ثم رغبهم - سبحانه - فى الهجرة لإِعلاء كلمة الله بأسلوب ثالث ، حيث بين لهم أن هجرتهم لن تضيع شياً من رزقهم الذى كتبه الله لهم ، فقال - سبحانه - : { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السميع العليم } .
روى أن بعض الذين أسلموا بمكة عندما أمرهم النبى صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة قالوا : كيف نهاجر إلى بلدة ليس لنا فيها معيشة ، فنزلت هذه الآية .
وكلمة " كأين " : مركبة من كاف التشبيه وأى الاستفهامية المنونة ، ثم هجر معنى جزأيها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية الدالة على التكثير . ويكنى بها عن عدد مبهم فتفتقر إلى تمييز بعدها . وهى مبتدأ . و " من دابة " تمييز لها .
وجملة { لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } صفة لها ، وجملة " الله يرزقها " هى الخبر .
والدابة : اسم لكل نفس تدب على وجه الأرض سواء أكانت من العقلاء أم من غير العقلاء . أى : وكثير من الدواب التى خلقها الله - تعالى - بقدرته ، لا تستطيع تحصيل رزقها ، ولا تعرف كيف توفره لنفسها ، لضعفها أو عجزها . . ومع هذا فالله - تعالى - رحمته وفضله يرزقها ولا يتركها تموت جوعاً ، ويرزقكم أنتم - أيضاً ، لأنه لا يوجد مخلوق - مهما اجتهد ودأب يستطيع أن يخلق رزقه .
{ وَهُوَ } - سبحانه - { السميع } لكل شئ { العليم } بما تسرون وما تعلنون .
وقدم - سبحانه - رزق الدابة التى لا تستطيع تحصيله ، على رزقهم فقال : { الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } لينفى من قلوب الناس القلب على الرزق ، وليشعرهم بأن الأسباب ليست هى كل شئ ، فإن واهب الأسباب ، لا يترك أحداً بدون رزق ، ولإِزالة ما قد يخطر فى النفوس من أن الهجرة من أجل إعلاء كملة الله قد تنقص الرزق . .
وهكذا يسوق - سبحانه - من المرغبات فى الهجرة فى سبيله ، ما يقنع النفوس ، ويهدى القلوب ، ويجعل المؤمنين يقبلون على تلبية ندائه ، وهم آمنون مطمئنون على أرواحهم ، وعلى أرزاقهم ، وعلى حاضرهم ومستقبلهم ، فسبحان من هذا كلامه .
ثم يهجس في النفس خاطر القلق على الرزق ، بعد مغادرة الوطن والمال ومجال العمل والنشاط المألوف ، وأسباب الرزق المعلومة . فلا يدع هذا الخاطر دون لمسة تقر لها القلوب :
وكأي من دابة لا تحمل رزقها ، الله يرزقها وإياكم . .
لمسة توقظ قلوبهم إلى الواقع المشهود في حياتهم . فكم من دابة لا تحصل رزقها ولا تجمعه ولا تحمله ولا تهتم به ، ولا تعرف كيف توفره لنفسها ، ولا كيف تحتفظ به معها . ومع هذا فإن الله يرزقها ولا يدعها تموت جوعا . وكذلك يرزق الناس . ولو خيل إليهم أنهم يخلقون رزقهم وينشئونه . إنما يهبهم الله وسيلة الرزق وأسبابه . وهذه الهبة في ذاتها رزق من الله ، لا سبيل لهم إليه إلا بتوفيق الله . فلا مجال للقلق على الرزق عند الهجرة . فهم عباد الله يهاجرون إلى أرض الله يرزقهم الله حيث كانوا . كما يرزق الدابة لا تحمل رزقها ، ولكن الله يرزقها ولا يدعها .
ويختم هذه اللمسات الرفيقة العميقة بوصلهم بالله ، وإشعارهم برعايته وعنايته ، فهو يسمع لهم ويعلم حالهم ، ولا يدعهم وحدهم : ( وهو السميع العليم ) . .
وتنتهي هذه الجولة القصيرة ؛ وقد لمست كل حنية في تلك القلوب ؛ ولبت كل خاطر هجس فيها في لحظة الخروج . وقد تركت مكان كل مخافة طمأنينة ، ومكان كل قلق ثقة ، ومكان كل تعب راحة . وقد هدهدت تلك القلوب وغمرتها بشعور القربى والرعاية والأمان في كنف الله الرحيم المنان .
ألا إنه لا يدرك هواجس القلوب هكذا إلا خالق القلوب . ولا يداوي القلوب هكذا إلا الذي يعلم ما في القلوب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.