المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (175)

175- ثم ضرب الله مثلا للمكذبين بآياته المنزلة على رسوله ، فقال : واقرأ - أيها النبي - على قومك خبر رجل من بني إسرائيل آتيناه علما بآياتنا المنزلة على رسلنا ، فأهملها ولم يلتفت إليها ، فأتبعه الشيطان خطواته ، وسلط عليه بإغوائه فصار في زمرة الضالين .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (175)

ثم ضرب - سبحانه - مثلا لمن لا يعمل بعلمه فقال - تعالى- : { واتل عَلَيْهِمْ . . . } .

قال صاحب المنار : هذا مثل ضربه الله - تعالى - للمكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها حافظا لقواعدها وأحكامها قادرا على بيانها والجدل بها ، ولكنه لم يؤت العمل مع العلم ، بل كان عمله مخالفا تمام المخالفة لعلمه فسلب هذه الآيات ، لأن العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول فأشبه الحية التي تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض ، أو كان في التباين بين علمه وعمله كالمنسلخ من العلم التارك له ، كالثواب الخلق يلقيه صاحبه ، والثعبان يتجرد من جلده حتى لا تبقى له به صلة على حد قول الشاعر :

خلقوا ، وما خلقوا لمكرمة . . . فكأنهم خلقوا وما خلقوا

رزقوا ، وما رزقوا سماح يد . . . فكأنهم رزقوا وما رزقوا

فحاصل معنى المثل : أن المكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله مع إيضاحها بالحجج والدلائل كالعالم الذي حرم ثمرة الانتفاع من علمه ، لأن كلا منهما لم ينظر في الآيات نظر تأمل واعتبار وإخلاص " .

وقوله - تعالى - { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فانسلخ مِنْهَا } أى : أقرأ على قومك يا محمد ليعتبروا ويتعظوا خبر ذلك الإنسان الذي آتيناه بأن علمناه إياها ، وفهمناه مراميها ، فانسلخ من تلك الآيات انسلاخ الجلد من الشاة ، أو الحية من جلدها .

والمراد أنه خرج منه بالكلية بأن كفر بها ، ونبذها وراء ظهره ، ولم ينتفع بما اشتملت عليه من عظات وإرشادات .

وحقيقة السلخ كشط الجلد وإزالته بالكلية عن المسلوخ عنه ، ويقال لكل شىء فارق شيئا على أتم وجه انسلخ منه . وفى التعبير به مالا يخفى من المبالغة وقوله : { فَأَتْبَعَهُ الشيطان فَكَانَ مِنَ الغاوين } أى : فلحقه الشيطان وأدركه فصار هذا الإنسان بسبب ذلك من زمرة الضالين الراسخين في الغواية ، مع أنه قبل ذلك كان من المهتدين :

وفى التعبير بقوله { فَأَتْبَعَهُ الشيطان } مبالغة في ذم هذا الإنسان وتحقيره ، جعل كأنه إمام للشيطان والشيطان يتبعه ، فهو على حد قول الشاعر :

وكان فتى من جند إبليس فارتقى . . . به الحال حتى صار إبليس من جنده

قال الجمل : أتبعه فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعد لواحد بمعنى أدركه ولحقه ، وهو مبالغة في حقه حيث جعل إماما للشيطان .

وثانيهما : أن يكون متعديا لاثنين لأنه منقول بالهمزة من تبع ، والمفعول الثانى محذوف تقديره : فأتبعه الشيطان خطواته ، أى جعله تابعا لها :

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (175)

172

وكمثل للانحراف عن سواء الفطرة ، ونقض لعهد الله المأخوذ عليها ، ونكوص عن آيات الله بعد رؤيتها والعلم بها . . ذلك الذي آتاه الله آياته ، فكانت في متناول نظره وفكره ؛ ولكنه انسلخ منها ، وتعرى عنها ولصق بالأرض ، واتبع الهوى ؛ فلم يستمسك بالميثاق الأول ، ولا بالآيات الهادية ؛ فاستولى عليه الشيطان ؛ وأمسى مطروداً من حمى الله ، لا يهدأ ولا يطمئن ولا يسكن إلى قرار .

ولكن البيان القرآني المعجز لا يصوغ المثل هذه الصياغة ! إنما يصوره في مشهد حي متحرك ، عنيف الحركة ، شاخص السمات ، بارز الملامح ، واضح الانفعالات ؛ يحمل كل إيقاعات الحياة الواقعة ، إلى جانب إيقاعات العبارة الموحية :

( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، فأتبعه الشيطان ، فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ، فمثله كمثل الكلب . . إن تحمل عليه يلهث ، أو تتركه يلهث . . ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون . ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ! ) . .

إنه مشهد من المشاهد العجيبة ، الجديدة كل الجدة على ذخيرة هذه اللغة من التصورات والتصويرات . . إنسان يؤتيه الله آياته ، ويخلع عليه من فضله ، ويكسوه من علمه ، ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع . . ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخاً . ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلبس بلحمه ؛ فهو ينسلخ منها بعنف وجهد ومشقة ، انسلاخ الحي من أديمه اللاصق بكيانه . . أو ليست الكينونة البشرية متلبسة بالإيمان بالله تلبس الجلد بالكيان ؟ . . ها هو ذا ينسلخ من آيات الله ؛ ويتجرد من الغطاء الواقي ، والدرع الحامي ؛ وينحرف عن الهدي ليتبع الهوى ؛ ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم ؛ فيصبح غرضاً للشيطان لا يقيه منه واق ، ولا يحميه منه حام ؛ فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (175)

قال عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن الأعمش ومنصور ، عن أبي الضُّحَى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، في قوله تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا [ فَأَتْبَعَهُ ] }{[12369]} الآية ، قال : هو رجل من بني إسرائيل ، يقال له : بَلْعم بن أبَرَ . وكذا رواه شعبة وغير واحد ، عن منصور ، به .

وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[12370]} هو صيفي بن الراهب .

قال قتادة : وقال كعب : كان رجلا من أهل البلقاء ، وكان يعلم الاسم الأكبر ، وكان مقيما ببيت{[12371]} المقدس مع الجبارين .

وقال العَوْفي ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[12372]} هو رجل من أهل اليمن ، يقال له : بَلْعَم ، آتاه الله آياته فتركها .

وقال مالك بن دينار : كان من علماء بني إسرائيل ، وكان مجاب الدعوة ، يقدمونه في الشدائد ، بعثه نبي الله موسى إلى ملك مَدْين يدعوه إلى الله ، فأقطعه وأعطاه ، فتبع دينه وترك دين موسى ، عليه السلام .

وقال سفيان بن عيينة ، عن حُصَين ، عن عمران بن الحارث ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[12373]} هو بلعم بن باعر . وكذا قال مجاهد وعكرمة .

وقال ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا إسرائيل ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[12374]} قال : هو بلعام - وقالت ثقيف : هو أمية بن أبي الصلت .

وقال شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن نافع بن عاصم ، عن عبد الله بن عمرو [ رضي الله عنهما ]{[12375]} في قوله : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ [ آيَاتِنَا ] }{[12376]} قال : هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت .

وقد روي من غير وجه ، عنه وهو صحيح إليه ، وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه ، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة ، ولكنه لم ينتفع بعلمه ، فإنه أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته ، وظهرت لكل من له بصيرة ، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه ، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم ، ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة ، قبحه الله [ تعالى ]{[12377]} {[12378]} وقد جاء في بعض الأحاديث : " أنه ممن آمن لسانه ، ولم يؤمن قلبه " ؛ فإن له أشعارا ربانية وحكما وفصاحة ، ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان عن أبي سعيد الأعور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا } قال : هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن ، وكانت له امرأة له منها ولد ، فقالت : اجعل لي منها واحدة . قال : فلك واحدة ، فما الذي تريدين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل . فدعا الله ، فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فلما علمت أن{[12379]} ليس فيهم مثلها رغبت عنه ، وأرادت شيئًا آخر ، فدعا الله أن يجعلها كلبة ، فصارت كلبة ، فذهبت دعوتان . فجاء بنوها فقالوا : ليس بنا على هذا قرار ، قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها ، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها ، فدعا الله ، فعادت كما كانت ، فذهبت الدعوات الثلاث ، وسميت البسوس . {[12380]} غريب .

وأما المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة ، فإنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل ، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو رجل من مدينة الجبارين ، يقال له : " بلعام " {[12381]} وكان يعلم اسم الله الأكبر .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيره من علماء السلف : كان [ رجلا ]{[12382]} مجاب الدعوة ، ولا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه .

وأغرب ، بل أبعد ، بل أخطأ من قال : كان قد{[12383]} أوتي النبوة فانسلخ منها . حكاه ابن جرير ، عن بعضهم ، ولا يصح{[12384]}

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لما نزل موسى بهم - يعني بالجبارين - ومن معه ، أتاه يعني بلعام{[12385]} - أتاه بنو عمه وقومه ، فقالوا : إن موسى رجل حديد ، ومعه جنود كثيرة ، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا ، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه . قال : إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ، ذهبت دنياي وآخرتي . فلم يزالوا به حتى دعا عليهم ، فسلخه الله ما كان عليه ، فذلك قوله تعالى : { فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ [ مِنَ الْغَاوِينَ ] }{[12386]}

وقال السدي : إن الله لما انقضت الأربعون سنة التي قال الله : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [ المائدة : 26 ] بعث يوشع بن نون نبيا ، فدعا بني إسرائيل ، فأخبرهم أنه نبي ، وأن الله [ قد ]{[12387]} أمره أن يقاتل الجبارين ، فبايعوه وصدقوه . وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له : " بلعم " وكان عالمًا ، يعلم الاسم الأعظم المكتوم ، فكفر - لعنه الله - وأتى الجبارين وقال لهم : لا ترهبوا بني إسرائيل ، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم ادعوا عليهم دعوة فيهلكون ! وكان عندهم فيما شاء من الدنيا ، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء ، يعظمهن{[12388]} فكان ينكح أتانا له ، وهو الذي قال الله تعالى{[12389]} { فَانْسَلَخَ مِنْهَا }

وقوله : { فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ } أي : استحوذ عليه وغلبه على أمره ، فمهما أمره امتثل وأطاعه ؛ ولهذا قال : { فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } أي : من الهالكين الحائرين{[12390]} البائرين .

وقد ورد في معنى هذه الآية حديث رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حيث قال : حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا محمد بن بكر ، عن الصلت بن بَهْرام ، حدثنا الحسن ، حدثنا جُنْدُب البجلي في هذا المسجد ؛ أن حذيفة - يعني بن اليمان ، رضي الله عنه - حدثه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مما أتخوف عليكم رجُل قرأ القرآن ، حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رِدْء الإسلام اعتراه{[12391]} إلى ما شاء الله ، انسلخ منه ، ونبذه وراء ظهره ، وسعى على جاره بالسيف ، ورماه بالشرك " . قال : قلت : يا نبي الله ، أيهما أولى بالشرك : المرمي أو الرامي ؟ قال : " بل الرامي " .

هذا إسناد جيد{[12392]} والصلت بن بهرام كان من ثقات الكوفيين ، ولم يرم بشيء سوى الإرجاء ، وقد وثقه الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، وغيرهما .

/خ176


[12369]:زيادة من ك.
[12370]:زيادة من أ.
[12371]:في أ: "بيت".
[12372]:زيادة من أ.
[12373]:زيادة من أ.
[12374]:زيادة من أ.
[12375]:زيادة من أ.
[12376]:زيادة من ك، م، أ.
[12377]:زيادة من أ.
[12378]:انظر: العقيدة في السيرة النبوية لابن هشام (2/30).
[12379]:في أ: "أنه".
[12380]:ورواه أبو الشيخ في تفسيره كما في الدر المنثور (3/608).
[12381]:في د، ك، م، أ: "بلعم".
[12382]:زيادة من أ.
[12383]:في أ: "من قال أنه".
[12384]:تفسير الطبري (13/259).
[12385]:في د، ك، م، أ: "بلعم".
[12386]:زيادة من د، ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".
[12387]:زيادة من د، أ.
[12388]:في أ: "لعظمهن".
[12389]:في أ: "الله عز وجل".
[12390]:في أ: "الجائرين".
[12391]:في أ: "اعتره".
[12392]:ورواه البزار في مسنده برقم (175) من طريق: حدثنا محمد بن مرزوق والحسن بن أبي كبشة، حدثنا محمد بن بكر البرساني به. قال الهيثمي في المجمع (1/188): "إسناده حسن".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (175)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } . .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واتل يا محمد على قومك نبأ الذي آتيناه آياتنا ، يعني خبره وقصته . وكانت آيات الله للذي آتاه الله إياها فيما يقال اسم الله الأعظم ، وقيل النبوّة .

واختلف أهل التأويل فيه ، فقال بعضهم : هو رجل من بني إسرائيل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله في هذه الاَية : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : هو بلعم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، مثله .

قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : هو بلعم بن أَبر .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن ابن مسعود ، في قوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا قال : رجل من بني إسرائيل يقال له : بلعم بن أبر .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وابن مهدي وابن أبي عديّ ، قالوا : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، أنه قال في هذه الاَية ، فذكر مثله ، ولم يقل ابن أبر .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن ابن مسعود : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : رجل من بني إسرائيل يقال له : بلعم بن أبر .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن حصين ، عن عمران بن الحرث ، عن ابن عباس ، قال : هو بلعم بن باعرا .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن ابن مسعود ، في قوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا . . . إلى : فَكانَ مِنَ الغاوينَ هو بلعم بن أبر .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن الأعمش ، عن منصور عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن ابن مسعود ، مثله ، إلاّ أنه قال ابن أبُر ، بضم الباء .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : هو رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فانْسَلَخَ مِنْها قال : بَلعام بن باعرا ، من بني إسرائيل .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : سمعت مجاهدا يقول ، فذكر مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، أنه سمع مجاهدا يقول ، فذكر مثله .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن وابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن حصين ، عن عكرمة ، قال في الذي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : هو بلعام .

وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا غندر ، عن شعبة ، عن حصين ، عن عكرمة ، قال : هو بلعم .

قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن حصين ، عن عكرمة ، قال : هو بلعم .

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر ، قال : حدثنا شعبة ، عن حصين ، قال : سمعت عكرمة يقول : هو بَلعام .

حدثنا قال : حدثنا عبد العزيزي ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن حصين ، عن مجاهد ، قال : هو بلعم .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : هو بلعم . ( وقالت ثقيف : هو أمية بن أبي الصلت ) .

وقال آخرون : كان بلعم هذا من أهل اليمن . ذكر من قال ذلك .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : هو رجل يدعى بلعم من أهل اليمن .

وقال آخرون : كان من الكنعانيين . ذكر من قال ذلك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : هو رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعم .

وقال آخرون : هو أمية بن أبي الصلت . ذكر من قال ذلك .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سعيد بن السائب ، عن غضيف بن أبي سفيان ، عن يعقوب ونافع بن عاصم ، عن عبد الله بن عمرو ، قال في هذه الاَية : الّذي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : هو أمية بن أبي الصلت .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، قال : أنبأنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن نافع بن عاصم ، قال : قال عبد الله بن عمرو : هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن ووهب بن جرير ، قالا : حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن نافع بن عاصم ، عن عبد الله بن عمرو بمثله .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن رجل ، عن عبد الله بن عمرو : ولَكِنّهُ أخْلَدَ إلى الأرْض وَاتّبَعَ هَوَاهُ قال : هو أمية بن أبي الصلت .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا غندر ، عن شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، قال : سمعت نافع بن عاصم بن عروة بن مسعود ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو ، قال في هذه الاَية : الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : هو صاحبكم ، يعني أمية بن أبي الصلت .

قال : حدثنا أبي ، عن سفيان عن حبيب ، عن رجل عن عبد الله بن عمرو ، قال : هو أمية بن أبي الصلت .

قال : حدثنا يزيد ، عن شريك ، عن عبد الملك ، عن فضالة ، أو ابن فضالة ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : هو أمية .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن عبد الملك بن عمير ، قال : تذاكروا في جامع دمشق هذه الاَية : فانْسَلَخَ مِنْها فقال بعضهم : نزلت في بلعم بن باعوراء ، وقال بعضهم : نزلت في الراهب . فخرج عليهم عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقالوا : فيمن نزلت هذه ؟ قال : نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الكلبي : الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : هو أمية بن أبي الصلت ، وقال قتادة : يشكّ فيه ، يقول بعضهم : بلعم ، ويقول بعضهم : أمية بن أبي الصلت .

واختلف أهل التأويل في الاَيات التي كان أوتيها التي قال جلّ ثناؤه : آتَيْناهُ آياتِنا فقال بعضهم : كانت اسم الله الأعظم . ذكر من قال ذلك .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : إن الله لما انقضت الأربعون سنة ، يعني التي قال الله فيها : إنّها مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً بعث يُوشَعَ بن نون نبيا ، فدعا بني إسرائيل فأخبرهم أنه نبيّ وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبارين ، فبايعوه وصدّقوه . وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم ، وكان عالما يعلم الاسم الأعظم المكتوم ، فكفر وأتى الجبارين ، فقال : لا ترهبوا بني إسرائيل ، فاني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون وكان عندهم فيما شاء من الدنيا ، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء يعظمهن ، فكان ينكح أتانا له ، وهو الذي يقول الله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها : أي تنصل فانسلخ منها ، إلى قوله : وَلَكِنّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا قال : هو رجل يقال له : بلعم ، وكان يعلم اسم الله الأعظم .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها قال : كان لا يسأل الله شيئا إلاّ أعطاه .

وقال آخرون : بل الاَيات التي كان أوتيها كتاب من كتب الله . ذكر من قال ذلك .

حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان في بني إسرائيل بَلعام بن باعر أوتي كتابا .

وقال آخرون : بل كان أوتي النبوّة . ذكر من قال ذلك .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن غيره ، قال : الحارث قال : عبد العزيز يعني عن غير نفسه عن مجاهد ، قال : هو نبيّ في بني إسرائيل ، يعني بَلعم ، أوتي النبوّة ، فرشاه قومه على أن يسكت ، ففعل وتركهم على ما هم عليه .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، أنه سئل عن الاَية : وَاتْلُ عَلَيهِمْ نَبأَ الّذي آتَيْناهُ آياتنا فانْسَلَخَ مِنْها فحدّث عن سيّار أنه كان رجلاً يقال له بَلْعَام ، وكان قد أوتي النبوّة ، وكان مجاب الدعوة .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو على قومه خبر رجل كان الله آتاه حججه وأدلته ، وهي الاَيات .

وقد دللنا على أن معنى الاَيات الأدلة والأعلام فيما مضى بما أغنى عن إعادته ، وجائز أن يكون الذي كان الله آتاه ذلك بلعم ، وجائز أن يكون أمية ، وكذلك الاَيات إن كانت بمعنى الحجة التي هي بعض كتب الله التي أنزلها على بعض أنبيائه ، فتعلمها الذي ذكره الله في هذه الاَية ، وعناه بها فجائز أن يكون الذي كان أوتيها بلعم ، وجائز أن يكون أمية ، لأن أمية كان فيما يقال قد قرأ من كتب أهل الكتاب ، وإن كانت بمعنى كتاب أنزله الله على من أمر نبيّ الله عليه الصلاة والسلام أن يتلو على قومه نبأه أو بمعنى اسم الله الأعظم أو بمعنى النبوّة ، فغير جائز أن يكون معنيا به أمية لأن أمية لا تختلف الأمة في أنه لم يكن أوتي شيئا من ذلك . ولا خبر بأيّ ذلك المراد وأيّ الرجلين المعنيّ يوجب الحجة ولا في العقل دلالة على أن ذلك المعنيّ به من أيّ . فالصواب أن يقال فيه ما قال الله ، ويقرّ بظاهر التنزيل على ما جاء به الوحي من الله .

وأما قوله : فانْسَلَخَ مِنْها فإنه يعني : خرج من الاَيات التي كان الله آتاها إياه ، فتبرأ منها .

وبنحو ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : لما نزل موسى عليه السلام يعني بالجبارين ومن معه آتاه يعني بلعم بنو عمه وقومه فقالوا : إن موسى رجل حديد ، ومعه جنود كثيرة ، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا . فادع الله أن يردّ عنا موسى ومن معه قال : إني إن دعوت الله أن يردّ موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي . فلم يزالوا به حتى دعا عليهم ، فسلخه الله مما كان عليه ، فذلك قوله : فانْسَلَخَ مِنْها فَأتْبَعَهُ الشّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغاوِينَ .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : كان الله آتاه آياته فتركها .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال ابن عباس : فانْسَلَخَ مِنْها قال : نزع منه العلم .

وقوله : فَأتْبَعَهُ الشّيْطانُ يقول : فصيره لنفسه تابعا ينتهي إلى أمره في معصية الله ، ويخالف أمر ربه في معصية الشيطان وطاعة الرحمن . وقوله : فَكانَ مِنَ الغاوينَ يقول : فكان من الهالكين لضلاله وخلافه أمرَ ربه وطاعة الشيطان .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (175)

{ واتل عليهم } أي على اليهود . { نبأ الذي آتيناه آياتنا } هو أحد علماء بني إسرائيل ، أو أمية بن أبي الصلت فإنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى مرسل رسولا في ذلك الزمان ، ورجا أن يكون هو فلما بعث محمد عليه السلام حسده وكفر به ، أو بلعم بن باعوراء من الكنعانيين أوتي علم بعض كتب الله ، { فانسلخ منها } من الآيات بأن كفر بها وأعرض عنها . { فأتبعه الشيطان } حتى لحقه وقيل استتبعه . { فكان من الغاووين } فصار من الضالين . روي أن قومه سألوه أن يدعو على موسى ومن معه فقال : كيف أدعو على من معه الملائكة ، فألحوا حتى دعا عليهم فبقوا في التيه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (175)

وقوله تعالى : { واتل عليهم } الآية { اتل } معناه قص واسرد ، والضمير في { عليهم } عائد على حاضري محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار وغيرهم ، واختلف المتأولون في الذي أوتي الآيات ، فقال عبد الله بن مسعود وغيره : هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مدين داعياً إلى الله تعالى وإلى الشريعة وعلمه من آيات الله ما يمكن أن يدعو به وإليه ، فلما وصل رشاه الملك وأعطاه على أن يترك دين موسى ويتابع الملك على دينه ، ففعل وفتن الملك به الناس وأضلهم ، وقال ابن عباس : هو رجل من الكنعانيين الجبارين اسمه بلعم ، وقيل بلعام بن عابر ، وقيل ابن آبر ، وقيل غير هذا مما ذكره تطويل ، وكان في جملة الجبارين الذي غزاهم موسى عليه السلام ، فلما قرب منهم موسى لجؤوا إلى بلعام وكان صالحاً مستجاب الدعوة ، وقيل كان عنده علم من صحف إبراهيم ونحوها ، وقال مجاهد كان رشح للنبوءة وأعطيها فرشاه قومه على أن يسكت ففعل .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول مردود لا يصح عن مجاهد ، ومن أعطي النبوءة فقد أعطي العصمة ولا بد ، ثبت هذا بالشرع ، وقد نص معنى ما قلته أبو المعالي في كتاب الشامل ، وقيل كان يعلم اسم الله الأعظم ، قاله ابن عباس أيضاً ، وهذا الخلاف في المراد بقوله : { آياتنا } ، فقال له قومه ادع الله تعالى على موسى وعسكره ، فقال لهم وكيف أدعوا على نبي مرسل ، فما زالوا به حتى فتنوه فخرج حتى أشرف على جبل يرى منه عسكر موسى ، وكان قد قال لقومه : لا أفعل حتى أستأمر ربي ففعل فنهي عن ذلك ، فقال لهم قد نهيت ، فما زالوا به ، قال :أستأمر ربي ثانية ففعل فسكت عنه فأخبرهم فقالوا له إن الله لم يدع نهيك إلا وقد أراد ذلك ، فخرج ، فلما أشرف على العسكر جعل يدعو على موسى فتحول لسانه بالدعاء لموسى والدعاء على قومه ، فقالوا له ما تقول ؟ فقال إني لا أملك إلا هذا وعلم أنه قد أخطأ ، فروي أنه خرج لسانه على صدره ، فقال لقومه إني قد هلكت ولكن لم تبق لكم إلا الحيلة فأخرجوا النساء إلى عسكر موسى على جهة التجرد وغيره وُمروهن ألا تمتنع امرأة من رجل فإنهم إذا زنوا هلكوا ، ففعلوا فخرج النساء فزنى بهن رجال بني إسرائيل ، وجاء فنحاص بن العيزار بن هارون ، فانتظم برمحه امرأة ورجلاً من بني إسرائيل ، ورفعهما على أعلى الرمح فوقع في بني إسرائيل الطاعون فمات منهم في ساعة واحدة سبعون ألفاً ، ثم ذكر المعتز عن أبيه أن موسى عليه السلام قتل بعد ذلك الرجل المنسلخ من آيات الله ، قال المهدوي : روي أنه دعا على موسى أن لا يدخل مدينة الجبارين فأجيب ، ودعا عليه موسى صلى الله عليه وسلم أن ينسى اسم الله الأعظم فأجيب قال الزجّاج : وقيل إن الإشارة إلى منافقي أهل الكتاب .

قال القاضي أبو محمد : وصواب هذا أن يقال إلى كفار أهل الكتاب لأنه لم يكن منهم منافق إنما كانوا مجاهرين ، وفي هذه القصة روايات كثيرة اختصرتها لتعذر صحتها واقتصرت منها على ما يخص ألفاظ الآية ، وقالت فرقة : المشار إليه في الآية رجل كان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات فترك أن يدعو بها في مصالح العباد فدعا بواحدة أن ترجع امرأته أجمل النساء ، فكان ذلك ، فلما رأت نفسها كذلك أبغضته واحتقرته فدعا عليها ثانية فمسخت كلبة ، فشفع لها بنوها عنده فدعا لها الثالثة فعادت كما كانت ، ثم انصرفت إلى حالها فذهبت الدعوات . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : المشار إليه في الآية أمية بن أبي الصلت ، وكان قد أوتي علماً ، وروي أنه جاء يريد الإسلام فوصل إلى بدر بعد الوقعة بيوم أو نحوه فقال من قتل هؤلاء ؟ فقيل محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا حاجة لي بدين من قتل هؤلاء ، فارتد ورجع ، وقال : الآن حلت لي الخمر ، وكان قد حرمها على نفسه ، فمر حتى لحق بقوم من ملوك حمير فنادمهم حتى مات ، و { انسلخ } عبارة عن البراءة منها والانفصال والبعد كالسلخ من الثياب ، والجلد و { أتبعه } صيره تابعاً كذا قال الطبري إما لضلالة رسمها له وإما لنفسه ، وقرأ الجمهور «فأتبعه » بقطع الألف وسكون التاء ، وهي راجحة لأنها تتضمن أنه لحقه وصار معه ، وكذلك { فأتبعه شهاب } و { فأتبعهم فرعون } وقرأ الحسن فيما روى عنه هارون «فاتّبعه » بصلة الألف وشد التاء وكذلك طلحة بن مصرف بخلاف ، وكذلك الخلاف عن الحسن على معنى لازمه «اتبعه » بالإغواء حتى أغواه ، و { من الغاوين } أي من الضالين .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (175)

أعقب ما يُفيد أن التوحيد جعل في الفطرة بذكر حالة اهتداء بعض الناس إلى نبذ الشرك في مبدأ أمره ثم تعرّض وساوس الشيطان له بتحسين الشرك .

ومناسبتُها للتي قبلها إشارة العبرة من حال أحد الذين أخذ الله عليهم العهد بالتوحيد والامتثال لأمر الله ، وأمده الله بعلم يعينه على الوفاء بما عاهد الله عليه في الفطرة ، ثم لم ينفعه ذلك كله حين لم يقدر الله له الهدى المستمر .

وشأن القصص المفتتحة بقوله : { واتل عليهم } أن يقصد منها وعظ المشركين بصاحب القصة بقرينة قوله : { ذلك مثل القوم } الخ ، ويحصل من ذلك أيضاً تعليم مثل قوله : { واتل عليهم نبأ نوحٍ } [ يونس : 71 ] { واتل عليهم نبأ إبراهيم } [ الشعراء : 69 ] { نَتْلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق } [ القصص : 3 ] ونظائر ذلك ، فضمير { عليهم } راجع إلى المشركين الذين وجهت إليهم العبر والمواعظ من أول هذه السورة ، وقصت عليهم قصص الأمم مع رسلهم ، على أن توجيه ضمائر الغيبة إليهم أسلوب متبع في مواقع كثيرة من القرآن ، كما قدّمناه غير مرة ، فهذا من قبيل رد العجُز على الصدر .

ومناسبة فعل التلاوة لهم أنهم كانوا قوماً تغلب عليهم الأمية فأراد الله أن يبلّغ إليهم من التعليم ما يُساوون به حال أهل الكتاب في التلاوة ، فالضمير المجرور ب ( على ) عائد إلى معلوم من السياق وهم المشركون ، وكثيراً ما يجيء ضمير جمع الغائب في القرآن مراداً به المشركون كقوله : { عم يتساءلون } [ النبأ : 1 ] .

والنبأ الخبر المروي .

وظاهر اسم الموصول المفرد أن صاحب الصلة واحد معيّن ، وأن مضمون الصلة حال من أحواله التي عرف بها ، والأقرب أن يكون صاحب هذا النبأ ممّن للعرب إلمام بمجمل خبره .

فقيل المعنى به أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وروي هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاصي ، بأسانيد كثيرة عند الطبري ، وعن زيد بن أسلم ، وقال القرطبي في « التفسير » هو الأشهر ، وهو قول الأكثر ذلك أن أمية بن أبي الصلت الثقفي كان ممن أراد اتباع دين غير الشرك طالباً دين الحق ، ونظر في التوراة والإنجيل فلم ير النجاة في اليهودية ولا النصرانية ، وتزهّد وتوخّى الحنيفية دينَ إبراهيم ، وأخبر أن الله يبعث نبيّاً في العرب ، فطمع أن يكونَه ، ورفض عبادة الأصنام ، وحرم الخمر ، وذكر في شعره أخباراً من قصص التوراة ، ويروى أنه كانت له إلهامات ومكاشفات وكان يقول :

كُل دين يومَ القيامة عند *** اللَّه إلا دين الحنيفيةُ زُورُ

وله شعر كثير في أمورٍ إلآهية ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم أسف أن لم يكن هو الرسول المبعوث في العرب ، وقد اتفق أن خرج إلى البحرين قبل البعثة وأقام هنالك ثمان سنين ثم رجع إلى مكة فوجد البعثة ، وتردد في الإسلام ، ثم خرج إلى الشام ورجع بعد وقعة بدر فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم حسداً ، ورثى من قُتل من المشركين يومَ بدر ، وخرج إلى الطائف بلاد قومه فمات كافراً .

وكان يذكر في شعره الثواب والعقاب واسم الله وأسماء الأنبياء ، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم " كاد أمية بن أبي الصلت أن يُسلم " وروي عن أمية أنه قال لما مرِض مَرض موته « أنا أعلم أن الحنيفية حق ، ولكن الشك يداخلني في محمد » .

فمعنى { آتيناه آياتنا } أن الله ألهم أمية كراهية الشرك ، وألقى في نفسه طلب الحق ، ويسّر له قراءة كتب الأنبياء ، وحّبب إليه الحنيفية ، فلما انفتح له باب الهدى وأشرق نور الدعوة المحمدية كابَر وحسَد وأعرض عن الإسلام ، فلا جرم أن كانت حاله أنه انسلخ عن جميع ما يُسر له ، ولم ينتفع به عند إبان الانتفاع ، فكان الشيطان هو الذي صرفه عن الهدى فكان من الغاوين ، إذ مات على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم .

وقال سعيد بن المسيب نزلت في أبي عامر بن صيفي الراهب ، واسمه النعمان الخزرجي ، وكان يلقب بالراهب في الجاهلية لأنه قد تنصّر في الجاهلية ، ولبس المسوح وزعم أنه على الحنيفية ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « يا محمد ما الذي جئت به قال جئت بالحنيفية دين إبراهيم قال فإني عليها فقال النبي لست عليها لأنك أدخلت فيها ما ليس منها » فكفر وخرج إلى مكة يحرّض المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم ويخرج معهم ، إلى أن قاتل في حُنين بعد فتح مكة ، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج إلى الشام فمات هنالك .

وذهب كثير من المفسرين إلى أنها نزلت في رجل من الكنعانيين ، وكان في زمن موسى عليه السلام يقال له : بلعام بن باعُور ، وذكروا قصته فخلطوها وغيروها واختلفُوا فيها ، والتحقيق أن بلعام هذا كان من صالحي أهل مَدْيَن وعرّافيهم في زمن مرور بني إسرائيل على أرض ( مُؤاب ) ولكنه لم يتغير عن حال الصلاح ، وذلك مذكور في سفر العدد من التوراة في الاصحاحات 22- 23- 24 فلا ينبغي الإلتفات إلى هذا القول لاضطرابه واختلاطه .

والإيتاء هنا مستعار للإطْلاَع وتيسير العلم مثل قوله { وآتاه الله الملك والحكمة } [ البقرة : 251 ] .

و« الآيات » دلائل الوحدانية التي كرّهت إليه الشرك وبعثته على تطلب الحنيفية بالنسبة لأمية بن أبي الصلت ، أو دلائل الإنجيل على صفة محمد صلى الله عليه وسلم بالنسبة للراهب أبي عامر بن صيفي .

والانسلاخ حقيقته خروج جسد الحيوان من جلده حينما يُسلخ عنه جلده ، والسلخ إزالة جلد الحيوان الميت عن جسده ، واستعير في الآية للانفصال المعنوي ، وهو ترك التلبس بالشيء أو عدم العمل به ، ومعنى الانسلاخ عن الآيات الإقلاع عن العمل بما تقتضيه ، وذلك أن الآيات أعلمته بفساد دين الجاهلية .

وأتْبعهُ بهمزة قطع وسكون المثناة الفوقيه بمعنى لحقة غير مُفلت كقوله : { فأتبعه شهابٌ ثاقب } [ الصافات : 10 ] { فأتبعهم فرعون بجنوده } [ طه : 78 ] وهذا أخص من اتّبعه بتشديد المثناة ووصل الهمزة .

والمراد بالغاوين : المتصفين بالغي وهو الضلال { فكان من الغاوين } أشد مبالغة في الاتصاف بالغواية من أن يقال : وغوى أو كان غاوياً ، كما تقدم عند قوله تعالى : { قد ضَلَلْت إذاً وما أنا من المهتدين } في سورة الأنعام ( 56 ) .

ورتبت أفعال الانسلاخ والاتباع والكون من الغاوين بفاء العطف على حسب ترتيبها في الحصول ، فإنه لما عاند ولم يعمل بما هداه الله إليه حصلت في نفسه ظلمة شيطانية مكنت الشيطان من استخدامه وإدامة إضلاله ، فالانسلاخ على الآيات أثرٌ من وسوسة الشيطان ، وإذا أطاع المرء الوسوسة تمكن الشيطان من مقاده ، فسخره وأدام إضلاله ، وهو المعبر عنه ب{ أتبعه } فصار بذلك في زُمرة الغواة المتمكنين من الغواية .