وبعد أن حكى الله - تعالى - في الآيات السابقة ما كان عليه أعداء الإِسلام - وخصوصاً اليهود - من محاولات لفتنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن دسائس حاكوها لعرقلة سير الدعوة الإِسلامية ، ومن استهزاء بتعاليم الإِسلام ومن حقد على المؤمنين لإِيمانهم برسل الله وكتبه ومن سوء أدب مع خالقهم ورازقهم . بعد أن حكى - سبحانه - كل ذلك ، أتبعه بتوجيه نداء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أمره فيه بأن يمضي في تبليغ رسالته إلى الناس دون أن يلتفت إلى مكر الماكرين ، أو حقد الحاقدين . فإنه - سبحانه - قد حماه وعصمه منهم فقال :
{ ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ . . . }
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآيى روايات منها ما أخرجه ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى أنمار ، نزل ذات الرقاع بأعلى نخل . فبينما هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه ، فقال الحارث من بني النجار : لأقتلن محمدا فقال له أصحابه : كيف تقتله ؟ قال : أقول له أعطني سيفك ، فإذا أعطانيه قتلته به . قال : فأتاه فقال يا محمد . أعطني سيفك أشيمه - أي أراه - فأعطاه إياه - فرعدت يده حتى سقط السيف من يده : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حال الله بينك وبين ما تريد .
فأنزل الله - تعالى - { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } . . الآية .
قال الفخر الرازي - بعد أن ذكر عشرة أقوال في سبب نزولها - واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت إلا أن الأولى حمل الآية على أن الله - تعالى - آمنه من مكر اليهود والنصارى ، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم ، وذلك لأن ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير لما كان كلاما مع اليهود والنصارى ، امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة على وجه تكون أجنبية عما قبلها وما بعدها .
وهذا الذي قاله الإِمام الرازي هو الذي تسكن إليه النفس أي أن الآية الكريمة ساقها الله - تعالى - لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتقويه قلبه وأمره بالمضي في تبليغ رسالته بدون خوف من أعدائه الذين حدثه عن مكرهم به وكراهتهم له ، حديثا مستفيضاً ، وقد بشره - سبحانه - في هذه الآية بأنه حافظه من مكرهم وعاصمه من كيدهم .
وقوله : { بلغ } من التبليغ بمعنى : إيصال الشيء إلى المطلوب إيصاله إليه .
والمعنى : { ياأيها الرسول } الكريم المرسل إلى الناس جميعا { بلغ } أي : أوصل إليهم { مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } أي : كل ما أنزل إلأيك من ربك من الأوامر والنواهي والأحكام والآداب والأخبار دون أن تخشى أحداً إلا الله . { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } ما أمرت به من إيصال وتبليغ جميع ما أنزل إليك من ربك إلى الناس { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي : وإن لم تبلغ كل ما أنزل إليك من ربك كنت كمن لم يبلغ شيئاً مما أوحاه الله إليه ، لأن ترك بعض الرسالة يعتبر تركا لها كلها .
وقد عبر عن هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله : قوله : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } أي : وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي : فلم تبلغ إذا ما كلفت به من أداء الرسالة ، ولم تؤد منها شيئاً قط ، وذلك ن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض وإن لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً ، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها ، لإِدلاء كل منها بما يدلي به غيرها ، وكونها لذلك في حكم شيء واحد .
والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ ؛ مؤمنا به غير مؤمن به .
وفي ندائه صلى الله عليه وسلم بوصف الرسالة تشريف له وتكريم وتمهيد لما يأمره به الله من وجوب تبليغ ما كلف بتبليغه إلى الناس دون أن يخشى أحداً سواه .
لأن الله - تعالى - هو الذي خلقه ورباه وتعهده بالرعاية والحماية . وهو الذي اختاره لحمل هذه الرسالة دون غيره ؛ فمن الواجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ جميع ما أنزل إليه منه - سبحانه - .
قال الجمل : وقوله : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } ظاهر هذا التركيب اتحاد الشرط والجزاء ، لأنه يؤول ظاهراً إلى وإن لم تفعل فما فعلت ، مع أنه لا بد وأن يكون الجواب مغايراً للشرط لتحصل الفائدة ومتى اتحدا اختل الكلام .
وقد أجاب عن ذلك ابن عطية بقوله أي : وإن تركت شيئاً فقد تركت الكل وصار ما بلغته غير معتد به فصار المعنى : وإن لم تستوف ما أمرت بتبليغه فحكمك في العصيان وعدم الامتثال حكم من لم يبلغ شيئا أصلا .
وقال صاحب الانتصاف ما ملخصه : ولما كان عدم تبليغ الرسالة أمرا معلوماً عند الناس أنه عظيم شنيع ، ينقم على مرتكبه بل إن عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع ، فضلا عن كتمان الرسالة من الرسول . لما كان الأمر كذلك استغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء ، للصوقها بالجزاء في الأفهام وإن كان من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد ، وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز يذكر الشرط عاماً بقوله : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } ولم يقل : فإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة ، حتى يكون اللفظ متغايراً ، وهذه المغايرة اللفظية - وإن كان المعنى واحداً - أحسن رونقاً ، وأظهر طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء ، وهذا الفصل كاللباب من علم البيان .
هذا ، ومن المعلوم الذي لاخفاء فيه عند كل مسلم ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أمره الله به البلاغ التام ، وقام به أتم القيام دون أن يزيد شيئاً على ما كلفه به ربه أو ينقص شيئاً .
وقد ساق ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من النصوص التي تشهد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد امتثل أمر الله في تبليغ رسالته ، ومن ذلك ما رواه الشيخان عن عائشة أنها قالت لمسروق : من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيائً مما أنزل الله عليه فقد كذب .
والله يقول : { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } . . الآية .
ثم قال : ابن كثير : وقد شهدت له صلى الله عليه وسلم أمته بإبلاغ الرسالة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع . فقد قال في خطبته يومئذ : " أيها الناس ، إنكم مسئولون عنى فماذا أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت " .
وقوله : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } وعد منه - سبحانه - بحفظ نبيه من كيد أعدائه .
وقوله : { يَعْصِمُكَ } من العصم بمعنى الإِمساك والمنع . وأصله - كما يقول ابن جرير - من عصام القربة ، وهو ما تربط به من سير وخيط ومنه قول الشاعر :
وقلت عليكم بمالك إن مالكا . . . سيعصمك إن كان في الناس عاصم
والمعنى : عليك يا محمد أن تبلغ رسالة الله دون أن تخشى أحدا سواه ، والله - تعالى - بحفظك من كيد أعدائك ويمنعك من أن تعلق نفسك بشيء من شبهاتهم واعتراضاتهم ويصون حياتك عن أن يعتدي عليها أحد بالقتل أو الإِهلاك :
فالمراد بالعصمة هنا : عصمة نفسه وجسمه صلى الله عليه وسلم من القتل أو الإِهلاك ، وعصمة دعوته من أن يحول دون نجاحها حائل . وهذا لا ينافي ما تعرض له صلى الله عليه وسلم من بأساء وضراء وأذى بدني ، فقد رماه المشركون بالحجارة حتى سالت دماؤه ، وشج وجهه وكسرت رباعيته في غزوة أحد .
والمراد بالناس هنا : المشركون والمنافقون واليهود ومن على شاكلتهم في الكفر والضلال والعناد ، إذ ليس في المؤمنين الصادقين إلا كل محب لله ولرسوله .
ولقد تضمنت هذه الجملة الكريمة معجزة كبرى للرسول صلى الله عليه وسلم قد عصم الله - تعالى - حياة رسوله عن أن يصيبها قتل أو إهلاك على أيدي الناس مهما دبروا له من مكر وكيد .
لقد نجاه من كيدهم عندما اجتمعوا لقتله في دار الندوة ليلة هجرته إلى المدينة .
ونجاه م نكيد اليهود عندما هموا بإلقاء حجر عليه وهو جالس تحت دار من دورهم .
ونجاه من مكرهم عندما وضعت إحدى نسائهم السم في طعام قدم إليه صلى الله عليه وسلم .
إلى غير ذلك من الأحداث التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم من أعدائه . ولكن الله - تعالى - نجاه وهناك آثار تشهد بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرس من بعض أصحابه فلما نزلت هذه الآية صرفهم عن حراسته .
فقد أخرج الترمذي والحاكم وابن أبي حاتم وابن جرير عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ليلا حتى نزلت { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم : " أيها الناس انصرفوا لقد عصمني الله " .
وقوله : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } تذييل قصد به تعليل عصمته صلى الله عليه وسلم وتثبيت قلبه أي : إن الله - تعالى - لا يهدي القوم الكافرين إلى طريق الحق بسبب عنادهم وإيثارهم الغي على الرشد . ولا يوصلهم إلى ما يريدونه من قتلك ومن القضاء على دعوتك ، بل سينصرك عليهم ويجعل العاقبة لك .
وبعد هذا التثبيت والتكريم لنبيه . أمره - سبحانه - أن يصارح أهل الكتاب بما هم عليه من باطل وأن يدعوهم إلى اتباع الحق الذي جاء به فقال - تعالى - :
يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة ، وآمرًا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به ، وقد امتثل صلوات الله وسلامه عليه ذلك ، وقام به أتمّ القيام .
قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : من حَدّثَك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم{[10073]} كتم شيئًا مما أُنزل عليه{[10074]} فقد كذب ، الله{[10075]} يقول : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } الآية .
هكذا رواه ههنا مختصرًا ، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولا . وكذا رواه مسلم في " كتاب الإيمان " ، والترمذي والنسائي في " كتاب التفسير " من سننهما من طرق ، عن عامر الشعبي ، عن مسروق بن الأجدع ، عنها رضي الله عنها . {[10076]}
وفي الصحيحين عنها أيضا{[10077]} أنها قالت : لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما من القرآن شيئًا لكتم هذه الآية : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } [ الأحزاب : 37 ] . {[10078]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد ، عن{[10079]} هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : كنت عند ابن عباس فجاء{[10080]} رجل فقال له : إن ناسًا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئًا لم يبده رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للناس . فقال : ألم تعلم أن الله تعالى قال : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداءَ في بيضاء .
وهذا إسناد جيد ، وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي جُحَيفَة وهب بن عبد الله السّوائي قال : قلت لعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا والذي{[10081]} فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا فَهْمًا يعطيه الله رجلا في القرآن ، وما في هذه الصحيفة . قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفَكَاك الأسير ، وألا يقتل مسلم بكافر{[10082]} .
وقال البخاري : قال الزهري : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم . {[10083]}
وقد شهدت له أمته ببلاغ الرسالة وأداء الأمانة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل ، في خطبته يوم حجة الوداع ، وقد كان هناك من الصحابة{[10084]} نحو من أربعين ألفًا{[10085]} كما ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ : " أيها الناس ، إنكم مسئولون عني ، فما أنتم قائلون ؟ " قالوا : نشهد أنك قد بَلّغت وأدّيتَ ونصحت . فجعل يرفع إصبعه إلى السماء ويَقلبها{[10086]} إليهم ويقول : " اللهم هل بَلَّغْتُ ، اللهم هل بلغت " . {[10087]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن نُمير ، حدثنا فضيل - يعني ابن غَزْوان - عن عِكْرمَة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : " يأيها الناس ، أيّ يوم هذا ؟ " قالوا : يوم حرام . قال : " أيّ بلد هذا ؟ " قالوا : بلد حرام . قال : " فأيّ شهر هذا ؟ " قالوا : شهر حرام . قال : " فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا " . ثم أعادها مرارًا . ثم رفع إصبعه{[10088]} إلى السماء فقال : " اللهم هل بلغت ! " مرارًا - قال : يقول ابن عباس : والله لَوصِيَّةٌ إلى ربه عز وجل - ثم قال : " ألا فليبلغ الشاهدُ الغائِبَ ، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض " .
وقد روى البخاري عن علي بن المديني ، عن يحيى بن سعيد عن فضيل بن غزوان ، به نحوه . {[10089]}
وقوله : { وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } يعني : وإن لم تُؤد إلى الناس ما أرسلتك به { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي : وقد عَلِم ما يترتب على ذلك لو وقع .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } يعني : إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي : حدثنا قُبَيْصة بن عُقْبَةَ{[10090]} حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد قال : لما نزلت : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } قال : " يا رب ، كيف أصنع وأنا وحدي ؟ يجتمعون عليَّ " . فنزلت { وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }
ورواه ابن جرير ، من طريق سفيان - وهو الثوري - به .
وقوله : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } أي : بلغ أنت رسالتي ، وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم ، فلا تخف ولا تحزن ، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يُحْرَس{[10091]} كما قال الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، حدثنا يحيى ، قال سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث : أن عائشة كانت تحدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهِر ذات ليلة ، وهي إلى جنبه ، قالت : فقلتُ : ما شأنك يا رسول الله ؟ قال : " ليت رجلا صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة ؟ " قالت : فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال : " من هذا ؟ " فقال : أنا سعد بن مالك . فقال : " ما جاء بك ؟ " قال : جئت لأحرسك يا رسول الله . قالت : فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه . أخرجاه في الصحيحين من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري ، به . {[10092]}
وفي لفظ : سَهِر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مَقْدَمِه المدينة . يعني : على أثر هجرته [ إليها ]{[10093]} بعد دخوله بعائشة ، رضي الله عنها ، وكان ذلك في سنة ثنتين منها .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري نزيل مصر ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا الحارث بن عُبَيد - يعني أبا قدامة - عن الجُرَيري ، عن عبد الله بن شَقِيق ، عن عائشة [ رضي الله عنها ]{[10094]} قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس حتى نزلت هذه الآية : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } قالت : فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القُبَّة ، وقال : " يأيها الناس ، انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل " .
وهكذا رواه الترمذي ، عن عبد بن حُمَيد وعن نصر بن علي الجَهْضمي ، كلاهما عن مسلم بن إبراهيم ، به . ثم قال : وهذا حديث غريب .
وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في مستدركه ، من طرق مسلم بن إبراهيم ، به . ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وكذا رواه سعيد بن منصور ، عن الحارث بن عُبَيد أبي قدامة [ الأيادي ]{[10095]} عن الجُرَيري ، عن عبد الله بن شَقِيق ، عن عائشة ، به . {[10096]}
ثم قال الترمذي : وقد روى بعضهم هذا عن الجُرَيري ، عن ابن شقيق قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس . ولم يذكر عائشة .
قلت : هكذا رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن عُلَيَّةَ ، وابن مردويه من طريق وُهَيْب{[10097]} كلاهما عن الجُرَيري ، عن عبد الله بن شقيق مرسلا{[10098]} وقد روى هذا مرسلا عن سعيد بن جبَيْر ومحمد بن كعب القُرَظي ، رواهما ابن جرير{[10099]} والربيع بن أنس رواه ابن مردويه ، ثم قال :
حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن رِشدِين المصري ، حدثنا خالد بن عبد السلام الصَّدفي ، حدثنا الفضل بن المختار ، عن عبد الله{[10100]} بن مَوْهَب ، عن عصمة بن مالك الْخَطمي{[10101]} قال : كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل حتى نزلت : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فترك الحرس . {[10102]}
حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا حمد{[10103]} بن محمد بن حمد أبو نصر الكاتب البغدادي ، حدثنا كُرْدُوس بن محمد الواسطي ، حدثنا معلي بن عبد الرحمن{[10104]} عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري قال : كان العباس عم رسول الله{[10105]} صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه ، فلما نزلت هذه الآية : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } ترك رسول الله{[10106]} صلى الله عليه وسلم الحرس . {[10107]}
حدثنا علي بن أبي حامد المديني ، حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد ، حدثنا محمد بن مُفَضَّل بن إبراهيم الأشعري ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن معاوية بن عمار ، حدثنا أبي قال : سمعت أبا الزبير المكي يحدث ، عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه ، حتى نزلت : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فذهب ليبعث معه ، فقال : " يا عم ، إن الله قد عصمني ، لا حاجة لي إلى من تبعث " .
وهذا حديث غريب وفيه نكارة{[10108]} فإن هذه الآية مدنية ، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية .
ثم قال : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عبد الحميد الحمَّاني ، عن النضر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ، فكان يرسل معه أبو طالب كل يوم رجالا{[10109]} من بني هاشم يحرسونه ، حتى نزلت عليه هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } قال : فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه ، فقال : " إن الله قد عصمني من الجن والإنس " .
ورواه الطبراني عن يعقوب بن غَيْلان العماني ، عن أبي كريب به . {[10110]}
وهذا أيضا غريب . والصحيح أن هذه الآية مدنية ، بل هي من أواخر ما نزل بها ، والله أعلم .
ومن عصمة الله [ عز وجل ]{[10111]} لرسوله حفْظُه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومُعَانديها ومترفيها ، مع شدة العداوة والبَغْضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارًا ، بما يخلقه الله تعالى من الأسباب العظيمة بقَدَره وحكمته{[10112]} العظيمة . فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب ، إذ كان رئيسًا مطاعًا كبيرًا في قريش ، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية ، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها ، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه ، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرًا ، ثم قيض الله [ عز وجل ]{[10113]} له الأنصار فبايعوه على الإسلام ، وعلى أن يتحول إلى دارهم - وهي المدينة ، فلما صار إليها حَمَوه من الأحمر والأسود ، فكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه ، لما كاده اليهود بالسحر حماه الله منهم ، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء ، ولما سم اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر ، أعلمه{[10114]} الله به وحماه [ الله ]{[10115]} منه ؛ ولهذا أشباه كثيرة جدًا يطول ذكرها ، فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة :
فقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا أبو مَعْشَرٍ ، عن محمد بن كعب القُرَظِي وغيره قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها . فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ؟ فقال : " الله عز وجل " ، فَرُعِدَت يد الأعرابي وسقط السيف منه ، قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ، فأنزل الله عز وجل : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }{[10116]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القَطَّان ، حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثنا موسى بن عبيدة ، حدثني زيد بن أسلم ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار ، نزل ذات الرِّقاع{[10117]} بأعلى نخل ، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه ، فقال غَوْرَث بن الحارث{[10118]} من بني النجار : لأقتلن محمدًا . فقال له أصحابه : كيف تقتله ؟ قال : أقول له : أعطني سيفك . فإذا أعطانيه قتلته به ، قال : فأتاه فقال : يا محمد ، أعطني سيفك أشيمُه . فأعطاه إياه ، فَرُعدت يده حتى سقط السيف من يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حال الله بينك وبين ما تريد " فأنزل الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }
وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقصة " غَوْرَث بن الحارث " مشهورة في الصحيح . {[10119]}
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، حدثنا آدم ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : كنا إذا صحبنا{[10120]} رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها ، فينزل تحتها ، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها ، فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد ، من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله يمنعني منك ، ضع السيف " . فوضعه ، فأنزل الله ، عز وجل : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }
وكذا رواه أبو حاتم بن حِبَّان في صحيحه ، عن عبد الله بن محمد ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن المؤمل بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، به . {[10121]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت أبا إسرائيل - يعني الجُشَمي - سمعت جَعْدَة - هو ابن خالد بن الصِّمَّة الجشمي - رضي الله عنه ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ورأى رجلا سمينًا ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول : " لو كان هذا في غير هذا لكان خيرًا لك " . قال : وأتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقال : هذا أراد أن يقتلك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لم تُرَع ، ولم تُرَع ، ولو أردتَ ذلك لم يسلطك{[10122]} الله عليَّ " . {[10123]}
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } أي : بلغ أنت ، والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، كما قال : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ البقرة : 272 ] وقال { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] .
{ يََأَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } . .
وهذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قصّ الله تعالى قصصهم في هذه السورة وذكر فيها معايبهم وخبث أديانهم واجتراءهم على ربهم وتوثبهم على أنبيائهم وتبديلهم كتابه وتحريفهم إياه ورداءة مطاعمهم ومآكلهم وسائر المشركين غيرهم ، ما أنزل عليه فيهم من معايبهم والإزراء عليهم والتقصير بهم والتهجين لهم ، وما أمرهم به ونهاهم عنه ، وأن لا يشعر نفسه حذرا منهم أن يصيبه في نفسه مكروه ، ما قام فيهم بأمر الله ، ولا جزعا من كثرة عددهم وقلة عدد من معه ، وأن لا يتقى أحدا في ذات الله ، فإن الله تعالى كافيه كلّ أحد من خلقه ، ودافعٌ عنه مكروه كل من يتقي مكروهه . وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصر عن إبلاغ شيء مما أنزل إليه إليهم ، فهو في تركه تبليغ ذلك وإن قلّ ما لم يبلغ منه ، فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذنب بمنزلته لو لم يبلغ من تنزيله شيئا .
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رسالَتَهُ يعني : إن كتمت آية مما أنزل عليك من ربك ، لم تبلغ رسالتي .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ . . . الاَية ، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه الناس ويعصمه منهم ، وأمره بالبلاغ . ذكِر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قيل له : لو احتجبت فقال : «واللّهِ لأُبْدِيَنّ عَقِبي للنّاسِ ما صَاحَبْتُهُمْ » .
حدثني الحارث بن محمد ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان الثوريّ ، عن رجل ، عن مجاهد ، قال : لما نزلت : بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ قال : «إنّما أنا وَاحِدٌ ، كَيْفَ أصْنَعُ ؟ تَجْتَمِعُ عليّ الناسُ » فنزلت : وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رسالَتَهُ . . . الاَية .
حدثنا هناد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن ثعلبة ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، قال : لمّا نزلت : يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رسالَتَهُ واللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تَحْرُسُونِي إنّ رَبيّ قَدْ عَصَمَنِي » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن عُلَية ، عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتقبه ناس من أصحابه ، فلما نزلت : وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ خرج فقال : «يا أيّها النّاسُ الْحَقُوا بِمَلاحِقِكُمْ ، فإنّ اللّهَ قَدْ عَصَمَنِي مِنَ النّاسِ » .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن عاصم بن محمد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتحارسه أصحابه ، فأنزل الله : يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رَسالَتَهُ . . . إلى آخرها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا الحارث بن عبيدة أبو قدامة الإيادي ، قال : حدثنا سعيد الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ، عن عائشة ، قالت : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُحرس ، حتى نزلت هذه الاَية : وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ قالت : فأخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة ، فقال : «أيّها النّاسُ انْصَرِفُوا ، فإنّ اللّهَ قَدْ عَصَمَنِي » .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن القرظي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يحرس حتى أنزل الله : وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ .
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الاَية ، فقال بعضهم : نزلت بسب أعرابيّ كان همّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكفاه الله إياه . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي وغيره ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة ، فيقيل تحتها ، فأتاه أعرابي ، فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ؟ قال : «الله » . فرعدت يد الأعرابي ، وسقط السيف منه . قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ، فأنزل الله : وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ .
وقال آخرون : بل نزلت لأنه كان يخاف قريشا ، فأومن من ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يهاب قريشا ، فلما نزلت : وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ استلقى ثم قال : «مَنْ شاءَ فَلْيَخْذُلْنِي » مرّتين أو ثلاثا .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي خالد ، عن عامر ، عن مسروق ، قال : قالت عائشة : من حدّثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب . ثم قرأت : «يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن المغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : قالت عائشة : من قال إن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم فقد كذب وأعظم الفرية على الله ، قال الله : يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ . . . الاَية .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، قال : قال عائشة : من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية ، والله يقول : يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّك . . . الاَية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني خالد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن محمد بن الحميم ، عن مسروق بن الأجدع ، قال : دخلت على عائشة يوما ، فسمعتها تقول : لقد أعظم الفرية من قال : إن محمدا كتم شيئا من الوحي ، والله يقول : يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ .
ويعني بقوله : وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ : يمنعك من أن ينالوك بسوء ، وأصله من عصام القربة ، وهو ما توكأ به من سير وخيط ، ومنه قول الشاعر :
وَقُلْتُ عَلَيْكُمْ مالِكا إنّ مالِكا ***سيَعْصِمُكْم إنْ كانَ فِي النّاسِ عاصِمُ
يعني : يمنعكم . وأما قوله : إنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ فإنه يعني : إن الله لا يوفق للرشد من حاد عن سبيل الحقّ وجار عن قصد السبيل وجحد ما جئته به من عند الله ، ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه .
{ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } جميع ما أنزل إليك غير مراقب أحدا ولا خائف مكروها . { وإن لم تفعل } وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك . { فما بلغت رسالته } فما أديت شيئا منها ، لأن كتمان بعضها يضيع ما أدي منها كترك بعض أركان الصلاة ، فإن غرض الدعوة ينتقض به أو فكأنك ما بلغت شيئا منها كقوله : { فكأنما قتل الناس جميعا } من حيث أن كتمان البعض والكل سواء في الشفاعة واستجلاب العقاب . وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر رسالاته بالجمع وكسر التاء . { والله يعصمك من الناس } عدة وضمان من الله سبحانه وتعالى بعصمة روحه صلى الله عليه وسلم من تعرض الأعادي وإزاحة لمعاذيره . { إن الله لا يهدي القوم الكافرين } لا يمكنهم مما يريدون بك . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " بعثني الله برسالاته فضقت بها ذرعا فأوحى الله تعالى إلي إن لم تبلغ رسالتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت " . وعن أنس رضي الله تعالى عنه ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت ، فأخرج رأسه من قبة أدم فقال : انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس . وظاهر الآية يوجب تبليغ كل ما أنزل ولعل المراد به تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد ، وقصد بإنزاله إطلاعهم عليه فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم إفشاؤه .