145- وما كان إنكار أهل الكتاب عليكم لشبهة تزيلها الحُجة ، بل هو إنكار عناد ومكابرة فلئن جئتهم - أيها الرسول - بكل حُجة قطعية على أن قبلتك هي الحق ما تبعوا قبلتك ، وإذا كان اليهود منهم يطمعون في رجوعك إلى قبلتهم ويعلِّقون إسلامهم على ذلك فقد خاب رجاؤهم وما أنت بتابع قبلتهم ، وأهل الكتاب أنفسهم يتمسك كل فريق منهم بقبلته : فلا النصارى يتبعون قبلة اليهود ولا اليهود يتبعون قبلة النصارى ، وكل فريق يعتقد أن الآخر ليس على حق ، فاثبت على قبلتك ولا تتبع أهواءهم ، فمن اتبع أهواءهم - بعد العلم ببطلانها والعلم بأن ما عليه هو الحق - فهو من الظالمين الراسخين في الظلم .
- ثم أخبر الله - تعالى - عن كفر اليهود وعنادهم ، وأنهم لن يتبعوا الحق ولو جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم بكل آية . فقال تعالى :
{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب . . . }
المعنى : ولئن جئت - يا محمد - اليهود ومن على طريقتهم في الكفر بكل برهان وحجة ، بأن الحق هو ما جئتهم به ، من فرض التحول من قبلة بيت المقدس في الصلاة إلأى قبلة المسجد الحرام ، ما صدقوا به ، لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة يزيلها الدليل ، وإنما هو عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من أنك على الحق المبين .
وما أنت - يا محمد - بتابع قبلتهم ، لأنك على الهدى وهم على الضلال وفي هذه الجملة الكريمة حسم لأطماعهم ، وتقرير لحقية القبلة إلى الكعبة ، بعد أن أشاعوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لو ثبت على قبلتهم لكانوا يرجون أنهن النبي المنتظر ، فقطع القرآن الكريم آمالهم في رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم ، وأخبر بأنه ليس يتابع لها .
ثم ذكر القرآن الكريم اختلاف أهل الكتاب في القبلة ، وأن كل طائفة منهم لا تتبع قبلة الطائفة الأخرى فقال تعالى : { وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } أي : ما اليهود بمتبعين لقبلة النصارى ولا النصارى بمتبعين لقبلة اليهود ، فهم مع اتفاقهم على مخالفتك ، مختلفون في باطلهم وذلك لأن اليهود تستقبل بيت المقدس ، والنصارى تستقبل مطلع الشمس .
ثم ساق القرآن الكريم بعد ذلك تحذيراً للأمة كلها من اتباع أهل الكتاب ، وجاء هذا التحذير في شخص النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين } .
أي : لئن اتبعت - يا محمد - قبلتهم - على سبيل الفرض ، والتقدير من بعد وضوح البرهان وإعلامي إياك بإقامتهم على الباطل ، إنك إذاً لمن الظالمين لأنفسهم ، المخالفين لأمري .
فالآية الكريمة : وعيد وتحذير للأمة الإِسلامية من اتباع آراء اليهود المنبعثة عن الهوى والشهوة ، وسيق الوعيد والتحذير في صورة الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا يتوقع منه أن يتبع أهواء أهل الكتاب ، تأكيداً للوعيد والتحذير ، فكأنه يقول :
لو اتبع أهواءهم أفضل لخليقة ، وأعلاهم منزلة عندي ، لجازيته مجازاة الظالمين ، وأحق بهذه المجازاة وأولى من كانوا دونه في الفضل وعلو المنزلة إن اتبعوا أهواء المبطلين وهم اليهود ومن كان على شاكلتهم من المشركين .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : كيف قال وما أنت بتابع قبلتهم ولهم قبلتان ، لليهود قبلة وللنصارى قبلة ؟
قلت : كلتا القبلتين باطلة ، مخالفة لقبلة الحق ، فكانت بحكم الاتحاد في البطلان قبلة واحدة " .
( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ) . .
فهم في عناد يقوده الهوى ، وتؤرثه المصلحة ، ويحدوه الغرض . . وإن كثيرا من طيبي القلوب ليظنون أن الذي يصد اليهود والنصارى عن الإسلام أنهم لا يعرفونه ، أو لأنه لم يقدم إليهم في صورة مقنعة . . وهذا وهم . . إنهم لا يريدون الإسلام لأنهم يعرفونه ! يعرفونه فهم يخشونه على مصالحهم وعلى سلطانهم ؛ ومن ثم يكيدون له ذلك الكيد الناصب الذي لا يفتر ، بشتى الطرق وشتى الوسائل . عن طريق مباشر وعن طرق أخرى غير مباشرة . يحاربونه وجها لوجه ، ويحاربونه من وراء ستار . ويحاربونه بأنفسهم ويستهوون من أهله من يحاربه لهم تحت أي ستار . . وهم دائما عند قول الله تعالى لنبيه الكريم : ( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ) .
وفي مواجهة هذا الإصرار من أهل الكتاب على الاعراض عن قبلة الإسلام ومنهجه الذي ترمز هذه القبلة له ، يقرر حقيقة شأن النبي [ ص ] وموقفه الطبيعي :
ليس من شأنك أن تتبع قبلتهم أصلا . واستخدام الجملة الأسمية المنفية هنا أبلغ في بيان الشأن الثابت الدائم للرسول [ ص ] تجاه هذا الأمر . وفيه إيحاء قوي للجماعة المسلمة من ورائه . فلن تختار قبلة غير قبلة رسولها التي اختارها له ربه ورضيها له ليرضيه ؛ ولن ترفع راية غير رايتها التي تنسبها إلى ربها ؛ ولن تتبع منهجا إلا المنهج الإلهي الذي ترمز له هذه القبلة المختارة . . هذا شأنها ما دامت مسلمة ؛ فإذا لم تفعل فليست من الإسلام في شيء . . إنما هي دعوى . .
ويستطرد فيكشف عن حقيقة الموقف بين أهل الكتاب بعضهم وبعض ؛ فهم ليسوا على وفاق ، لأن الأهواء تفرقهم :
( وما بعضهم بتابع قبلة بعض ) . .
والعداء بين اليهود والنصارى ، والعداء بين الفرق اليهودية المختلفة ، والعداء بين الفرق النصرانية المختلفة أشد عداء .
وما كان للنبي [ ص ] وهذا شأنه وهذا شأن أهل الكتاب ، وقد علم الحق في الأمر ، أن يتبع أهواءهم بعدما جاءه من العلم :
( ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ) . .
ونقف لحظة أمام هذا الجد الصارم ، في هذا الخطاب الإلهي من الله سبحانه إلى نبيه الكريم الذي حدثه منذ لحظة ذلك الحديث الرفيق الودود . .
إن الأمر هنا يتعلق بالاستقامة على هدي الله وتوجيهه ؛ ويتعلق بقاعدة التميز والتجرد إلا من طاعة الله ونهجه . ومن ثم يجيء الخطاب فيه بهذا الحزم والجزم ، وبهذه المواجهة والتحذير . . ( إنك إذا لمن الظالمين ) . .
إن الطريق واضح ، والصراط مستقيم . . فإما العلم الذي جاء من عند الله . وإما الهوى في كل ما عداه . وليس للمسلم أن يتلقى إلا من الله . وليس له أن يدع العلم المستيقن إلى الهوى المتقلب . وما ليس من عند الله فهو الهوى بلا تردد .
وإلى جانب هذا الإيحاء الدائم نلمح كذلك أنه كانت هناك حالة واقعة من بعض المسلمين ، في غمرة الدسائس اليهودية وحملة التضليل الماكرة ، تستدعي هذه الشدة في التحذير ، وهذا الجزم في التعبير .
يخبر تعالى{[2938]} عن كُفر اليهود وعنادهم ، ومخالفتهم ما{[2939]} يعرفونه من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به ، لما اتبعوه وتركوا أهواءهم{[2940]} كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] ولهذا قال هاهنا : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } .
وقوله { وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ [ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ] } إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به ، وأنه كما هم مُسْتَمْسكون{[2941]} بآرائهم وأهوائهم ، فهو أيضًا مستمسك{[2942]} بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته ، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله ، وما كان{[2943]} متوجها إلى بيت المقدس ؛ لأنها{[2944]} قبلة اليهود ، وإنما ذلك عن أمر الله تعالى{[2945]} . ثم حذر [ الله ]{[2946]} تعالى عن مخالفة الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى ؛ فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره . ولهذا قال مخاطبا للرسول ، والمراد الأمة : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 145 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلّ آيَةٍ مّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنّكَ إِذَاً لّمِنَ الظّالِمِينَ }
يعني بذلك تبارك اسمه : ولئن جئت يا محمد اليهود والنصارى بكل برهان وحجة وهي الآية بأن الحقّ هو ما جئتهم به من فرض التحوّل من قبلة بيت المقدس في الصلاة إلى قبلة المسجد الحرام ، ما صدّقوا به ولا اتبعوا مع قيام الحجة عليهم بذلك قبلتك التي حوّلتك إليها وهي التوجه شطر المسجد الحرام . وأجيبت «لئن » بالماضي من الفعل وحكمها الجواب بالمستقبل تشبيها لها ب«لو » ، فأجيبت بما تجاب به ( لو ) لتقارب معنييهما وقد مضى البيان عن نظير ذلك فيما مضى . وأجيبت «لو » بجواب الأيمان ، ولا تفعل العرب ذلك إلا في الجزاء خاصة ، لأن الجزاء مشابه اليمين في أن كل واحد منهما لا يتمّ أوّله إلا بآخره ، ولا يتمّ وحده ، ولا يصحّ إلا بما يؤكد به بعده ، فلما بدأ باليمين فأدخلت على الجزاء صارت اللام الأولى بمنزلة يمين ، والثانية بمنزلة جواب لها ، كما قيل : لعمرك لتقومنّ ، إذ كثرت اللام من «لعمرك » حتى صارت كحرف من حروفه ، فأجيب بما يجاب به الأيمان ، إذ كانت اللام تنوب في الأيمان عن الأيمان دون سائر الحروف غير التي هي أحقّ به الأيمان ، فتدلّ على الأيمان وتعمل عمل الأجوبة ، ولا تدلّ سائر أجوبة الأيمان لنا على الأيمان فشبهت اللام التي في جواب الأيمان بالأيمان لما وصفنا ، فأجيبت بأجوبتها . فكان معنى الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا : لو أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك .
وأما قوله : وَمَا أنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ يقول : وما لك من سبيل يا محمد إلى اتباع قبلتهم ، وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس بصلاتها ، وأن النصارى تستقبل المشرق ، فأنى يكون لك السبيل إلى اتباع قبلتهم مع اختلاف وجوهها . يقول : فالزم قبلتك التي أمرت بالتوجه إليها ، ودع عنك ما تقوله اليهود والنصارى ، وتدعوك إليه من قبلتهم واستقبالها .
وأما قوله : وَمَا بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ فإنه يعني بقوله : وما اليهود بتابعة قبلة النصارى ، ولا النصارى بتابعة قبلة اليهود فمتوجهة نحوها . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَمَا بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ يقول : ما اليهود بتابعي قبلة النصارى ، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود . قال : وإنما أنزلت هذه الآية من أجل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما حوّل إلى الكعبة ، قالت اليهود : إن محمدا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده ، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر فأنزل الله عز وجلّ فيهم : وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ إلى قوله : لَيَكْتُمُونَ الحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .
حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ مثل ذلك .
وإنما يعني جل ثناؤه بذلك أن اليهود والنصارى لا تجتمع على قبلة واحدة مع إقامة كل حزب منهم على ملتهم ، فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد لا تُشعر نفسك رضا هؤلاء اليهود والنصارى ، فإنه أمر لا سبيل إليه ، لأنهم مع اختلاف مللهم لا سبيل لك إلى إرضاء كل حزب منهم ، من أجل أنك إن اتبعت قبلة اليهود أسخطت النصارى ، وإن اتبعت قبلة النصارى أسخطت اليهود ، فدع ما لا سبيل إليه ، وادعهم إلى ما لهم السبيل إليه من الاجتماع على ملتك الحنيفية المسلمة ، وقبلتك قبلة إبراهيم والأنبياء من بعده .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ إنّكَ إذا لَمِنَ الظّالِمِينَ .
يعني بقوله جل ثناؤه : وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ : ولئن التمست يا محمد رضا هؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك : كُونُوا هُودا أوْ نَصَارَىَ تَهْتَدُوا فاتبعت قبلتهم يعني فرجعت إلى قبلتهم .
ويعني بقوله : مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ ، من بعد ما وصل إليك من العلم بإعلامي إياك أنهم مقيمون على باطل وعلى عناد منهم للحقّ ، ومعرفة منهم أن القبلة التي وجهتك إليها هي القبلة التي فرضت على أبيك إبراهيم عليه السلام وسائر ولده من بعده من الرسل التوجه نحوها إنّكَ إذا لَمِنَ الظّالِمِينَ يعني أنك إذا فعلت ذلك من عبادي الظلمة أنفسهم ، المخالفين أمري ، والتاركين طاعتي ، واحدُهم وفي عدادهم .
{ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية } برهان وحجة على أن الكعبة قبلة ، واللام موطئة للقسم { ما تبعوا قبلتك } ، جواب للقسم المضمر ، والقسم وجوابه ساد مسد جواب الشرط ، والمعنى ما تركوا قبلتك لشبهة تزيلها بالحجة ، وإنما خالفوك مكابرة وعنادا .
{ وما أنت بتابع قبلتهم } قطع لأطماعهم ، فإنهم قالوا : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره ، تغريرا له وطمعا في رجوعه ، وقبلتهم وإن تعددت لكنها متحدة بالبطلان ومخالفة الحق . { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } فإن اليهود تستقبل الصخرة ، والنصارى مطلع الشمس . لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك ، لتصلب كل حزب فيما هو فيه { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم } على سبيل الفرض والتقدير ، أي : ولئن اتبعتهم مثلا بعدما بان لك الحق وجاءك فيه الوحي { إنك إذا لمن الظالمين } وأكد تهديده وبالغ فيه من سبعة أوجه : أحدها : الإتيان باللام الموطئة للقسم : ثانيها : القسم المضمر . ثالثها : حرف التحقيق وهو أن . رابعها : تركيبه من جملة فعلية وجملة اسمية . وخامسها : الإتيان باللام في الخبر . وسادسها : جعله من { الظالمين } ، ولم يقل إنك ظالم لأن في الاندراج معهم إيهاما بحصول أنواع الظلم . وسابعها : التقييد بمجيء العلم تعظيما للحق المعلوم ، وتحريصا على اقتفائه وتحذيرا عن متابعة الهوى ، واستفظاعا لصدور الذنب عن الأنبياء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب}: اليهود...ومن النصارى أهل نجران السيد والعاقب، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بآية نعرفها كما كانت الأنبياء تأتي بها، فأنزل الله عز وجل: {ولئن أتيت}، يقول: ولئن جئت يا محمد {الذين أوتوا الكتاب} {بكل آية ما تبعوا قبلتك}، يعني الكعبة. {وما أنت بتابع قبلتهم}، يعني بيت المقدس. ثم قال: {وما بعضهم بتابع قبلة بعض}، يقول: إن اليهود يصلون قبل المغرب لبيت المقدس، والنصارى قبل المشرق، فأنزل الله عز وجل يحذر نبيه صلى الله عليه وسلم ويخوفه: {ولئن اتبعت أهواءهم}، فصليت إلى قبلتهم {من بعد ما جاءك من العلم}، يعني البيان، {إنك إذا لمن الظالمين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك تبارك اسمه: ولئن جئت يا محمد اليهود والنصارى بكل برهان وحجة وهي الآية بأن الحقّ هو ما جئتهم به من فرض التحوّل من قبلة بيت المقدس في الصلاة إلى قبلة المسجد الحرام، ما صدّقوا به ولا اتبعوا مع قيام الحجة عليهم بذلك قبلتك التي حوّلتك إليها وهي التوجه شطر المسجد الحرام...
"وَمَا أنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ": وما لك من سبيل يا محمد إلى اتباع قبلتهم، وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس بصلاتها، وأن النصارى تستقبل المشرق، فأنى يكون لك السبيل إلى اتباع قبلتهم مع اختلاف وجوهها. يقول: فالزم قبلتك التي أمرت بالتوجه إليها، ودع عنك ما تقوله اليهود والنصارى، وتدعوك إليه من قبلتهم واستقبالها.
"وَمَا بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ": وما اليهود بتابعة قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعة قبلة اليهود فمتوجهة نحوها... وإنما أنزلت هذه الآية من أجل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما حوّل إلى الكعبة، قالت اليهود: إن محمدا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر فأنزل الله عز وجلّ فيهم: "وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ "إلى قوله: "لَيَكْتُمُونَ الحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ".
وإنما يعني جل ثناؤه بذلك أن اليهود والنصارى لا تجتمع على قبلة واحدة مع إقامة كل حزب منهم على ملتهم، فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد لا تُشعر نفسك رضا هؤلاء اليهود والنصارى، فإنه أمر لا سبيل إليه، لأنهم مع اختلاف مللهم لا سبيل لك إلى إرضاء كل حزب منهم، من أجل أنك إن اتبعت قبلة اليهود أسخطت النصارى، وإن اتبعت قبلة النصارى أسخطت اليهود، فدع ما لا سبيل إليه، وادعهم إلى ما لهم السبيل إليه من الاجتماع على ملتك الحنيفية المسلمة، وقبلتك قبلة إبراهيم والأنبياء من بعده.
"وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ إنّكَ إذا لَمِنَ الظّالِمِينَ": ولئن التمست يا محمد رضا هؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك: "كُونُوا هُودا أوْ نَصَارَىَ تَهْتَدُوا "فاتبعت قبلتهم يعني فرجعت إلى قبلتهم.
"مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ": من بعد ما وصل إليك من العلم بإعلامي إياك أنهم مقيمون على باطل وعلى عناد منهم للحقّ، ومعرفة منهم أن القبلة التي وجهتك إليها هي القبلة التي فرضت على أبيك إبراهيم عليه السلام وسائر ولده من بعده من الرسل التوجه نحوها، "إنّكَ إذا لَمِنَ الظّالِمِينَ" يعني أنك إذا فعلت ذلك من عبادي الظلمة أنفسهم، المخالفين أمري، والتاركين طاعتي، واحدُهم وفي عدادهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه في موضع الإخبار بالإياس من الاتباع له، ولا يوصل إلى مثله إلا بالوحي عن الله عز وجل.
وفيه أن كثرة الآيات وعظمها في نفسها لا يعجز المعاند عن اتباع هواه والاعتقاد لما يخالف هواه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله: (وما أنت بتابع قبلتهم) قيل في معناه أربعة أقوال:
أولها: أنه لما قال: (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم) على وجه المقالة كما تقول: ما هم بتاركي إنكار الحق وما أنت بتارك الاعتراف به، فيكون الذي جر الكلام التقابل للكلام الأول، وذلك حسن من كلام البلغاء.
الثاني: أن يكون المراد أنه ليس يمكنك استصلاحهم باتباع قبلتهم لاختلاف وجهتهم، لأن النصارى يتوجهون إلى المشرق، واليهود إلى بيت المقدس، فبين الله تعالى: أن رضا الفريقين محال.
الثالث: أن يكون المراد حسم طمع أهل الكتاب من اليهود إذ كانوا طمعوا في ذلك وظنوا أنه يرجع إلى الصلاة إلى بيت المقدس، وماجوا في ذكره.
الرابع: أنه لما كان النسخ مجوزا قبل نزول هذه الآية، فأنزل الله تعالى الآية، ليرتفع ذلك التجوز.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} يعني أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة لا يرجى اتفاقهم، كما لا ترجى موافقتهم لك. وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى مطلع الشمس. أخبر عز وجل عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه، فالمحق منهم لا يزل عن مذهبه لتمسكه بالبرهان، والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده. وقوله: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله {وما أنت بتابع قبلتهم} كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير، بمعنى: ولئن اتبعتم مثلاً بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر {إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظالمين} المرتكبين الظلم الفاحش. وفي ذلك لطف للسامعين وزيادة تحذير. واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى، وتهييج وإلهاب للثبات على الحق.فإن قلت: كيف قال: (وما أنت بتابع قبلتهم) ولهم قبلتان لليهود قبلة وللنصارى قبلة؟ قلت: كلتا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحق، فكانتا بحكم الاتحاد في البطلان قبلة واحدة...
قوله تعالى: {من بعد ما جاءك من العلم} فيه مسألتان:
المسألة الأولى: أنه تعالى لم يرد بذلك أنه نفس العلم جاءك، بل المراد الدلائل والآيات والمعجزات، لأن ذلك من طرق العلم، فيكون ذلك من باب إطلاق اسم الأثر على المؤثر.
واعلم أن الغرض من الاستعارة هو المبالغة والتعظيم فكأنه سبحانه وتعالى عظم أمر النبوات والمعجزات بأن سماها باسم العلم، وذلك ينبهك على أن العلم أعظم المخلوقات شرفا ومرتبة.
المسألة الثانية: دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم لأن قوله: {من بعد ما جاءك من العلم} يدل على ذلك.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} أي وتالله لئن جئتهم بكل آية على نبوتك وكل حجة على صدقك، ما تبعوا قبلتك فضلا عن ملتك فلا يحزنك قولهم ولا إعراضهم، ولا تحسبن الآيات والدلائل مقنعة أو صارفة لهم عن عنادهم، فهم قوم مقلدون لا نظر لهم ولا استدلال. وكما أيأسه من اتباعهم قبلته أيأسهم من اتباعه قبلتهم فقال: {وما أنت بتابع قبلتهم} فإنك الآن على قبلة إبراهيم الذي يجلونه جميعا، ولا يختلف في حقيقة ملته أحد منهم، فهي الأجدر بالاجتماع عليها، وترك الخلاف إليها، فإذا كان أتباع إبراهيم لا يزحزحهم عن تعصبهم لما ألفوا، وعنادهم فيما اختلفوا، وإذا كان التقليد يحول بينهم وبين النظر في حقيقة معنى القبلة، وكون الجهات كلها لله تعالى، وأن الفائدة فيها الاجتماع دون الافتراق، فأي دليل أم أية آية ترجعهم عن قبلتهم؟ وأي فائدة ترجى من موافقتك إياهم عليها؟ ألم تر كيف اختلفوا هم في القبلة فجعل النصارى لهم قبلة غير قبلة اليهود التي كان عليها عيسى بعد موسى.
{وما بعضهم بتابع قبلة بعض} لأن كلا منهم قد جمد بالتقليد على ما هو عليه، والمقلد لا ينظر في آية ولا دليل، ولا في فائدة ما هو فيه والمقارنة بينه وبين غيره، فهو أعمى لا يبصر، أصم لا يسمع، أغلف القلب لا يعقل {ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم إنك لمن الظالمين} أي ولئن فرض أن تتبع ما يهوونه من الصلاة إلى قبلتهم أو غير ذلك اجتهادا منك تقصد به استمالتهم إلى دينك، من بعد ما جاءك الحق اليقين بالنص المانع من الاجتهاد، والعلم الذي لا مجال معه للظن إنك إذا تفعل هذا فرضا (وما أنت بفاعله) تكون من جماعة الظالمين (وحاشاك). والكلام من باب "إياك أعني واسمعي يا جارة"، وبيانه أنا قد أقمنا لك مسالة القبلة على قاعدة العلم الذي عرفت به أن نسبة الجهات إلى الله تعالى واحدة، وأن جمود أهل الكتاب على ما هم فيه إنما جاءهم من التقليد وحرمان أنفسهم من النظر، وأن طعنهم فيك وفيما جئت به من أمر كتبهم يأتي من مولد إسماعيل فبعد هذا العلم كله لا ينبغي لأحد من أتباعك المؤمنين أن يفكر في أهواء القوم استمالة لهم، إذا لا محل لهذه الاستمالة، والحق قوي بذاته، وغني بمن ثبت عليه، ومن عدل عنه مجاراة لأهل الأهواء لما يرجو من فائدتهم أو اتقاء مضرتهم فهو ظالم لنفسه، وظالم لمن يسلك بهم هذه السبيل الجائر.
الأستاذ الإمام: هذا الخطاب بهذا الوعيد لأعلى الناس مقاما عند الله تعالى هو أشد وعيد لغيره ممن يتبع الهوى ويحاول استرضاء الناس بمجاراتهم على ما هم عليه من الباطل، فإنه أفرده بالخطاب مع أن المراد به أمته، إذ يستحيل أن يتبع هو أهواءهم أو أن يجاريهم على شيء نهاه الله تعالى عنه، ليتنبه الغافل ويعلم المؤمنون أن اتباع أهواء الناس ولو لغرض صحيح هو من الظلم العظيم الذي يقطع طريق الحق، ويردي الناس في مهاوي الباطل، كأنه يقول إن هذا ذنب عظيم لا يتسامح فيه مع أحد حتى لو فرض وقوعه مع أكرم الناس على الله تعالى لسجل عليه الظلم، وجعله من أهله الذين صار وصفا لازما {وما للظالمين من أنصار} فكيف حال من ليس له ما يقارب مكانته عند ربه عز وجل؟
نقرأ هذا التشديد والوعيد، ونسمعه من القارئين، ولا نزدجر عن اتباع أهواء الناس ومجاراتهم على بدعهم وضلالاتهم، حتى إنك ترى الذين يشكون من هذه البدع والأهواء ويعترفون ببعدها عن الدين يجارون أهلها عليها، ويمازجونهم فيها... حتى يحل بأهله البلاء ويكونوا من الهالكين...
هذا إيماء إلى اتباع العلماء أهواء العامة بعد ما جاءهم من العلم وما نزل عليهم في الكتاب من الوعيد عليه. ولو شرح شارح اتباعهم لأهواء السلاطين والأمراء والوجهاء والأغنياء، وكيف يفتنون ويؤلفون الكتب لهم، ويخدعون الأحكام والحيل الشرعية لأجلهم، وكيف حرموا على الأمة العمل بالكتاب والسنة وألزموها كتبهم لظهر لقارئ الشرح كيف أضاع هؤلاء الناس دينهم، فسلط الله عليهم من لم يكن له عليهم سبيل، ولبان له وجه التشديد في الآية بتوجيه الوعيد فيها إلى النبي المعصوم المشهود له بالخلق العظيم، فلا يكبرن عليك أن تحكم على من يسمون أنفسهم أو يسميهم الحكام كبار العلماء بأنهم من الظالمين، إذا اتبعوا أهواء العامة أو شهوات الأمراء والسلاطين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك)..
فهم في عناد يقوده الهوى، وتؤرثه المصلحة، ويحدوه الغرض.. وإن كثيرا من طيبي القلوب ليظنون أن الذي يصد اليهود والنصارى عن الإسلام أنهم لا يعرفونه، أو لأنه لم يقدم إليهم في صورة مقنعة.. وهذا وهم.. إنهم لا يريدون الإسلام لأنهم يعرفونه! يعرفونه فهم يخشونه على مصالحهم وعلى سلطانهم؛ ومن ثم يكيدون له ذلك الكيد الناصب الذي لا يفتر، بشتى الطرق وشتى الوسائل. عن طريق مباشر وعن طرق أخرى غير مباشرة. يحاربونه وجها لوجه، ويحاربونه من وراء ستار. ويحاربونه بأنفسهم ويستهوون من أهله من يحاربه لهم تحت أي ستار.. وهم دائما عند قول الله تعالى لنبيه الكريم: (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك).
وفي مواجهة هذا الإصرار من أهل الكتاب على الاعراض عن قبلة الإسلام ومنهجه الذي ترمز هذه القبلة له، يقرر حقيقة شأن النبي صلى الله عليه وسلم وموقفه الطبيعي:
ليس من شأنك أن تتبع قبلتهم أصلا. واستخدام الجملة الأسمية المنفية هنا أبلغ في بيان الشأن الثابت الدائم للرسول صلى الله عليه وسلم تجاه هذا الأمر. وفيه إيحاء قوي للجماعة المسلمة من ورائه. فلن تختار قبلة غير قبلة رسولها التي اختارها له ربه ورضيها له ليرضيه؛ ولن ترفع راية غير رايتها التي تنسبها إلى ربها؛ ولن تتبع منهجا إلا المنهج الإلهي الذي ترمز له هذه القبلة المختارة.. هذا شأنها ما دامت مسلمة؛ فإذا لم تفعل فليست من الإسلام في شيء.. إنما هي دعوى..
ويستطرد فيكشف عن حقيقة الموقف بين أهل الكتاب بعضهم وبعض؛ فهم ليسوا على وفاق، لأن الأهواء تفرقهم:
والعداء بين اليهود والنصارى، والعداء بين الفرق اليهودية المختلفة، والعداء بين الفرق النصرانية المختلفة أشد عداء.
وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا شأنه وهذا شأن أهل الكتاب، وقد علم الحق في الأمر، أن يتبع أهواءهم بعدما جاءه من العلم:
(ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين)..
ونقف لحظة أمام هذا الجد الصارم، في هذا الخطاب الإلهي من الله سبحانه إلى نبيه الكريم الذي حدثه منذ لحظة ذلك الحديث الرفيق الودود..
إن الأمر هنا يتعلق بالاستقامة على هدي الله وتوجيهه؛ ويتعلق بقاعدة التميز والتجرد إلا من طاعة الله ونهجه. ومن ثم يجيء الخطاب فيه بهذا الحزم والجزم، وبهذه المواجهة والتحذير.. (إنك إذا لمن الظالمين)..
إن الطريق واضح، والصراط مستقيم.. فإما العلم الذي جاء من عند الله. وإما الهوى في كل ما عداه. وليس للمسلم أن يتلقى إلا من الله. وليس له أن يدع العلم المستيقن إلى الهوى المتقلب. وما ليس من عند الله فهو الهوى بلا تردد.
وإلى جانب هذا الإيحاء الدائم نلمح كذلك أنه كانت هناك حالة واقعة من بعض المسلمين، في غمرة الدسائس اليهودية وحملة التضليل الماكرة، تستدعي هذه الشدة في التحذير، وهذا الجزم في التعبير.