ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بعتاب يحمل فى طياته ثوب التأديب والإرشاد والتأنيب ، لمن آثر مطالب الدنيا على مطالب الآخرة فقال - تعالى - : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ . . } .
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : يعاتب - تبارك وتعالى - على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة ، التى قدمت المدينة يومئذ ، فقال : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً . . } .
فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن جابر قال : قدمت عِيرٌ - أى : تجارة - المدينة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة - فخرج الناس ، وبقى اثنا عشر رجلا ، فنزلت هذه الآية .
وفى رواية عن جابر - أيضا - أنه قال : " بينما النبى - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة ، فقدمت عير إلى المدينة ، فابتدرها الناس ، حتى لم يبق مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنا عشر رجلا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " والذى نفسى بيده ، لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد ، لسال بكم الوادى نارا " ونزلت هذه الآية . . "
وفى رواية أن الذين بقوا فى المسجد كانوا أربعين ، وأن العير كانت لعبد الرحمن بن عوف ، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر .
وفى رواية أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب ، فقدم دحية الكلى بتجارة له . فتلقاه أهله بالدفوف . فخرج الناس .
و " إذا " فى قوله - تعالى - : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً . . } ظرف للزمان الماضى المجرد عن الشرط ، لأن هذه الآية نزلت على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد أن انفض عنه من انفض وهو يخطب وقوله : { انفضوا } من الانفضاض ، بمعنى التفرق . يقال : انفض فلان عن فلان إذا تركه وانصرف عنه ، وهو من الفض ، بمعنى كسر الشىء والتفريق بين أجزائه .
والضمير فى قوله { إِلَيْهَا } يعود للتجارة ، وكانت عودته إليها دون اللهو ، لأن الانفضاض كان لها بالأصالة ، والمراد باللهو هنا : فرحهم بمجىء التجارة واستقبالهم لها بالدفوف ، لأنهم كانوا فى حالة شديدة من الفقر وغلاء الأسعار .
والتعبير بأو يشير إلى أن بعض المنفضين قد انفضوا من أجل التجارة ، وأن البعض الآخر قد انفض من أجل اللهو .
قال الجمل فى حاشيته : والذى سوغ لهم الخروج وترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، أنهم ظنوا أن الخروج بعد تمام الصلاة جائز ، لانقضاء المقصود وهو الصلاة ، لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - فى أول الإسلام يصلى الجمعة قبل الخطبة كالعيدين ، فلما وقعت هذه الواقعة ، ونزلت الآية ، قدم الخطبة وأخر الصلاة .
وقوله - سبحانه - : { وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } جملة حالية من فاعل { انفضوا } والمقصود بها توبيخ على هذا التصرف ، حيث تركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا يخطب على المبنر ، وانصرفوا إلى التجارة واللهو .
وقوله - سبحانه - : { قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة والله خَيْرُ الرازقين } إرشاد لهم إلى ما هو الأنفع والأبقى والأكرم لهم .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الذين انفضوا عنك وأنت تخطب . . . قل لهم : ما عند الله - تعالى - من ثواب ومن عطاء خير من اللهو الذى يشغلكم عن ذكر الله ، ومن التجارة التى تبتغون من ورائها الربح المادى ، والمنافع العاجلة .
والله - تعالى - هو خير الرازقين لأنه - سبحانه - هو وحده الذى يقسم الأرزاق ، وهو الذى يعطى ويمنع ، كما قال - سبحانه - : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العزيز الحكيم } وقدمت التجارة على اللهو فى صدر الآية ، لأن رؤيتها كانت الباعث الأعظم على الانفضاض إليها ، وترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائما يخطب على المنبر ، ولم يبق معه إلا عدد قليل من أصحابه .
وأخرت فى آخر الآية وقدم اللهو عليها ، ليكون ذمهم على انفضاضهم أشد وأوجع ، حتى لا يعودوا إلى مثل ذلك .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :
1 - فضل يوم الجمعة ، وفضل صلاة يوم الجمعة ، والتحذير من ترك أدائها .
ومن الأحاديث التى وردت فى هذا المعنى ، ما رواه مسلم وأبو داود والنسائى عن أبى هرير ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمع ، فيه خلق آدم . وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا فى يوم الجمعة " .
وروى الشيخان عن أبى هريرة أنه سمع النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول : " نحن الآخرون - أى : زمنا - السابقون يوم القيامة قبل غيرهم - ، بيد أنهم - أى : اليهود والنصارى - أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، ثم هذا يومهم الذى فرض عليهم - أى : تعظيمه - فاختلفوا فيه فهدانا الله ، فالناس لنا فيه تبع : اليهود غدا - أى : السبت - والنصارى بعد غد - أى : الأحد - " .
وروى مسلم والنسائى عن ابن عمر أنه سمع النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواد مبره : " لينتهين أقوام عن وَدْعِهم الجمعات - أى : تركهم صلاة الجمعة - أو ليختمن الله على قلوبهم ، ثم ليكونن من الغافلين .
قال القربطى ما ملخصه : وإنما سميت الجمعة جمعة ، لأنها مشتقة من الجمع حيث يجتمع الناس فيها للصلاة . . . وكان يقال ليوم الجمعة : العَرُوبة . .
قال البيهقى : وروينا عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب الزهرى ، أن مصعب بن عمير ، كان أول من جمَّع الجمعة بالمدينة بالمسلمين ، قبل أن يهاجر إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ثم قال القرطبى : وأما أول جمعة جمعها - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه ، قال أهل السير والتاريخ : قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجرا حتى نزل بقباء ، على بنى عمروا بن عوف ، يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى - ومن تلك السنة يعد التاريخ - فأقام بقباء إلى يوم الخميس ، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة ، فأدركته الجمعة فى بنى سالم بن عوف ، فى بطن وادٍ لهم ، فجمع بهم وخطب ، وهى أول خطبة خطبها بالمدينة ، وقال فيها : الحمد لله ، أحمده وأستعينه ، وأستغفره ، وأستهديه . . .
2 - الآية الكريمة وإن كانت قد أمرت المؤمنين بالسعى إلى صلاة الجمعة عند النداء لها ، إلا أن هناك أحاديث متعددة تحض على التبكير بالحضور إليها ، وبالغسل لها ، وبمس الطب ، وبالحضور إليها على أحسن حالة . . .
ومن تلك الأحاديث ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة - أى : كغسل الجنابة - ثم راح إلى المسجد ، فكأنما قرب بدنة - أى : ناقة ضخمة . . . . ومن راح فى الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح فى الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن - أى له قرون - ومن راح فى الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح فى الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر " .
وروى ابن ماجه عن ابن مسعود قال : سمعت النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الناس يجلسون يوم القيامة على قدر تراوحهم إلى الجمعات ، الأول ثم الثانى ثم الثالث ثم الرابع ، وما رابع أربعة من الله ببعيد " .
وروى الشيخان عن أبى سعيد الخدرى ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " على كل مسلم الغسل يوم الجمعة ، ويلبس من صالح ثيابه ، وإن كل طيب مس منه . . . " .
3 - أخذ العلماء من قوله - تعالى - : { . . . إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع . . . } أن صلاة الجمعة فريضة محكمة ، وأن السعى لأدائها واجب ، وأن ترك ذلك محرم شرعا .
ومن المعروف بين العلمءا أن الأمر يقتضى الوجوب ، ما لم يوجد له صارف ، ولا صارف له هنا . . .
قال الإمام القرطبى : فرض الله - تعالى - الجمعة على كل مسلم ، ردا على من يقول : إنها فرض على الكفاية ، ونقل عن بعض الشافعية أنها سنة .
وجمهور الأمة الأئمة أنها فرض على الأعيان ، لقوله - تعالى - : { . . . إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع . . . } .
وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لينتهِيَنَّ أقوامٌ عن وَدْعِهم الجُمُعَاتِ أو ليخَتِمَنَّ الله على قلوبهم ثم ليكونُنَّ من الغافلين " .
وهذا حجة واضحة فى وجوب الجمعة وفرضيتها . .
قال بعض العلماء : جاء فى الآية الكريمة الأمر بالسعى ، والأمر للوجوب فيكون السعى واجبا ، وقد أخذ العلماء من ذلك أن الجمعة فريضة ، لأنه - سبحانه - قد رتب الأمر للذكر على النداء للصلاة ، فأذا كان المراد بالذكر هو الصلاة ، فالدلالة ظاهرة ، لأنه لا يكون السعى لشىء واجبا ، حتى يكون ذلك الشىء واجبا .
وأما إذا كان المراد بالذكر الخطبة فقط ، فهو كذلك لأن الخطبة شرط الصلاة ، وقد أمر بالسعى إليه ، والأمر للوجوب ، فإذا وجب السعى للمقصود تبعا ، فما ذلك إلا لأن المقصود بالذات واجب . .
كما أن الاشتغال بالبيع أو الشراء وقت النداء محرم ، لأن الأمر للوجوب ، وقال بعضهم : هو مكروه كراهة تحريم .
ومما يدل على أن صلاة الجمعة فريضة محكمة ، وأن السعى إليها واجب ، وأن الاشتغال عنها بالبيع أبو الشراء محرم ، ما جاء فى الأحاديث من الأمر بالمحافظة عليها ، ومن التحذير من تركها ، ومن ذلك ما رواه أبو داود من حديث أبى الجعد ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من ترك ثلاث جمع تهاونا بها ، طبع الله على قلبه " .
4 - قوله - تعالى - : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض . . } يدل دلالة واضحة ، على سمو شريعة الإسلام ، وعلى سماحتها ويسرها ، وجمعها بين مطالب الدنيا ومطالب الآخرة .
ومع أن هذا الأمر بالانتشار بعد الصلاة للإباحة - كما سبق أن قلنا - إلا أن بعض السف كان إذا انتهت الصلاة ، خرج من المسجد ، ودار فى السوق ساعة ، ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء أن يصلى .
قال الإمام ابن كثير : كان عراك بن مالك - أحد كبار التابعين - أحد كبار التابعين - إذا صلى الجمعة ، انصرف فوقف على باب المسجد وقال : اللهم إنى أجبت دعوتك وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتنى ، فارزقنى من فضلك وأنت خير الرازقين .
هذا ، وهناك أحكام أخرى توسع المفسرون والفقهاء فى الحديث عنها ، فليرجع إليها من شاء المزيد من معرفة هذه الأحكام والآداب .
( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما . قل : ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة . والله خير الرازقين ) . .
عن جابر - رضي الله عنه - قال : " بينا نحن نصلي مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إذ أقبلت عير تحمل طعاما ، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلا اثنا عشر رجلا ، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما . فنزلت : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما ) . . "
وفي الآية تلويح لهم بما عند الله وأنه خير من اللهو ومن التجارة . وتذكير لهم بأن الرزق من عند الله ( والله خير الرازقين ) . .
وهذا الحادث كما أسلفنا يكشف عن مدى الجهد الذي بذل في التربية وبناء النفوس حتى انتهت إلى إنشاء تلك الجماعة الفريدة في التاريخ . ويمنح القائمين على دعوة الله في كل زمان رصيدا من الصبر على ما يجدونه من ضعف ونقص وتخلف وتعثر في الطريق . فهذه هي النفس البشرية بخيرها وشرها . وهي قابلة أن تصعد مراقي العقيدة والتطهر والتزكي بلا حدود ، مع الصبر والفهم والإدراك والثبات والمثابرة ، وعدم النكوص من منتصف الطريق . والله المستعان
يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ ، فقال تعالى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } أي : على المنبر تخطب . هكذا ذكره غير واحد من التابعين ، منهم : أبو العالية ، والحسن ، وزيد بن أسلم ، وقتادة .
وزعم مقاتل بن حيان : أن التجارة كانت لدحية بن خليفة قبل أن يسلم ، وكان معها طبل ، فانصرفوا إليها وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا على المنبر إلا القليل منهم . وقد صَحّ بذلك الخبر ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا ابن إدريس ، عن حُصَين ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر قال : قَدمَت عيرٌ المدينة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلا فنزلت : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا }
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث سالم ، به{[28860]}
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا زكريا بن يحيى ، حدثنا هُشَيم ، عن حُصَين ، عن سالم بن أبي الجعد وأبي سفيان ، عن جابر بن عبد الله قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فقدمت عيرٌ إلى المدينة ، فابتدرها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد ، لسال بكم الوادي نارًا " ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } وقال : كان في الاثني عشر الذين ثَبَتُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو بكر ، وعمر ، رضي الله عنهما{[28861]} .
وفي قوله : { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } دليل على أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائما . وقد رَوَى مسلم في صحيحه عن جابر بن سَمُرَة قال : كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما ، يقرأ القرآن ويذكر الناس .
ولكن هاهنا شيء ينبغي أن يُعلَم وهو : أن هذه القصة قد قيل : إنها كانت لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدّم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة ، كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل : حدثنا محمود بن خالد ، عن الوليد ، أخبرني أبو معاذ بُكَير بن مَعروف ، أنه سمع مُقَاتل بن حَيَّان يقول : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين ، حتى إذا كان يوم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، وقد صلى الجمعة ، فدخل رجل فقال : إن دحيةَ بن خليفة قد قدمَ بتجارة {[28862]} يعني : فانفضوا ، ولم يبق معه إلا نفر يسير .
وقوله : { قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ } أي : الذي عند الله من الثواب في الدار الآخرة { خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } أي : لمن توكل عليه ، وطلب الرزق في وقته .
وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب للجمعة فمرت عليه عير تحمل الطعام فخرج الناس إليهم إلا اثني عشر رجلا فنزلت وإفراد التجارة برد الكناية لأنها المقصودة فإن المراد من اللهو الطبل الذي كانوا يستقبلون به العير والترديد للدلالة على أن منهم من انفض لمجرد سماع الطبل ورؤيته أو للدلالة على أن الانفضاض إلى التجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموما كان الانفضاض إلى اللهو أولى بذلك وقي تقديره إذا رأوا تجارة انفضوا إليها وإذا رأوا لهوا انفضوا إليه وتركوك قائما أي على المنبر قل ما عند الله من الثواب خير من اللهو ومن التجارة فإن ذلك محقق مخلد بخلاف ما تتوهمون من نفعهما والله خير الرازقين فتوكلوا عليه واطلبوا الرزق منه .
عطف على جملة { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } [ الجمعة : 9 ] الآية . عُطف التوبيخ على ترك المأمور به بعد ذكر الأمر وسُلكت في المعطوفة طريقة الالتفات لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأنهم أحرياء أن يصرف للخطاب عنهم فحرموا من عز الحضور . وأخبر عنهم بحال الغائبين ، وفيه تعريض بالتوبيخ .
ومقتضى الظاهر أن يقال : وإذا رأيتم تجارة أو لهواً فلا تنفضّوا إليها . ومن مقتضيات تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر هنا أن يكون هذا التوبيخ غير شامل لجميع المؤمنين فإن نفراً منهم بَقُوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين خطبته ولم يخرجوا للتجارة ولا للهو .
وفي « الصحيح » عن جابر بن عبد الله قال : « بينما نحن نصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يوم الجمعة إذْ أقبلتْ عير من الشام تحمل طعاماً فانفتل الناس إليها حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم » . وفي رواية : وفيهم أبو بكر وعمر ، فأنزل الله فيهم هذه الآية التي في الجمعة { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً } اه . وقد ذكروا في روايات أخرى أنه بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمان بن عوف ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسعيد بن زيد ، وبلال ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وجابر بن عبد الله ، فهؤلاء أربعة عشر . وذكر الدارقطني في حديث جابر : « أنه قال ليس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعون رجلاً » .
وعن مجاهد ومقاتل : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقدم دِحية بن خليفة الكلبي بتجارة فتلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس » . وفي رواية « أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد فقدم دحية بتجارة من زيت الشام » . وفي رواية « وطعام وغير ذلك فخرج الناس من المسجد خشية أن يُسبقوا إلى ذلك » . وقال جابر بن عبد الله « كانت الجواري إذا نَكحن يمرّرن بالمزامير والطَّبْل فانفضّوا إليها » ، فلذلك قال الله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً } ، فقد قيل إن ذلك تكرر منهم ثلاث مرات ، فلا شك أن خروجهم كان تارة لأجل مجيء العِير وتارة لحضور اللهو .
وروي أن العِير نزلت بموضع يقال له : أحجار الزيت فتوهم الراوي فقال : بتجارة الزيت .
وضمير { إليها } عائد إلى التجارة لأنها أهم عندهم من اللهو ولأن الحدث الذي نزلت الآية عنده هو مجيء عِير دحية من الشام . واكتفى به عن ضمير اللهو كما في قول قيس بن الخطيم ، أو عمرو بن الحارث بن امرىء القيس :
نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راضٍ والرأيُ مختلف
ولعل التقسيم الذي أفادته { أو } في قوله : { أو لهواً } تقسيم لأحوال المنفضّين إذ يكون بعضهم من ذوي العائلات خرجوا ليَمْتَاروا لأهلهم ، وبعضهم من الشباب لا همة لهم في الميرة ولكن أحبوا حضور اللهو .
و { إذا } ظرف للزمان الماضي مجرد عن معنى الشرط لأن هذا الانفضاض مضى . وليس المراد أنهم سيعودون إليه بعد ما نزل هذا التوبيخ وما قبله من الأمر والتحريض . ومثله قوله تعالى : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } [ النساء : 83 ] وقوله : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا } [ التوبة : 92 ] الآية .
والانفضاض : مطاوع فَضَّه إذا فرقه ، وغلب إطلاقه على غير معنى المطاوعة ، أي بمعنى مطلق كما تفرق . قال تعالى : { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا } [ المنافقون : 7 ] .
وقوله : { أو لهواً } فيه للتقسيم ، أي منهم من انفضّ لأجل التجارة ، ومنهم من انفضّ لأجل اللهو ، وتأنيث الضمير في قوله : { إليها } تغليب للفظ ( تجارة ) لأن التجارة كانت الداعي الأقوى لانفضاضهم .
وجملة { وتركوك قائماً } تفظيع لفعلهم إذ فرطوا في سماع وعظ النبي صلى الله عليه وسلم أي تركوك قائماً على المنبر . وذلك في خطبة الجمعة ، والظاهر أنها جملة حالية ، أي تركوك في حال الموعظة والإِرشاد فأضاعوا علماً عظيماً بانفضاضهم إلى التجارة واللهو . وهذه الآية تدل على وجوب حضور الخطبة في صلاة الجمعة إذ لم يقل : وتركوا الصلاة .
وأمر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم أن يعظهم بأن ما عند الله من الثواب على حضور الجمعة خير من فائدة التجارة ولذة اللهو . وكذلك ما أعد الله من الرزق للذين يؤثرون طاعة الله على ما يشغل عنها من وسائل الارتزاق جزاء لهم على إيثارهم جزاء في الدنيا قبل جزاء الآخرة ، فرب رزق لم ينتفع به الحريص عليه وإن كان كثيراً ، وربّ رزق قليل ينتفع به صاحبه ويعود عليه بصلاح ، قال تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] . وقال حكاية عن خطاب نوع قومه { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفّاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً } [ نوح : 10 12 ] .
وذيل الكلام بقوله : { والله خير الرازقين } لأن الله يرزق الرزق لمن يرضى عنه سليماً من الأكدار والآثام ، ولأنه يرزق خير الدنيا وخير الآخرة ، وليس غير الله قادراً على ذلك ، والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله وهو العالم بالسرائر .