وإلى جانب هذه الصورة النكدة من الإنسان ، يعرض صورة أخرى . . صورة القلب الخائف الوجل ، الذي يذكر الله ولا ينساه في سراء ولا ضراء ؛ والذي يعيش حياته على الأرض في حذر من الآخرة ؛ وفي تطلع إلى رحمة ربه وفضله ؛ وفي اتصال بالله ينشأ عنه العلم الصحيح المدرك لحقائق الوجود :
أم من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً ، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ? قل : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ? إنما يتذكر أولو الألباب .
وهي صورة مشرقة مرهفة . فالقنوت والطاعة والتوجه - وهو ساجد وقائم - وهذه الحساسية المرهفة - وهو يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه - وهذا الصفاء وهذه الشفافية التي تفتح البصيرة . وتمنح القلب نعمة الرؤية والالتقاط والتلقي . . هذه كلها ترسم صورة مشرقة وضيئة من البشر تقابل تلك الصورة النكدة المطموسة التي رسمتها الآية السابقة . فلا جرم يعقد هذه الموازنة :
( قل : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ? ) . .
فالعلم الحق هو المعرفة . هو إدراك الحق . هو تفتح البصيرة . هو الاتصال بالحقائق الثابتة في هذا الوجود . وليس العلم هو المعلومات المفردة المنقطعة التي تزحم الذهن ، ولا تؤدي إلى حقائق الكون الكبرى ، ولا تمتد وراء الظاهر المحسوس .
وهذا هو الطريق إلى العلم الحقيقي والمعرفة المستنيرة . . هذا هو . . القنوت لله . وحساسية القلب ، واستشعار الحذر من الآخرة ، والتطلع إلى رحمة الله وفضله ؛ ومراقبة الله هذه المراقبة الواجفة الخاشعة . . هذا هو الطريق ، ومن ثم يدرك اللب ويعرف ، وينتفع بما يرى وما يسمع وما يجرب ؛ وينتهي إلى الحقائق الكبرى الثابتة من وراء المشاهدات والتجارب الصغيرة . فأما الذين يقفون عند حدود التجارب المفردة ، والمشاهدات الظاهرة ، فهم جامعو معلومات وليسوا بالعلماء . .
وإنما يعرف أصحاب القلوب الواعية المتفتحة المدركة لما وراء الظواهر من حقائق . المنتفعة بما ترى وتعلم ، التي تذكر الله في كل شيء تراه وتلمسه ولا تنساه ، ولا تنسى يوم لقاه . .
{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ اليل ساجدا وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ }
قرأ نافع وابن كثير وحمزة وَحْدَهم { أَمَنْ } بتخفيف الميم على أن الهمزة دخلت على ( مَن ) الموصولة فيجوز أن تكون الهمزة همزة استفهام و ( مَن ) مبتدأ والخبر محذوف دل عليه الكلام قبله من ذكر الكافر في قوله : { وجعَلَ لله أندَاداً } إلى قوله : { من أصحَابِ النَّارِ } [ الزمر : 8 ] . والاستفهام إنكاري والقرينة على إرادة الإِنكار تعقيبه بقوله : { قُلْ هل يسْتَوي الذين يعلمُونَ والذين لا يعلَمُونَ } لظهور أن { هل } فيه للاستفهام الإِنكاري وبقرينة صلة الموصول . تقديره : أَمَن هو قانت أفضل أم من هو كافر ؟ والاستفهام حينئذٍ تقريري ويقدر له معادل محذوف دل عليه قوله عقبه : { قُلْ هل يسْتَوي الذين يعلمُونَ والذين لا يعلَمُونَ } .
وجعل الفراء الهمزة للنداء و { من هو قانت } : النبي ، ناداه الله بالأوصاف العظيمة الأربعة لأنها أوصاف له ونداء لمن هم من أصحاب هذه الأوصاف ، يعني المؤمنين أن يقولوا : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، وعليه فإفراد ( قل ) مراعاة للفظ ( مَن ) المنادَى .
وقرأ الجمهور { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } بتشديد ميم ( مَن ) على أنه لفظ مركب من كلمتين ( أم ) و ( مَن ) فأدغمت ميم ( أم ) في ميم ( مَن ) . وفي معناه وجهان :
أحدهما } : أن تكون ( أم ) معادلة لهمزة استفهام محذوفة مع جملتها دلت عليها ( أم ) لاقتضائها معادلاً . ودل عليها تعقيبه ب { هل يسْتَوي الذين يعلمُونَ والذين لا يعلَمُونَ } لأن التسوية لا تكون إلا بين شيئين . فالتقدير : أهذا الجاعل لله أنداداً الكافر خير أمَّنْ هو قانت ، والاستفهام حقيقي والمقصود لاَزمه ، وهو التنبيه على الخطأ عند التأمل .
والوجه الثاني : أن تكون ( أم ) منقطعة لمجرد الإِضراب الانتقالي . و ( أم ) تقتضي استفهاماً مقدراً بعدها . ومعنى الكلام : دع تهديدهم بعذاب النار وانتقِل بهم إلى هذا السؤال : الذي هو قانت ، وقائم ، ويحذر الله ويرجو رحمته . والمعنى : أذلك الإِنسان الذي جعل لله أنداداً هو قانت الخ ، والاستفهام مستعمل في التهكم لظهور أنه لا تتلاقَى تلك الصفاتُ الأربعُ مع صفة جعله لله أنداداً .
والقانت : العابد . وقد تقدم عند قوله تعالى : { وقوموا للَّه قانتين } في سورة [ البقرة : 238 ] .
والآناء : جمع أَنىً مثل أمعاء ومَعىً ، وأقفاء وقفىً ، والأنى : الساعة ، ويقال أيضاً : إنَي بكسر الهمزة ، كما تقدم في قوله : { غير ناظرين إِناه } في سورة [ الأحزاب : 53 ] . وانتصب { ءَانَاءَ } على الظرف ل { قَانِتٌ } ، وتخصيص الليل بقنوتهم لأن العبادة بالليل أعون على تمحض القلب لذكر الله ، وأبعد عن مداخلة الرياء وأدل على إيثار عبادة الله على حظ النفس من الراحة والنوم ، فإن الليل أدعى إلى طلب الراحة فإذا آثر المرء العبادة فيه استنار قلبه بحب التقرب إلى الله قال تعالى : { إنّ ناشئة الليل هي أشدُ وطئاً وأقوم قِيلا } [ المزمل : 6 ] ، فلا جرم كان تخصيص الليل بالذكر دالاً على أن هذا القانت لا يخلو من السجود والقيام آناءَ النهار بدلالة فحوى الخطاب قال تعالى : { إن لك في النهار سبحاً } [ المزمل : 7 ] ، وبذلك يتم انطباق هذه الصلة على حال النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { ساجِداً وقائماً } حالان مُبينان ل { قَانِتٌ } ومؤكدان لمعناه . وجملة { يحذَرُ الآخِرَةَ ويرجوا رحمة ربه } حالان ، فالحال الأول والثاني لوصف عمَله الظاهر والجملتان اللتان هما ثالث ورابع لوصف عمل قلبه وهو أنه بين الخوف من سيئاته وفلتاته وبين الرجاء لرحمة ربه أن يثيبه على حسناته . وفي هذا تمام المقابلة بين حال المؤمنين الجارية على وفق حال نبيئهم صلى الله عليه وسلم وحال أهل الشرك الذين لا يدعون الله إلا في نادر الأوقات ، وهي أوقات الاضطرار ، ثم يشركون به بعد ذلك ، فلا اهتمام لهم إلا بعاجل الدنيا لا يحذرون الآخرة ولا يرجون ثوابها .
والرجاء والخوف من مقامات السالكين ، أي أوصافهم الثابتة التي لا تتحول . والرجاء : انتظار ما فيه نعيم وملاءمة للنفس . والخوف : انتظار ما هو مكروه للنفس . والمراد هنا : الملاءمة الأخروية لقوله : { يَحْذَرُ الآخِرَةَ } ، أي يحذر عقاب الآخرة فتعين أن الرجاء أيضاً المأمولُ في الآخرة . وللخوف مزيته من زجر النفس عما لا يرضي الله ، وللرجاء مزيته من حثها على ما يرضي الله وكلاهما أنيس السالكين .
وإنما ينشأ الرجاء على وجود أسبابه لأن المرء لا يرجو إلا ما يظنه حاصلاً ولا يظن المرء أمراً إلا إذا لاحت له دلائله ولوازمه ، لأن الظن ليس بمغالطة والمرء لا يغالط نفسه ، فالرجاء يتبع السعي لتحصيل المرجو قال الله تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً } [ الإسراء : 19 ] فإن ترقُّب المرء المنفعة من غير أسبابها فذلك الترقب يسمى غروراً .
وإنما يكون الرجاء أو الخوف ظنّاً مع تردد في المظنون ، أما المقطوع به فهو اليقين واليأس وكلاهما مذموم قال تعالى : { فلا يأمن مكر اللَّه إلا القوم الخاسرون } [ الأعراف : 99 ] ، وقال : { إنه لا ييأس من روح اللَّه إلا القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] .
وقد بسط ذلك حجة الإِسلام أبو حامد في كتاب الرجاء والخوف من كتاب « الإِحياء » . ولله درّ أبي الحسن التهامي إذ يقول :
وإذا رجوتَ المستحيل فإنما *** تبني الرجاء على شَفير هارِ
وسئل الحسن البصري عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال : هذا تمنَ وإنما الرجاء ، قوله : { يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه } .
وقال بعض المفسرين أريد ب { مَن هو قانِتٌ } أبو بكر ، وقيل عمّار بن ياسر ، وقيل صُهيب ، وقيل : أبو ذرّ ، وقيل ابن مسعود ، وهي روايات ضعيفة ولا جرم أن هؤلاء المعدودين هم من أحقّ مَن تصدق عليه هذه الصلة فهي شاملة لهم ولكن محمل الموصول في الآية على تعميم كل من يصدق عليه معنى الصلة .
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألباب }
استئناف بياني موقعه كموقع قوله : { قُلْ تمتَّع بكفرك قليلاً } [ الزمر : 8 ] أثاره وصف المؤمن الطائع ، والمعنى : أَعْلِمهم يا محمد بأن هذا المؤمن العالِم بحق ربه ليس سواء للكافر الجاهل بربه . وإعادة فعل { قل } هنا للاهتمام بهذا المقول ولاسْترعاء الأسماع إليه .
والاستفهام هنا مستعمل في الإِنكار . والمقصود : إثبات عدم المساواة بين الفريقين ، وعدم المساواة يكنّى به عن التفضيل . والمراد : تفضيل الذين يعلمون على الذين لا يعلمون ، كقوله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غيرُ أولي الضرر والمجاهدون في سبيل اللَّه بأموالهم وأنفسهم فضل اللَّه المجاهدين } [ النساء : 95 ] الآية ، فيعرف المفضّل بالتصريح كما في آية { لا يستوي القاعدون } [ النساء : 95 ] أو بالقرينة كما في قوله هنا : { هل يستوي الذين يعلمون } الخ لظهور أن العلم كمال ولتعقيبه بقوله : { إنما يتذكَّر أُولوا الألبابِ } . ولهذا كان نفي الاستواء في هذه الآية أبلغ من نفي المماثلة في قول النابغة :
يخبرك ذو عرضهم عني وعالمهم *** وليس جاهل شيء مثلَ من عَلِما
وفعل { يَعْلَمُونَ } في الموضعين منزّل منزلة اللازم فلم يذكر له مفعول . والمعنى : الذين اتصفوا بصفة العلم ، وليس المقصود الذين علموا شيئاً معيّناً حتى يكون من حذف المفعولين اختصاراً إذ ليس المعنى عليه ، وقد دل على أن المراد الذين اتصفوا بصفة العلم قوله عقبه : { إنما يتذكر أولوا الألباب } أي أهل العقول ، والعقل والعلم مترادفان ، أي لا يستوي الذين لهم علم فهم يدركون حقائق الأشياء على ما هي عليه وتجري أعمالهم على حسب علمهم ، مع الذين لا يعلمون فلا يدركون الأشياء على ما هي عليه بل تختلط عليهم الحقائق وتجري أعمالهم على غير انتظام ، كحال الذين توهموا الحجارة آلهة ووضعوا الكفر موضع الشكر . فتعين أن المعنى : لا يستوي مَن هو قانت آناء الليل يحذر ربّه ويرجوه ، ومَن جعل لله أنداداً ليضل عن سبيله . وإذ قد تقرر أن الذين جعلوا لله أنداداً هم الكفار بحكم قوله : { قُل تَمتَّع بِكُفرِكَ قَليلاً } ثبت أن الذين لا يستوون معهم هم المؤمنون ، أي هم أفضل منهم ، وإذ قد تقرر أن الكافرين من أصحاب النار فقد اقتضى أن المفضلين عليهم هم من أصحاب الجنة .
وعدل عن أن يقول : هل يستوي هذا وذاك ، إلى التعبير بالموصول إدماجاً للثناء على فريق ولذم فريق بأن أهل الإِيمان أهل علم وأهل الشرك أهل جهالة فأغنت الجملة بما فيها من إدماج عن ذكر جملتين ، فالذين يعلمون هم أهل الإِيمان ، قال تعالى : { إنما يخشى اللَّه من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] والذين لا يعلمون هم أهل الشرك الجاهلون ، قال تعالى : { قل أفغير اللَّه تأمروني أعبد أيها الجاهلون } [ الزمر : 64 ] .
وفي ذلك إشارة إلى أن الإِيمان أخو العلم لأن كليهما نور ومعرفةٌ حقّ ، وأن الكفر أخو الضلال لأنه والضلال ظلمة وأوهام باطلة .
هذا ووقع فعل { يَسْتَوِي } في حيّز النفي يكسبه عموم النفي لجميع جهات الاستواء . وإذ قد كان نفي الاستواء كناية عن الفضل آل إلى إثبات الفضل للذين يعلمون على وجه العموم ، فإنك ما تأملت مقاماً اقتحم فيه عالم وجاهل إلا وجدتَ للعالم فيه من السعادة ما لا تجده للجاهل ولنضرب لذلك مثلاً بمقامات ستةٍ هي جلّ وظائف الحياة الاجتماعية :
المقام الأول : الاهتداء إلى الشيء المقصود نواله بالعمل به وهو مقام العمل ، فالعالم بالشيء يهتدي إلى طرقه فيبلغ المقصود بيُسْر وفي قرب ويعلم ما هو من العمل أولى بالإِقبال عنه ، وغير العالم به يضل مسالكه ويضيع زمانه في طلبه ؛ فإما أن يخيب في سعيه وإمّا أن يناله بعد أن تتقاذفه الأرزاء وتنتابه النوائب وتختلط عليه الحقائق فربما يتوهم أنه بلغ المقصود حتى إذا انتبه وجد نفسه في غير مراده ، ومثله قوله تعالى : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمئان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } [ النور : 39 ] . ومن أجل هذا شاع تشبيه العلم بالنور والجهل بالظلمة .
المقام الثاني : ناشىء عن الأول وهو مقام السلام من نوائب الخطأ ومزلات المذلات ، فالعالم يعصمه علمه من ذلك ، والجاهل يريد السلامة فيقع في الهلكة ، فإن الخطأ قد يوقع في الهلاك من حيث طلب الفوز ومثَله قوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } [ البقرة : 16 ] إذ مثَّلهم بالتاجر خرج يطلب فوائد الربح من تجارته فآب بالخسران ولذلك يشبه سَعي الجاهل بخبط العشواء ، ولذلك لم يزل أهل النصح يسهلون لطلبة العلم الوسائل التي تَقيهم الوقوع فيما لا طائل تحته من أعمالهم .
المقام الثالث : مقام أُنس الانكشاف فالعالم تتميز عنده المنافع والمضار وتنكشف له الحقائق فيكون مأنوساً بها واثقاً بصحة إدراكه وكلما انكشفت له حقيقة كان كمن لقي أنيساً بخلاف غير العالم بالأشياء فإنه في حيرة من أمره حين تختلط عليه المتشابهات فلا يدري ماذا يأخذ وماذا يدع ، فإن اجتهد لنفسه خشِي الزلل وإن قلد خشِي زلل مقلَّده ، وهذا المعنى يدخل تحت قوله تعالى : { كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } [ البقرة : 20 ] .
المقام الرابع : مقام الغِنَى عن الناس بمقدار العلم والمعلومات فكلما ازداد عِلم العالم قوِيَ غناه عن الناس في دينه ودنياه .
المقام الخامس : الإلتذاذ بالمعرفة ، وقد حصر فخر الدين الرازي اللذة في المعارف وهي لذة لا تقطعها الكثرة . وقد ضرب الله مثلاً بالظلّ إذ قال : { وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظِل ولا الحرُور } [ فاطر : 19 21 ] فإن الجلوس في الظل يلتذ به أهل البلاد الحارة .
المقام السادس : صدور الآثار النافعة في مدى العمر مما يكسب ثناء الناس في العاجل وثواب الله في الآجل ، فإن العالم مصدر الارشاد والعلم دليل على الخير وقائد إليه قال الله تعالى : { إنما يخشى اللَّه من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] . والعلم على مزاولته ثوابٌ جزيل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم « ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده » .
وعلى بثه مثل ذلك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم بثه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له بخير » .
فهذا التفاوت بين العالم والجاهل في صوره التي ذكرناها مشمول لنفي الاستواء الذي في قوله تعالى : { قُل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمونَ } وتتشعب من هذه المقامات فروع جمّة وهي على كثرتها تنضوي تحت معنى هذه الآية .
وقوله : { إنَّما يتذكَّر أُولوا الألبابِ } واقع موقع التعليل لنفي الاستواء بين العالم وغيره المقصودِ منه تفضيل العالم والعلم ، فإن كلمة ( إنما ) مركبة من حرفين ( إنَّ ) و ( مَا ) الكافّة أو النافية فكانت ( إِن ) فيه مفيدة لتعليل ما قبلها مغنية غَناء فاء التعليل إذ لا فرق بين ( إنَّ ) المفردة و ( إنَّ ) المركبة مع ( ما ) ، بل أفادها التركيب زيادة تأكيد وهو نفي الحكم الذي أثبتته ( إنَّ ) عن غير من أثبتته له . وقد أخذ في تعليل ذلك جانبُ إثبات التذكر للعالِمين ، ونفيه من غير العالمين ، بطريق الحصر لأن جانب التذكر هو جانب العمل الديني وهو المقصد الأهم في الإِسلام لأن به تزكية النفس والسعادة الأبدية قال النبي صلى الله عليه وسلم « مَن يُرِد الله به خيراً يفقهْهُ في الدين »
والألباب : العقول ، وأولو الألباب : هم أهل العقول الصحيحة ، وهم أهل العلم . فلما كان أهل العلم هم أهل التذكر دون غيرهم أفاد عدم استواء الذين يعلمون والذين لا يعلمون . فليس قوله : { إنَّما يتذكر أولوا الألباب } كلاماً مستقلاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر المؤمن، فقال سبحانه: {أمن هو قانت} مطيع لله في صلاته...
{آناء الليل ساجدا} ساعات الليل ساجدا {وقائما} في صلاته {يحذر} عذاب {الآخرة ويرجوا رحمة ربه} الجنة كمن لا يفعل ذلك ليسا بسواء.
{قل هل يستوي الذين يعلمون} إن ما وعد الله إضمار في الآخرة من الثواب والعقاب حق... {والذين لا يعلمون}.
{إنما يتذكر أولوا الألباب} أهل اللب والعقل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القرّاء في قراءة قوله:"أمّنْ"؛ فقرأ ذلك بعض المكيين وبعض المدنيين وعامة الكوفيين: «أمَنْ» بتخفيف الميم، ولقراءتهم ذلك كذلك وجهان: أحدهما أن يكون الألف في «أمّن» بمعنى الدعاء، يراد بها: يا من هو قانت آناء الليل، والعرب تنادي بالألف كما تنادي بيا... وإذا وجهت الألف إلى النداء كان معنى الكلام: قل تمتع أيها الكافر بكفرك قليلاً، إنك من أصحاب النار، ويا من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما إنك من أهل الجنة، ويكون في النار عمى للفريق الكافر عند الله من الجزاء في الآخرة، الكفاية عن بيان ما للفريق المؤمن، إذ كان معلوما اختلاف أحوالهما في الدنيا، ومعقولاً أن أحدهما إذا كان من أصحاب النار لكفره بربه أن الآخر من أصحاب الجنة، فحذف الخبر عما له، اكتفاء بفهم السامع المراد منه من ذكره، إذ كان قد دلّ على المحذوف بالمذكور. والثاني: أن تكون الألف التي في قوله: «أمَنْ» ألف استفهام، فيكون معنى الكلام: أهذا كالذي جعل لله أندادا ليضلّ عن سبيله، ثم اكتفى بما قد سبق من خبر الله عن فريق الكفر به من أعدائه، إذ كان مفهوما المراد بالكلام... وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: "أمّنْ "بتشديد الميم، بمعنى: أم من هو؟ ويقولون: إنما هي "أمّنْ" استفهام اعترض في الكلام بعد كلام قد مضى، فجاء بأم، فعلى هذا التأويل يجب أن يكون جواب الاستفهام متروكا من أجل أنه قد جرى الخير عن فريق الكفر، وما أعدّ له في الآخرة، ثم أتبع الخبر عن فريق الإيمان، فعلم بذلك المراد، فاستغني بمعرفة السامع بمعناه من ذكره، إذ كان معقولاً أن معناه: هذا أفضل أم هذا؟.
والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان قرأ بكل واحدة علماء من القرّاء مع صحة كلّ واحدة منهما في التأويل والإعراب، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين، والصواب من القول عندنا فيما مضى قبل في معنى القانت، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع غير أنا نذكر بعض أقوال أهل التأويل في ذلك في هذا الموضع، ليعلم الناظر في الكتاب اتفاق معنى ذلك في هذا الموضع وغيره، فكان بعضهم يقول: هو في هذا الموضع قراءة القارئ قائما في الصلاة... عن ابن عمر، أنه كان إذا سُئل عن القنوت، قال: لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام، وقرأ: "أمّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللّيْلِ ساجِدا وقائما".
وقوله: آناءَ اللّيْلِ يعني: ساعات الليل... وقوله: "ساجِدا وَقائما" يقول: يقنت ساجدا أحيانا، وأحيانا قائما، يعني: يطيع والقنوت عندنا الطاعة، ولذلك نصب قوله: ساجِدا وَقائما لأن معناه: أمّن هو يقنت آناء الليل ساجدا طورا، وقائما طورا، فهما حال من قانت. وقوله: "يَحْذَرُ الآخِرَةَ" يقول: يحذر عذابَ الآخرة...
وقوله: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لقومك: هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعتهم لربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات، والذين لا يعلمون ذلك، فهم يخبطون في عشواء، لا يجرجون بحسن أعمالهم خيرا، ولا يخافون بسيّئها شرا؟ يقول: ما هذان بمتساويين...
وقوله: "إنّمَا يَتَذَكّرُ أُولُو الألْبابِ" يقول تعالى ذكره: إنما يعتبر حجج الله، فيتعظ، ويتفكر فيها، ويتدبرها أهلُ العقول والحجى، لا أهل الجهل والنقص في العقول.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
منهم من يجعل لهذه الآية مقابلا، لكنه يقول: مقابلها، ليس كالأول، ولكن لم يذكر لها مقابلا، ويقول: على ما عرفتم أنه لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم. فعلى ذلك لا يستوي الذي أطاع ربه أناء الليل، وأجهد نفسه في عبادة الله والذي عصى ربه وكفر نعمه، وقد ظهر الاستواء بينهما في هذه الدنيا، فلابد من التفريق بينهما في دار أخرى...
ولو لم تكن دار أخرى، فيها يفرق، ويميز، لكان خلق هذا العالم على ما كان باطلا سفها غير حكمة.
{ويرجوا رحمة ربه} دلت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الرجاء والحذر؛ يرجو رحمته لا عمله، ويحذر عذابه لتقصيره في عمله، ثم الرجاء إذا جاوز حده يكون أمنا، وقد قال الله تعالى: {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} [الأعراف: 99] والخوف إذا جاوز حده يكون إياسا، وقد قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، ويجب أن يكون المؤمن كما ذكر عز وجل: {يدعون ربهم خوفا وطمعا} [السجدة: 16]، لا يجاوز أحدهما حده...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يقال القنوتَ: القيامُ بآداب الخدمة ظاهراً وباطناً من غير فتور ولا تقصير...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أراد بالذين يعلمون: العاملين من علماء الديانة، كأنه جعل من لا يعمل غير عالم. وفيه ازدراء عظيم بالذين يتقنون العلوم ثم لا يقنتون، ويفتنون فيها ثم يفتنون بالدنيا، فهم عند الله جهلة، حيث جعل القانتين هم العلماء، ويجوز أن يرد على سبيل التشبيه: كما لا يستوي العالمون والجاهلون، كذلك لا يستوي القانتون والعاصون...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
القنوت في كلام العرب: يقع على القراءة وعلى طول القيام في الصلاة، وبهذا فسرها ابن عمر رضي الله عنه، وروي عن ابن عباس أنه قال: من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة، فليره الله في سواد الليل ساجداً أو قائماً، ويقع القنوت على الدعاء وعلى الصمت عبادة. وقال جابر بن عبد الله: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل؟ فقال: «طول القنوت»...
المسألة الثانية: القانت القائم بما يجب عليه من الطاعة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة صلاة القنوت» وهو القيام فيها، ومنه القنوت في الصبح؛ لأنه يدعو قائما، وفي هذه اللفظة تنبيه على فضل قيام الليل وأنه أرجح من قيام النهار، ويؤكده وجوه:
الأول: أن عبادة الليل أستر عن العيون فتكون أبعد عن الرياء.
الثاني: أن الظلمة تمنع من الإبصار ونوم الخلق يمنع من السماع، فإذا صار القلب فارغا عن الاشتغال بالأحوال الخارجية عاد إلى المطلوب الأصلي، وهو معرفة الله وخدمته.
الثالث: أن الليل وقت النوم فتركه يكون أشق فيكون الثواب أكثر.
الرابع: قوله تعالى: {إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا}.
وقوله: {ساجدا} حال، وقرئ ساجد وقائم على أنه خبر بعد خبر الواو؛ للجمع بين الصفتين...
واعلم أن هذه الآية دالة على أسرار عجيبة، فأولها أنه بدأ فيها بذكر العمل وختم فيها بذكر العلم، أما العمل فكونه قانتا ساجدا قائما، وأما العلم فقوله: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وهذا يدل على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين، فالعمل هو البداية والعلم والمكاشفة هو النهاية...
الفائدة الثانية: أنه تعالى نبه على أن الانتفاع بالعمل إنما يحصل إذا كان الإنسان مواظبا عليه، فإن القنوت عبارة عن كون الرجل قائما بما يجب عليه من الطاعات، وذلك يدل على أن العلم إنما يفيد إذا واظب عليه الإنسان.
{ساجدا وقائما} إشارة إلى أصناف الأعمال.
{يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} إشارة إلى أن الإنسان عند المواظبة ينكشف له في الأول مقام القهر وهو قوله: {يحذر الآخرة} ثم بعده مقام الرحمة وهو قوله: {ويرجو رحمة ربه}...
الفائدة الثالثة: أنه قال في مقام الخوف {يحذر الآخرة} فما أضاف الحذر إلى نفسه، وفي مقام الرجاء أضافه إلى نفسه، وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل وأليق بحضرة الله تعالى...
المسألة الثالثة: قيل المراد من قوله: {أمن هو قانت آناء الليل} عثمان؛ لأنه كان يحيي الليل في ركعة واحدة ويقرأ القرآن في ركعة واحدة، والصحيح أن المراد منه كل من كان موصوفا بهذه الصفة فيدخل فيه عثمان وغيره؛ لأن الآية غير مقتصرة عليه...
{إنما يتذكر أولوا الألباب} هذا التفاوت العظيم الحاصل بين العلماء والجهال لا يعرفه أيضا إلا أولوا الألباب.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وقال مجاهد: من القنوت طول الركوع وغض البصر. وكان العلماء إذا وقفوا في الصلاة غضوا أبصارهم، وخضعوا ولم يلتفتوا في صلاتهم، ولم يعبثوا ولم يذكروا شيئا من أمر الدنيا إلا ناسين...
قال النحاس: أصل هذا أن القنوت الطاعة، فكل ما قيل فيه فهو طاعة لله عز وجل، فهذه الأشياء كلها داخلة في الطاعة وما هو أكثر منها، كما قال نافع: قال لي ابن عمر: قم فصل فقمت أصلي وكان علي ثوب خلق، فدعاني فقال لي: أرأيت لو وجهتك في حاجة أكنت تمضي هكذا؟ فقلت: كنت أتزين قال: فالله أحق أن تتزين له...
" قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون "قال الزجاج: أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. وقال غيره: الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فهو بمنزلة من لم يعلم...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولما شرح تعالى شيئاً من أحوال الظالمين الضالين المشركين، أردفه بشرح أحوال المهتدين الموحدين فقال: {أمّن هو قانت}...
والمراد بالعلم هنا: ما أدى إلى معرفة الله ونجاة العبد من سخطه...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}: في حال عبادته خائف راج، ولا بد في العبادة من هذا وهذا، وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب؛ ولهذا قال: {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}، فإذا كان عند الاحتضار فليكن الرجاء هو الغالب عليه، كما قال الإمام عبد بن حميد في مسنده...
حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا ثابت عن أنس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت، فقال له: «كيف تجدك؟» قال: أرجو وأخاف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله عز وجل الذي يرجو، وأمنه الذي يخافه»...
ورواه الترمذي والنسائي في "اليوم والليلة"، وابن ماجه، من حديث سَيَّار بن حاتم عن جعفر بن سليمان، به. وقال الترمذي: "غريب. وقد رواه بعضهم عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا"...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قانت} مخلص في عبادة الله تعالى دائماً.
{آناء الّيل} جميع ساعاته. ولما كان المقام للإخلاص، وكان الإخلاص أقرب مقرب إلى الله؛ لأنه التجرد عن جميع الأغيار، وكان السجود أليق الأشياء بهذا الحال، ولذلك كان أقرب مقرب للعبد من ربه؛ لأنه خاص بالله تعالى، قال: {ساجداً} أي وراكعاً، ودل على تمكنه من الوصفين بالعطف فقال: {وقائماً} أي وقاعداً، وعبر بالاسم تنبيهاً على دوام إخلاصه في حال سجوده وقيامه، والآية من الاحتباك: ذكر السجود دليلاً على الركوع والقيام دليلاً على القعود، والسر في ذكر ما ذكر وترك ما ترك أن السجود يدل على العبادة، وقرن القيام به دال على أنه قيام منه فهو عبادة، وذلك مع الإيذان بأنهما أعظم الأركان، فهو ندب إلى تطويلهما على الركنين الآخرين؛ لأن القعود إنما هو للرفق بالاستراحة، والركوع إنما أريد به إخلاص الأركان للعبادة؛ لأنه لا يمكن عادة أن يكون لغيرها، وأما السجود فيطرقه احتمال السقوط والقيام والقعود مما جرت به العوائد، فلما ضم إليهما الركوع تمحضاً للخضوع بين يدي الملك العليم العزيز الرحيم.
ولما كان الإنسان محل الفتور والغفلة والنسيان، وكان ذلك في محل الغفران، وكان لا يمكن صلاحه إلا بالخوف من الملك الديان، قال معللاً أو مستأنفاً جواباً لمن كأنه يقول: ما له يتعب نفسه هذا التعب ويكدها هذا الكد: {يحذر الآخرة} أي عذاب الله فيها، فهو دائم التجدد لذلك كلما غفل عنه.
ولما ذكر الخوف، أتبعه قرينه الذي لا يصح بدونه فقال: {ويرجوا رحمة ربه} أي الذي لم يزل يتقلب في إنعامه.
ولما كان الحامل على الخوف والرجاء والعمل إنما هو العلم النافع، وكان العلم الذي لا ينفع كالجهل أو الجهل خير، كان جواب ما تقدم من الاستفهام: لا يستويان؛ لأن المخلص عالم والمشرك جاهل. فأمره بالجواب بقوله: {قل} أي لا يستويان؛ لأن الحامل على الإخلاص العلم وعلى الإشراك الجهل وقلة العقل، ثم أنكر على من يشك في ذلك فقل له: {هل يستوي} أي في الرتبة {الذين يعلمون} أي فيعملون على مقتضى العلم، فأداهم علمهم إلى التوحيد والإخلاص في الدين
{والذين لا يعلمون} فليست أعمالهم على مقتضى العلم إما لجهل وإما لإعراض عن مقتضى العلم، فصاروا لا علم لهم؛ لأنه لا انتفاع لهم به لأنهم لو تأملوا أدنى تأمل مع تجريد الأنفس من الهوى لرجعوا إليه من أنه لا يرضى أحد أصلاً لعبده أن يخالف أمره، وإلى أنه لا يطلق العلم إلا على العامل أرشد قول ابن هشام في السيرة (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} [آل عمران: 188] أن يقول الناس: علماء، وليسوا بأهل علم، لم يحملوهم على هدى ولا حق.
ولما كان مدار السداد التذكر. وكان مدار التذكر الذي به الصلاح والفساد هو القلب لأنه مركز العقل الذي هو آلة العلم، وكان القلب الذي لا يحمل على الصلاح عدماً بل العدم خير منه، قال: {إنما يتذكر} أي تذكراً عظيماً بما أفهمه إظهار التاء فيعلم أن المحسن لا يرضى بالإحسان إلى من يأكل خيره ويعبد غيره.
{أولوا الألباب} أي العقول الصافية والقلوب النيرة وهم الموصوفون آخر آل عمران بقوله تعالى: {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} [آل عمران: 191] إلى آخرها، وما أحسن التعبير هنا باللب الذي هو خلاصة الشيء؛ لأن السياق للإخلاص.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال القشانيّ: وإنما كان المطيع هو العالم؛ لأن العلم هو الذي رسخ في القلب وتأصل بعروقه في النفس، بحيث لا يمكن صاحبه مخالفته، بل سيط باللحم والدم، فظهر أثره في الأعضاء لا ينفك شيء منها عن مقتضاه، وأما المرتسم في حيز التخيل، بحيث يمكن ذهول النفس عنه وعن مقتضاه، فليس بعلم، إنما هو أمر تصوري وتخيل عارض لا يلبث، بل يزول سريعا، لا يغذو القلب ولا يسمن ولا يغني من جوع.
{إنما يتذكر} أي يتعظ بهذا الذكر {أولوا الألباب} أي العقول الصافية عن قشر التخيّل والوهم، لتحققها بالعلم الراسخ الذي يتأثر به الظاهر، وأما المشوبة بالوهم فلا تتذكر ولا تتحقق بهذا العلم ولا تعيه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإلى جانب هذه الصورة النكدة من الإنسان، يعرض صورة أخرى.. صورة القلب الخائف الوجل، الذي يذكر الله ولا ينساه في سراء ولا ضراء؛ والذي يعيش حياته على الأرض في حذر من الآخرة؛ وفي تطلع إلى رحمة ربه وفضله؛ وفي اتصال بالله ينشأ عنه العلم الصحيح المدرك لحقائق الوجود... أم من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه؟ قل: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ إنما يتذكر أولو الألباب. وهي صورة مشرقة مرهفة. فالقنوت والطاعة والتوجه -وهو ساجد وقائم- وهذه الحساسية المرهفة -وهو يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه- وهذا الصفاء وهذه الشفافية التي تفتح البصيرة. وتمنح القلب نعمة الرؤية والالتقاط والتلقي.. هذه كلها ترسم صورة مشرقة وضيئة من البشر تقابل تلك الصورة النكدة المطموسة التي رسمتها الآية السابقة. فلا جرم يعقد هذه الموازنة: (قل: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟).. فالعلم الحق هو المعرفة. هو إدراك الحق. هو تفتح البصيرة. هو الاتصال بالحقائق الثابتة في هذا الوجود. وليس العلم هو المعلومات المفردة المنقطعة التي تزحم الذهن، ولا تؤدي إلى حقائق الكون الكبرى، ولا تمتد وراء الظاهر المحسوس. وهذا هو الطريق إلى العلم الحقيقي والمعرفة المستنيرة.. هذا هو.. القنوت لله. وحساسية القلب، واستشعار الحذر من الآخرة، والتطلع إلى رحمة الله وفضله؛ ومراقبة الله هذه المراقبة الواجفة الخاشعة.. هذا هو الطريق، ومن ثم يدرك اللب ويعرف، وينتفع بما يرى وما يسمع وما يجرب؛ وينتهي إلى الحقائق الكبرى الثابتة من وراء المشاهدات والتجارب الصغيرة. فأما الذين يقفون عند حدود التجارب المفردة، والمشاهدات الظاهرة، فهم جامعو معلومات وليسوا بالعلماء.. إنما يتذكر أولو الألباب.. وإنما يعرف أصحاب القلوب الواعية المتفتحة المدركة لما وراء الظواهر من حقائق. المنتفعة بما ترى وتعلم، التي تذكر الله في كل شيء تراه وتلمسه ولا تنساه، ولا تنسى يوم لقاه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أَمَن هو قانت أفضل أم من هو كافر؟ والاستفهام حينئذٍ تقريري ويقدر له معادل محذوف دل عليه قوله عقبه: {قُلْ هل يسْتَوي الذين يعلمُونَ والذين لا يعلَمُونَ}. والقانت: العابد. والآناء: جمع أَنىً مثل أمعاء ومَعىً، وأقفاء وقفىً، والأنى: الساعة، ويقال أيضاً: إنَى بكسر الهمزة، كما تقدم في قوله: {غير ناظرين إِناه} في سورة [الأحزاب: 53]، وتخصيص الليل بقنوتهم؛ لأن العبادة بالليل أعون على تمحض القلب لذكر الله، وأبعد عن مداخلة الرياء وأدل على إيثار عبادة الله على حظ النفس من الراحة والنوم، فإن الليل أدعى إلى طلب الراحة فإذا آثر المرء العبادة فيه استنار قلبه بحب التقرب إلى الله قال تعالى: {إنّ ناشئة الليل هي أشدُ وطئاً وأقوم قِيلا} [المزمل: 6]، فلا جرم كان تخصيص الليل بالذكر دالاً على أن هذا القانت لا يخلو من السجود والقيام آناءَ النهار بدلالة فحوى الخطاب قال تعالى: {إن لك في النهار سبحاً} [المزمل: 7]، وبذلك يتم انطباق هذه الصلة على حال النبي صلى الله عليه وسلم...
{ساجِداً وقائماً} حالان مُبينان ل {قَانِتٌ} ومؤكدان لمعناه.
وجملة {يحذَرُ الآخِرَةَ ويرجوا رحمة ربه} حالان، فالحال الأول والثاني لوصف عمَله الظاهر والجملتان اللتان هما ثالث ورابع لوصف عمل قلبه، وهو أنه بين الخوف من سيئاته وفلتاته وبين الرجاء لرحمة ربه أن يثيبه على حسناته. وفي هذا تمام المقابلة بين حال المؤمنين الجارية على وفق حال نبيئهم صلى الله عليه وسلم وحال أهل الشرك الذين لا يدعون الله إلا في نادر الأوقات، وهي أوقات الاضطرار، ثم يشركون به بعد ذلك، فلا اهتمام لهم إلا بعاجل الدنيا لا يحذرون الآخرة ولا يرجون ثوابها، والرجاء والخوف من مقامات السالكين، أي أوصافهم الثابتة التي لا تتحول. والرجاء: انتظار ما فيه نعيم وملاءمة للنفس. والخوف: انتظار ما هو مكروه للنفس. والمراد هنا: الملاءمة الأخروية لقوله: {يَحْذَرُ الآخِرَةَ}، أي يحذر عقاب الآخرة فتعين أن الرجاء أيضاً المأمولُ في الآخرة. وللخوف مزيته من زجر النفس عما لا يرضي الله، وللرجاء مزيته من حثها على ما يرضي الله وكلاهما أنيس السالكين، وإنما ينشأ الرجاء على وجود أسبابه؛ لأن المرء لا يرجو إلا ما يظنه حاصلاً ولا يظن المرء أمراً إلا إذا لاحت له دلائله ولوازمه؛ لأن الظن ليس بمغالطة والمرء لا يغالط نفسه، فالرجاء يتبع السعي لتحصيل المرجو قال الله تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً} [الإسراء: 19] فإن ترقُّب المرء المنفعة من غير أسبابها فذلك الترقب يسمى غروراً. وإنما يكون الرجاء أو الخوف ظنّاً مع تردد في المظنون، أما المقطوع به فهو اليقين واليأس وكلاهما مذموم قال تعالى: {فلا يأمن مكر اللَّه إلا القوم الخاسرون} [الأعراف: 99] {يَعْلَمُونَ} في الموضعين منزّل منزلة اللازم فلم يذكر له مفعول، والمعنى: الذين اتصفوا بصفة العلم، وليس المقصود الذين علموا شيئاً معيّناً حتى يكون من حذف المفعولين اختصاراً؛ إذ ليس المعنى عليه، وقد دل على أن المراد الذين اتصفوا بصفة العلم قوله عقبه: {إنما يتذكر أولوا الألباب} أي أهل العقول، والعقل والعلم مترادفان، أي لا يستوي الذين لهم علم فهم يدركون حقائق الأشياء على ما هي عليه وتجري أعمالهم على حسب علمهم، مع الذين لا يعلمون فلا يدركون الأشياء على ما هي عليه بل تختلط عليهم الحقائق وتجري أعمالهم على غير انتظام، كحال الذين توهموا الحجارة آلهة ووضعوا الكفر موضع الشكر. فتعين أن المعنى: لا يستوي مَن هو قانت آناء الليل يحذر ربّه ويرجوه، ومَن جعل لله أنداداً ليضل عن سبيله. وإذ قد تقرر أن الذين جعلوا لله أنداداً هم الكفار بحكم قوله: {قُل تَمتَّع بِكُفرِكَ قَليلاً} ثبت أن الذين لا يستوون معهم هم المؤمنون، أي هم أفضل منهم، وإذ قد تقرر أن الكافرين من أصحاب النار فقد اقتضى أن المفضلين عليهم هم من أصحاب الجنة.
وعدل عن أن يقول: هل يستوي هذا وذاك، إلى التعبير بالموصول؛ إدماجاً للثناء على فريق ولذم فريق، بأن أهل الإِيمان أهل علم وأهل الشرك أهل جهالة فأغنت الجملة بما فيها من إدماج عن ذكر جملتين، فالذين يعلمون هم أهل الإِيمان، قال تعالى: {إنما يخشى اللَّه من عباده العلماء} [فاطر: 28] والذين لا يعلمون هم أهل الشرك الجاهلون، قال تعالى: {قل أفغير اللَّه تأمروني أعبد أيها الجاهلون} [الزمر: 64]. وفي ذلك إشارة إلى أن الإِيمان أخو العلم؛ لأن كليهما نور ومعرفةٌ حقّ، وأن الكفر أخو الضلال؛ لأنه والضلال ظلمة وأوهام باطلة...
ووقع فعل {يَسْتَوِي} في حيّز النفي، يكسبه عموم النفي لجميع جهات الاستواء. وإذ قد كان نفي الاستواء كناية عن الفضل، آل إلى إثبات الفضل للذين يعلمون على وجه العموم، فإنك ما تأملت مقاماً اقتحم فيه عالم وجاهل إلا وجدتَ للعالم فيه من السعادة ما لا تجده للجاهل.
وهذا التفاوت بين العالم والجاهل؛ مشمول لنفي الاستواء الذي في قوله تعالى:
{قُل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمونَ} وتتشعب من هذه المقامات فروع جمّة وهي على كثرتها تنضوي تحت معنى هذه الآية...
{إنَّما يتذكَّر أُولوا الألبابِ} واقع موقع التعليل لنفي الاستواء بين العالم وغيره المقصودِ منه تفضيل العالم والعلم، فإن كلمة (إنما) مركبة من حرفين (إنَّ) و (مَا) الكافّة أو النافية فكانت (إِن) فيه مفيدة لتعليل ما قبلها مغنية غَناء فاء التعليل إذ لا فرق بين (إنَّ) المفردة و (إنَّ) المركبة مع (ما)، بل أفادها التركيب زيادة تأكيد وهو نفي الحكم الذي أثبتته (إنَّ) عن غير من أثبتته له. وقد أخذ في تعليل ذلك جانبُ إثبات التذكر للعالِمين، ونفيه من غير العالمين، بطريق الحصر لأن جانب التذكر هو جانب العمل الديني وهو المقصد الأهم في الإِسلام؛ لأن به تزكية النفس والسعادة الأبدية قال النبي صلى الله عليه وسلم « مَن يُرِد الله به خيراً يفقهْهُ في الدين» والألباب: العقول، وأولو الألباب: هم أهل العقول الصحيحة، وهم أهل العلم. فلما كان أهل العلم هم أهل التذكر دون غيرهم أفاد عدم استواء الذين يعلمون والذين لا يعلمون. فليس قوله: {إنَّما يتذكر أولوا الألباب} كلاماً مستقلاً...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
روى البغوي عن عطاء أن الآية نزلت في أبي بكر، وعن الضحاك أنها نزلت في أبي بكر وعمر، وعن ابن عمر أنها نزلت في عثمان، وعن الكلبي أنها نزلت في ابن مسعود وعمار وسلمان رضي الله عنهم جميعا. وليس ذلك واردا في مساند الصحاح، وأسلوب الآية عام مطلق وبينه وبين أسلوب الآية السابقة تناظر. فالموضوع في كلتيهما مطلق عام. وفي كلتيهما أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاستنكار وإعلان الحقيقة الواجب إدراكها. وهذا ما يسوغ القول: إن هذه الآية متصلة أولا بالآية السابقة وإن كلتيهما متصلتان بالسياق، وقد جاءتا على سبيل الاستطراد والتنبيه.
ولا نريد بما قلناه أن ننفي خبر استغراق بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأولين في التهجد بالليل بنوع خاص واشتهار ذلك بحيث جعلتهم حكمة التنزيل مناسبة للمفاضلة بينهم وبين أشخاص بطرين مستكبرين من الكفار.
{قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}: مع أنه قد يكون المقصود القريب من هذه الجملة المؤمنين والكافرين حيث أدرك الأولون وعلموا حقائق الأمور فاتبعوا طريق الهدى وعميت أبصار الآخرين عن ذلك، فإن في إطلاق عبارتها مسوغا للقول إنها تتناول كل ما يصح أن يكون موضوع مقايسة بين أمرين أو بين رجلين أو بين جماعتين أحدهما يدعم رأيه أو موقفه بالحجة الواضحة ويستند فيه إلى علم وتفكير. والثاني مهوش مضلل لا يعي الحقيقة ولا يدرك موضع الحق ولا يستند في موقفه إلى علم وبينة. ولهذا فإن التعبير قد أصبح مثلا من الأمثلة القرآنية يتمثل به في كثير من المناسبات لما انطوى فيه من حكمة وصواب وحق...
ثم يقول الحق سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ...}.
كلمة (أم) تفيد التخيير بين أمرين، تقول هذا أم هذا، فلا بُدّ أن يكون لها مقابل، فما مقابل {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الَّيلِ..} [الزمر: 9] المقابل لذلك في قوله تعالى قبلها: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ..} [الزمر: 8].
فالمعنى أيهما أحسن من صفته إذا مسَّه الضر يضرع إلى الله، فإذا كشف عنه الضر جعل لله أنداداً، أمَّن هو قانتٌ آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه.
ومعنى: {قَانِتٌ..} دائم الخضوع والعبادة...
وقوله: {يَحْذَرُ الآخِرَةَ} يعني: يخاف منها ومن القهر فيها {وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ} لأن رحمته سبقت غضبه، لم يقل يأمن مقابل يحذر إنما ذكر أولاً ما يُخوِّف من الآخرة إنْ عصى، والمراد يحذر النار في الآخرة، لكن لما تكلَّم عن رحمة الله جعلها مباشرة، فقال {وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ} ولم يقل: ويرجو الجنة.
والمؤمن حين يرجو لا يرجو عمله وسَعْيه في الدنيا، إنما يرجو وينتظر رحمة الله، لأنه لا ينجو بعمله، لأن أيَّ إنسان مهما كان صالحاً حين تحاسبه حساباً دقيقاً لا بُدَّ أنْ يخرج بذنوب وإدانة.
إذن: فالكفيل فينا جميعاً والذي يسعنا رحمة الله، كما جاء في الحديث الشريف:"لا يدخل أحدٌ الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: ولا أنا إلا أنْ يتغمدني الله برحمته".
فإياك إذن أنْ تغترَّ بعملك، لأن التكاليف كلها لصالحك أنت، ولا يعود على الله منها شيء، فحين يجازيك عليها في الآخرة فهو تفضُّل من الله ونعمة.
ثم يقول سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} بعد أن عقد الحق سبحانه مقارنة بين الإنسان إذا مسَّه ضُر دعا ربه منيباً إليه، ثم إذا خوَّله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل، ومَنْ هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذَرُ الآخرة ويرجو رحمة ربه.
أراد سبحانه أن يؤكد هذا المعنى، وأنْ يبين لنا أن أصحاب العلم الحقيقي لا يستوون، وأصحاب العلم غير الحقيقي {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} فالذي رجع إلى الكفر بعد أنْ كشف الله عنه ضُره لم يعلم العلم الحقيقي، لأنه لو علمه ما رجع إلى الكفر ولاستقلَّ المطلوب منه في الدنيا إذا قارنه بما أعدّ له من جزاء في الآخرة.
أما الذي هو قانِتٌ آناءَ الليل ساجداً وقائماً، يحذَرُ الآخرة، ويرجو رحمة ربه، فقد علم العلم الحقيقي، فالقنوت بالليل فيه مسائل كثيرة: أولاً: أنه أبعد عن الرياء والسمعة، ثانياً: أن كل جوارحه تفرغتْ للقاء ربه، فالعين مثلاً في ظلمة الليل تستريح من المرائي التي تشغل الإنسان وتأخذ انتباهه؛ لأن كل مرأى يأخذ جزءاً من خواطرك، فهذا راح وهذا جاء وهذا قال وهذا..
أما الليل فسكونٌ لا انشغال فيه، فالجوارح كلها خالصة لوجه الله، لا تشغلها المرائي والأصوات. وهذا الجو يوفر لك وقفة حقيقية وخاشعة بين يدي الله.
وفي القنوت تترك النوم وتحرم نفسك راحتها، لتقوم بين يدَيْ ربك ساجداً أو قائماً؛ هذه صفة أهل القنوت الذين يقضون الليل في مناجاة ربهم، وهذا هو حال المرتحل في كتاب الله الذي لا ينتهي إلى السين من "والناس "حتى يبدأ في "بسم الله الرحمن الرحيم "في أوله؛ لذلك سبق أنْ قُلْنا: إن القرآن كله مبني على الوصْل، لا على الوقف.
فهل يستوي مَنْ هذا حاله مع مَنْ كفر بالله؟ هذا علم وعمل، ولذلك لم يعلم أو علم ولم يُوظِّف علمه فيما ينفعه. ثم إن العبد حينما يعلم ويعمل بعلمه يُفيض الله عليه بالمزيد...
لذلك قال سبحانه في الحديث القدسي:"ما تقرب إليَّ عبدي بمثل ما افترضتُه عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجْلَه التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعطينه"...
وقوله سبحانه {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}.
أي: أصحاب العقول المفكرة التي تبحث في المحسَّات، وتتأمل في الآيات؛ لأن للإنسان حواسَّ تدرك، وعقلاً يرجح ويختار، فيأخذ هذه بالسمع، وهذه بالبصر، وهذه بالأنف ثم يعرضها على العقل لينظرَ ما فيها من الخير وما فيها من الشر، فإنْ كان العقل صحيحاً رجح الخير، واختار من البدائل أجداها فائدة، وأهمها نفعاً.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تتضمّن هاتان الآيتان إشارات لطيفة إلى نقاط مهمّة:
(قانت آناء الليل) وردت هنا بصيغة اسم فاعل، وكلمة (الليل) جاءت مطلقة لتشير إلى استمرار عبودية وخضوع أُولئك لله سبحانه؛ لأنّ العمل إذا لم يستمر فيكون ضعيف جدّاً.
إنّ العلم الاضطراري المتولّد من نزول البلاء والذي يربط الإنسان بخالقه، لا يكون مصداقاً حقيقياً للعلم إلا إذا استمر إلى ما بعد هدوء العاصفة. لذا فإنّ الآيات المذكورة أعلاه تجعل الإنسان الذي يستيقظ حال نزول البلاء ويعود إلى غفلته عند زواله تجعله في عداد الجهلة؛ إذن فإنّ العلماء الحقيقيين هم المتوجهون إليه تعالى في كلّ الحالات.
ممّا يلفت الانتباه أنّ نهاية الآية الأخيرة تقول: إنّ الفرق بين الجاهل والعالم لا يدركه سوى أولي الألباب! لأنّ الجاهل لا يدرك قيمة العلم! وفي الحقيقة إنّ كلّ مرحلة من مراحل العلم هي مقدمة لمرحلة أخرى.
العلم في هذه الآية وبقية الآيات لا يعني معرفة مجموعة من المصطلحات، أو العلاقة المادية بين الأشياء، وإنّما يقصد به المعرفة الخاصة التي تدعو الإنسان إلى (القنوت) أي إلى طاعة البارئ عز وجل والخوف من محكمته وعدم اليأس من رحمته، هذه هي حقيقة العلم، وإن كانت العلوم الدنيوية تؤدي إلى ما ذكرناه آنفا، فهي علم أيضاً. وإلاّ فهي سبب الغفلة والظلم والغرور والفساد في الارض، ولا يحصل منها سوى «القيل والقال» وليس «الكيفية والحال».
على عكس ما يعتقد به الجهلة الذين يعدّون الدين مخدراً (أفيوناً)، فإنّ أهم ما يدعوا إليه الأنبياء هو طلب العلم والمعرفة، وقد أعلنوا عداءهم للجهل أينما كان، وإضافة إلى أنّ القرآن الحكيم استغل الكثير من المناسبات كي يوضح هذا الأمر، كما وردت في الروايات الإسلامية أحاديث تصور عدم وجود شيء أفضل من العلم...