المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

9- والأنصار الذين نزلوا المدينة وأقاموا بها ، وأخلصوا الإيمان من قبل نزول المهاجرين بها ، يحبُّون مَن هاجر إليهم من المسلمين ، ولا يحسون في نفوسهم شيئاً مما أوتى المهاجرون من الفيء ، ويقدمون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم حاجة ، ومن يُحْفَظ - بتوفيق الله - من بخل نفسه الشديد فأولئك هم الفائزون بكل ما يحبون .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

ثم مدح - سبحانه - بعد ذلك الأنصار ، الذين يحبون من هاجر إليهم فقال : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } .

والجملة الكريمة معطوفة على { الْمُهَاجِرِينَ } أو مبتدأ وخبره : { يُحِبُّونَ } والتبوؤ : النزول فى المكان ، ومنه المباءة للمنزل الذى ينزل فيه الإنسان .

والمراد بالدار : المدينة المنورة ، وأل للعهد . أى : الدار المعهودة المعروفة وهى دار الهجرة .

وقوله : { والإيمان } منصوب بفعل مقدر ، أى : وأخلصوا الإيمان .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى عطف الإيمان على الدار ، ولا يقال : تبوأوا الإيمان ؟

قلت معناه : تبوأوا الدار وأخلصوا الإيمان . كقوله : علفتها تبنا وماء باردا .

أى : وجعلوا الإيمان مستقرا ومتوطنا لهم ، لتمكنهم منه ، واستقامتهم عليه ، كما جعلوا المدينة كذلك .

أو أراد : دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف فى الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ، ووضع المضاف إليه مقامه . .

أو سمى المدينة - لأنها دار الهجرة ، ومكان ظهور الإيمان - بالإيمان . .

وقوله : { مِن قَبْلِهِمْ } أى : من قبل المهاجرين ، وهو متعلق بقوله { تَبَوَّءُوا } .

وقوله : { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } خبر لمبتدأ ، أو حال من الذين تبوأوا الدار .

أى : هذه هى صفات المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم .

. . وهذا هو جزاؤهم .

أما الذين سكنوا دار الهجرة وهى المدينة المنورة ، من قبل المهاجرين ، وأخلصوا إيمانهم وعبادتهم لله - تعالى- ، فإن من صفاتهم أنهم يحبون إخوانهم الذين هاجروا إليهم حبا شديدا ، لأن الإيمان ربط قلوبهم برباط المودة والمحبة . وقوله : { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } صفة أخرى من صفات الأنصار .

ومعنى : { يَجِدُونَ } هنا : يحسون ويعلمون ، والضمير للأنصار ، وفى قوله { أُوتُواْ } للمهاجرين . والحاجة فى الأصل : اسم مصدر بمعنى الاحتياج ، أى الافتقار إلى الشىء .

والمراد بها هنا : المأرب أو الرغبة الناشئة عن التطلع إلى ما منحه النبى - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين دون الأنصار ، من فىء أو غيره .

أى : أن من صفات الأنصار - أيضا - أنهم لا تتطلع نفوسهم إلى شىء مما أعطى للمهاجرين من الفىء أو غيره ، لأن المحبة التى ربطت قلوب الأنصار بالمهاجرين ، جعلت الأنصار يرتفعون عن التشوف إلى شىء مما أعطاه النبى - صلى الله عليه وسلم - المهاجرين وحدهم . . .

ثم وصفهم - سبحانه - بصفة ثالثة كريمة فقال : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ . . . } .

والإيثار معناه : أن يؤثر الإنسان غيره على نفسه ، على سبيل الإكرام والنفع ، والخصاصة : شدة الحاجة ، وأصلها من خصاص البيت ، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتحات .

أى : أن من صفات الأنصار أنهم كانوا يقدمون فى النفع إخوانهم المهاجرين على أنفسهم ، ولو كانوا فى حاجة ماسة ، وفقر واضح ، إلى ما يقدمونه لإخوانهم المهاجرين .

ولقد ضرب الأنصار - رضى الله عنهم - أروع الأمثال وأسماها فى هذا المضمار ، ومن ذلك ما رواه الشيخان والترمذى والنسائى وغيرهم عن أبى هريرة قال : " أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أصابنى الجهد ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد شيئا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله " ؟ فقام رجل من الأنصار - وفى رواية أنه أبو طلحة - فقال : أنا يا رسول الله ، فذهب به إلى أهله ، فقال لامرأته : أكرمى ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : والله ما عندى إلا قوت الصيبة ! ! قال : إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم ، وتعالى فأطفئى السراج ، ونطوى بطوننا الليلة لضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعلت .

ثم غدا الضيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة " وأنزل الله فيهما : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ . . . } . "

وقوله - سبحانه - : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } تذييل قصد به حض الناس على التحلى بفضيلة السخاء والكرم .

والشح : يرى بعضهم أنه بمعنى البخل ، ويرى آخرون أن الشح غريزة فى النفس تحملها على الإمساك والتقتير ، وأما البخل فهو المنع ذاته ، فكأن البخل أثر من آثار الشح .

قال صاحب الكشاف : " الشح " - بالضم والكسر قد قرئ بهما - : اللؤم ، وأن تكون نفس المرء كزة حريصة على المنع كما قال الشاعر :

يمارس نفسا بين جنبيه كَزَّةً . . . إذا هَمَّ بالمعروف قالت له مهلا

وقد أضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها ، وأما البخل فهو المنع نفسه ، ومنه قوله - تعالى - : { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح . . } أى : ومن يوق - بتوفيق الله وفضله - شح نفسه وحرصها على الإمساك ، فيخالفها فيما تأمره به من المنع والتقتير . فأولئك الذين يخالفونها هم المفلحون ، الفائزون برضا الله - عز وجل - .

ومن الأحاديث التى وردت فى النهى عن الشح ، ما أخرجه مسلم - فى صحيحه - عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

6

والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ، يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . .

وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار . هذه المجموعة التي تفردت بصفات ، وبلغت إلى آفاق ، لولا أنها وقعت بالفعل ، لحسبها الناس أحلاما طائرة ورؤى مجنحة ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق . .

والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم . . أي دار الهجرة . يثرب مدينة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين . كما تبوأوا فيها الإيمان . وكأنه منزل لهم ودار . وهو تعبير ذو ظلال . وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان . لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم ، وتسكن إليه أرواحهم ، ويثوبون إليه ويطمئنون له ، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار .

( يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) . . ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين . بهذا الحب الكريم . وبهذا البذل السخي . وبهذه المشاركة الرضية . وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء . حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة . لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين ! ( ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) . . مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع ، ومن مال يختصون به كهذا الفيء ، فلا يجدون في أنفسهم شيئا من هذا . ولا يقول : حسدا ولا ضيقا . إنما يقول : ( شيئا ) . مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم ، فلا تجد شيئا أصلا .

( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) . . والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا . وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيرا . وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديما وحديثا .

( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) . . فهذا الشح . شح النفس . هو المعوق عن كل خير . لأن الخير بذل في صورة من الصور . بذل في المال . وبذل في العاطفة . وبذل في الجهد . وبذل في الحياة عند الاقتضاء . وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائما أن يأخذ ولا يهم مرة أن يعطي . ومن يوق شح نفسه ، فقد وقي هذا المعوق عن الخير ، فانطلق إليه معطيا باذلا كريما . وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

{ والذين تبوءوا الدار والإيمان }عطف على المهاجرين والمراد بهم الأنصار الذين ظهر صدقهم فإنهم لزموا المدينة والإيمان وتمكنوا فيهما وقيل المعنى تبوءوا دار الهجرة ودار الإيمان فحذف المضاف من الثاني والمضاف إليه من الأول وعوض عنه اللام أو تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله علفتها تبنا وماء باردا ، وقيل سمى المدينة بالإيمان لأنها مظهره ومصيره من قبلهم من قبل هجرة المهاجرين ، وقيل تقدير الكلام { والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان يحبون من هاجر إليهم }ولا يثقل عليهم { ولا يجدون في صدورهم } في أنفسهم { حاجة }ما تحمل عليه الحاجة كالطلب والحزازة والحسد والغيظ { مما أوتوا }مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره ، { ويؤثرون على أنفسهم }ويقدمون المهاجرين على أنفسهم حتى إن كان عنده مرأتان نزل عن واحدة وزوجها من أحدهم ، { ولو كان بهم خصاصة } حاجة من خصاص البناء وهي فرجه ، { ومن يوق شح نفسه }حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق ، { فأولئك هم المفلحون }الفائزون بالثناء العاجل والثواب الآجل .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

{ الذين تبوءوا } هم الأنصار ، والضمير في { قبلهم } للمهاجرين ، و { الدار } هي المدينة ، والمعنى : تبوءوا الدار مع الإيمان معاً ، وبهذا الاقتران يصح معنى قوله : { من قبلهم } فتأمله ، { والإيمان } لا يتبوأ لأنه ليس مكاناً ولكن هذا من بليغ الكلام ويتخرج على وجوه كلها جميل حسن{[11024]} .

وأثنى الله تعالى في هذه الآية على الأنصار بأنهم { يحبون } المهاجرين ، وبأنهم { يؤثرون على أنفسهم } وبأنهم قد وقوا شح أنفسهم لأن مقتضى قوله : { ومن يوق شح نفسه } الآية . أن هؤلاء الممدوحين قد وقوا الشح ، والحاجة : الحسد في هذا الموضع ، قاله الحسن وتعم بعد جميع الوجوه التي هي بخلاف ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في إعطاء المهاجرين أموال بني النضير والقرى ، و { أوتوا } معناه : أعطوا ، والضمير المرفوع بأن لم يسم فاعله هو للمهاجرين ، وقوله تعالى : { ويؤثرون } الآية ، صفة للأنصار . وقد روي من غير ما طريق ، أنها نزلت بسبب رجل من الأنصار ، قال أبو المتوكل : هو ثابت بن قيس ، وقال أبي هريرة في كتاب مكي : كنية هذا الرجل أبو طلحة ، وخلط المهدوي في ذكر هذا الرجل ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : والله ما عندنا إلا قوت الصبية ، فقال : نومي صبيتك وأطفئي السراج وقدمي ما عندك للضيف ونوهمه نحن أنا نأكل ، ففعلا ذلك فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «عجب الله من فعلكما البارحة » ، ونزلت الآية في ذلك{[11025]} . والإيثار على النفس أكرم خلق ، وقال حذيفة العدوي : طلبت يوم اليرموك ابن عم لي في الجرحى ومعي شيء من ماء ، فوجدته ، فقلت : أسقيك ؟ فأشار أن نعم ، فإذا رجل يصيح آه ، فأشار ابن عمي أن انطلق إليه فجئته فإذا هو هشام بن العاصي ، فقلت : اشرب فإذا آخر يقول : آه ، فأشار هشام أن انطلق إليه ، فجئته ، فإذا به قد فاضت نفسه ، فرجعت إلى هشام ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات ، فعجبت من إيثارهم رحمهم الله وقال أبو زيد البسطامي : قدم علينا شاب من بلخ حاجاً فقال : ما حد الزهد عندكم ؟ فقلت : إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا ، فقال : هكذا عندنا كلاب بلخ ، فقلت له : فما هو عندكم ، فقال : إذا فقدنا صبرنا وإذا وجدنا آثرنا وروي : أن سبب هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى في المهاجرين قال للأنصار : «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه » فقالوا : بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة ، فنزلت هذه الآية{[11026]} .

والخصاصة : الفاقة والحاجة ، وهو مأخوذ من خصائص البيت وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتوح فكأن حال الفقير هي كذلك يتخللها النقص والاحتياج ، و «شح النفس » هو كثرة منعها وضبطها على المال والرغبة فيه وامتداد الأمل هذا جماع شح النفس وهو داعية كل خلق سوء ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

«من أدى الزكاة المفروضة وقرى الضيف وأعطى في النائبة فقد برئ من الشح »{[11027]} ، واختلف الناس بعد هذا الذي قلنا ، فذهب الجمهور والعارفون بالكلام إلى هذا وعلى هذا التأويل ، كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يطوف ويقول : اللهم قني شح نفسي ، لا يزيد على ذلك ، فقيل له في ذلك فقال إذا وقيته لم أفعل سوءاً .

قال القاضي أبو محمد : «شح النفس » فقر لا يذهبه غنى المال بل يزيده وينصب به ، وقال ابن زيد وابن جبير وجماعة : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله تعالى عنه ولم يمنع الزكاة المفروضة فقد برئ من شح النفس . وقال ابن مسعود رحمه الله «شح النفس » : هو أكل مال الغير بالباطل ، وأما منع الإنسان ماله فهو بخل وهو قبيح ، ولكنه ليس بالشح . وقرأ عبد الله بن عمر : «شِح » بكسر السين ، ويوقى وزنه : يفعل من وقى يقي مثل وزن يزن . وقرأ أبو حيوة : «يوَقّ » بفتح الواو وشد القاف و { المفلحون } : الفائزون ببغيتهم .


[11024]:قيل: إنه نصب بفعل آخر غير "تبوأ"، والتقدير: والذين تبوؤوا الدار واعتقدوا الإيمان، فهو كقوله تعالى:{فأجمعوا أمركم وشركاءكم}، ويكون من باب:"علفتها تبنا وماء باردا"، أي: وسقيتها ماء، ذكر ذلك أبو علي والزمخشري، وقيل: هو من باب حذف المضاف، والتقدير: تبوءوا الدار ومواضع الإيمان، وقيل: هو على طريق المثل، كما تقول: تبوّأ من بني فلان الصميم.
[11025]:أخرجه ابن أبي شيبة، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: أتى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا، فقال: ألا رجل يضيف هذا لليلة رحمه الله تعالى؟ فقال رجل من الأنصار-وفي رواية: فقال أبو طلحة الأنصاري: أنا يا رسول الله، فذهب به إلى أهله، الحديث كما ذكره ابن عطية.
[11026]:ذكره الزمخشري في تفسيره دون سند، وذكره القرطبي قائلا: وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن إسحق في السيرة طرفا منه جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قسّم أموال بني النضير على المهاجرين الأولين إلا أنه أعطى سهل بن حُنيف وأبا دُجانة سِماك بن خراشة، وهذا يتفق مع ما ذكره الزمخشري، لكن الزمخشري ذكر أيضا أنه أعطى معهما الحرث بن الصمة.
[11027]:أخرجه عبد بن حميد، عن مجمع بن يحيى بن جارية، قال: حدثني عمي خالد بن يزيد بن جارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(برئ من الشح من أدى الزكاة، وقرى الضيف، وأدى في النائبة). (الدر المنثور)ن وزاد في الجامع الصغير نسبته إلى أبي يعلى في مسنده، والطبراني في الكبير، ثم رمز له الإمام السيوطي بأنه حديث حسن.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

الأظهر أن { الذين } عطف على { المهاجرين } [ الحشر : 8 ] أي والذين تبوّؤا الدار . والذين تبوّؤا الدار هم الأنصار .

والدّار تطلق على البلاد ، وأصلُها مَوضع القبيلة من الأرض . وأطلقت على القرية قال تعالى في ذكر ثمود { فأصبحوا في دَارهم جاثمين } [ الأعراف : 78 ] ، أي في مدينتهم وهي حجر ثمود .

والتعريف هنا للعهد لأن المراد بالدار : يثرب ، والمعنى الذين هم أصحاب الدار . هذا توطئة لقوله : { يحبون من هاجر إليهم } .

والتبوُّء : اتخاذ المباءة وهي البُقعة التي يَبوء إليها صاحبها ، أي يرجع إليها بعد انتشاره في أعماله . وفي موقع قوله : { والإيمان } غموض إذ لا يصح أن يكون مفعولاً لفعل تبوَّءوا ، فتأوله المفسرون على وجهين : أحدهما أن يجعل الكلام استعارة مكنية بتشبيه الإِيمان بالمَنْزل وجعْل إثبات التَّبَوُّءِ تخييلاً فيكون فعل تبوأوا مستعملاً في حقيقته ومجازه .

وجمهور المفسرين جعلوا المعطوف عاملاً مقدراً يدلّ عليه الكلام ، تقديره : وأخلصوا الإِيمان على نحو قول الراجز الذي لا يعرف :

علفتها تبناً وماءً بارداً{[414]}

وقول عبد الله بن الزِّبَعْرَى :

يا ليت زوجَككِ قد غدا *** متقلداً سيفاً ورمحاً

أي وممسكاً رمحاً وهو الذي درج عليه في « الكشاف » . وقيل الواو للمعية . و { الإِيمانَ } مفعول معه .

وعندي أن هذا أحسن الوجوه ، وإن قلّ قائلوه . والجمهور يجعلون النصب على المفعول معه سماعياً فهو عندهم قليل الاستعمال فتجنبوا تخريج آيات القرآن عليه حتى ادعى ابن هشام في « مُغني اللبيب » أنه غير واقع في القرآن بيقين . وتأول قوله تعالى : { فأَجمِعُوا أمرَكم وشركاءَكم } [ يونس : 71 ] ، ذلك لأن جمهور البصريين يشترطون أن يكون العامل في المفعول معه هو العاملَ في الاسم الذي صاحَبَه ولا يرون واو المعية ناصبة المفعول معه خلافاً للكوفيين والأخفش فإن الواو عندهم بمعنى ( مع ) . وقال عبد القاهر : منصوب بالواو .

والحق عدم التزام أن يكون المفعول معه معمولاً للفعل ، ألا ترى صحة قول القائل : استوى الماء والخشبةَ . وقولهم : سرْتُ والنيلَ ، وهو يفيد الثناء عليهم بأن دار الهجرة دارُهم آووا إليها المهاجرين لأنها دار مؤمنين لا يماثلها يومئذٍ غيرها .

وبذلك يتضح أن متعلق { من قبلهم } فعل { تبوؤا } بمفرده ، وأن المجرور المتعلق به قيدٌ فِيه دون ما ذكر بعد الواو لأن الواو ليست واو عطف فلذلك لا تكون قائمة مقام الفعل السابق لأن واو المعية في معنى ظرف فلا يعلق بها مجرور .

وفي ذكر الدار ( وهي المدينة ) مع ذكر الإِيمان إيماء إلى فضيلة المدينة بحيث جعل تبوّءهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإِيمان ولعل هذا هو الذي عناه مالك رحمه الله فيما رواه عنه ابن وهب قال : سمعت مالكاً يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق . فقال : إن المدينة تبوّئت بالإِيمان والهجرة وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ثم قرأ : { والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم } الآية .

وجملة { يحبون من هاجر إليهم } حال من الذين تَبَوَّؤُوا الدار ، وهذا ثناء عليهم بما تقرر في نفوسهم من أخوة الإِسلام إذ أحبوا المهاجرين ، وشأن القبائل أن يتحرجوا من الذين يهاجرون إلى ديارهم لمضايقتهم .

ومن آثار هذه المحبة ما ثبت في « الصحيح » من خبر سعد بن الربيع مع عبد الرحمان بن عوف إذ عرض سعد عليه أن يقاسمه ماله وأن يَنزل له عن إحدى زوجتيه ، وقد أسكنوا المهاجرين معهم في بيوتهم ومنحوهم من نخيلهم ، وحسبك الأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار .

وقوله : { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } أريد بالوجدان الإِدراك العقلي ، وكنى بانتفاء وجدان الحاجة عن انتفاء وجودها لأنها لو كانت موجودة لأدركوها في نفوسهم وهذا من باب قول الشاعر :

ولا ترى الضبّ بها ينجحر

والحاجة في الأصل : اسم مَصدرِ الحَوْج وهو الاحتياج ، أي الافتقار إلى شيء ، وتطلق على الأمر المحتاج إليه من إطلاق المصدر على اسم المفعول ، وهي هنا مجاز في المأْرب والمرادِ ، وإطلاق الحاجة إلى المأرب مجاز مشهور ساوى الحقيقة كقوله تعالى : { ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم } [ غافر : 80 ] ، أي لتبلغوا في السفر عليها المأْرب الذي تسافرون لأجله ، وكقوله تعالى : { إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها } [ يوسف : 68 ] أي مأربا مُهمّا وقول النابغة :

أيامَ تخبرني نُعْمٌ وأَخْبِرُها *** ما أكتُم الناسَ من حاجِي وإسراري

وعليه فتكون ( مِن ) في قوله : { مما أوتوا } ابتدائية ، أي مأرباً أو رغبة ناشئة من فَيْء أُعْطِيهُ المهاجرون . والصدور مراد بها النفوس جمع الصدر وهو الباطن الذي فيه الحواس الباطنة وذلك كإطلاق القلب على ذلك .

و ( ما أوتوا ) هو فيء بني النضير .

وضمير { صدورهم } عائد إلى { الذين تَبَوَّؤُا الدار } ، وضمير { أوتوا } عائد إلى { من هاجر إليهم } ، لأن من هاجر جماعة من المهاجرين فروعي في ضمير معنى ( مَنْ ) بدون لفظها . وهذان الضميران وإن كانا ضميري غيبة وكانا مقتربَين فالسامع يرد كل ضمير إلى معاده بحسب السياق مثل ( ما ) في قوله تعالى : { وعمروها أكثر مما عمروها } في سورة [ الروم : 9 ] . وقول عباس بن مرداس يذكر انتصار المسلمين مع قومه بني سُليم على هَوازن :

عُدنا ولولا نَحنُ أحدَق جمعهم *** بالمسلمين وأحرزوا ما جمَّعوا

( أي أحرز جيش هوازن ما جمّعه جيش المسلمين ) .

والمعنى : أنهم لا يخامر نفوسهم تشوف إلى أخذ شيء مما أوتيه المهاجرون من فيْء بني النضير .

ويجوز وجه آخر بأن يحمل لفظ حاجة على استعماله الحقيقي اسم مصدر الاحتياج فإن الحاجة بهذا المعنى يصح وقوعها في الصدور لأنها من الوجدانيات والانفعالات . ومعنى نفي وجدان الاحتياج في صدورهم أنهم لفرط حبهم للمهاجرين صاروا لا يخامر نفوسهم أنهم مفتقرون إلى شيء مما يُؤتاه المهاجرون ، أي فهم أغنياء عما يؤتاه المهاجرون فلا تستشرف نفوسهم إلى شيء مما يؤتاه المهاجرون بَلْهَ أن يتطلبوه .

وتكون ( مِن ) في قوله تعالى : { مما أوتوا } للتعليل ، أي حاجة لأجل ما أوتيه المهاجرون ، أو ابتدائية ، أي حاجة ناشئة عما أوتيه المهاجرون فيفيد انتفاء وجدان الحاجة في نفوسهم وانتفاء أسباب ذلك الوجدان ومناشئِه المعتادة في الناس تبعاً للمنافسة والغبطة ، وقد دل انتفاء أسباب الحاجة على متعلق حاجة المحذوف إذ التقدير : ولا يجدون في نفوسهم حاجة لشيء أوتيه المهاجرون .

والإيثار : ترجيح شيء على غيره بمكرمة أو منفعة .

والمعنى : يُؤثرونَ على أنفسهم في ذلك اختياراً منهم وهذا أعلى درجة مما أفاده قوله : { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } فلذلك عقب به ولم يُذكر مفعول { يُؤثِرونَ } لدلالة قوله : { مما أوتوا } عليه .

ومن إيثارهم المهاجرين ما روي في « الصحيح » أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الأنصار ليقطع لهم قطائع بنخل البحرين فقالوا : لا إلا أن تقطع لإِخواننا من المهاجرين مثلها .

وإما إيثار الواحد منهم على غيره منهم فما رواه البخاري عن أبي هريرة قال : « أتى رجل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أصابني الجهد . فأرسل في نسائه فلم يجد عندهنّ شيئاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألاَ رجل يُضيف هذا الليلةَ رحمه الله ، فقام رجل من الأنصار ( هو أبو طلحة ) فقال : أنا يا رسول الله ، فذهب إلى أهله فقال لامرأته : هذا ضيف رسول الله لا تدَّخريه شيئاً ، فقالت : والله ما عندي إلا قُوتُ الصِبية . قال : فإذا أراد الصبية العَشاء فنوِّميهم وتعالَي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة . فإذا دخل الضيف فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج تُري أنككِ تصلحينه فأطفئيه وأَرِيه أنَّا نأكل . فقعدوا وأكل الضيف .

وذكرت قصص من هذا القبيل في التفاسير ، قيل : نزلت هذه الآية في قصة أبي طلحة وقيل غير ذلك .

وجملة { ولو كان بهم خصاصة } في موضع الحال .

و { لو } وصلية وهي التي تدل على مجرد تعليق جوابها بشرط يفيد حالة لا يُظنّ حصول الجواب عند حصولها . والتقدير : لو كان بهم خصاصة لآثروا على أنفسهم فيُعلم أن إيثارهم في الأحوال التي دون ذلك بالأحرى دون إفادة الامتناع . وقد بينا ذلك عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } في سورة [ آل عمران : 91 ] .

والخصاصة : شدة الاحتياج .

وتذكير فعل { كان } لأجل كون تأنيث الخصاصة ليس حقيقياً ، ولأنه فُصل بين { كان } واسمها بالمجرور . والباء للملابسة .

وجملة { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } تذييل ، والواو اعتراضية ، فإن التذييل من قبيل الاعتراض في آخر الكلام على الرأي الصحيح . وتذييل الكلام بذكر فضل من يوقون شح أنفسهم بعد قوله : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } يشير إلى أن إيثارهم على أنفسهم حتى في حالة الخصاصة هو سلامة من شح الأنفس فكأنه قيل لسلامتهم من شح الأنفس { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } .

والشح بضم الشين وكسرها : غريزة في النفس بمَنْع ما هو لها ، وهو قريب من معنى البخل . وقال الطيبي : الفرق بين الشح والبخل عسير جداً وقد أشار في « الكشاف » إلى الفرق بينهما بما يقتضي أن البخل أثر الشح وهو أن يمنع أحد ما يراد منه بَذْلُه وقد قال تعالى : { وأحضرت الأنفس الشح } [ النساء : 128 ] أي جعل الشح حاضراً معها لا يفارقها ، وأضيف في هذه الآية إلى النفس لذلك فهو غريزة لا تسلم منها نفس .

وفي الحديث في بيان أفضل الصدقة « أن تصَّدَّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمُل الغِنى » ولكن النفوس تتفاوت في هذا المقدار فإذا غلب عليها بمنع المعروف والخير فذلك مذموم ويتفاوت ذمه بتفاوت ما يمنعه . قال وقد أحسن وصفه من قال ، لم أقف على قائله :

يمارس نفساً بين جَنْبَيْه كَزَّةً *** إذا هَمَّ بالمعروف قالت له مهلاً

فمن وقي شح نفسه ، أي وُقي من أن يكون الشح المذموم خُلقاً له ، لأنه إذا وُقي هذا الخُلقَ سلِم من كل مواقع ذمه . فإن وقي من بعضه كان له من الفلاح بمقدار ما وُقيه .

واسم الإِشارة لتعظيم هذا الصنف من الناس .

وصيغة القصر المؤداة بضمير الفصل للمبالغة لكثرة الفلاح الذي يترتب على وقاية شح النفس حتى كأن جنس المفلح مقصور على ذلك المُوقَى .

ومن المفسرين من جعل { والذين تبوؤا الدار } ابتداء كلام للثناء على الأنصار بمناسبة الثناء على المهاجرين وهؤلاء لم يجعلوا للأنصار حظاً في ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى وقصروا قوله : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } [ الحشر : 7 ] على قرى خاصة هي : قريظة . وفَدَك ، وخيبر . والنفع ، وعُرينة ، ووادي القُرى ، ورووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه فيئَها قال للأنصار : " إن شئتم قاسمتم المهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذا " ؟ فقالوا : بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة ، فنزلت آيةُ { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } الآية [ الحشر : 7 ] .

ومنهم من قصر هذه الآية على فَيء بني النضير وكل ذلك خروج عن مهيع انتظام آي هذه السورة بعضها مع بعض وتفكيك لنظم الكلام وتناسبه مع وهن الأخبار التي رووها في ذلك فلا ينبغي التعويل عليه . وعلى هذا التفسير يكون عطف { والذين تبوؤا الدار } عطفَ جملةٍ على جملة ، واسم الموصول مبتدأ وجملة { يحبون من هاجر إليهم } خبراً عن المبتدأ .


[414]:- هو من شواهد النحو. والمشهور أن تمامه: حتى شتت همَّالة عيناها وفي خزانة الأدب عن حاشية الشيرازي واليمني للكشاف: أنه عجز رجز وأن صدره: لما حططت الرجل عنها وأراد قال: ورأيت في حاشية نسخة صحيحة من صحاح الجوهري أنه لذي الرمة ولم أجده في ديوانه.