9- والأنصار الذين نزلوا المدينة وأقاموا بها ، وأخلصوا الإيمان من قبل نزول المهاجرين بها ، يحبُّون مَن هاجر إليهم من المسلمين ، ولا يحسون في نفوسهم شيئاً مما أوتى المهاجرون من الفيء ، ويقدمون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم حاجة ، ومن يُحْفَظ - بتوفيق الله - من بخل نفسه الشديد فأولئك هم الفائزون بكل ما يحبون .
ثم مدح - سبحانه - بعد ذلك الأنصار ، الذين يحبون من هاجر إليهم فقال : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } .
والجملة الكريمة معطوفة على { الْمُهَاجِرِينَ } أو مبتدأ وخبره : { يُحِبُّونَ } والتبوؤ : النزول فى المكان ، ومنه المباءة للمنزل الذى ينزل فيه الإنسان .
والمراد بالدار : المدينة المنورة ، وأل للعهد . أى : الدار المعهودة المعروفة وهى دار الهجرة .
وقوله : { والإيمان } منصوب بفعل مقدر ، أى : وأخلصوا الإيمان .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى عطف الإيمان على الدار ، ولا يقال : تبوأوا الإيمان ؟
قلت معناه : تبوأوا الدار وأخلصوا الإيمان . كقوله : علفتها تبنا وماء باردا .
أى : وجعلوا الإيمان مستقرا ومتوطنا لهم ، لتمكنهم منه ، واستقامتهم عليه ، كما جعلوا المدينة كذلك .
أو أراد : دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف فى الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ، ووضع المضاف إليه مقامه . .
أو سمى المدينة - لأنها دار الهجرة ، ومكان ظهور الإيمان - بالإيمان . .
وقوله : { مِن قَبْلِهِمْ } أى : من قبل المهاجرين ، وهو متعلق بقوله { تَبَوَّءُوا } .
وقوله : { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } خبر لمبتدأ ، أو حال من الذين تبوأوا الدار .
أى : هذه هى صفات المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم .
أما الذين سكنوا دار الهجرة وهى المدينة المنورة ، من قبل المهاجرين ، وأخلصوا إيمانهم وعبادتهم لله - تعالى- ، فإن من صفاتهم أنهم يحبون إخوانهم الذين هاجروا إليهم حبا شديدا ، لأن الإيمان ربط قلوبهم برباط المودة والمحبة . وقوله : { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } صفة أخرى من صفات الأنصار .
ومعنى : { يَجِدُونَ } هنا : يحسون ويعلمون ، والضمير للأنصار ، وفى قوله { أُوتُواْ } للمهاجرين . والحاجة فى الأصل : اسم مصدر بمعنى الاحتياج ، أى الافتقار إلى الشىء .
والمراد بها هنا : المأرب أو الرغبة الناشئة عن التطلع إلى ما منحه النبى - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين دون الأنصار ، من فىء أو غيره .
أى : أن من صفات الأنصار - أيضا - أنهم لا تتطلع نفوسهم إلى شىء مما أعطى للمهاجرين من الفىء أو غيره ، لأن المحبة التى ربطت قلوب الأنصار بالمهاجرين ، جعلت الأنصار يرتفعون عن التشوف إلى شىء مما أعطاه النبى - صلى الله عليه وسلم - المهاجرين وحدهم . . .
ثم وصفهم - سبحانه - بصفة ثالثة كريمة فقال : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ . . . } .
والإيثار معناه : أن يؤثر الإنسان غيره على نفسه ، على سبيل الإكرام والنفع ، والخصاصة : شدة الحاجة ، وأصلها من خصاص البيت ، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتحات .
أى : أن من صفات الأنصار أنهم كانوا يقدمون فى النفع إخوانهم المهاجرين على أنفسهم ، ولو كانوا فى حاجة ماسة ، وفقر واضح ، إلى ما يقدمونه لإخوانهم المهاجرين .
ولقد ضرب الأنصار - رضى الله عنهم - أروع الأمثال وأسماها فى هذا المضمار ، ومن ذلك ما رواه الشيخان والترمذى والنسائى وغيرهم عن أبى هريرة قال : " أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أصابنى الجهد ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد شيئا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله " ؟ فقام رجل من الأنصار - وفى رواية أنه أبو طلحة - فقال : أنا يا رسول الله ، فذهب به إلى أهله ، فقال لامرأته : أكرمى ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : والله ما عندى إلا قوت الصيبة ! ! قال : إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم ، وتعالى فأطفئى السراج ، ونطوى بطوننا الليلة لضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعلت .
ثم غدا الضيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة " وأنزل الله فيهما : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ . . . } . "
وقوله - سبحانه - : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } تذييل قصد به حض الناس على التحلى بفضيلة السخاء والكرم .
والشح : يرى بعضهم أنه بمعنى البخل ، ويرى آخرون أن الشح غريزة فى النفس تحملها على الإمساك والتقتير ، وأما البخل فهو المنع ذاته ، فكأن البخل أثر من آثار الشح .
قال صاحب الكشاف : " الشح " - بالضم والكسر قد قرئ بهما - : اللؤم ، وأن تكون نفس المرء كزة حريصة على المنع كما قال الشاعر :
يمارس نفسا بين جنبيه كَزَّةً . . . إذا هَمَّ بالمعروف قالت له مهلا
وقد أضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها ، وأما البخل فهو المنع نفسه ، ومنه قوله - تعالى - : { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح . . } أى : ومن يوق - بتوفيق الله وفضله - شح نفسه وحرصها على الإمساك ، فيخالفها فيما تأمره به من المنع والتقتير . فأولئك الذين يخالفونها هم المفلحون ، الفائزون برضا الله - عز وجل - .
ومن الأحاديث التى وردت فى النهى عن الشح ، ما أخرجه مسلم - فى صحيحه - عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم " .
ثم قال تعالى مادحًا للأنصار ، ومبينًا فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حَسَدهم ، وإيثارهم مع الحاجة ، فقال : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } . أي : سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم .
قال عمر : وأوصي الخليفة [ من ] {[28553]} بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم كرامتهم . وأوصيه بالأنصار خيرًا الذين تَبوّءوا الدار والإيمان من قبل ، أن يقبل من محسنهم ، وأن يعفو{[28554]} عن مسيئهم . رواه البخاري هاهنا أيضًا{[28555]} .
وقوله : { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } أي : مِنْ كَرَمهم وشرف أنفسهم ، يُحبّون المهاجرين{[28556]} ويواسونهم بأموالهم .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا حميد ، عن أنس قال : قال المهاجرون : يا رسول الله ، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل ولا أحسن بذلا في كثير ، لقد كَفَونا المَؤنة ، وأشركونا في المهنأ ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ! قال : " لا ما أثنيتم عليهم ودَعَوتُمُ الله لهم " {[28557]} .
لم أره في الكتب من هذا الوجه .
وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال : دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يُقطع لهم البحرين ، قالوا : لا إلا أن تُقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها ، قال : " إما لا فاصبروا حتى تلقوني ، فإنه سيصيبكم [ بعدي ] {[28558]} أثرة " .
تفرد به البخاري من هذا الوجه{[28559]}
قال البخاري : حدثنا الحكم بن نافع ، أخبرنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قالت الأنصار : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل . قال : لا . فقالوا : تكفونا المؤنَةَ ونَشرككُم في الثمرة ؟ قالوا : سمعنا وأطعنا . تفرد به دون مسلم{[28560]} .
{ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي : ولا يجدون في أنفسهم حسدًا للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف ، والتقديم في الذكر والرتبة .
قال : الحسن البصري : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً } يعني : الحسد .
{ مِمَّا أُوتُوا } قال قتادة : يعني فيما أعطى إخوانهم . وكذا قال ابن زيد . ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن أنس قال : كنا جُلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة " . فطلع رجل من الأنصار تَنظُف{[28561]} لحيته من وضوئه ، قد تَعَلَّق{[28562]} نعليه بيده الشمال ، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى . فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته{[28563]} أيضًا ، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى{[28564]} فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال : إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا ، فإن رأيت أن تؤويني {[28565]} إليك حتى تمضي فعلتُ . قال : نعم . قال أنس : فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي{[28566]} فلم يره يقوم من الليل شيئًا ، غير أنه إذا تَعارّ تقلب على فراشه ، ذكر الله وكبر ، حتى يقوم لصلاة الفجر . قال عبد الله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا ، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله ، قلت : يا عبد الله ، لم يكن بيني وبين أبي غَضَب ولا هَجْر{[28567]} ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرَار{[28568]} يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة " . فطلعت أنت الثلاث المرار{[28569]} فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملكَ فأقتدي به ، فلم أرك تعمل كثير{[28570]} عمل ، فما الذي بلغ بك ما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ما هو إلا ما رأيت . فلما وليت دعاني فقال : ما هو إلا ما رأيت ، غير أني لا أجدُ في نفسي لأحد من المسلمين غِشّا ، ولا أحسدُ أحدًا على خير أعطاه الله إياه . قال عبد الله : هذه التي بلغت بك ، وهي التي لا تطاق{[28571]} .
ورواه النسائي في اليوم والليلة ، عن سُوَيد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن معمر به {[28572]} وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين ، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري ، عن رجل ، عن أنس{[28573]} . فالله أعلم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } يعني { مِمَّا أُوتُوا } المهاجرون . قال : وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم من الأنصار ، فعاتبهم الله في ذلك ، فقال : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال : وقال رسول الله : " إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم " . فقالوا : أموالنا بيننا قطائع . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أو غير ذلك ؟ " . قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : " هم قوم لا يعرفون العمل ، فتكفونهم وتقاسمونهم{[28574]} الثمر " . فقالوا : نعم يا رسول الله{[28575]}
وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } {[28576]} يعني : حاجة ، أي : يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم ، ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك .
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أفضلُ الصدقة جَهدُ المقلّ " . وهذا المقام أعلى من حال الذين وَصَف اللهُ بقوله : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } {[28577]} [ الإنسان : 8 ] . وقوله : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } [ البقرة : 177 ] .
فإن هؤلاء يتصدقون وهم يحبون ما تصدقوا به ، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به ، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه . ومن هذا المقام تصدق الصديق ، رضي الله عنه ، بجميع ماله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أبقيت لأهلك ؟ " . فقال : أبقيت لهم الله ورسوله . وهذا{[28578]} الماء الذي عُرض{[28579]} على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك ، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه ، وهو جريح مثقل أحوجَ ما يكون إلى الماء ، فرده الآخر إلى الثلث ، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم ، رضي الله عنهم وأرضاهم .
وقال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا فُضيل بن غَزوان ، حدثنا أبو حازم الأشجعي ، عن أبي هُرَيرة قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أصابني الجهدُ ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا رجل يُضَيّفُ هذا الليلة ، رحمه الله ؟ " . فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله . فذهب إلى أهله فقال لامرأته : ضَيفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَدّخريه شيئًا . فقالت : والله ما عندي إلا قوتُ الصبية . قال : فإذا أراد الصبيةُ العَشَاء فنوّميهم وتعالى فأطفئي السراج ونَطوي بطوننا الليلة . ففعلَت ، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لقد عجب الله ، عز وجل - أو : ضحك - من فلان وفلانة " . وأنزل الله عز وجل : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } {[28580]} .
وكذا رواه البخاري في موضع آخر ، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق ، عن فضيل بن غزوان ، به نحوه{[28581]} . وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة ، رضي الله عنه .
وقوله : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح .
قال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا داود بن قيس الفراء ، عن عُبَيد الله بن مِقْسَم ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظلّم ، فإن الظُّلم ظلماتٌ يوم القيامة ، واتقوا الشُحَّ ، فإن الشّحَّ أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سَفَكُوا دماءهم واستَحلُّوا محارمهم " .
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه عن القَعْنَبِيّ ، عن داود بن قيس ، به{[28582]} .
وقال الأعمش وشعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن الحارث ، عن زهير بن الأقمر ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الظُّلْم ؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الفُحْش ، فإن الله لا يحب الفحش ولا التَّفَحُّشَ ، وإياكم والشُّحَّ ؛ فإنه أهلكَ من كان قبلكم ، أمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا " .
ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة ، والنسائي من طريق الأعمش ، كلاهما عن عمرو بن مُرّة ، به {[28583]} .
وقال الليث ، عن يزيد [ بن الهاد ]{[28584]} عن سُهَيل بن أبي صالح ، عن صفوان بن أبي يزيد ، عن القعقاع بن اللجلاج{[28585]} عن أبي هريرة ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخانُ جهنم في جوف عبد أبدًا ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا " {[28586]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، أخبرنا ابن المبارك ، حدثنا المسعودي ، عن جامع بن شداد ، عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إني أخاف أن أكون قد هلكت فقال له عبد الله : وما ذاك ؟ قال : سمعت الله يقول : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وأنا رجل شحيح ، لا أكاد أن أخرج من يدي شيئًا ! فقال عبد الله : ليس ذلك{[28587]} بالشح الذي ذكر الله في القرآن ، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلمًا ، ولكن ذلك{[28588]} البخل ، وبئس الشيء البخل " {[28589]}
وقال سفيان الثوري ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي الهياج الأسدي قال : كنت أطوف بالبيت ، فرأيت رجلا يقول : اللهم قني شح نفسي " . لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال : إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل " ، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنه ، رواه ابن جرير{[28590]}
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن إسحاق ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، حدثنا إسماعيل ابن عَيّاش ، حدثنا مُجَمع بن جارية الأنصاري ، عن عمه يزيد بن جارية ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بَريء من الشح مَن أدى الزكاة ، وقَرَى الضيف ، وأعطى في النائبة " {[28591]} .
{ والذين تبوءوا الدار والإيمان }عطف على المهاجرين والمراد بهم الأنصار الذين ظهر صدقهم فإنهم لزموا المدينة والإيمان وتمكنوا فيهما وقيل المعنى تبوءوا دار الهجرة ودار الإيمان فحذف المضاف من الثاني والمضاف إليه من الأول وعوض عنه اللام أو تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله علفتها تبنا وماء باردا ، وقيل سمى المدينة بالإيمان لأنها مظهره ومصيره من قبلهم من قبل هجرة المهاجرين ، وقيل تقدير الكلام { والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان يحبون من هاجر إليهم }ولا يثقل عليهم { ولا يجدون في صدورهم } في أنفسهم { حاجة }ما تحمل عليه الحاجة كالطلب والحزازة والحسد والغيظ { مما أوتوا }مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره ، { ويؤثرون على أنفسهم }ويقدمون المهاجرين على أنفسهم حتى إن كان عنده مرأتان نزل عن واحدة وزوجها من أحدهم ، { ولو كان بهم خصاصة } حاجة من خصاص البناء وهي فرجه ، { ومن يوق شح نفسه }حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق ، { فأولئك هم المفلحون }الفائزون بالثناء العاجل والثواب الآجل .
{ الذين تبوءوا } هم الأنصار ، والضمير في { قبلهم } للمهاجرين ، و { الدار } هي المدينة ، والمعنى : تبوءوا الدار مع الإيمان معاً ، وبهذا الاقتران يصح معنى قوله : { من قبلهم } فتأمله ، { والإيمان } لا يتبوأ لأنه ليس مكاناً ولكن هذا من بليغ الكلام ويتخرج على وجوه كلها جميل حسن{[11024]} .
وأثنى الله تعالى في هذه الآية على الأنصار بأنهم { يحبون } المهاجرين ، وبأنهم { يؤثرون على أنفسهم } وبأنهم قد وقوا شح أنفسهم لأن مقتضى قوله : { ومن يوق شح نفسه } الآية . أن هؤلاء الممدوحين قد وقوا الشح ، والحاجة : الحسد في هذا الموضع ، قاله الحسن وتعم بعد جميع الوجوه التي هي بخلاف ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في إعطاء المهاجرين أموال بني النضير والقرى ، و { أوتوا } معناه : أعطوا ، والضمير المرفوع بأن لم يسم فاعله هو للمهاجرين ، وقوله تعالى : { ويؤثرون } الآية ، صفة للأنصار . وقد روي من غير ما طريق ، أنها نزلت بسبب رجل من الأنصار ، قال أبو المتوكل : هو ثابت بن قيس ، وقال أبي هريرة في كتاب مكي : كنية هذا الرجل أبو طلحة ، وخلط المهدوي في ذكر هذا الرجل ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : والله ما عندنا إلا قوت الصبية ، فقال : نومي صبيتك وأطفئي السراج وقدمي ما عندك للضيف ونوهمه نحن أنا نأكل ، ففعلا ذلك فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «عجب الله من فعلكما البارحة » ، ونزلت الآية في ذلك{[11025]} . والإيثار على النفس أكرم خلق ، وقال حذيفة العدوي : طلبت يوم اليرموك ابن عم لي في الجرحى ومعي شيء من ماء ، فوجدته ، فقلت : أسقيك ؟ فأشار أن نعم ، فإذا رجل يصيح آه ، فأشار ابن عمي أن انطلق إليه فجئته فإذا هو هشام بن العاصي ، فقلت : اشرب فإذا آخر يقول : آه ، فأشار هشام أن انطلق إليه ، فجئته ، فإذا به قد فاضت نفسه ، فرجعت إلى هشام ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات ، فعجبت من إيثارهم رحمهم الله وقال أبو زيد البسطامي : قدم علينا شاب من بلخ حاجاً فقال : ما حد الزهد عندكم ؟ فقلت : إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا ، فقال : هكذا عندنا كلاب بلخ ، فقلت له : فما هو عندكم ، فقال : إذا فقدنا صبرنا وإذا وجدنا آثرنا وروي : أن سبب هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى في المهاجرين قال للأنصار : «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه » فقالوا : بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة ، فنزلت هذه الآية{[11026]} .
والخصاصة : الفاقة والحاجة ، وهو مأخوذ من خصائص البيت وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتوح فكأن حال الفقير هي كذلك يتخللها النقص والاحتياج ، و «شح النفس » هو كثرة منعها وضبطها على المال والرغبة فيه وامتداد الأمل هذا جماع شح النفس وهو داعية كل خلق سوء ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«من أدى الزكاة المفروضة وقرى الضيف وأعطى في النائبة فقد برئ من الشح »{[11027]} ، واختلف الناس بعد هذا الذي قلنا ، فذهب الجمهور والعارفون بالكلام إلى هذا وعلى هذا التأويل ، كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يطوف ويقول : اللهم قني شح نفسي ، لا يزيد على ذلك ، فقيل له في ذلك فقال إذا وقيته لم أفعل سوءاً .
قال القاضي أبو محمد : «شح النفس » فقر لا يذهبه غنى المال بل يزيده وينصب به ، وقال ابن زيد وابن جبير وجماعة : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله تعالى عنه ولم يمنع الزكاة المفروضة فقد برئ من شح النفس . وقال ابن مسعود رحمه الله «شح النفس » : هو أكل مال الغير بالباطل ، وأما منع الإنسان ماله فهو بخل وهو قبيح ، ولكنه ليس بالشح . وقرأ عبد الله بن عمر : «شِح » بكسر السين ، ويوقى وزنه : يفعل من وقى يقي مثل وزن يزن . وقرأ أبو حيوة : «يوَقّ » بفتح الواو وشد القاف و { المفلحون } : الفائزون ببغيتهم .