18- حتى إذا بلغوا وادي النمل قالت نملة : يا أيها النمل ادخلوا مخابئكم ، لكيلا تميتكم جنود سليمان وهم لا يحسون بوجودكم{[166]} .
ثم حكى - سبحانه - ما قالته نملة عندما رأت هذا الجيس العظيم المنظم ، فقال - تعالى - : { حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } .
و { حتى } هنا ابتدائية . أى : يبتدأ بها الكلام ، وقوله { قَالَتْ نَمْلَةٌ } جواب إذا .
وقوله : { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } من الحطم ، وأصله : كسر الشىء . . يقال : حطم فلان الشىء إذا كسره ، والمراد به هنا : الإهلاك والقتل .
والمعنى : وحشر لسليمان جنوده ، فسار هؤلاء الجنود فى قوة ونظام ، { حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل } أى : على مكان يعيش فيه النمل فى مملكة سليمان { قَالَتْ نَمْلَةٌ } على سبيل النصح والتحذير بعد أن رأت سليمان وجنوده : { ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ } أى : ادخلوا أماكن سكناكم ، وابتعدوا عن طريق هذا الجيش الكبير ، وانجوا بأنفسكم ، كى لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون بكم .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم عدى { أَتَوْا } بعلى ؟ قلت : يتوجه على معنين : أحدهما : أن إتيانهم كان من فوق ، فأتى بحرف الاستعلاء . . . والثانى : أن يراد قطع الوادى وبلوغ آخره ، من قولهم أتى على الشىء إذا أنفذه وبلغ آخره . . .
فإن قلت : { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } ما هو ؟ قلت : يحتمل أن يكون جواباً للأمر ، وأن يكون نهيا بدلاً من الأمر . والذى جوز أن يكون بدلاً منه : أنه فى معنى : لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم ، على طريقة : لاأرينك ههنا " .
حتى إذا أتوا على وادي النمل . قالت نملة : يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ، لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون . فتبسم ضاحكا من قولها ، وقال : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ، وأن أعمل صالحا ترضاه ، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين . .
لقد سار الموكب . موكب سليمان من الجن والإنس والطير . في ترتيب ونظام ، يجمع آخره على أوله ، وتضم صفوفه ، وتتلاءم خطاه . حتى إذا أتوا على واد كثير النمل ، حتى لقد أضافه التعبير إلى النمل فسماه ( وادي النمل )قالت نملة . لها صفة الإشراف والتنظيم على النمل السارح في الوادي - ومملكة النمل كمملكة النحل دقيقة التنظيم ، تتنوع فيها الوظائف ، وتؤدى كلها بنظام عجيب ، يعجز البشر غالبا عن اتباع مثله ، على ما أوتوا من عقل راق وإدراك عال - قالت هذه النملة للنمل ، بالوسيلة التي تتفاهم بها أمة النمل ، وباللغة المتعارفة بينها . قالت للنمل : ادخلو ا مساكنكم - كي لا يحطمنكم سليمان وجنوده . وهم لا يشعرون بكم .
فأدرك سليمان ما قالت النملة وهش له وانشرح صدره بإدراك ما قالت ، وبمضمون ما قالت . هش لما قالت كما يهش الكبير للصغير الذي يحاول النجاة من أذاه وهو لا يضمر أذاه . وانشرح صدره لإدراكه . فهي نعمة الله عليه تصله بهذه العوالم المحجوبة المعزولة عن الناس لاستغلاق التفاهم بينها وقيام الحواجز . وانشرح صدره له لأنه عجيبة من العجائب أن يكون للنملة هذا الإدراك ، وأن يفهم عنها النمل فيطيع !
القول في تأويل قوله تعالى : { حَتّىَ إِذَآ أَتَوْا عَلَىَ وَادِي النّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَأَيّهَا النّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : حتى إذَا أتَوْا عَلى وَادِي النّمْلِ حتى إذا أتى سليمان وجنوده على وادي النمل قالَتْ نَمْلَةٌ يا أيّها النّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يحْطِمَنّكُمْ سلَيْمانُ وَجُنُودُهُ يقول : لا يكسرنكم ويقتلنكم سليمان وجنوده وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يقول : وهم لا يعلمون أنهم يحطمونكم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ويحيى ، قالا حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن رجل يقال له الحكم ، عن عوف ، في قوله : قالَتْ نَمْلَةٌ يا أيها النّمْلُ قال : كان نمل سليمان بن داود مثل الذباب .
{ حتى إذا أتوا على وادي النمل } واد بالشام كثير النمل ، وتعدية الفعل إليه ب{ على } إما لأن إتيانهم كان من عال أو لأن المراد قطعة من قولهم : أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا أخريات الوادي . { قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها فصاحت صيحة نبهت بها ما بحضرتها من النمال فتبعتها ، فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم مع أنه لا يمتنع أن خلق الله سبحانه وتعالى فيها العقل والنطق . { لا يحطمنكم سليمان وجنوده } نهي لهم عن الحطم ، والمراد نهيها عن التوقف بحيث يحطمونها كقولهم : لا أرينك ها هنا ، فهو استئناف أو بدل من الأمر لا جواب له فإن النون لا تدخله في السعة . { وهم لا يشعرون } بأنهم يحطمونكم إذ لو شعروا لم يفعلوا كأنها شعرت عصمة الأنبياء من الظلم والإيذاء . وقيل استئناف أي فهم سليمان والقوم لا يشعرون .