب، كما لا يخفى على أولي الألباب، فوجب أن لا يأخذ أحد مال أحد إلا بحق، أو يبذل صاحب المال ما شاء عن كرم وفضل، فمتى يعود المسلمون إلى حقيقة دينهم ويكونون حجة له على جميع الملل كما كان سلفهم، فيقيموا المدنية الصحيحة في هذا العصر كما أقامها أولئك في عصورهم؟. وقد تقدم تفسير مثل هذه الجملة في سورة البقرة (س2 آية 188 ج 2) وذكرنا هنا لك ما في هذه الإضافة من إعجاز الإيجاز.
أما الباطل فقد قلنا هنالك إنه ما لم يكن في مقابلة شيء حقيقي وهو من البطل والبطلان أي الضياع والخسار فقد حرمت الشريعة أخذ المال بدون مقابلة حقيقية يعتد بها ورضي من يؤخذ منه وكذا إنفاقه في غير وجه حقيقي نافع. وقال الأستاذ الإمام هنا: فسر الجلال وغيره الباطل بالمحرم وهو إحالة للشيء على نفسه فإن الله حرم الباطل بهذه الآية فقولهم إن الباطل هو المحرم يجعل حاصل معنى الآية: إنني جعلت المال المحرم محرما. والصواب أن الباطل هو ما يقابل الحق ويضاده، والكتاب يطلق الألفاظ كالحق والمعروف والحسنات أو الصالحات، وما يقابلها وهو الباطل والمنكر والسيئات، ويكل فهمها إلى أهل الفطرة السليمة من العارفين باللغة ومن ذلك قوله في اليهود: {ويقتلون النبيين بغير الحق} [البقرة:61] فحق فلان في المال هو الثابت له في العرف وهو ما إذا عرض على العقلاء المنصفين أصحاب الفطرة السليمة يقولون إنه له، فيدخل في الباطل الغصب والغش والخداع والربا والغبن والتغرير.
وقوله: {بينكم} للإشعار بأن المال المحرم لأنه باطل هو ما كان موضع التنازع في التعامل بين المتعاملين كأنه واقع بين الآكل والمأكول منه، كل منهما يريد جذبه لنفسه، فيجب أن يكون المرجع للمال بين اثنين يتنازعان فيه هو الحق، فلا يجوز لأحد أن يأخذه بالباطل. وعبر بالأكل عن مطلق الأخذ لأنه أقوى أسبابه وأعمها وأكثرها.
قال تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} قرأ الكوفيون تجارة بالنصب أي إلا أن تكون تلك الأموال تجارة الخ وقرأها الباقون بالرفع على أن كان تامة والمعنى إلا أن توجد تجارة عن تراض منكم، والاستثناء منقطع قالوا والمعنى لا تقصدوا إلى أكل أموال الناس بالباطل ولكن اقصدوا أن تربحوا بالتجارة التي تكون صادرة عن التراضي منكم. وتخصيصها بالذكر دون سائر أسباب الملك لكونها أكثر وقوعا وأوفق لذوي المروآت.
وروى ابن جرير عن الحسن وعكرمة أنهما قالا: كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بهذه الآية فنسخ ذلك بالآية التي في سورة النور: {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم} [النور:61] الآية. وروى ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود أنه قال في هذه الآية إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ على يوم القيامة.
قالوا إن الآية دليل على تحريم ما عدا ربح التجارة من أموال الناس أي كالهدية والهبة ثم نسخ ذلك بآية النور المبيحة للإنسان أن يأكل من بيوت أقاربه وأصدقائه، وهو افتراء على الدين لا أصل له أي لم تصح روايته عمن عزي إليه إذ لا يعقل أن تكون الهبة محرمة في وقت من الأوقات، ولا ما في معناها كإقراء الضيف، وإنما يكون التحريم فيما يمانع فيه صاحب المال فيؤخذ بدون رضاه أو بدون علمه مع العلم أو الظن بأنه لا يسمح به. وإنما استثنى الله التجارة من عموم الأموال التي يجري فيها الأكل بالباطل أي بدون مقابل لأن معظم أنواعها يدخل فيها الأكل بالباطل فإن تحديد قيمة الشيء وجعل عوضه أو ثمنه على قدره بقسطاس الحق المستقيم عزيز وعسير إن لم يكن محالا.
فالمراد من الاستثناء التسامح بما يكون فيه أحد العوضين أكبر من الآخر وما يكون سبب التعاوض فيه براعة التاجر في تزيين سلعته وترويجها بزخرف القول من غير غش ولا خداع ولا تغرير، كما يقع ذلك كثيرا، فإن الإنسان كثيرا ما يشتري الشيء من غير حاجة شديدة إليه وكثيرا ما يشتريه بثمن يعلم أنه يمكن ابتياعه بأقل منه من مكان آخر ولا يكون سبب ذلك إلا خلابة التاجر وزخرفه، وقد يكون ذلك من المحافظة على الصدق واتقاء التغرير والغش، فيكون من باطل التجارة الحاصلة بالتراضي، وهو المستثنى، والحكمة في إباحة ذلك الترغيب في التجارة لشدة حاجة الناس إليها وتنبيه الناس إلى استعمال ما أوتوا من الذكاء والفطنة في اختبار الأشياء والتدقيق في المعاملة حفظا لأموالهم التي جعلها الله لهم قياما أن يذهب شيء منها بالباطل، أي بدون منفعة تقابلها. فعلى هذا يكون الاستثناء متصلا خرج به الربح الكثير، والذي يكون بغير غش ولا تغرير، بل بتراض لم تنخدع فيه إرادة المغبون، ولو لم يبح مثل هذا لما رغب في التجارة ولا اشتغل بها أحد من أهل الدين على شدة حاجة العمران إليها وعدم الاستغناء عنها، إذ لا يمكن أن تتبارى الهمم فيها مع التضييق في مثل هذا. وقد شعر الناس منذ العصور الخالية بما يلابس التجارة من الباطل حتى أن اليونانيين جعلوا للتجارة والسرقة إلها أو ربا واحدا فيما كان عندهم من الآلهة والأرباب لأنواع المخلوقات وكليات الأخلاق والأعمال اه ما قاله في الدرس مع زيادة وإيضاح.
وقد علمت أن الجمهور على أن الاستثناء منقطع أي أن المقام مقام الاستدراك لا الاستثناء والمعنى لا تكونوا من ذوي الطمع الذين يأكلون أموال الناس بغير مقابل لها من عين أو منفعة، ولكن كلوها بالتجارة التي قوام الحل فيها التراضي، فذلك هو اللائق بأهل الدين والمروءة إذا أرادوا أن يكونوا من أهل الدثور والثروة. وقال البقاعي: إن الاستدراك لا يجئ في النظم البليغ بصورة الاستثناء أي الذي يسمونه الاستثناء المنقطع إلا لنكتة. وقال إن النكتة هنا هي الإشارة إلى أن جميع ما في الدنيا من التجارة وما في معناها من قبيل الباطل لأنه لا ثبات ولا بقاء، فينبغي أن لا يشتغل به العاقل عن الاستعداد للدار الآخرة التي هي خير وأبقى. وفي الآية من الفوائد أن مدار التجارة على تراضي المتبايعين، والغش والكذب من المحرمات المعلومة من الدين الضرورة، وكل ما يشترط في البيع عند الفقهاء فهو لأجل تحقيق التراضي من غير غش وما عدا ذلك فلا علاقة له بالدين.
{ولا تقتلوا أنفسكم...}: ظاهر هذه الجملة وحدها أن النهي إنما هو عن قتل الإنسان لنفسه وهو الانتحار والمتبادر منها في هذا الأسلوب أن المراد لا يقتل بعضكم بعضا وهو الأقوى. واختير هذا التعبير للإشعار بتعاون الأمة وتكافلها ووحدتها كما تقدم في نكتة التعبير عن أكل بعضهم مال بعض بقوله: {لا تأكلوا أموالكم} وجمع بعضهم في النهي عن القتل بين الأمرين فقال أي لا تقتلوها حقيقة بالانتحار ولا مجازا بقتل بعضكم لبعض، ولم يقولوا مثل هذا في النهي عن أكل أموال أنفسهم بالباطل على أن المعنى يكون في نفسه صحيحا فإن النفقات بالباطل محرمة شرعا لأنها من إضاعة المال في غير منفعة حقيقة، وقد تقدم ما يؤيد ذلك في تفسير قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} [النساء:5] (راجع ج 4 تفسير).
وكل المحرمات في الإسلام ترجع إلى الإخلال بحفظ الأصول الكلية الواجب حفظها بالإجماع وهي الدين والنفس والعرض والعقل والمال والنسب. وعللوا التعبير عن قتل الإنسان لغيره بقتله لنفسه بأنه لما كان يفضي إلى قتله قصاصا أو ثأرا كان كأنه قتل لنفسه. وقالوا مثل هذا القول في تفسير قوله تعالى في خطاب بني إسرائيل: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون* ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم} [البقرة: 84 85] الآية. حتى أنهم قالوا في قوله تعالى لبني إسرائيل: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} [البقرة:54] إن المعنى ليقتل كل منكم نفسه بالبخع والانتحار أو أمروا أن يقتل بعضهم بعضا، وقال بعضهم إن المراد بالقتل هنالك قطع الشهوات كما قيل من لم يعذب نفسه لم يمنعها ومن لم يقتلها لم يحبها. وقيل إن المعنى هنا لا تخاطروا بنفوسكم في القتال فتقاتلوا من يغلب على ظنكم أنهم يقتلونكم. ومن نظر في مجموع الآيات الواردة في هذا المعنى وراعى دلالة النظم والأسلوب يجزم بأن المراد بقتل الناس أنفسهم هو قتل بعضهم لبعض، وأن النكتة في التعبير هي ما تقدم بيانه من وحدة الأمة حتى كأن كل فرد من أفرادها هو عين الآخر وجنايته عليه جناية على نفسه من جهة وجناية على جميع الأفراد من جهة أخرى، بل علمنا القرآن أن جناية الإنسان على غيره تعد جناية على البشر كلهم لا على المتصلين معه برابطة الأمة الدينية أو الجنسية أو السياسية بقوله عز وجل: {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} [المائدة:35].
وإذا كان يرشدنا بأنه يجب علينا أن نحترم نفوس الناس بعدها كنفوسنا فاحترامنا لنفوسنا يجب أن يكون أولى فلا يباح بحال من الأحوال أن يقتل أحد نفسه كأن يبخعها ليستريح من الغم وشقاء الحياة فمهما اشتدت المصائب على المؤمن فإنه يصبر ويحتسب ولا ينقطع رجاؤه من الفرج الإلهي، ولذلك نرى بخع النفس (الانتحار) يكثر حيث يقل الإيمان، ويفشو الكفر والإلحاد، ومن فوائد الإيمان مدافعة المصائب والأقدار، فالمؤمن لا يتألم من بؤس الحياة كما يتألم الكافر فليس من شأنه أن يبخع نفسه حتى ينهى عن ذلك نهيا صريحا.
{إن الله كان بكم رحيما} أي: إنه كان بنهيه إياكم عن أكل أموالكم بالباطل وعن قتل أنفسكم رحيما بكم لأن في ذلك حفظ دماءكم وأموالكم التي هي قوام مصالحكم ومنافعكم، فيجب أن تتراحموا فيما بينكم ويكون كل منكم عونا للآخرين على حفظ النفس ومدافعة رزايا الدهر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الفقرة الثانية في هذا الدرس، تتناول جانبًا من العلاقات المالية في المجتمع المسلم، لتنظيم طرق التعامل في هذا الجانب؛ لضمان طهارة التعامل بين الأفراد عامة؛ ثم لتقرير حق النساء كالرجال في الملك والكسب -كل حسب نصيبه- وأخيرًا لتنظيم التعامل في عقود الولاء التي كانت سارية في الجاهلية وفي القسم الأول من صدر الإسلام، لتصفية هذا النظام، وتخصيص الميراث بالأقارب... إنها حلقة في سلسلة التربية، وحلقة في سلسلة التشريع.. والتربية والتشريع في المنهج الإسلامي متلازمان؛ أو متداخلان؛ أو متكاملان.. فالتشريع منظور فيه إلى التربية؛ كما هو منظور فيه إلى تنظيم شؤون الحياة الواقعية؛ والتوجيهات المصاحبة للتشريع منظور فيها إلى تربية الضمائر؛ كما أنه منظور فيها إلى حسن تنفيذ التشريع، وانبعاث التنفيذ عن شعور بجدية هذا التشريع؛ وتحقق المصلحة فيه. والتشريع والتوجيه المصاحب منظور فيهما -معًا- إلى ربط القلب بالله، وإشعاره بمصدر هذا المنهج المتكامل من التشريع والتوجيه.. وهذه هي خاصية المنهج الرباني للحياة البشرية.. هذا التكامل الذي يصلح الحياة الواقعية، ويصلح الضمير البشري في ذات الأوان...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى الأسس التي يقوم عليها بناء الأسرة، وكيف يختار كل واحد من الزوجين صاحبه، وبين الآفات التي قد تعترى الأسرة في ابتداء تكونها، وبين أن دعائم الأسرة التي يقيمها عليها هي من فطرة، وهي سنن الذين كانوا قبل الإسلام. وبعد هذا انتقل إلى العلاقات الاجتماعية العامة، وذلك تدرج من الخاص إلى العام، فالعلاقات في الأسرة خاصة والعلاقات بالمعاملات المالية علاقة عامة، ولذا قال:... {يا أيها الذين آمنوا ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} أكل المال معناه أخذه، وأطلق الأكل وأريد به الأخذ للإشارة إلى الأصل في وظيفة المال الإنسانية وهو ان يكون وسيلة لمتع الحياة التي اخصها الكل، وإذا تحول المال من كونه وسيلة لنيل المطاعم إلى أن يقصد لذاته ليكون كمتعة مطلوبة كالكل، فعندئذ يكون الشح والحرص والتنازع على طلبه بحل أو بغير حل، وهذا شأن من يأخذون الباطل يستمتعون به كما يستمتع الآكل بالطعام. وعبر بأموالكم للإشارة إلى أن مال آحاد الأمة مال الأمة موزعا بين آحادها بتوزيع الله تعالى الذي قسم الأرزاق، وأن المال كله في حماية المجتمع، ولو كان مملوكا ملكا خاصا. وذكر كلمة {بينكم} للإشارة إلى أن التبادل بين الآحاد يكون على أساس من الحق، ولا يكون بالباطل، والباطل هو الطرق المحرمة لجمع المال كالربا والرشوة والسرقة والغصب والنصب والتزوير والغش والتدليس والاحتكار الآثم، وغير هذا من الأساليب التي لا تبيحها شريعة ولا يبيحها قانون...
والتراضي أساس العقود عامة وأساس المبادلات المالية خاصة، فلا بيع من غير تراض ولا شراء ولا إجارة ولا شركة ولا غيرها من عقود التجارة ما لم يتحقق الرضا. وقد وسع الفقهاء الباب للرضا، فأباحوا للعاقد أن يفسخ العقد إذا خفيت العيوب ولم تظهر؛ لأن الرضا لم يكن على أساس سليم، وأباحوا للعاقد أن يشترط لنفسه حق الفسخ، ومن الفقهاء من أباح له الفسخ طول مدة مجلس العقد، ولو أعلن الرضا، ولذلك كله للاحتياط، ولكن يكون الرضا على أساس من العلم الصحيح والجزم القاطع، والبت القائم على بينة ومعرفة...
{ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} جاء هذا بعد النهي عن أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن المال عند الناس بمنزلة النفس أو قريب منها، وقد اختلف العلماء في معنى قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} فقال بعضهم: معناه لا يقتل أحدكم نفسه، فإن ذلك إثم، ومن قتل نفسه فقد اعتدى على نفس حرم الله قتلها، وهذا تأويل متفق مع السياق، وإن كان ظاهر اللفظ ربما يفيده، وقال بعضهم: عن المعنى ولا يقتل بعضكم بعضا؛ فإن قتل واحد منكم للآخر قتل لأنفسكم، وتحريض على الدماء بينكم، وقتل نفس كقتل الناس جميعا...، ومن ذلك قوله تعالى: {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا32} [المائدة] وإن السياق على هذا يكون فيه ترق في النهي عن الاعتداء، ابتدأ بمنع الاعتداء على المال، ثم بمنع الاعتداء على النفس، فهو انتقال من الكبيرة إلى اكبر منها. وقال بعضهم إن المعنى لا تقتلوا أنفسكم بأكل بعضكم أموال بعض، وبارتكاب المعاصي، فإن ذلك مفرق لجماعتكم مفسد لأمركم مذهب لوحدتكم، وبذلك تقتل الأمم والجماعات، وقد ارتضى هذا ابن بشير فقال: {ولا تقتلوا أنفسكم} أي بارتكاب محارم الله تعالى ومعاصيه، واكل أموالكم بينكم. وإن هذا هو الذي نرتضيه، وهو يتضمن في ثناياه النهي عن القتل بكل ضروبه لأنه داخل في محارم الله...
وقد ذيل الله سبحانه وتعالى النص بقوله تعالت كلماته: {إن الله كان بكم رحيما} للإشارة إلى ان الله نهى عن هذه المحرمات وأباح هذه المباحات من التجارة بكل أنواعها رحمة بكم، فكل شرع الله رحمة، وكل شرع صادر عن رحمة الله التي هي شأن من شئونه، كما قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين107} [الأنبياء]...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
سلامة المجتمع ترتبط بسلامة الاقتصاد:
الآية الأُولى من هاتين الآيتين تشكل في الحقيقة القاعدة الأساسية للقوانين الإِسلامية في مجال المسائل المتعلقة «بالمعاملات والمبادلات المالية» ولهذا يستدلّ بها فقهاء الإِسلام في جميع أبواب المعاملات والمبادلات المالية. إِنّ هذه الآية تخاطب المؤمنين بقولها: (يا أيّها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) وهذا يعني أنّ أي تصرف في أموال الغير بدون حق أو بدون أي مبرر منطقي ومعقول، ممنوع ومحرم من وجهة نظر الإِسلام، فقد أدرج الإِسلام كل هذه الأمور تحت عنوان «الباطل» الذي له مفهوم واسع وكبير. والباطل كما نعلم يقابل «الحقّ» وهو شامل لكل ما ليس بحقّ وكلّ ما لا هدف له ولا أساس... وعلى هذا الأساس يندرج تحت هذا العنوان الكلي كل لون من ألوان العدوان، والغش، وجميع المعاملات الرّبوية، والمعاملات المجهولة الخصوصيات تماماً، وتعاطي البضائع التي لا فائدة فيها بحكم العقلاء، والتجارة بأدوات اللهو والفساد والمعصية وما شاكل ذلك. وتفسير بعض الروايات كلمة «الباطل» بالقمار والرّبا وما شابه ذلك إِنّما هو في الحقيقة من باب ذكر المصاديق الواضحة لهذا المفهوم، وليس من باب الحصر والقصر. ولعلّنا لا نحتاج إِلى التذكير بأنّ التعبير ب «الأكل» كناية عن كل تصرف، سواء تمّ بصورة الأكل المتعارف أو اللبس، أو السكنى أو غير ذلك، تعبير رائج في اللغة العربية وغير العربية، غير غريب على الاستعمال...