ثم أمر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوبخ المنكرين للبعث والحساب ، وحكى جانبا من أقوالهم الباطلة حول هذه القضية ، ورد عليهم ردا يزهق باطلهم . . فقال - تعالى - :
{ فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ . . . } .
الفاء فى قوله - تعالى - : { فاستفتهم . . . } هى الفصيحة ، والاستفتاء : الاستخبار عن الشئ ومعرفة وجه الصواب فيه .
والمراد من الاستفهام فى الآية : توبيخ المشركين على إصرارهم على شركهم وجهلهم . وتعجيب العقلاء من أحوالهم .
واللازب : أى : الملتصق بعضه ببعض . يقال : لزب الشئ يلزب لزبا ولزوبا ، إذا تداخل بعضه فى بعض ، والتصق بعضه ببعض . والطين اللازب : هو الذى يلزق باليد - مثلا - إذا ما التقت به قال النابغة الذبيانى :
فلا تحسبون الخير لا شر بعده . . . ولا تحسبون الشر ضربة لازب
أى : ضربة ملازمة لا مفارقة لها .
والمعنى : إذا كان الأمر كما أخبرناك أيها الرسول الكريم - من أن كل شئ فى هذا الكون يشهد بوحدانيتنا وقدرتنا ، فاسأله هؤلاء المشركين { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً } أى : أهم أقوى خلقة وأمتن بنية ، وأضخم جسادا . . { أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } من ملائكة غلاظ شداد ، ومن سماوات طباق ، ومن أرض ذات فجاج .
لا شك أنهم لن يجدوا جوابا يريدون به عليك ، سوى قولهم : إن خلق الملائكة والسموات والأرض . أشد من خلقنا .
وقوله - تعالى - { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } إشارة إلى المادة الأولى التى خلقوا منها فى ضمن خلق أبيهم آدم - عليه السلام - .
أى : إنا خلقناهم من طين ملتصق بعضه ببعض ، ومتداخل بعضه فى بعض .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ساقت دليلين واضحين على صحة البعث الذى أنكره المشركون .
أما الدليل الأول فهو ما يعترفون به من أن خلق السموات والأرض والملائكة . . أعظم وأكبر منهم . . ومن كان قادراً على خلق الأعظم والأكبر كان من باب أولى قادرا على خلق الأقل والأصغر .
وقد ذكر - سبحانه - هذه الحقيقة فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى - { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } وأما الدليل الثانى فهو قوله - تعالى - : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } وذلك لأن من خلقهم أولا من طين لازب ، قادر على أن يعيدهم مرة أخرى بعد أن يصيروا ترابا وعظاما .
إذ من المعروف لدى كل عاقل أن الإِعادة أيسر من الابتداء . وقد قرر - سبحانه - هذه الحقيقة فى آيات منها قوله - تعالى - : { وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المثل الأعلى فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم }
وبعد ذكر الملائكة . وذكر السماوات والأرض وما بينهما . وذكر الكواكب التي تزين السماء الدنيا . وذكر الشياطين المردة والقذائف التي تلاحقها . . يكلف الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يسألهم أهم أشد خلقاً أم هذه الخلائق ? وإذا كانت هذه الخلائق أشد وأقوى ففيم يدهشون لقضية البعث ويسخرون منها ، ويستبعدون وقوعها ، وهي لا تقاس إلى خلق تلك الخلائق الكبرى :
فاستفتهم أهم أشد خلقاً أم من خلقنا ? إنا خلقناهم من طين لازب . بل عجبت ويسخرون . وإذا ذكروا لا يذكرون . وإذا رأوا آية يستسخرون : وقالوا : إن هذا إلا سحر مبين . أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون ? أو آباؤنا الأولون ? .
فاستفتهم واسألهم إذا كانت الملائكة والسماوات والأرض وما بينهما والشياطين والكواكب والشهب كلها من خلق الله . فهل خلقهم هم أشد وأصعب من خلق هذه الأكوان والخلائق ?
ولا ينتظر منهم جواباُ ، فالأمر ظاهر ؛ إنما هو سؤال الاستنكار والتعجيب من حالهم العجيب . وغفلتهم عما حولهم ، والسخرية من تقديرهم للأمور . ومن ثم يعرض عليهم مادة خلقهم الأولى . وهي طين رخو لزج من بعض هذه الأرض ، التي هي إحدى تلك الخلائق :
( إنا خلقناهم من طين لازب ) . .
فهم قطعاً ليسوا أشد خلقاً من تلك الخلائق ! وموقفهم إذن عجيب . وهم يسخرون من آيات الله ، ومن وعده لهم بالبعث والحياة . وسخريتهم هذه تثير العجب في نفس الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وهم في موقفهم سادرون :
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَم مّنْ خَلَقْنَآ إِنّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لاّزِبٍ * بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فاستفت يا محمد هؤلا المشركين الذي يُنكرون البعث بعد الممات والنشور بعد البلاء : يقول : فسَلْهم : أهم أشدّ خلقا ؟ يقول : أخلقُهم أشدّ ؟ أم يخلق من عددنا خلقه من الملائكة والشياطين والسموات والأرض ؟ .
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله بن مسعود : «أهُمْ أشَدّ خَلْقا أمْ مَنْ عَدَدْنا » ؟ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أهُمْ أشَدّ خَلْقا أمْ مَنْ خَلَقْنا ؟ قال : السموات والأرض والجبال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك أنه قرأ : «أهُمْ أشَدّ خَلْقا أمْ مَنْ عَدَدْنا » ؟ . وفي قراءة عبد الله بن مسعود «عَدَدْنا » يقول : رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبّ المَشارِقِ يقول : أهم أشدّ خلقا ، أم السموات والأرض ؟ يقول : السموات والأرض أشدّ خلقا منهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة «فاسْتَفْتِهِمْ أهُمْ أشَدّ خَلْقا أمْ مَنْ عَدَدْنا » من خَلْق السموات والأرض ، قال الله : لَخَلَقُ السّمَواتِ والأرْضِ أكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ . . . الاَية .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فاسْتَفْتِهِمْ أهُمْ أشَدّ خَلْقا قال يعني المشركين ، سلهم أهم أشدّ خلقا أمْ مَنْ خَلَقْنا .
وقوله : إنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ يقول : إنا خلقناهم من طين لاصق . وإنما وصفه جلّ ثناؤه باللّزوب ، لأنه تراب مخلوط بماء ، وكذلك خَلْق ابن آدم من تراب وماء ونار وهواء والتراب إذا خُلط بماء صار طينا لازبا ، والعرب تُبدل أحيانا هذه الباء ميما ، فتقول : طين لازم ومنه قول النجاشي الحارثي :
بَنَى اللّؤْمُ بَيْتا فاسْتَقَرّتْ عِمادُهُ *** عليكُمْ بَنِي النّجّارِ ضَرْبَةَ لازِمِ
ومن اللازب قول نابغة بني ذُبيان :
وَلا يَحْسِبُونَ الخَيْرَ لا شَرّ بَعْدهُ *** وَلا يَحْسَبُونَ الشّرّ ضَرْبَةَ لازِبِ
وربما أبدلوا الزاي التي في اللازب تاء ، فيقولون : طين لاتب ، وذُكر أن ذلك في قَيس زعم الفراء أن أبا الجرّاح أنشده :
صُدَاعٌ وَتَوْصِيمُ العِظامِ وَفَتْرَةٌ *** وَغَثْيٌ معَ الإشْراقِ في الجوْفِ لاتِبَ
بمعنى : لازم ، والفعل من لازب : لَزِبَ يَلْزُب ، لزْبا ولُزوبا ، وكذلك من لاتب : لَتَبَ يَلْتُب لُتُوبا . وبنحو الذي قلنا في معنى لازِبِ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبيد الله بن يوسف الجُبَيري ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، قال : حدثنا مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : مِنْ طِينٍ لازِبٍ قال : هو الطين الحرّ الجيد اللزج .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : اللازب : الجيد .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : اللازب : اللّزج ، الطيب .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : مِنْ طِينٍ لازِبٍ يقول : ملتصق .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ قال : من التراب والماء فيصير طينا يَلْزَق .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله : إنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ قال : اللازب : اللّزِج .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك إنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ واللازب : الطين الجيد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله : إنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ واللازب : الذي يَلْزَق باليد .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : مِنْ طِينٍ لازِبٍ قال : لازم .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الاَمُلي ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، قال : حدثنا جُوَيبر ، عن الضحاك ، في قوله : مِن طِينٍ لازِبٍ قال : هو اللازق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ قال : اللازب : الذي يلتصق كأنه غِراء ، ذلك اللازب .
الفاء تفريع على قوله : { إنَّا زيَّنا السَّماء الدنيا بزينةٍ الكواكب } [ الصافات : 6 ] باعتبار ما يقتضيه من عظيم القدرة على الإِنشاء ، أي فسَلْهُم عن إنكارهم البعث وإحالتِهم إعادةَ خلقهم بعد أن يصيروا عظاماً ورفاتاً ، أخَلْقُهم حينئذٍ أشدّ علينا أم خلق تلك المخلوقات العظيمة ؟ .
وضمير الغيبة في قوله : { فَاستفتِهِم } عائد إلى غير مذكور للعلم به من دلالة المقام وهم الذين أحالوا إعادة الخلق بعد الممات . وكذلك ضمائر الغيبة الآتية بعده وضمير الخطاب منه موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي فسَلْهم ، وهو سؤال محاجة وتغليط .
والاستفتاء : طلب الفَتوى بفتح الفاء وبالواو ، ويقال : الفُتْيَا بضم الفاء وبالياء . وهي إخبار عن أمر يخفَى عن غير الخواصّ في غرض مَّا . وهي :
إمّا إخبار عن علم مختص به المخبِر قال تعالى : { يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات } [ يوسف : 46 ] الآية ، وقال : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } [ النساء : 176 ] ، وتقدم في قوله : { الذي فيه تستفتيان } في سورة [ يوسف : 41 ] .
وإمَّا إخبار عن رأي يطلب من ذي رأي موثوق به ومنه قوله تعالى : { قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري } في سورة [ النمل : 32 ] .
والمعنى : فاسألهم عن رأيهم فلما كان المسؤول عنه أمراً محتاجاً إلى إعمال نظر أطلق على الاستفهام عنه فعل الاستفتاء .
وهمزة : { أهُم أشدُّ خَلْقاً } للاستفهام المستعمل للتقرير بضعف خلق البشر بالنسبة للمخلوقات السماوية لأن الاستفهام يؤول إلى الإقرار حيث إنه يُلجىء المستفهم إلى الإِقرار بالمقصود من طرفي الاستفهام ، فالاستفتاء في معنى الاستفهام فهو يستعمل في كل ما يستعمل فيه الاستفهام . و { أشدّ } بمعنى : أصعب وأعسر .
و { خَلْقاً } تمييز ، أي أخلقهم أشدّ أم خَلْق من خلقنا الذي سمعتم وصفه .
والمراد ب { مَن خَلَقْنا } ما خَلَقَه الله من السماوات والأرض وما بينهما الشامل للملائكة والشياطين والكواكب المذكورة آنفاً بقرينة إيراد فاء التعقيب بعد ذكر ذلك ، وهذا كقوله تعالى : { أأنتم أشد خلقاً أم السماء } [ النازعات : 27 ] ونحوه .
وجيء باسم العاقل وهو { مَن } الموصولة تغليباً للعاقلين من المخلوقات .
وجملة { إنا خلقناهم من طين لازب } في موضع العلة لما يتولد من معنى الاستفهام في قوله : { أهم أشد خلقاً أم من خلقنا } من الإِقرار بأنهم أضعف خلقاً من خلق السماوات وعوالمها احتجاجاً عليهم بأن تأتِّي خلقهم بعد الفناء أهون من تَأتي المخلوقات العظيمة المذكورة آنفاً ولم تكن مخلوقة قبلُ فإنهم خلقوا من طين لأن أصلهم وهو آدم خلق من طين كما هو مقرر لدى جميع البشر فكيف يحيلون البعث بمقالاتهم التي منها قولُهم : { أإذَا مِتنا وكنا تُراباً وعِظاماً أءِنَّا لَمَبْعُوثونَ } [ الصافات : 16 ] .
والطينُ : التراب المخلوط بالماء .
واللازب : اللاصق بغيره ومنه أطلق على الأمر الواجب « لازب » في قول النابغة :
وقد قيل : إن باء لازب بدل من ميم لازم ، والمعنى : أنه طين عتيق صار حَمْأة . وضمير { إنَّا خلقناهُم } عائد إلى المشركين وهو على حذف مضاف ، أي خلقنا أصلهم وهو آدم فإنه الذي خلق من طين لازب ، فإذا كان أصلهم قد أنشىء من تراب فكيف ينكرون إمكان إعادة كل آدمي من تراب .