26- يا بني آدم : قد أنعمنا عليكم ، فخلقنا لكم ملابس تستر عوراتكم ، ومواد تتزينون بها ، ولكن الطاعة خير لباس يقيكم العذاب . تلك النعم من الآيات الدالة على قدرة الله وعلى رحمته ، ليتذكر الناس بها عظمته واستحقاقه وحده الألوهية . وتلك القصة من سنن الله الكونية التي تبين جزاء مخالفة أمر الله ، فيتذكر بها الناس ويحرصون على طاعة الله وعلى شكر نعمه .
وبعد أن قص القرآن على بنى آدم قصة خلقهم وتصويرهم وما جرى بين أبيهم وبين إبليس ، وكيف أن إبليس قد خدع آدم وزوجه خداعا ترتب عليه إخراجهما من الجنة . بعد كل ذلك أورد القرآن أربع نداءات لبنى آدم حضهم فيها على تقوى الله وحذرهم من وسوسة الشيطان وذكرهم بنعمه عليهم ، فقال في النداء الأول : { يابني ءَادَمَ . . . } .
السوءة : العورة . والريش : لباس الزينة ، استعير من ريش الطائر ، لأنه لباسه وزينته . وقال الجوهرى : " الريش والرياش بمعنى كاللبس واللباس ، وهو اللباس الفاخر " .
والمعنى : يا بنى آدم تذكروا واعتبروا واشكروا الله على ما حباكم من نعم ، فإنه - سبحانه - قد هيأ لكم سبيل الحصول على الملبس الذي تسترون به عوراتكم ، وتتزينون به في مناسبات التجمل والتعبد .
والمراد بإنزال ما ذكر أنه خلق لبنى آدم مادة هذا اللباس التي تتكون من القطن والصوف والحرير وما إليها ، وألهمهم بما خلق فيهم من غرائز طرق استنباتها وصناعتها بالغزل والنسج والخياطة .
والتعبير بأنزلنا يفيد خصوصية البشر باللباس الذي يستر العورة ، وبالرباش التي يتزينون بها ، أى أنزلنا عليكم لباسين : لباسا يوارى سوآتكم ، ولباسا يزينكم ، لأن الزينة غرض صحيح وحبها من طبيعة البشر . قال - تعالى - : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } قال الجمل : " وقوله - تعالى - : { وَرِيشاً } يحتمل أن يكون من باب عطف الصفات . والمعنى : أنه وصف اللباس بوصفين : مواراة السوأة ، والزينة . ويحتمل أن يكون من باب عطف الشىء على غيره . أى : أنزلنا عليكم لباسا موصوفا بالمواراة ، ولباسا موصوفا بالزينة " .
ثم بين - سبحانه - أن هناك لباسا آخر أفضل وأكمل من كل ذلك فقال : { وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ } أى : أن اللباس الذي يصون النفس من الدنايا والأرجاس ، ويسترها بالإيمان والعمل الصالح هو خير من كل لباس حسى يتزين به البشر . فاسم الإشارة هنا يعود على لباس التقوى . وقد عبر القرآن هنا عن التقوى بأنها لباس ، وعبر عنها في موضع آخر بأنها زاد مشاكلة للسياق الذي وردت فيه هنا أو هناك . وذلك من باب تجسيم المعنويات وتنسيقها مع الجو العام الذي ورت فيه ، وتلك طريقة انفرد بها القرآن الكريم .
قال صاحب الكشاف : وقوله : { وَلِبَاسُ التقوى } مبتدأ ، وخبره إما الجملة التي هى { ذلك خَيْرٌ } كأنه قيل : ولباس التقوى هو خير ، لأن أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر . وإما المفرد الذي هو خير ، وذلك صفة للمبتدأ ، كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير " .
وقوله - تعالى - : { ذلك مِنْ آيَاتِ الله لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } معناه : ذلك الذي أنزله الله على بنى آدم من النعم من دلائل قدرته وإحسانه عليهم ، لعلهم بعد ذلك لا يعودون إلى النسيان الذي أوقع أبويهم في المعصية .
قال صاحب الكشاف : وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر ظهور العورات وخصف الورق عليها ، إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس ، ولما في العرى وكشف العورة من المهانة والفضيحة ، وإشعاراً بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى .
( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا . ولباس التقوى ، ذلك خير ، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ) . .
هذا النداء يجيء في ظل المشهد الذي سبق عرضه من القصة . . مشهد العري وتكشف السوآت والخصف من ورق الجنة . . لقد كان هذا ثمرة للخطيئة . . والخطيئة كانت في معصية أمر الله ، وتناول المحظور الذي نهى عنه الله . . وليست هي الخطيئة التي تتحدث عنها أساطير [ الكتاب المقدس ! ] والتي تعج بها التصورات الفنية الغربية المستقاة من تلك الأساطير ومن إيحاءات " فرويد " المسمومة . . لم تكن هي الأكل من " شجرة المعرفة " - كما تقول أساطير العهد القديم . وغيرة الله - سبحانه وتعالى - من " الإنسان " وخوفه - تعالى عن وصفهم علواً كبيراً - من أن يأكل من شجرة الحياة أيضاً فيصبح كواحد من الآلهة ! كما تزعم تلك الأساطير . ولم تكن كذلك هي المباشرة الجنسية كما تطوف خيالات الفن الأوربي دائماً حول مستنقع الوحل الجنسي ، لتفسر به كل نشاط الحياة كما علمهم فرويد اليهودي ! . .
وفي مواجهة مشهد العري الذي أعقب الخطيئة ومواجهة العري الذي كان يزاوله المشركون في الجاهلية يذكر السياق في هذا النداء نعمة الله على البشر وقد علمهم ويسر لهم ، وشرع لهم كذلك ، اللباس الذي يستر العورات المكشوفة ، ثم يكون زينة - بهذا الستر - وجمالاً ، بدل قبح العري وشناعته - ولذلك يقول : ( أنزلنا ) أي : شرعنا لكم في التنزيل . واللباس قد يطلق على ما يواري السوأة وهو اللباس الداخلي ، والرياش قد يطلق على ما يستر الجسم كله ويتجمل به ، وهو ظاهر الثياب . كما قد يطلق الرياش على العيش الرغد والنعمة والمال . . وهي كلها معان متداخلة ومتلازمة :
( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ) . .
كذلك يذكر هنا ( لباس التقوى ) ويصفه بأنه ( خير ) :
( ولباس التقوى ذلك خير . ذلك من آيات الله . ) . .
قال عبد الرحمن بن أسلم : [ يتقي الله فيواري عورته ، فذاك لباس التقوى ] . .
فهناك تلازم بين شرع الله اللباس لستر العورات والزينة ، وبين التقوى . . كلاهما لباس . هذا يستر عورات القلب ويزينه . وذاك يستر عورات الجسم ويزينه . وهما متلازمان . فعن شعور التقوى لله والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه . ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى وأن يدعو إلى العري . . العري من الحياء والتقوى ، والعري من اللباس وكشف السوأة !
إن ستر الجسد حياء ليس مجرد اصطلاح وعرف بيئي - كما تزعم الأبواق المسلطة على حياء الناس وعفتهملتدمير إنسانيتهم ، وفق الخطة اليهودية البشعة التي تتضمنها مقررات حكماء صهيون - إنما هي فطرة خلقها الله في الإنسان ؛ ثم هي شريعة أنزلها الله للبشر ؛ وأقدرهم على تنفيذها بما سخر لهم في الأرض من مقدرات وأرزاق .
والله يذكر بني آدم بنعمته عليهم في تشريع اللباس والستر ، صيانة لإنسانيتهم من أن تتدهور إلى عرف البهائم ! وفي تمكينهم منه بما يسر لهم من الوسائل :
ومن هنا يستطيع المسلم أن يربط بين الحملة الضخمة الموجهة إلى حياء الناس وأخلاقهم ؛ والدعوة السافرة لهم إلى العري الجسدي - باسم الزينة والحضارة والمودة ! - وبين الخطة الصهيونية لتدمير إنسانيتهم ، والتعجيل بانحلالهم ، ليسهل تعبيدهم لملك صهيون ! ثم يربط بين هذا كله والخطة الموجهة للإجهاز على الجذور الباقية لهذا الدين في صورة عواطف غامضة في أعماق النفوس ! فحتى هذه توجه لها معاول السحق ، بتلك الحملة الفاجرة الداعرة إلى العري النفسي والبدني الذي تدعو إليه أقلام وأجهزة تعمل لشياطين اليهود في كل مكان ! والزينة " الإنسانية " هي زينة الستر ، بينما الزينة " الحيوانية " هي زينة العري . . ولكن " الآدميين " في هذا الزمان يرتدون إلى رجعية جاهلية تردهم إلى عالم البهيمة . فلا يتذكرون نعمة الله بحفظ إنسانيتهم وصيانتها !
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.