ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله : { قُلْ مَا . . . } .
قال القرطبى : يقال : ما عبأت بفلان ، أى : ما باليت به . أى : ما كان له عندى وزن ولا قدر . وأصل يعبأ : من العبء وهو الثقل . . . فالعبء : الحمل الثقيل ، والجمع أعباء . و " ما " استفهامية ، وليس يبعد أن تكون نافية ، لأنك إذا حكمت بأنها استفهام فهو نفى خرج مخرج الاستفهام ، وحقيقة القول عندى أن موضع " ما " نصب والتقدير أى عبء يعبأ بكم ربى ؟ أى : أى مبالاة يبالى بكم ربى لولا دعاؤكم . .
هذا ، وللعلماء فى تفسير هذه الآية أقوال منها : أن قوله - تعالى - : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ } خطاب للمؤمنين أو للناس جميعا ، وأن المصدر هو . دعاؤكم مضاف لفاعله ، وأن بقية الآية وهى قوله : { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ . . . } خطاب للكافرين ، والمعنى على هذا القول :
قل - أيها الرسول الكريم - للمؤمنين أو للناس جميعا ، أى اعتداد لكم عند ربكم لولا دعاؤكم ، أى : لولا عبادتكم له - عز وجل - أى : لولا إخلاصكم العبادة له لما اعتد بكم .
ثم أفرد الكافرين بالخطاب فقال : { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } أيها الكافرون { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } .
أى : فسوف يكون جزاء التكذيب " لزاما " أى : عذابا دائما ملازما لكم . فلزاما مصدر لام ، كقاتل قتالا ، والمراد به هنا اسم الفاعل .
وقد وضح صاحب الكشاف هذا القول فقال : لما وصف الله - تعالى - عبادة العباد ، وعدد صالحاتهم وحسناتهم . . . أتبع ذلك ببيان أنه إنما اكترث لأولئك وعبأ بهم وأعلى ذكرهم ، لأجل عبادتهم فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصرح للناس ، ويجزم لهم القول ، بأن الاكتراث لهم عند ربهم ، إنما هو للعبادة وحدها لا لمعنى آخر . . .
وقوله { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } يقول : إذا أعلمتكم أن حكمى ، أنى لا أعتد بعبادى إلا من أجل عبادتهم ، فقد خالفتم بتكذيبكم حكمى ، فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم حتى يكبكم فى النار . ونظيره فى الكلام أن يقول الملك لمن عصاه : " إن من عادتى أن أحسن إلى من يطيعنى ، ويتبع أمرى ، فقد عصيتَ فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك . . " .
ومن العلماء من يرى أن الخطاب فى الآية للكافرين ، وأن المصدر مضاف لمفعوله ، فيكون المعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الكافرين ، ما يعبأ بكم ربى ، ولا يكترث لوجودكم ، لولا دعاؤه إياكم على لسانى ، إلى توحيده وإخلاص العبادة له ، وبما أنى قد دعوتكم فكذبتم دعوتى . فسوف يكون عاقبة ذلك ملازمة العذاب لكم .
وهذا قول جيد ولا إشكال فيه وقد تركنا بعض الأقوال لضعفها ، وغناء هذين القولين عنها .
وبعد : فهذا تفسير لسورة " الفرقان " تلك السورة التى حكت شبهات المشركين وأبطلتها . وساقت من تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيته ، وبشرت عباد الرحمن بأرفع المنازل .
ونسأل الله - تعالى - أن يجعلنا جميعا منهم ، وأن يحشرنا فى زمرتهم .
والآن وقد صور عباد الرحمن . تلك الخلاصة الصافية للبشرية . يختم السورة بهوان البشرية على الله لولا هؤلاء الذين يتطلعون إلى السماء . فأما المكذبون فالعذاب حتم عليهم لزام .
( قل : ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ) . .
وهو ختام يناسب موضوع السورة كلها ؛ ومساقها للتسرية عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتعزيته عما يلاقي من عناد قومه وجحودهم ، وتطاولهم عليه ، وهم يعرفون مقامه ؛ ولكنهم في سبيل الإبقاء على باطلهم يعاندون ويصرون . . فما قومه ? وما هذه البشرية كلها ، لولا القلة المؤمنة التي تدعو الله . وتتضرع إليه . كما يدعو عباد الرحمن ويتضرعون ?
من هم والأرض التي تضم البشر جميعا إن هي إلا ذرة صغيرة في فضاء الكون الهائل . والبشرية كلها إن هي إلا نوع من أنواع الأحياء الكثيرة على وجه هذه الأرض . والأمة واحدة من أمم هذه الأرض . والجيل الواحد من أمة إن هو إلا صفحة من كتاب ضخم لا يعلم عدد صفحاته إلا الله ?
وإن الإنسان مع ذلك لينتفخ وينتفخ ويحسب نفسه شيئا ؛ ويتطاول ويتطاول حتى ليتطاول على خالقه سبحانه ! وهو هين هين ، ضعيف ضعيف ، قاصر قاصر . إلا أن يتصل بالله فيستمد منه القوة والرشاد ، وعندئذ فقط يكون شيئا في ميزان الله ؛ وقد يرجح ملائكة الرحمن في هذا الميزان . فضلا من الله الذي كرم هذا الإنسان وأسجد له الملائكة ، ليعرفه ويتصل به ويتعبد له ، فيحفظ بذلك خصائصه التي سجدت له معها الملائكة ؛ وإلا فهو لقي ضائع ، لو وضع نوعه كله في الميزان ما رجحت به كفة الميزان !
( قل : ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ) . . وفي التعبير سند للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وإعزاز : ( قل : ما يعبأ بكم ربي ) . فأنا في جواره وحماه . هو ربي وأنا عبده . فما أنتم بغير الإيمان به ، والانضمام إلى عباده ? إنكم حصب جهنم ( فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ) . .
ثم قال{[21688]} تعالى : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي } أي : لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه ؛ فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا .
وقال مجاهد ، وعمرو بن شعيب : { مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي } يقول : ما يفعل بكم ربي .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ } يقول : لولا إيمانكم ، وأخبر الله الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين ، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه{[21689]} إلى المؤمنين .
وقوله : { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } أي : أيها الكافرون { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } أي : فسوف يكون تكذيبكم{[21690]} لزامًا لكم ، يعني : مقتضيا لهلاككم وعذابكم ودماركم في الدنيا والآخرة ، ويدخل في ذلك يوم بدر ، كما فسره بذلك عبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومحمد بن كعب القرظي ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم .
وقال الحسن البصري : { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } يعني : يوم القيامة . ولا منافاة بينهما . والله أعلم .
وقوله : قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ ربّي يقول جلّ ثناؤه لنبيه : قل يا محمد لهؤلاء الذين أرسلت إليهم : أيّ شيء يَعُدّكم ، وأيّ شيء يصنع بكم ربي ؟ يقال منه : عبأت به أعبأ عبئا ، وعبأت الطيب أعبؤه : إذا هيأته ، كما قال الشاعر :
كأنّ بِنَحْرِهِ وبِمَنْكِبَيْهِ *** عَبِيرا باتَ يَعْبَؤُهُ عَرُوسُ
يقول : يهيئه ويعمله يعبؤُه عبا وعبوءا ، ومنه قولهم : عَبّأت الجيش بالتشديد والتخفيف فأنا أعبئه : أُهَيّئُهُ . والعِبءُ : الثقل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : قُلْ ما يَعْبأُ بِكُمْ رَبّي يصنع لولا دعاؤكم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبّي قال : يعبأ : يفعل . وقوله : لَوْلا دُعاؤُكُمْ يقول : لولا عبادة من يعبده منكم ، وطاعة من يطيعه منكم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ يقول : لولا إيمانكم ، وأخبر الله الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين ، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حبّبه إلى المؤمنين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله لَوْلا دُعاؤُكُمْ قال : لولا دعاؤكم إياه لتعبدوه وتطيعوه .
وقوله فَقَدْ كَذّبْتُمْ يقول تعالى ذكره لمشركي قريش قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقد كذّبتم أيها القوم رسولكم الذي أرسل إليكم وخالفتم أمر ربكم الذي أمر بالتمسك به . لو تمسكتم به ، كان يعبأ بكم ربي فسوف يكون تكذيبكم رسول ربكم ، وخلافكم أمر بارئكم ، عذابا لكم ملازما ، قتلاً بالسيوف وهلاكا لكم مفنيا يلحق بعضكم بعضا ، كما قال أبو ذُؤَيب الهُذَليّ :
فَفاجأَهُ بِعادِيَةٍ لِزَامٍ *** كمَا يَتَفَجّرُ الحَوْضُ اللّقِيفُ
يعني باللزام : الكبير الذي يتبع بعضه بعضا ، وباللقيف : المتساقط الحجارة المتهدّم ، ففعل الله ذلك بهم ، وصدقهم وعده ، وقتلهم يوم بدر بأيدي أوليائه ، وألحق بعضهم ببعض ، فكان ذلك العذاب اللزام . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني مولى لشقيق بن ثور أنه سمع سلمان أبا عبد الله ، قال : صليت مع ابن الزّبير فسمعته يقرأ : فقد كذب الكافرون .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سعيد بن أدهم السدوسيّ ، قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن عبد المجيد ، قال : سمعت مسلم بن عمار ، قال : سمعت ابن عباس يقرأ هذا الحرف : فقد كذب الكافرون فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاما .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاما يقول : كذب الكافرون أعداء الله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن ابن مسعود ، قال : فسوف يلقون لزاما يوم بدر .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال : قال عبد الرحمن : خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، قوله فَسَوْفَ يكُونُ لِزَاما قال أُبَيّ بن كعب : هو القتل يوم بدر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن عمرو ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : اللزام : يوم بدر .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد فَسَوْفَ يكُونُ لِزَاما قال : هو يوم بدر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فَسَوْفَ يكُونُ لِزَاما قال : يوم بدر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
قال : ثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن مَعْمر ، عن منصور ، عن سفيان ، عن ابن مسعود ، قال : اللزام : القتل يوم بدر .
حُدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فَقَدْ كَذّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاما الكفار كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من عند الله ، فسوف يكون لزاما ، وهو يوم بدر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : قد مضى اللزام ، كان اللزام يوم بدر ، أسروا سبعين ، وقتلوا سبعين .
وقال آخرون : معنى اللزام : القتال . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاما قال : فسوف يكون قتالاً اللزام : القتال .
وقال آخرون : اللزام : الموت . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس فَسَوْفَ يكُونُ لِزَاما قال : موتا .
وقال بعض أهل العلم بكلام العرب : معنى ذلك : فسوف يكون جزاء يلزم كل عامل ما عمل من خير أو شرّ . وقد بيّنا الصواب من القول في ذلك . وللنصب في اللزام وجه آخر غير الذي قلناه ، وهو أن يكون في قوله يَكُون مجهول ، ثم ينصب اللزام على الخبر كما قيل :
*** إذَا كان طَعْنا بَيْنَهُمْ وقتالاً ***
وقد كان بعض من لا علم له بأقوال أهل العلم يقول في تأويل ذلك : ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ما تَدْعون من دونه من الاَلهة والأنداد ، وهذا قول لا معنى للتشاغل به لخروجه عن أقوال أهل العلم من أهل التأويل .
لما استوعبت السورة أغراض التنويه بالرسالة والقرآن ، وما تضمنته من توحيد الله ، ومن صفة كبرياء المعاندين وتعلّلاتهم ، وأحوال المؤمنين ، وأقيمت الحجج الدامغة للمعْرضين ، ختمت بأمر الله رسولَه عليه الصلاة والسلام أن يخاطب المشركين بكلمة جامعة يُزال بها غرورهم وإعجابهم بأنفسهم وحسبانهم أنهم قد شَفوا غليلهم من الرسول بالإعراض عن دعوته وتورّكهم في مجادلته ؛ فبيّن لهم حقارتهم عند الله تعالى وأنه ما بعث إليهم رسوله وخاطبهم بكتابه إلا رحمةً منه بهم لإصلاح حالهم وقطعاً لعذرهم فإذْ كذّبوا فسوف يحلّ بهم العذاب .
و { ما } من قوله : { ما يعبؤا بكم } نافية . وتركيب : ما يعبأ به ، يدل على التحقير ، وضده عَبأ به يفيد الحفَاوة .
ومعنى { ما يعبأ } : ما يبالي وما يهتمّ ، وهو مضارع عَبَأ مثل : ملأ يَملأ مشتقّ من العِبء بكسر العين وهو الحِمل بكسر الحاء وسكون الميم ، أي الشيء الثقيل الذي يحمل على البعير ولذلك يطلق العِبء على العِدْل بكسر فسكون ، ثم تشعبت عن هذا إطلاقات كثيرة . فأصل { ما يعبأ } : ما يحْمِل عِبئاً ، تمثيلاً بحالة المُتعَب من الشيء ، فصار المقصود : ما يهتمّ وما يكترث ، وهو كناية عن قلة العناية .
والباء فيه للسببية ، أي بسببكم وهو على حذف مضاف يدل عليه مقام الكلام . فالتقدير هنا : ما يعبأ بخطابكم .
والدعاء : الدعوة إلى شيء ، وهو هنا مضاف إلى مفعوله ، والفاعل يدل عليه { ربّي } أي لولا دعاؤه إياكم ، أي لولا أنه يدعوكم . وحذف متعلق الدعاء لظهوره من قوله : { فقد كذبتم } ، أي الداعي وهو محمد صلى الله عليه وسلم فتعين أن الدعاء الدعوة إلى الإسلام . والمعنى : أن الله لا يلحقه من ذلك انتفاع ولا اعتزاز بكم . وهذا كقوله تعالى : { وما خلقت الجنّ والإنس إلا لِيَعْبُدون ما أُريد منهم مِن رزق وما أُريد أن يُطْعِمُون } [ الذاريات : 56 ، 57 ] .
وضمير الخطاب في قوله : { دعاؤكم } موجّه إلى المشركين بدليل تفريع { فقد كَذّبتم } عليه وهو تهديد لهم ، أي فقد كذبتم الداعي وهو الرسول عليه الصلاة والسلام . وهذا التفسير هو الذي يقتضيه المعنى ، ويؤيده قول مجاهد والكلبي والفراء . وقد فسر بعض المفسرين الدعاء بالعبادة فجعلوا الخطاب موجهاً إلى المسلمين فترتب على ذلك التفسير تكلفات وقد أغنى عن التعرض إليها اعتمادُ المعنى الصحيح فمن شاء فلينظرها بتأمل ليعلم أنها لا داعي إليها .
وتفريع { فقد كذبتم } على قوله : { لولا دعاؤكم } ، والتقدير : فقد دعاكم إلى الإسلام فكذبتم الذي دعاكم على لسانه .
والضمير في { يكون } عائد إلى التكذيب المأخوذ من { كذبتم } ، أي سوف يكون تكذيبهم لزاماً لكم ، أي لازماً لكم لا انفكاك لكم منه . وهذا تهديد بعواقب التكذيب تهديداً مهولاً بما فيه من الإبهام كما تقول للجاني : قد فعلتَ كذا فسوف تتحمل ما فعلت .
ودخل في هذا الوعيد ما يحلّ بهم في الدنيا من قتل وأسر وهزيمة وما يحل بهم في الآخرة من العذاب .
واللِّزام : مصدر لازم ، وقد صيغ على زنة المفاعلة لإفادة اللزوم ، أي عدم المفارقة ، قال تعالى : { ولولا كلمة سبقت من ربّك لكان لزاماً } في سورة طه ( 129 ) . والضميرُ المستتر في ( كان ) عائد إلى عذاب الآخرة في قوله : { ولعذَاب الآخرة أشدّ وأبقَى } [ طه : 127 ] ، فالإخبار باللزام من باب الإخبار بالمصدر للمبالغة . وقد اجتمع فيه مبالغتان : مبالغة في صيغته تفيد قوة لزومه ، ومبالغة في الإخبار به تفيد تحقيق ثبوت الوصف .
وعن ابن مسعود وأُبَيّ بن كعب : اللِّزام : عذاب يوم بَدر . ومرادهما بذلك أنه جزئيّ من جزئيات اللِّزام الموعود لهم . ولعلّ ذلك شاع حتى صار اللزام كالعَلم بالغلبة على يوم بدر . وفي الصحيح عن ابن مسعود : خمس قد مضَين : الدخان والقمر ، والروم ، والبطشة ، واللزام ، يعني أن اللِّزام غير عذاب الآخرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل ما يعبؤا بكم} يقول: ما يفعل بكم {ربي لولا دعاؤكم} يقول: لولا عبادتكم {فقد كذبتم} النبي صلى الله عليه وسلم، يعد كفار مكة {فسوف يكون لزاما} يلزمكم العذاب ببدر، فقتلوا وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، وعجل الله تعالى بأرواحهم إلى النار، فيعرضون عليها طرفي النهار.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ ربّي" يقول جلّ ثناؤه لنبيه: قل يا محمد لهؤلاء الذين أرسلت إليهم: أيّ شيء يَعُدّكم، وأيّ شيء يصنع بكم ربي؟ يقال منه: عبأت به أعبأ عبئا، وعبأت الطيب أعبؤه: إذا هيأته...
وقوله: "لَوْلا دُعاؤُكُمْ "يقول: لولا عبادة من يعبده منكم، وطاعة من يطيعه منكم... عن مجاهد، قوله "لَوْلا دُعاؤُكُمْ" قال: لولا دعاؤكم إياه لتعبدوه وتطيعوه.
وقوله: "فَقَدْ كَذّبْتُمْ" يقول تعالى ذكره لمشركي قريش قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد كذّبتم أيها القوم رسولكم الذي أرسل إليكم وخالفتم أمر ربكم الذي أمر بالتمسك به، لو تمسكتم به، كان يعبأ بكم ربي، فسوف يكون تكذيبكم رسول ربكم وخلافكم أمر بارئكم عذابا لكم ملازما، قتلاً بالسيوف وهلاكا لكم مفنيا يلحق بعضكم بعضا... ففعل الله ذلك بهم، وصدقهم وعده، وقتلهم يوم بدر بأيدي أوليائه، وألحق بعضهم ببعض، فكان ذلك العذاب اللزام...
وقال آخرون: معنى اللزام: القتال... عن ابن عباس "فَسَوْفَ يكُونُ لِزَاما" قال: موتا.
وقال بعض أهل العلم بكلام العرب: معنى ذلك: فسوف يكون جزاء يلزم كل عامل ما عمل من خير أو شرّ.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
أحسن الأقاويل فيه أن معناه: ما يصنع بكم ربي لولا دعاؤكم أي: لولا دعاؤه إياكم إلى التوحيد، وهي في معنى قوله تعالى: (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم)... (فقد كذبتم) أي: كذبتم أيها الكافرون، ومعناه: قد دعوتكم إلى الإيمان فلم تؤمنوا. وقوله: (فسوف يكون إلزاما) وعيد معناه: سوف يكون العذاب لزاما.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما وصف عبادة العباد، وعدّد صالحاتهم وحسناتهم، وأثنى عليهم من أجلها، ووعدهم الرفع من درجاتهم في الجنة: أتبع ذلك بيان أنه إنما اكترث لأولئك وعبأ بهم وأعلى ذكرهم ووعدهم ما وعدهم، لأجل عبادتهم، فأمر رسوله أن يصرّح للناس، ويجزم لهم القول بأن الاكتراث لهم عند ربهم، إنما هو للعبادة وحدها لا لمعنى آخر، ولولا عبادتهم لم يكترث لهم البتة ولم يعتدّ بهم ولم يكونوا عنده شيء يبالي به...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الآية أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يخاطب بذلك... و {ما} تحتمل النفي وتحتمل التقرير والكلام في نفسه يحتمل تأويلات أحدها أن تكون الآية إلى قوله {لولا دعاؤكم} خطاباً لجميع الناس... ثم يقول لقريش فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف يكون العذاب والتكذيب الذي هو سبب العذاب لزاماً، والثاني أن يكون الخطاب بالآيتين لقريش خاصة أي {ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} الأصنام آلهة دونه فإن ذلك يوجب تعذيبكم،...
فاعلم أنه سبحانه لما شرح صفات المتقين، وشرح حال ثوابهم أمر رسوله أن يقول: {قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} فدل بذلك على أنه تعالى غني عن عبادتهم، وأنه تعالى إنما كلفهم لينتفعوا بطاعتهم... ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ثبت أمر الرحمانية، فظهر أمر الرحمن وما عليه عباده من الدعاء الذي هو الخضوع والإخلاص، وختم أوصافهم الحسنة بالدعاء حقيقة الدال على الإخلاص في الخضوع، وذكر حسن جزائهم وكريم منقلبهم، أمر النذير أن يقول لعباد الشيطان الذين تكبروا عن السجود للرحمن، وعن الاعتراف والإيمان، ليرجعوا عن العصيان، ويزداد المؤمنون في الطاعات والإيمان: إن ربه لا يعتد بمن لا يدعوه، فمن ترك دعاءه فليرتقب العذاب الدائم، فقال: {قل ما يعبأ} أي يعتد ويبالي ويجعلكم ممن يسد به في موضع التعبئة الآن -على أن "ما "نافية {بكم} أي أيها الكافرون {ربي} أي المحسن إليّ وإليكم برحمانيته، المخصص لي بالإحسان برحيميته، وإنما خصه بالإضافة لا عترافه دونهم {لولا دعاؤكم} أي نداؤكم له في وقت شدائدكم الذي أنتم تبادرون إليه فيه خضوعاً له به لينجيكم، فإذا فعلتم ذلك أنقذكم مما أنتم فيه، معاملة لكم معاملة من يبالي بالإنسان ويعتد به ويراعيه، ولولا دعاؤه إياكم لتعبدوه رحمة لكم لتزكوا أنفسكم وتصفّوا أعمالكم ولا تكونوا حطباً للنار {فقد كذبتم} أي فتسبب عن ذلك لسوء طباعكم ضد ما كان ينبغي لكم من الشكر والخير بأن عقبتم بالإنجاء وحققتم وقرنتم التكذيب بالرحمن بعد رحمتكم بالبيان مع ضعفكم وعجزكم، وتركتم ذلك الدعاء له وعبدتم الأوثان، وادعيتم له الولد وغيره من البهتان، أو ما يعتد بكم شيئاً من الاعتداد لولا دعاؤكم إياه وقت الشدائد، فهو يعتد بكم لأجله نوع اعتداد، وهو المدة التي ضربها لكم في الدنيا لا غيرها، بسب أنكم قد كذبتم، أو ما يصنع بكم لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته، لأنكم قد كذبتم، فكنتم شراً من البهائم، فدعاكم فتسبب عن دعائه إياكم أنكم فاجأتم الداعي بالتكذيب،
والحاصل أنه ليس فيكم الآن ما يصلح أن يعتد بكم لأجله إلا الدعاء، لأنكم مكذبون، وإنما قلت: "الآن" لأن "ما" لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الحال، عكس "لا" {فسوف} أي فتسبب عن تكذيبكم أنه يجازيكم على ذلك، ولكنه مع قوته وقدرته واختياره لا يعاجلكم، بل {يكون} جزاء هذا التكذيب عند انقضاء ما ضربه لكم من الآجال، وكل بعيد عندكم قريب عنده، وكل آتٍ قريب، فتهيؤوا واعتدوا لذلك اليوم {لزاماً} أي لازماً لكم لزوماً عظيماً لا انفكاك له عنكم بحال، وهذا تنبيه على ضعفهم وعجزهم، وذلهم وقهرهم، لأن الملزوم لا يكون إلا كذلك، فأسرهم يوم بدر من أفراد هذا التهديد، فقد انطبق آخر السورة على أولها بالإنذار بالفرقان، لمن أنكر حقيقة الرحمن- والله ولي التوفيق بالإيمان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والآن وقد صور عباد الرحمن. تلك الخلاصة الصافية للبشرية. يختم السورة بهوان البشرية على الله لولا هؤلاء الذين يتطلعون إلى السماء. فأما المكذبون فالعذاب حتم عليهم لزام. (قل: ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما).. وهو ختام يناسب موضوع السورة كلها؛ ومساقها للتسرية عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وتعزيته عما يلاقي من عناد قومه وجحودهم، وتطاولهم عليه، وهم يعرفون مقامه؛ ولكنهم في سبيل الإبقاء على باطلهم يعاندون ويصرون.. فما قومه؟ وما هذه البشرية كلها، لولا القلة المؤمنة التي تدعو الله. وتتضرع إليه. كما يدعو عباد الرحمن ويتضرعون؟ من هم والأرض التي تضم البشر جميعا إن هي إلا ذرة صغيرة في فضاء الكون الهائل. والبشرية كلها إن هي إلا نوع من أنواع الأحياء الكثيرة على وجه هذه الأرض. والأمة واحدة من أمم هذه الأرض. والجيل الواحد من أمة إن هو إلا صفحة من كتاب ضخم لا يعلم عدد صفحاته إلا الله؟ وإن الإنسان مع ذلك لينتفخ وينتفخ ويحسب نفسه شيئا؛ ويتطاول ويتطاول حتى ليتطاول على خالقه سبحانه! وهو هين هين، ضعيف ضعيف، قاصر قاصر. إلا أن يتصل بالله فيستمد منه القوة والرشاد، وعندئذ فقط يكون شيئا في ميزان الله؛ وقد يرجح ملائكة الرحمن في هذا الميزان. فضلا من الله الذي كرم هذا الإنسان وأسجد له الملائكة، ليعرفه ويتصل به ويتعبد له، فيحفظ بذلك خصائصه التي سجدت له معها الملائكة؛ وإلا فهو لقي ضائع، لو وضع نوعه كله في الميزان ما رجحت به كفة الميزان! (قل: ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم).. وفي التعبير سند للرسول [صلى الله عليه وسلم] وإعزاز: (قل: ما يعبأ بكم ربي). فأنا في جواره وحماه. هو ربي وأنا عبده. فما أنتم بغير الإيمان به، والانضمام إلى عباده؟ إنكم حصب جهنم (فقد كذبتم فسوف يكون لزاما).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما استوعبت السورة أغراض التنويه بالرسالة والقرآن، وما تضمنته من توحيد الله، ومن صفة كبرياء المعاندين وتعلّلاتهم، وأحوال المؤمنين، وأقيمت الحجج الدامغة للمعْرضين، ختمت بأمر الله رسولَه عليه الصلاة والسلام أن يخاطب المشركين بكلمة جامعة يُزال بها غرورهم وإعجابهم بأنفسهم وحسبانهم أنهم قد شَفوا غليلهم من الرسول بالإعراض عن دعوته وتورّكهم في مجادلته؛ فبيّن لهم حقارتهم عند الله تعالى وأنه ما بعث إليهم رسوله وخاطبهم بكتابه إلا رحمةً منه بهم لإصلاح حالهم وقطعاً لعذرهم فإذْ كذّبوا فسوف يحلّ بهم العذاب.
و {ما} من قوله: {ما يعبؤا بكم} نافية. وتركيب: ما يعبأ به، يدل على التحقير، وضده عَبأ به يفيد الحفَاوة.
ومعنى {ما يعبأ}: ما يبالي وما يهتمّ، وهو مضارع عَبَأ مثل: ملأ يَملأ مشتقّ من العِبء بكسر العين وهو الحِمل بكسر الحاء وسكون الميم، أي الشيء الثقيل الذي يحمل على البعير ولذلك يطلق العِبء على العِدْل بكسر فسكون، ثم تشعبت عن هذا إطلاقات كثيرة. فأصل {ما يعبأ}: ما يحْمِل عِبئاً، تمثيلاً بحالة المُتعَب من الشيء، فصار المقصود: ما يهتمّ وما يكترث، وهو كناية عن قلة العناية.
والباء فيه للسببية، أي بسببكم وهو على حذف مضاف يدل عليه مقام الكلام. فالتقدير هنا: ما يعبأ بخطابكم.
والدعاء: الدعوة إلى شيء، وهو هنا مضاف إلى مفعوله، والفاعل يدل عليه {ربّي} أي لولا دعاؤه إياكم، أي لولا أنه يدعوكم. وحذف متعلق الدعاء لظهوره من قوله: {فقد كذبتم}، أي الداعي وهو محمد صلى الله عليه وسلم فتعين أن الدعاء الدعوة إلى الإسلام. والمعنى: أن الله لا يلحقه من ذلك انتفاع ولا اعتزاز بكم. وهذا كقوله تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلا لِيَعْبُدون ما أُريد منهم مِن رزق وما أُريد أن يُطْعِمُون} [الذاريات: 56، 57].
وضمير الخطاب في قوله: {دعاؤكم} موجّه إلى المشركين بدليل تفريع {فقد كَذّبتم} عليه وهو تهديد لهم، أي فقد كذبتم الداعي وهو الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا التفسير هو الذي يقتضيه المعنى، ويؤيده قول مجاهد والكلبي والفراء. وقد فسر بعض المفسرين الدعاء بالعبادة فجعلوا الخطاب موجهاً إلى المسلمين فترتب على ذلك التفسير تكلفات وقد أغنى عن التعرض إليها اعتمادُ المعنى الصحيح فمن شاء فلينظرها بتأمل ليعلم أنها لا داعي إليها.
وتفريع {فقد كذبتم} على قوله: {لولا دعاؤكم}، والتقدير: فقد دعاكم إلى الإسلام فكذبتم الذي دعاكم على لسانه.
والضمير في {يكون} عائد إلى التكذيب المأخوذ من {كذبتم}، أي سوف يكون تكذيبهم لزاماً لكم، أي لازماً لكم لا انفكاك لكم منه. وهذا تهديد بعواقب التكذيب تهديداً مهولاً بما فيه من الإبهام كما تقول للجاني: قد فعلتَ كذا فسوف تتحمل ما فعلت.
ودخل في هذا الوعيد ما يحلّ بهم في الدنيا من قتل وأسر وهزيمة وما يحل بهم في الآخرة من العذاب.
واللِّزام: مصدر لازم، وقد صيغ على زنة المفاعلة لإفادة اللزوم، أي عدم المفارقة، قال تعالى: {ولولا كلمة سبقت من ربّك لكان لزاماً} في سورة طه (129). والضميرُ المستتر في (كان) عائد إلى عذاب الآخرة في قوله: {ولعذَاب الآخرة أشدّ وأبقَى} [طه: 127]، فالإخبار باللزام من باب الإخبار بالمصدر للمبالغة. وقد اجتمع فيه مبالغتان: مبالغة في صيغته تفيد قوة لزومه، ومبالغة في الإخبار به تفيد تحقيق ثبوت الوصف.
وعن ابن مسعود وأُبَيّ بن كعب: اللِّزام: عذاب يوم بَدر. ومرادهما بذلك أنه جزئيّ من جزئيات اللِّزام الموعود لهم. ولعلّ ذلك شاع حتى صار اللزام كالعَلم بالغلبة على يوم بدر. وفي الصحيح عن ابن مسعود: خمس قد مضَين: الدخان والقمر، والروم، والبطشة، واللزام، يعني أن اللِّزام غير عذاب الآخرة.
ثم ينهي الحق سبحانه سورة الفرقان بقوله تعالى:
{قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما}
بعد أن تحدث الحق –تبارك وتعالى- عن عباد الرحمن، وذكر أوصافهم وجزاءهم توجه إلى الآخرين الذين لم يتصفوا بهذه الصفات، ولن ينالهم شيء من هذا النعيم، يقول لهم: إياكم أن تظنوا أن الله تعالى سيبالي بكم، أو يهتم، أو يكون في معونتكم؛ لأن الله تعالى لا يبالي إلا بعباده الذين عبدوه حق العبادة، وأطاعوه حق الطاعة، وأنتم خالفتم الأصل الأصيل من إيجاد الخلق، ولم تحققوا معنى الاستخلاف في الأرض الذي خلقكم الله تعالى من أجله.
فكما أنكم انصرفتم عن منهج الله ولم تعبئوا به ولم تعبدوه، ولم يكن على بالكم، فكذلك لا يعبأ الله بكم، ولن تكونوا على ذكر منه سبحانه، وسوف يهملكم.
وقوله تعالى: {لولا دعاؤكم} يعني: لولا عبادتكم، حيث إنها لم تقع {فقد كذبتم} أي: بالأصل الأصيل، وهو أنكم مخلوقون للعبادة {فسوف يكون لزاما} كما لازمتم أنتم الكفر بي ولم تعبدوني وأصررتم على الكفر، كذلك يكون الجزاء من جنس العمل لزاما لكم، فلا يفارقكم أبدا.