التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ} (6)

وقوله : { مِنَ الجنة والناس } زيادة بيان للذي يوسوس فى صدور الناس ، وأن الوسوسة بالسوء تأتي من نوعين من المخلوقات : تأتي من الشياطين المعبر عنهم بالجِنّةِ . . وتأتي من الناس .

وقدم - سبحانه - الجِنَّة على الناس ؛ لأنهم هم أصل الوسواس ؛ إذ إنهم مختفون عنا ، ولا نراهم ، كما قال - تعالى - : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } فلفظ الجِنَّة - بكسر الجيم - مأخوذ من الجَنِّ - بفتح الجيم - على معنى الخفاء والاستتار .

والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - أعوذ وأعتصم وأستجير ، برب الناس ، ومالكهم ومعبودهم الحق ، من شر الشيطان الموسوس بالشر ، والذي يخنس ويتأخر ويندحر ، إذا ما تيقظ له الإِنسان ، واستعان عليه بذكر الله - تعالى - .

والذي من صفاته - أيضا - أنه يوسوس فى صدور الناس بالسوء والفحشاء ، حيث يلقى فيها خفية ، ما يضلها عن طريق الهدى والرشاد .

وهذا الوسواس الخناس ، قد يكون من الجن ، وقد يكون من الإِنس ، فعليك - أيها الرسول الكريم - أن تستعيذ بالله - تعالى - من شر النوعين جميعا .

قال - تعالى - : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً . . . } قال قتادة : إن من الجن شياطين ، وإن من الإِنس شيطاطين ، فنعوذ بالله من شياطين الإِنس والجن .

وقال الإِمام ابن كثير : هذه ثلاث صفات من صفات الله - عز وجل - : الربوبية ، والملك ، والألوهية .

فهو رب كل شيء ومليكه وإلهه ، فجميع الأشياء مخلوقة له . . فأمر سبحانه المستعيذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات ، من شر الوسواس الخناس ، وهو الشيطان الموكل بالإِنسان ، فإنه ما من أحد من بنى آدم ، إلا وله قرين يزين له الفواحش . . والمعصوم من عمصه الله .

ختام السورة:

وقد ثبت فى الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما منكم من أحد إلا قد وكل به قرينه " قالوا : وأنت يا رسول الله ؟ قال : " نعم ، إلا أن الله - تعالى - أعاننى عليه فأسلم ، فلا يأمرنى إلا بخير " " .

ومن الأحاديث التى وردت فى فضل هذه السور الثلاث : الإِخلاص والمعوذتين ، ما أخرجه البخارى عن عائشة - رضى الله عنها - " أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة ، جمع كفيه ثم ينفث فيهما ، فيقرأ هذه السور ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، ويبدأ بها على رأسه ووجهه ، وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ} (6)

ووسوسة الجنة نحن لا ندري كيف تتم ، ولكنا نجد آثارها في واقع النفوس وواقع الحياة . ونعرف أن المعركة بين آدم وإبليس قديمة قديمة ؛ وأن الشيطان قد أعلنها حربا تنبثق من خليقة الشر فيه ، ومن كبريائه وحسده وحقده على الإنسان ! وأنه قد استصدر بها من الله إذنا ، فأذن فيها - سبحانه - لحكمة يراها ! ولم يترك الإنسان فيها مجردا من العدة . فقد جعل له من الإيمان جنة ، وجعل له من الذكر عدة ، وجعل له من الاستعاذة سلاحا . . فإذا أغفل الإنسان جنته وعدته وسلاحه فهو إذن وحده الملوم !

عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا غفل وسوس " .

وأما الناس فنحن نعرف عن وسوستهم الشيء الكثير . ونعرف منها ما هو أشد من وسوسة الشياطين !

رفيق السوء الذي يتدسس بالشر إلى قلب رفيقه وعقله من حيث لا يحتسب ومن حيث لا يحترس ، لأنه الرفيق المأمون !

وحاشية الشر التي توسوس لكل ذي سلطان حتى تتركه طاغية جبارا مفسدا في الأرض ، مهلكا للحرث والنسل !

والنمام الواشي الذي يزين الكلام ويزحلقه ، حتى يبدو كأنه الحق الصراح الذي لا مرية فيه .

وبائع الشهوات الذي يتدسس من منافذ الغريزة في إغراء لا تدفعه إلا يقظة القلب وعون الله .

وعشرات من الموسوسين الخناسين الذين ينصبون الأحابيل ويخفونها ، ويدخلون بها من منافذ القلوب الخفية التي يعرفونها أو يتحسسونها . . وهم شر من الجنة وأخفى منهم دبيبا !

والإنسان عاجز عن دفع الوسوسة الخفية . ومن ثم يدله الله على عدته وجنته وسلاحه في المعركة الرهيبة !

وهناك لفتة ذات مغزى في وصف الوسواس بأنه( الخناس ) . . فهذه الصفة تدل من جهة على تخفيه واختبائه حتى يجد الفرصة سانحة فيدب ويوسوس . ولكنها من جهة أخرى توحي بضعفه أمام من يستيقظ لمكره ، ويحمي مداخل صدره . فهو - سواء كان من الجنة أم كان من الناس - إذا ووجه خنس ، وعاد من حيث أتى ، وقبع واختفى . أو كما قال الرسول الكريم في تمثيله المصور الدقيق : " فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا غفل وسوس " . .

وهذه اللفتة تقوي القلب على مواجهة الوسواس . فهو خناس . ضعيف أمام عدة المؤمن في المعركة .

ولكنها - من ناحية أخرى - معركة طويلة لا تنتهي أبدا . فهو أبدا قابع خانس ، مترقب للغفلة . واليقظة مرة لا تغني عن اليقظات . . والحرب سجال إلى يوم القيامة ؛ كما صورها القرآن الكريم في مواضع شتى ، ومنها هذه الصورة العجيبة في سورة الإسراء :

" وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، فسجدوا إلا إبليس ، قال : أأسجد لمن خلقت طينا ؟ قال : أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا . قال : اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا . واستفزز من استطعت منهم بصوتك ، وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد ، وعدهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا . إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا " . .

وهذا التصور لطبيعة المعركة ودوافع الشر فيها - سواء عن طريق الشيطان مباشرة أو عن طريق عملائه من البشر - من شأنه أن يشعر الإنسان أنه ليس مغلوبا على أمره فيها فإن ربه وملكه وإلهه مسيطر على الخلق كله وإذا كان قد أذن لإبليس بالحرب فهو آخذ بناصيته . وهو لم يسلطه إلا على الذين يغفلون عن ربهم وملكهم وإلهم فأما من يذكرونه فهم في نجوة من الشر ودواعيه الخفية فالخير إذن يستند إلى القوة التي لا قوة سواها وإلى الحقيقة التي لا حقيقة غيرها يستند ودواعيه الخفية فالخير إذن يستند إلى القوة التي لا قوة سواها وإلى الحقيقة التي لا حقيقة غيرها . يستند إلى الرب الملك الإله . والشر يستند إلى وسواس خناس يضعف عن المواجهة ويخنس عند اللقاء وينهزم أمام العياذ بالله . .

وهذا أكمل تصور للحقيقة القائمة عن الخير والشر كما أنه أفضل تصور يحمي القلب من الهزيمة ويفعمه بالقوة والثقة والطمأنينة . .

والحمد لله أولا وأخيرا . وبه الثقة والتوفيق . . وهو المستعان المعين . . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ} (6)

وقوله : { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } هل هو تفصيل لقوله : { الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ } ثم بينهم فقال : { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } ؟ وهذا يقوي القول الثاني . وقيل قوله : { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } تفسير للذي يُوسوس في صدور الناس ، من شياطين الإنس والجن ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } [ الأنعام : 112 ] ، وكما قال الإمام أحمد :

حدثنا وَكِيع ، حدثنا المسعودي ، حدثنا أبو عُمَر الدمشقي ، حدثنا عبيد بن الخشخاش ، عن أبي ذر قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد ، فجلست ، فقال : " يا أبا ذر ، هل صليت ؟ " . قلت : لا . قال : " قم فصل " . قال : فقمت فصليت ، ثم جلست فقال : " يا أبا ذر ، تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن " . قال : قلت : يا رسول الله ، وللإنس شياطين ؟ قال : " نعم " . قال : قلت : يا رسول الله ، الصلاة ؟ قال : " خير موضوع ، من شاء أقل ، ومن شاء أكثر " . قلت : يا رسول الله ، فما الصوم ؟ قال : " فرض يجزئ ، وعند الله مزيد " . قلت : يا رسول الله ، فالصدقة ؟ قال : " أضعاف مضاعفة " . قلت : يا رسول الله ، أيها{[30918]} أفضل ؟ قال : " جُهد من مُقل ، أو سر إلى فقير " . قلت : يا رسول الله ، أي الأنبياء كان أول ؟ قال : " آدم " . قلت : يا رسول الله ، ونبي{[30919]} كان ؟ قال : " نعم ، نبي مُكَلَّم " . قلت : يا رسول الله ، كم المرسلون ؟ قال : " ثلثمائة وبضعة عشر ، جَمًّا غَفيرًا " . وقال مرة : " خمسة عشر " . قلت : يا رسول الله ، أيما أنزل عليك أعظم ؟ قال : " آية الكرسي : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }

ورواه النسائي ، من حديث أبي عمر الدمشقي ، به{[30920]} . وقد أخرج هذا الحديث مطولا جدًا أبو حاتم بن حبان في صحيحه ، بطريق آخر ، ولفظ آخر مطول جدًا{[30921]} فالله أعلم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن ذر بن عبد الله الهَمْداني ، عن عبد الله بن شداد ، عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني أحدث{[30922]} نفسي بالشيء لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أتكلم به . قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر ، الله أكبر ، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة " .

ورواه أبو داود والنسائي ، من حديث منصور - زاد النسائي : والأعمش - كلاهما عن أبي ذر ، به{[30923]} .

آخر التفسير ، ولله الحمد والمنة ، والحمد لله رب العالمين{[30924]} . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين{[30925]} . ورضي الله عن الصحابة أجمعين{[30926]} . حسبنا الله ونعم الوكيل .

وكان الفراغ منه في العاشر من جمادي الأولى سنة خمس وعشرين وثمانين . والحمد له وحده{[30927]} .


[30918]:في م : "فأيها".
[30919]:في م : "ونبيا".
[30920]:المسند (5/178) وسنن النسائي (8/275).
[30921]:صحيح ابن حبان برقم (94) "موارد" ، (1/287) "الإحسان" من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني ، عن أبيه عن جده ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، وقد قال ابن عدي عن هذا الحديث : "هذا الحديث منكر من هذا الطريق".
[30922]:في م : "لأحدث".
[30923]:المسند (1/235) وسنن أبي داود برقم (5112) وسنن النسائي الكبرى برقم (10503).
[30924]:في أ : "والحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى".
[30925]:في أ : "وسلم تسليما أبدا دائما إلى يوم الدين".
[30926]:في أ : "ورضي الله عن أصحاب رسول الله".
[30927]:في م : "آخر التفسير ويليه فضائل القرآن للمؤلف أيضا ، وبه يتم الكتاب إن شاء الله ، ولله الحمد والمنة على التمام ، إنه ولي الإنعام".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ} (6)

{ من الجنة والناس } بيان ل الوسواس أو الذي أو متعلق ب يوسوس أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنة والناس وقيل بيان ل الناس على أن المراد به ما يعم الثقلين وفيه تعسف إلا أن يراد به الناسي كقوله تعالى يوم يدع الداع فإن نسيان حق الله تعالى يعم الثقلين .

ختام السورة:

عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ المعوذتين فكأنما قرا الكتب التي أنزلها الله تبارك وتعالى .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ} (6)

وقد اندرج هذان المعنيان من الوسواس في قوله تعالى : { من الجنة والناس } أي من الشياطين ونفس الإنسان ، ويظهر أيضاً أن يكون قوله : { والناس } ، يراد به من يوسوس بخدعه من البشر ، ويدعو إلى الباطل ، فهو في ذلك كالشيطان . وكلهم قرأ { الناس } غير ممالة ، وروى الدوري عن الكسائي أنه أمال النون من { الناس } في حال الخفض ، ولا يميل في الرفع والنصب .

وقالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ونفث فهيما وقرأ : { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] والمعوذتين ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، فيبدأ برأسه ووجهه وما أقبل من جسده ، ففعل ذلك ثلاثاً{[12050]} .

وقال قتادة رحمه الله : إن من الناس شياطين ، ومن الجن شياطين ، فتعوذوا بالله من شياطين الإنس والجن .


[12050]:أخرجه البخاري في (فضائل القرآن) وأبو داود في (الأدب)، والترمذي في (الدعاء)، وأحمد في مسنده (6/116)، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ} (6)

و { مِن } في قوله : { من الجنة والناس } بيانية بينَتْ { الذي يوسوس في صدور الناس } بأنه جنس ينحلّ باعتبار إرادة حقيقته ، ومجازه إلى صنفين : صنف من الجنّة وهو أصله ، وصنف من الناس وما هو إلا تبع وولي للصنف الأول ، وجمَع الله هذين الصنفين في قوله : { وكذلك جعلنا لكل نبيء عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً } [ الأنعام : 112 ] .

ووجه الحاجة إلى هذا البيان خفاءُ ما ينجرّ من وسوسة نوع الإِنسان ، لأن الأمم اعتادوا أن يحذرهم المصلحون من وسوسة الشيطان ، وربما لا يخطر بالبال أن من الوسواس ما هو شر من وسواس الشياطين ، وهو وسوسة أهل نوعهم وهو أشد خطراً وهم بالتعوذ منهم أجدر ، لأنهم منهم أقرب وهو عليهم أخطر ، وأنهم في وسائل الضر أدخل وأقدر .

ولا يستقيم أن يكون { من } بياناً للناس إذ لا يطلق اسم { الناس } على ما يشمل الجن ومن زعم ذلك فقد أبْعَدَ .

وقُدم { الجنة } على { الناس } هنا لأنهم أصل الوسواس كما علمت بخلاف تقديم الإنس على الجن في قوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبيء عدواً شياطين الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] لأن خُبثاء الناس أشد مُخالطة للأنبياء من الشياطين ، لأن الله عصم أنبياءه من تسلط الشياطين على نفوسهم قال تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } [ الحجر : 42 ] فإن الله أراد إبلاغ وحيه لأنبيائه فزكّى نفوسهم من خبث وسوسة الشياطين ، ولم يعصمهم من لحاق ضر الناس بهم والكيد لهم لضعف خطره ، قال تعالى : { وإذْ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماركين } [ الأنفال : 30 ] ولكنه ضمن لرسله النجاة من كل ما يقطع إبلاغ الرسالة إلى أن يتم مراد الله .

والجنة : اسم جمع جني بياء النسب إلى نوع الجن ، فالجني الواحد من نوع الجن كما يقال : إنسيّ للواحد من الإِنس .

وتكرير كلمة { الناس } في هذه الآيات المرتين الأوليين باعتبار معنى واحد إظهارٌ في مقام الإِضمار لقصد تأكيد ربوبية الله تعالى ومِلكه وإلهيته للناس كلهم كقوله تعالى : { يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب } [ آل عمران : 78 ] .

وأما تكريره المرة الثالثة بقوله : { في صدور الناس } فهو إظهار لأجل بُعد المعاد .

وأما تكريره المرة الرابعة بقوله : { من الجنة والناس } فلأنه بيان لأحد صنفي الذي يوسوس في صدور الناس ، وذلك غير ما صَدْق كلمة { الناس } في المرّات السابقة .

والله يكفينا شر الفريقين ، وينفعنا بصالح الثقلين .

تم تفسير « سورة الناس » وبه تم تفسير القرآن العظيم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ} (6)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ من } شر { الجنة والناس } يعنى الجن والإنس ...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 5]

وقوله : { الّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ } يعني بذلك : الشيطان الوسواس ، الذي يوسوس في صدور الناس : جنهم وإنسهم .

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

أما وسواس الجِنة فهو وسواس الشيطان على ما قدمناه . وأما وسواس الناس ففيه وجهان : أحدهما : أنها وسوسة الإنسان من نفسه ، قاله ابن جريج . الثاني : أنه إغواء من يغويه من الناس .

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

{ من الجنة } أي : من الجن . وقوله : { والناس } أي : ومن الناس . والمعنى : أنه أمره بالاستعاذة من شياطين الجن والإنس ، والشيطان كل متمرد ، سواء كان جنيا أو إنسيا ...

التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :

{ من الجنة والناس } بيان للذي يوسوس ، وأنهم نوعان : إنس وجن . فالجني يوسوس في صدور الإنس ، والإنسي أيضا يوسوس في صدور الإنس . فالموسوس نوعان : إنس وجن ، فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب . وهذا مشترك بين الجن والإنس ، وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأذن ، والجني لا يحتاج إلى تلك الواسطة ؛ لأنه يدخل في ابن آدم ، ويجري منه مجرى الدم ....

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ من الجنة } أي الجن الذين في غاية الشر والتمرد والخفاء { والناس } أي أهل الاضطراب والذبذبة ، سواء كانوا من الإنس أو الجن ، فيكون المعنى أن الجن مسلط بعضهم على بعض ، كما هم مسلطون على الإنس أو الجن ، فيدخل شيطان الجن في الجني كما يدخل في الإنسي ، ويوسوس له ...

مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :

ومن دقائق القرآن ولطائفه في البلاغة ، أنه يقدم أحد الاسمين المتلازمين في آية ، لسر من أسرار البلاغة يقتضيها ذلك المقام ، ثم يؤخر ذلك المقدم في آية أخرى ، لسر آخر : فيقدم السماء على الأرض في مقام ، ويؤخرها عليها في مقام آخر . ومن هذا الباب تقديم الإنس على الجن ، في آية الأنعام ؛ لأن معرض الكلام في عداوتهم للأنبياء ، وهي من الإنس أظهر ، ودواعيها من التكذيب والإيذاء أوضح . شياطين الإنس أخطر : وفي آية " الناس " قدم الجنة على الناس ؛ لأن الحديث عن الوسوسة ، وهي من شياطين الجن أخفى وأدق ، وإن كانت من شياطين الإنس أعظم وأخطر وأدهى وأمر : فشيطان الجن يستخدم شيطان الإنس للشر والإفساد ، فيربى عليه ويكون شرا منه ؛ لأنه بمثابة السلاح الذي يفتك به ؛ ورب كلمة واحدة صغيرة يوحيها جني لإنسي ، ويوسوس إليه بتنفيذها ، فتتولد منها فتن ، ويتمادى شره من قرن إلى قرن ، ومن جيل إلى جيل . ...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ووسوسة الجنة نحن لا ندري كيف تتم ، ولكنا نجد آثارها في واقع النفوس وواقع الحياة . ونعرف أن المعركة بين آدم وإبليس قديمة قديمة ؛ وأن الشيطان قد أعلنها حربا تنبثق من خليقة الشر فيه ، ومن كبريائه وحسده وحقده على الإنسان ! وأنه قد استصدر بها من الله إذنا ، فأذن فيها - سبحانه - لحكمة يراها ! ولم يترك الإنسان فيها مجردا من العدة . فقد جعل له من الإيمان جنة ، وجعل له من الذكر عدة ، وجعل له من الاستعاذة سلاحا . . فإذا أغفل الإنسان جنته وعدته وسلاحه فهو إذن وحده الملوم ! ....

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وتكرير كلمة { الناس } في هذه الآيات المرتين الأوليين باعتبار معنى واحد إظهارٌ في مقام الإِضمار لقصد تأكيد ربوبية الله تعالى ومِلكه وإلهيته للناس كلهم كقوله تعالى : { يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب } [ آل عمران : 78 ] . وأما تكريره المرة الثالثة بقوله : { في صدور الناس } فهو إظهار لأجل بُعد المعاد . وأما تكريره المرة الرابعة بقوله : { من الجنة والناس } فلأنه بيان لأحد صنفي الذي يوسوس في صدور الناس ، وذلك غير ما صَدْق كلمة { الناس } في المرّات السابقة .

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

تنبيه على حقيقة هامّة هي إن «الوسواس الخناس » لا ينحصر وجوده في مجموعة معينة ، ولا في فئة خاصّة ؛ بل هو موجود في الجن والإنس . . . في كل جماعة وفي كل ملبس ، فلابدّ من الحذر منه أينما كان ، والاستعاذة بالله منه في كل أشكاله وصوره . أصدقاء السوء ، والجلساء المنحرفون ، وأئمة الظلم والضلال ، والولاة الجبابرة الطواغيت ، والكتاب والخطباء الفاسدون ، والمدارس الإِلحادية... ملاحظات:

ـ لماذا نستعيذ بالله ؟ ! الإَنسان معرض للانحراف في كل لحظة ، وحين يأمر الله نبيّه أن يستعيذ به من شر «الوسواس الخناس» ، فإن ذلك دليل على إمكان الوقوع في شراك الموسوسين الخناسين . مع أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مأمن من الانحراف بفضل الله ومدده الغيبي ، وخضوعه التام لله ، فالآيات تأمره أن يستعيذ بالله من شرّ الوسواس الخناس ، فما بالك بغيره من النّاس ! ولا يجوز للإِنسان أن ييأس أمام مخاوف الموسوسين . فملائكة الله تهبّ للأخذ بناصية المؤمنين والسائرين على طريق الله . فالمؤمنون ليسوا وحيدين في ساحة صراع الحق مع الباطل ؛ بل ملائكة الله في عونهم :{ إن الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا تتنزل عليهم الملائكة } . ولكن ، على أي حال ، لا يجوز للإِنسان أن يغتَرّ وأن يحسب نفسه غنياً عن الموعظة والتذكير والإِمداد الإِلهي . يجب الاستعاذة به سبحانه دائماً ، ويجب أن يكون الإِنسان على وعي وحذر باستمرار .

ـ لماذا تكررت كلمة «النّاس» ؟ في سبب تكرار كلمة «النّاس» في السّورة ، قيل : إن كل واحدة منها لها معنى خاص . ولكن يظهر أن التكرار تأكيد على عمومية هذه الصفات الثلاث الإِلهية ، وهي في المواضع الثلاثة بمعنى واحد .

ختام السورة:

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن لهذه السورة لطيفة أخرى : وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة وهي أنه رب الفلق ، والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات ، وهي الغاسق والنفاثات والحاسد. وأما في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاثة : وهي الرب والملك والإله، والمستعاذ منه آفة واحدة ، وهي الوسوسة ، والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يتقدر بقدر المطلوب ، فالمطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن ، والمطلوب في السورة الثانية سلامة الدين ، وهذا تنبيه على أن مضرة الدين وإن قلت أعظم من مضار الدنيا وإن عظمت ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وفي هذ السورة دعوةٌ إلى الإنسان ليستعيذ من هذا الوسواس الخنّاس الذي يشكِّل خطراً على التزامه الفكري والعملي ، وعلى سلامته في الدنيا والآخرة . وليتطلّع إلى الله رَبِّ النَّاسِ وملِك النّاس وإِلَهِ النَّاسِ ، ليجد فيه العون كلّ العون ، والقوّة كل القوّة ، وليستشعر ضعف هذا الوسواس الخنّاس أمام الله ، وأمام الوسائل التي وضعها بين يدي الإنسان ليحميه من شرّه ، ولينقذه من حبائله ومن مكره وخداعه ووسوسته وتثبيطه ، ومن كل مكائده . وهذا هو أسلوب التربية الروحية الوجدانية التي يريد الإسلام أن يؤكدها في شخصية الإنسان المؤمن ، ليؤكد قوّة الموقف لديه ، وثبات الإيمان في نفسه ، واستقامة الطريق في حياته . وهو أن يرجع إلى الله في إحساسٍ عميقٍ بقوّته التي تحميه من قوّة الآخرين ، وبرحمته التي تفيض على روحه حبّاً وأماناً وسلاماً وخيراً وبركةً ، فتمنحه الطمأنينة الروحية ، والثبات الواقعي في الحياة .