ويعقب على هذا التقابل بالتهكم اللاذع والسخرية المريرة :
( أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي دوني أولياء . إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا . . )
أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا مخلوقات الله المستعبدة له أنصارا لهم من دونه ، ينصرونهم منه ويدفعون عنهم سلطانه ? إذن فليلقوا عاقبة هذا الحسبان : إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا . . ويا له من نزل مهيأ للاستقبال ، لا يحتاج إلى جهد ولا انتظار . فهو حاضر ينتظر النزلاء الكفار !
ثم قال { أَفَحَسِبَ{[18553]} الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ } أي : اعتقدوا أنهم يصح لهم ذلك ، وينتفعون بذلك ؟ { كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [ مريم : 82 ] ؛ ولهذا أخبر أنه قد أعدّ لهم جهنم يوم القيامة منزلا .
{ أفحسب الذين كفروا } أفظنوا والاستفهام للإنكار . { أن يتّخذوا عبادي } اتخاذهم الملائكة والمسيح . { من دوني أولياء } معبودين نافعهم ، أو لا أعذبهم به فحذف المفعول الثاني كما يحذف الخبر للقرينة ، أو سد أن يتخذوا مسد مفعوليه وقرئ { أفحسب الذين كفروا } أي إفكا فيهم في النجاة ، وأن بما في حيزها مرتفع بأنه فاعل حسب ، فإن النعت إذا اعتمد على الهمزة ساوى الفعل في العمل أو خبر له . { إنا أعتدنا جهنم للكافرين نُزلاً } ما يقام للنزيل ، وفيه تهكم وتنبيه على أن لهم وراءها من العذاب ما تستحقر دونه .
وقرأ علي بن أبي طالب والحسن وابن عمر ومجاهد وابن كثير بخلاف عنه : «أفحسْبُ » بسكون السين وضم الباء بمعنى أكافيهم ومنتهى غرضهم ، وفي مصحف ابن مسعود «أفظن الذين كفروا » ، وهذه حجة لقراءة الجمهور ، وقال جمهور المفسرين يريد كل من عبد من دون الله كالملائكة وعزير وعيسى ، فيدخل في { الذين كفروا } بعض العرب واليهود والنصارى ، والمعنى أن ذلك ليس كظنهم ، بل ليس من ولاية هؤلاء المذكورين شيء ، ولا يجدون عندهم منتفعاً و { أعتدنا } معناه : يسرنا ، و «النزل » موضع النزول ، و «النزل » أيضاً ما يقدم للضيف أو القادم من الطعام عند نزوله ، ويحتمل أن يراد بالآية هذا المعنى أن المعد لهم بدل النزول جهنم ، كما قال الشاعر : [ الوافر ]
تحية بينهم ضرب وجيع{[7905]} . . .
أعقب وصف حرمانهم الانتفاع بدلائل المشاهدات على وحدانية الله وإعراضهم عن سماع الآيات بتفريع الإنكار لاتخاذهم أولياء من دون الله يزعمونها نافعة لهم تنصرهم تفريعَ الإنكار على صلة الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري ، لأن حسبانهم ذلك نشأ عن كون أعينهم في غطاء وكونهم لا يستطيعون سمعاً ، أي حسبوا حسباناً باطلاً فلم يغن عنهم ما حسبوه شيئاً ، ولأجله كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً .
وتقدم حرف الاستفهام على فاء العطف لأن للاستفهام صدر الكلام وهو كثير في أمثاله . والخلاف شهير بين علماء العربية في أن الاستفهام مقدم من تأخير ، أو أن العطف إنما هو على ما بعد الاستفهام بعد حذف المستفهم عنه لدلالة المعطوف عليه . فيقدر هنا : أأمِنوا عذابي فحسبوا أن يتخذوا إلخ . . . وأول القولين أولى . وقد تقدمت نظائره منها قوله تعالى : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } في سورة البقرة ( 75 ) .
والاستفهام إنكاري ، والإنكار عليهم فيما يحسبونه يقتضي أن ما ظنوه باطل ، ونظيره قوله { أحسب الناس أن يتركوا } [ العنكبوت : 2 ] .
و { أن يتخذوا } سادٌّ مسدّ مفعولي { حسب } لأنه يشتمل على ما يدل على المفعولين فهو ينحل إلى مفعولين . والتقدير : أحسبَ الذين كفروا عبادي متخِذين أولياء لهم من دوني .
والإنكار متسلط على معمول المفعول الثاني وهو { أولياء } المعمول ل { يتخذوا } بقرينة ما دل عليه فعل { حسب } من أن هنالك محسوباً باطلاً ، وهو كونهم أولياء باعتبار ما تقتضيه حقيقة الولاية من الحماية والنصر .
و { عبادي } صادق على الملائكة والجنّ والشياطين ومن عبدوهم من الأخيار مثل عيسى عليه السلام ، ويصدق على الأصنام بطريق التغليب .
و { من دوني } متعلّق ب { أولياء } إما بجعل { دوني } اسماً بمعنى حول ، أي من حول عذابي ، وتأويل { أولياء } بمعنى أنصاراً ، أي حائلين دون عذابي ومانعيهم منه ، وإما بجعل { دوني } بمعنى غيري ، أي أحسبوا أنهم يستغنون بولايتهم .
وصيغ فعل الاتخاذ بصيغة المضارع للدلالة على تجدده منهم وأنهم غير مقلعين عنه .
وجعل في « الكشاف » فعل { يتخذوا } للمستقبل ، أي أحسبوا أن يتخذوا عبادي أولياء يوم القيامة كما اتّخذوهم في الدنيا ، وهو المشار إليه بقوله { وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا } . ونظره بقوله تعالى : { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم } [ سبأ : 40 41 ] .
وإظهار الذين كفروا دون أن يقال : أفحسبوا ، بإعادة الضمير إلى الكافرين في الآية قبلها ، لقصد استقلال الجملة بدلالتها ، وزيادةً في إظهار التوبيخ لها .
وجملة { إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلاً } مقررة لإنكار انتفاعهم بأوليائهم فأكد بأن جهنم أُعدت لهم نزلاً فلا محيص لهم عنها ولذلك أكد بحرف ( إنّ ) .
و { أعتدنا : } أعددنا ، أبدل الدال الأولى تاء لقرب الحرفين ، والإعداد : التهيئة ، وقد تقدم آنفاً عند قوله تعالى : { إنا أعتدنا للظالمين ناراً } [ الكهف : 29 ] } . وجَعل المسند إليه ضميرَ الجلالة لإدخال الروع في ضمائر المشركين .
والنُزُل بضمتين : ما يُعدّ للنزيل والضيف من القِرى . وإطلاق اسم النزل على العذاب استعارة علاقتها التهكم ، كقول عمرو بن كلثوم :