ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يوبخ هؤلاء الكافرين على جهالاتهم وعنادهم ، فقال : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات . . . } .
وقوله : { أَرَأَيْتُمْ } بمعنى أخبرونى ، ومفعوله الأول قوله { مَّا تَدْعُونَ } وجملة " ماذا خلقوا " سدت مسد مفعوله الثانى .
وجملة : " أرونى " مؤكدة لقوله : { أَرَأَيْتُمْ } لأنها - أيضا - بمعنى أخبرونى .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - هؤلاء المشركين - على سبيل التوبيخ والتأنيب - : أخبرونى عن هذه الآلهة التى تعبدونها من دول الله - تعالى - ، أى شئ فى الأرض أوجدته هذه الآلهة ؟ إنها قطعا لم تخلق شيئا من الأرض . فالأمر فى قوله { أَرُونِي } للتعجيز والتبكيت .
و " أم " فى قوله { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات } للإِضراب عن أن يكونوا قد خلقوا شيئا ، إلى بيان أنهم لا مشاركة لهم مع الله فى خلق السماوات أو الأرض أو غيرهما . فقوله : { شِرْكٌ } بمعنى مشاركة . .
أى : بل ألهم مشاركة من الله - تعالى - فى خلق شئ من السماوات ؟ كلا ، لا مشاركة لهم فى خلق أى شئ ، وإنما الخالق لكل شئ هو الله رب العالمين .
فالمراد من الآية الكريمة نفى استحقاق معبوداتهم لأى لون من ألوان العبادة بأبلغ وجه ، لأن هذه المعبودات لا مدخل لها فى خلق أى شئ لا من العوالم السفلية ولا من العوالم العلوية ، وإنما الكل مخلوق لله - تعالى - وحده .
ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - : { هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ } وبعد أن أفحمهم - سبحانه - من الناحية العقلية ، أتبع ذلك بإفحامهم بالأدلة النقلية ، فقال - تعالى - : { ائتوني بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هاذآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .
والأمر فى قوله - تعالى - { ائتوني } للتعجيز والتهكم - أيضا - كما فى قوله : { أَرُونِي } .
وقوله : { أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } أى : بقية من علم بؤثر عن الأولين ، وينسب إليهم .
قال القرطبى : وفى الصحاح : " أو أثارة من علم " أى : بقية منه . وكذلك الأَثَرة - بالتحريك - ويقال : سمنت الإِبل على أثارة ، أى : على بقية من شحم كان فيها قبل ذلك . .
والأثارة : مصدر كالسماحة والشجاعة ، وأصل الكلمة من الأَثَر ، وهى الرواية ، يقال : أثرتُ الحديث آثَرُه أَثْراً وأَثَارةً وأَثْرةً فأنا آثِر ، إذا ذكرته من غيرك ، ومنه قيل : حديث مأثوة ، أى نقله الخلق عن السلف .
أى : هاتوا لى - أيها المشكرون - كتابا من قبل هذا القرآن يدل على صحة ما أنتم عليه من شرك ، فإن لم تستطيعوا ذلك - ولن تستطيعوا - ، فأتونى ببقية من علم يؤثر عن السابقين ، ويسند إليهم ، ويشهد لكم بصحة ما أنتم فيه من كفر .
{ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فيما تزعمونه من أنكم على الحق .
وهكذا أخذ عليهم القرآن الحجة ، وألزمهم بطلان ما هم عليه من ضلال ، بالأدلة العقلية المتمثلة فى شهادة هذا الكون المفتوح ، وبالأدلة النقلية المتمثلة فى أنه لا يوجد عندهم كتاب أو ما يشبه الكتاب . يستندون إليه فى استحقاق تلك المعبودات للعبادة .
والحق أن هذا الآية الكريمة على رأس الآيات التى تخرس أصحاب الأقوال التى لا دليل على صحتها ، وتعلم الناس مناهج البحث الصحيح الذى يوصلهم إلى الحق والعدل
( قل : أرأيتم ما تدعون من دون الله ? أروني ماذا خلقوا من الأرض ? أم لهم شرك في السماوات ? ائتوني بكتاب من قبل هذا ، أو أثارة من علم ، إن كنتم صادقين ) . .
وهذا تلقين من الله سبحانه لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ليواجه القوم بشهادة كتاب الكون المفتوح . الكتاب الذي لا يقبل الجدل والمغالطة - إلا مراء ومحالا - والذي يخاطب الفطرة بمنطقها ، بما بينه وبين الفطرة من صلة ذاتية خفية ، يصعب التغلب عليها ومغالطتها .
( أروني ماذا خلقوا من الأرض ? ) . .
ولن يملك إنسان أن يزعم أن تلك المعبودات - سواء كانت حجرا أم شجرا أم جنا أم ملائكة أم غيرها - قد خلقت من الأرض شيئا ، أو خلقت في الأرض شيئا . إن منطق الفطرة . منطق الواقع . يصيح في وجه أي ادعاء من هذا القبيل .
( أم لهم شرك في السماوات ? ) . .
ولن يملك إنسان كذلك أن يزعم أن لتلك المعبودات شركة في خلق السماوات أو في ملكيتها . ونظرة إلى السماوات توقع في القلب الإحساس بعظمة الخالق ، والشعور بوحدانيته ؛ وتنفض عنه الانحرافات والترهات . . والله منزل هذا القرآن يعلم أثر النظر في الكون على قلوب بالبشر ومن ثم يوجههم إلى كتاب الكون ليتدبروه ويستشهدوه ويستمعوا إلى إيقاعاته المباشرة في القلوب .
ثم يأخذ الطريق على ما قد يطرأ على بعض النفوس من انحراف بعيد . فقد يصل بها هذا الانحراف إلى أن تزعم هذا الزعم أو ذاك بلا حجة ولا دليل . يأخذ عليها الطريق ، فيطالبها بالحجة والدليل ؛ ويعلمها في الوقت ذاته طريقة الاستدلال الصحيح ؛ ويأخذها بالمنهج السليم في النظر والحكم والتقدير :
( ائتوني بكتاب من قبل هذا ، أو أثارة من علم ، إن كنتم صادقين ) . .
فإما كتاب من عند الله صادق . وإما بقية من علم مستيقن ثابت . وكل الكتب المنزلة قبل القرآن تشهد بوحدانية الخالق المبدع المدبر المقدر ؛ وليس فيها من كتاب يقر خرافة الآلهة المتعددة ، أو يقول بأن لها في الأرض خلقا أو في السماوات شركا ! وليس هنالك من علم ثابت يؤيد مثل ذلك الزعم المتهافت .
وهكذا يواجههم القرآن بشهادة هذا الكون . وهي شهادة حاسمة جازمة . ويأخذ عليهم طريق الادعاء بلا بينة . ويعلمهم منهج البحث الصحيح . في آية واحدة قليلة الكلمات ، واسعة المدى ، قوية الإيقاع ، حاسمة الدليل .
ثم قال : { قُلْ } أي : لهؤلاء المشركين العابدين مع الله غيره : { أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ } أي : أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الأرض ، { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ } أي : ولا شرك لهم في السموات ولا في الأرض ، وما يملكون من قطمير ، إن المُلْك والتصرّف كله إلا الله ، عز وجل ، فكيف تعبدون معه غيره ، وتشركون به ؟ من أرشدكم إلى هذا ؟ من دعاكم إليه ؟ أهو أمركم به ؟ أم هو شيء اقترحتموه من عند أنفسكم ؟ ولهذا قال : { اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا } أي : هاتوا كتابا من كتب الله المنزلة على الأنبياء {[26375]} ، عليهم الصلاة والسلام ، يأمركم بعبادة هذه الأصنام ، { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } أي : دليل بَيِّن على هذا المسلك الذي سلكتموه { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : لا دليل لكم نقليًا ولا عقليا على ذلك ؛ ولهذا قرأ آخرون : " أو أثَرَة من علم " أي : أو علم صحيح يأثرونه عن أحد ممن قبلهم ، كما قال مجاهد في قوله : { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } أو أحد يأثُر علما .
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : أو بينة من الأمر .
وقال {[26376]} الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، حدثنا صفوان بن {[26377]} سُلَيم ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن ابن عباس قال سفيان : لا أعلم إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أو أثَرَة من علم " قال : " الخط " {[26378]} .
وقال أبو بكر بن عياش : أو بقية من علم . وقال الحسن البصري : { أَوْ أَثَارَةٍ } شيء يستخرجه فيثيره .
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو بكر بن عياش أيضا : { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } يعني الخط .
وقال قتادة : { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } خاصة من علم .
وكل هذه الأقوال متقاربة ، وهي راجعة إلى ما قلناه ، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله وأكرمه ، وأحسن مثواه .
{ قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات } أي أخبروني عن حال آلهتكم بعد تأمل فيها ، هل يعقل أن يكون لها في أنفسها مدخل في خلق شيء من أجزاء العالم فتستحق به العبادة . وتخصيص الشرك بالسموات احتراز عما يتوهم أن للوسائط شركة في إيجاد الحوادث السفلية . { ائتوني بكتاب من قبل هذا } من قبل هذا الكتاب يعني القرآن فإنه ناطق بالتوحيد . { أو أثارة من علم } أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين هل فيها ما يدل على استحقاقهم للعبادة أو الأمر به . { إن كنتم صادقين } في دعواكم ، وهو إلزام بعدم ما يدل على إلوهيتهم بوجه ما نقلا بعد إلزامهم بعدم ما يقتضيها عقلا ، وقرئ " إثارة " بالكسر أي مناظرة فإن المناظرة تثير المعاني ، و " أثرة " أي شيء أوثرتم به وأثرة بالحركات الثلاث في الهمزة والسكون الثاء فالمفتوحة للمرة من مصدر أثر الحديث إذا رواه والمكسورة بمعنى الأثرة والمضمومة اسم ما يؤثر .