قال الإِمام الرازى : " اعلم أن المقصود : اضرب لهم مثلا آخر يدل على حقارة الدنيا ، وقلة بقائها . والكلام متصل بما تقدم من قصة المشركين المتكبرين على فقراء المؤمنين . . " .
والمعنى . واذكر لهم - أيها الرسول الكريم - ما يشبه هذه الحياة الدنيا فى حسنها ونضارتها ، ثم فى سرعة زوال هذا الحسن والنضارة ، لكى لا يركنوا إليها ، ولا يجعلوها أكبر همهم ، ومنتهى آمالهم .
وقوله : { كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء . . } بيان للمثل الذى شبه الله - تعالى - به الحياة الدنيا أى : مثلها فى ازدهارها ثم فى زوال هذا الازدهار ، كهيئة أو كصفة ماء أنزلناه بقدرتنا من السماء ، فى الوقت الذى نريد إنزاله فيه .
{ فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } والاختلاط والخلط : امتزاج شيئين فأكثر بعضهما ببعض .
أى : كماء أنزلناه من السماء ، فاختلط وامتزج بهذا الماء نبات الأرض ، فارتوى منه وصار قويا بهيجا يعجب الناظرين إليه .
وفى التعبير بقوله : { فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } دون قوله : فاختلط بنبات الأرض إشارة إلى كثرة الماء النازل من السماء ، وإلى أنه السبب الأساسى فى ظهور هذا النبات ، وفى بلوغه قوته ونضارته .
وقوله : { فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح } بيان لما صار إليه هذا النبات من يبوسته وتفتته ، بعد اخضراره وشدته وحسنه .
قال القرطبى ما ملخصه : { هشيما } أى متكسرا متفتتا ، يعنى بانقطاع الماء عنه ، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه ، والهشم ، كسر الشئ اليابس . والهشيم من النبات : اليابس المتكسر . . ورجل هشيم : ضعيف البدن .
و { تذروه الرياح } أى تفرقه وتنفسه . . يقال : ذرت الريح الشئ تذروه ذروا ، إذا طارت به وأذهبته .
أى : فأصبح النبات بعد اخضراره ، يابسا متفتتا ، تفرقه الرياح وتنسفه وتذهب به حيث شاءت وكيف شاءت .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد شبهت حال الدنيا فى حسنها وجمال رونقها ، ثم فى سرعة زوالها وفنائها بعد ذلك ، بحال النبات الذى نزل عليه الماء فاخضر واستوى على سوقه ، ثم صار بعد ذلك يابسا متفتتا تذهب به الرياح حيث شاءت .
والتعبير بالفاء فى قوله - سبحانه - فاختلط . فأصبح . . يزيد الأسلوب القرآنى جمالا وبلاغة ، لأن فاء التعقيب هنا تدل على قصر المدة التى استمر فيها النبات نضرا جميلا ، ثم صار هشيما تذروه الرياح .
وهكذا الحياة تبدو للمتشبثين بها ، جميلة عزيزة ، ولكنها سرعان ما تفارقهم ويفارقونها ، حيث ينزل بهم الموت فيجعل آمالهم تحت التراب .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله ، { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } أى : وكان الله - تعالى - وما زال - على كل شئ من الأشياء التى من جملتها الإِنشاء والإِفناء ؛ كامل القدرة ، لا يعجزه شئ فى الأرض ولا فى السماء .
وقد ذكر - سبحانه - ما يشبه هذه الآية فى سور كثيرة ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ الناس والأنعام حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس كذلك نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
وأمام هذا المشهد يضرب مثلا للحياة الدنيا كلها . فإذا هي كتلك الجنة المضروبة مثلا قصيرة قصيرة ، لا بقاء لها ولا قرار :
( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ، فأصبح هشيما تذروه الرياح ، وكان الله على كل شيء مقتدرا ) . .
هذا المشهد يعرض قصيرا خاطفا ليلقي في النفس ظل الفناء والزوال . فالماء ينزل من السماء فلا يجري ولا يسيل ولكن يختلط به نبات الأرض . والنبات لا ينمو ولا ينضج ، ولكنه يصبح هشيما تذروه الرياح . وما بين ثلاث جمل قصار ، ينتهي شريط الحياة .
ولقد استخدم النسق اللفظي في تقصير عرض المشاهد . بالتعقيب الذي تدل عليه الفاء :
( ماء أنزلناه من السماء ) ف ( فاختلط به نبات الأرض ) ف ( أصبح هشيما تذروه الرياح ) فما أقصرها حياة ! وما أهونها حياة !
يقول تعالى : { وَاضْرِبْ } يا محمد للناس { مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } في زوالها وفنائها وانقضائها { كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ } أي : ما فيها من الحَبّ ، فشب وحسن ، وعلاه{[18198]} الزهر والنور والنضرة ثم بعد هذا كله { فَأَصْبَحَ هَشِيمًا } يابسا { تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ } أي : تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال{[18199]} { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا } أي : هو قادر على هذه الحال ، وهذه الحال{[18200]} وكثيرًا ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل كما في سورة يونس : { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ } الآية [ يونس : 24 ] ، وقال في سورة الزمر : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ } [ الزمر : 21 ] ، وقال في سورة الحديد : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [ الحديد : 20 ] .
وفي الحديث الصحيح : " الدنيا حلوة خضرة " {[18201]}
{ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا } واذكر لهم ما يشبه الحياة الدنيا في زهرتها وسرعة زوالها أو صفتها الغريبة . { كماءٍ } هي كماء ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ل { اضرب } على أنه بمعنى صير . { أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض } فالتفت بسببه وخالط بعضه بعضا من كثرته وتكاثفه ، أو نجع في النبات حتى روى ورف وعلى هذا كان حقه فاختلط بنبات الأرض لكنه لما كان كل من المختلطين موصوفا بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته . { فأصبح هشيماً } مهشوما مكسورا . { تذرُوه الرياح } تفرقه ، وقرئ " تذريه " من أذرى والمشبه به ليس الماء ولا حاله بل الكيفية المنتزعة من الجملة ، وهي حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر وارفاً ثم هشيماً تطيره الرياح فيصير كأن لم يكن . { وكان الله على كل شيء } من الإنشاء والإفناء . { مقتدِراً } قادرا .
قوله { الحياة الدنيا } يريد حياة الإنسان بما يتعلق بها من نعم وترفه ، وقوله { كماء } يريد هي كماء ، وقوله { فاختلط به } أي فاختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء ، فالباء في { به } باء السبب ، فأصبح عبارة عن صيرورته إلى ذلك ، لا أنه{[7813]} أراد اختصاصاً بوقت الصباح ، وهذا كقول الشاعر الربيع بن ضبع : [ المنسرح ]
أصبحت لا أحمل السلاح ولا . . . أملك رأس البعير إن نفرا{[7814]}
و «الهشيم » المتفتت من يابس العشب ، ومنه قوله تعالى { كهشيم المحتظر }{[7815]} [ القمر : 31 ] ومنه هشم الثريد ، و { تذروه } ، بمعنى تفرقه ، وقرأ ابن عباس : «تذريه » ، والمعنى : تقلعه وترمي به ، وقرأ الحسن «تذروه الريح » بالإفراد ، وهي قراءة طلحة والنخعي والأعمش وقوله : { وكان الله } عبارة للإنسان عن أن الأمر قبل وجود الإنسان هكذا كان ، إذ نفسه حاكمة بذلك في حال عقله ، هذا قول سيبويه ، وهو معنى صحيح وقال الحسن { كان } : إخبار عن الحال قبل إيجاد الموجودات ، أي إن القدرة كانت ، وهذا أيضاً حسن ، فمعنى هذا التأويل تشبيه حال المرء في حياته وماله وعزته وزهوه وبطره بالنبات الذي خضرة ونضرة عن المطر النازل ، ثم يعود بعد ذلك { هشيماً } ويصير إلى عدم ، فمن كان له عمل صالح ، يبقى في الآخرة فهو الفائز ، فكأن الحياة بمثابة الماء والخضرة ، والنضارة بمنزلة النعيم والعزة ، ونحوه .