37- وما تأخير هذه الأشهر الحرم أو بعضها عما رتَّبها الله عليه - كما كان يفعله أهل الجاهلية - إلا إمعان في الكفر ، يزداد به الذين كفروا ضلالا فوق ضلالهم ، وكان العرب في الجاهلية يجعلون الشهر الحرام حلالا إذا احتاجوا القتال فيه ، ويجعلون الشهر الحلال حراماً ، ويقولون : شهر بشهر ، ليوافقوا عدد الأشهر التي حرمها الله ، وقد حسَّنت لهم أهواؤهم أعمالهم السيئة ، والله لا يهدى القوم المصرين على كفرهم إلى طريق الخير .
ثم نعى - سبحانه - على ما كانوا يفعلون من تحليل وتحريم للشهور على حسب أهوائهم . . فقال تعالى : { إِنَّمَا النسيء زِيَادَةٌ فِي الكفر . . . } والنسئ : مصدر بزنة فعيل مأخوذ من نسأ الشئ إذا أخره .
ومنه نسأت الإِبل عن الحوض إذا أخرتها عنه . ومنه أنسأ الله في أجل فلان ، أى : أخره والمراد به : تأخبر حرمة شهر إلى شهر آخر .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى الأسباب التي جعلت المشركين يحلون الأشهر الحرم فقال : " كانوا أصحاب حروب وغارات ، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة ، فيحلونه ويحرمونه مكانه شهر آخر - وكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها - حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم ؛ فكانوا يرحمون من شتى شهور العام أربعة أشهر ، وذلك قوله { لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله } أى ليوافقو العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين " .
والمعنى : إنما النسئ الذي يفعله المشركون ، من تأخيرهم حرمة شهر إلى آخر ، { زِيَادَةٌ فِي الكفر } أى : زيادة في كفرهم ؛ لأنهم قد ضموا إلى كفرهم آخر ، هو تحليلهم لما حرمه الله وتحريمهم لما أحله وبذلك يكونون قد جمعوا بين الكفر في العقيدة والكفر في التشريع .
قال القرطبى : وقوله : { زِيَادَةٌ فِي الكفر } بيان لما فعلته العرب من جمعها أنواعا من الكفر ، فإنها أنكرت وجد البارى - تعالى - فقالت : { وَمَا الرحمن } في أصح الوجوه . وأنكرت البعث فقالت { مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } وأنكرت بعثة الرسل فقالوا : { أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ } وزعمت أن التحليل والتحريم إليها ، فابتدعته من ذاتها مقتفية لشهواتها فأحلت ما حرمه الله : ولا مبدل لكلماته ولو كره المشركون .
وقوله { يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ } قرأه الكوفيون بضم الياء وفتح الضاد بالبناء للمفعول .
أى : يوقع الذين كفروا بسبب ارتكابهم للنسئ في الضلال والموقع لهم في هذا الضلال كبراؤهم وشياطينهم .
وقرأه أهل الحرمين وأبو عمرو { يُضَلُّ } بفتح الياء وكسر الضاد بالبناء للفاعل .
أى : يضل الله الذين كفروا ، بأن يخلق فيهم الضلال بسبب مباشرتهم لما أدى إليه وهو ارتكابهم للنسئ .
ويصح أن يكون الفاعل هو الذين كفروا أى يضل الذين كفروا عن الحق بسبب استعمالهم للنسئ الذي هو لون من ألوان استحلال محارم الله .
وقوله : { يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً } بيان وتفسير ليكفية ضلالهم .
والضمير المنصوب في { يُحِلُّونَهُ . . وَيُحَرِّمُونَهُ } يعود إلى النسئ ، أى الشهر المؤخر عن موعده .
والمعنى أن هؤلاء الكافرين من مظاهر ضلالهم ، أنهم يحلون الشهر المؤخر عن وقته عاما من الأعوام ، ويحرمون مكانه شهرا آخر ليس من الأشهر الحرم ، وأنهم يحرمونه أى : يحافظون على حرمة الشهر الحرام عاما آخر ، إذا كانت مصحلتهم في ذلك .
والمواطأة : الموافقة . يقال : واطأت فلاناً على كذا إذا وافقته عليه بدون مخالفته .
والمعنى : فعل المشركون ما فعلوه من التحليل والتحريم للأشهر على حسب أهوائهم ، ليوافقوا بما فعلوا عدة الأشهر الحرم ، بحيث تكون أربعة في العدد وإن لم تكن عين الأشهر المحرمة في شريعة الله .
قال ابن عباس : ما أحل المشركون شهراً من الأشهر الحرم إلا حرموا مكانه شهراً من الأشهر الحلال . وما حرموا شهراً من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الأشهر الحرام ، لكى يكون عدد الأشهر الحرم أربعة .
وقوله : { فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله } تفريع على ما تقدم .
أى : فيحلوا بتغييرهم الشهور المحرمة ، ما حرمه الله في شره ، فهم وإن كانوا وافقوا شريعة الله في عدد الشهور المحرمة ، إلا أنهم خالفوه في تخصيصها فقد كانوا - مثلا - يستحلون شهر المحرم بدله شهر صفر .
وقوله : { زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ } ذم لهم على انتكاس بصائرهم ، وسوء تفكيرهم .
أى : زين لهم الشيطان سوء أعمالهم ، فجعلهم يرون العمل القبيح عملا حسنا . وقوله : { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } تذييل قصد به التنفير والتوبيخ للكافرين .
أى : والله تعالى . اقتضت حكمته أن لا يهدى القوم الكافرين إلى طريقه القويم ، لأنهم بسبب سوء اختيارهم استحبوا العمى على الهدى ، وأثروا طريق الغى على طريق الرشاد . . فكان أمرهم فرطا .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى .
1- أن السنة اثنا عشر شهراً ، وأن شهور السنة القمرية هي المعول عليها في الأحكام لا شهور السنة الشمسية .
قال الفخر الرازى ، اعلم أن السنة عند العرب عبارة عن اثنى عشر شهراً من الشهور القمرية ، والدليل عليه هذه الآية - { إِنَّ عِدَّةَ الشهور } الآية ، وقوله . تعالى : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب . . . } فجعل تقديره القمر بالمنازل علة للسنين والحساب وذلك إنما يصح إذا كانت السنة معلقة بسير القمر .
وأيضاً قوله . تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } ثم قال : واعلم أن مذهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية لا شمسية ، وهذا الحكم توارثوه عن إبراهيم وإسماعيل . عليها السلام . فأما عند اليهود والنصارى ، فليس الأمر كذلك . .
وقال الجمل : قوله { اثنا عَشَرَ شَهْراً } هذه شهور السنة القمرية التي هي مبنية على سير القمر في المنازل ، وهى شهور العرب التي يعتد بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم . وأيام هذه الشهور ثلثمائة وخمسة وخمسون يوماً . والسنة الشمسية عبارة عن دوران الشمس في الفلك دورة تامة ، وهى ثلثمائة وهمسة وستون يوماً . وربع يوم . فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام ، فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية فيقع الصوم والحج تارة في الشتاء وتارة في الصيف .
هذا ، وقد تكلم بعض المفسرين عن الشهور القمرية ، وعن سبسب تسميتها بما سميت به فارجع إليه إن شئت .
2- وجوب التقييد بما شعره الله من أحكام بدون زيادة أو نقصان عليها .
قال القرطبى ما ملخصه : وضع - هذه الشهور وسماها بأسمائها على مارتبها عليه يوم خلق السماوات والأرض ، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة ، وهى معنى قوله : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً } .
وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها ، وتقديم المقدم في الاسم منها .
والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها ، ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها .
ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حدة الوداع : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " .
ثم قال القرطبى ؛ كانوا يحرمون شهراً فشهراً حتى استدار التحريم على السنة كلها . فقام الإِسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله فيه . فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض " .
3- أخذ بعضهم من قوله تعالى - { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت لم ينسخ ، وأنه لا يصح القتال فيها إلا أن يكون دفاعاً .
قال ابن جريج : حلف بالله عطاء بن أبى رباح أنه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها .
وذهب جمهور العلماء إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم قد نسخ ، بدليل أن الله - تعالى - بعد أن نهى المؤمين عن أن يظلموا أنفسهم بالقتال فيها أمرهم بقتال المشركين من غير تقيد يزمن فقال { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } فدل ذلك على أن القتال في الأشهر الحرم مباح .
وبدليل أن النبى - صلى الله عليه وسلم - حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو شهر ذى القعدة .
قال ابن كثير : ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى هوزان في شوال ، فلما كسرهم . . لجأوا إلى الطائف ، فعمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوماً ، وانصرف ولم يفتحها فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام - أى . في شهر ذى القعدة .
ثم قال ما ملخصه : وأما قوله - تعالى { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف . ويكون من باب التهييج للمؤمنين على قتال أعدائهم . . ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال أعدائهم في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم - أى من الأعداء : كما قال : - تعالى - { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ } وكما قال - تعالى - { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم } وهكذا الجواب عن حصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام ، فإنه من تتمة قتال هوزان وأحلاقها ، فإنهم الذين بدأوا القتال للمسلمين .
. فعند ذلك قصدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم فنالوا من المسلمين ، وقتلوا جماعة منهم . . واستمر حصار المسلمين لهم أربعين يوماً ، وكان ابتداؤه في شهر حلال ، ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أياما ثم قفل عنهم ، لأنه يغتفر في الدوام مالا يغتفر في الابتداء ، وهذا أم مقرر .
ومن كلام ابن كثير . رحمه الله - نستنتج أنه يميل إلى القول بأن المنهى عنه هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم ، لا إتام القتال فيها متى بدأ الاعداء ذلك وهو قريب من قول القائل : لا يحل القتال فيها ولا في الحرم إلا إن يكون دفاعاً .
وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس ، لأنه لم يثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدأ أعداءه القتال في الأشهر الحرم ، وإنما الثابت أن الأعداء هم الذين ابتدأوا قتال المسلمين فيها ، فكان موقف المسلمين هو الدفاع عن أنفسهم :
4- ذكر المفسرون روايات في أول من أخر حرمة شهر إلى آخر ، فعن مجاهد قال : كان رجل من بنى كنانة يأتى كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول : أيها الناس . إنى لا أعاب ولا أخاب ولا مرد لما أقول . إن قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر . ثم يجئ العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ويقول : إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذا رجل من بنى كنانة يقال له " القلمس " وكان في الجاهلية . وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام . يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمد إليه يده . فلما كان هو قال لقومه : أخرجوا بنا - أى للقتال - فقالوا له : هذا المحرم . قال : ننسئه العام ، هي العام صفران . فإذا كان العام القابل قضينا . . جعلنا هما محرمين .
قال : ففقعل ذلك . فلما كان عام قابل قال : لا تغزوا في صفر . حرموه مع المحرم . هما محرمان .
وقد كان بعض أهل الجاهلية يتفاخر بهذا النسئ ، ومن ذلك قول شاعرهم :
ومنا ناسئ الشهر القلمس . . . قال آخر :
ألسنا الناسئين على معد . . . شهور الحل نجعلها حراما
وقد أبطل الإِسلام كل ذلك ، وأمر بترتيب الشهور على ما رتبها - سبحانه - عليه يوم خلق السماوات والأرض .
وبعد : فهذه سبع وثلاثون آية من أول السورة إلى هنا ، نراها - في مجموعها كما سبق أن بينا - قد حددت العلاقات النهائية بين المسلمين وبين أعدائهم من المشكرين وأهلا لكتاب ، كما نراها قد أبرزت الأسباب التي دعت إلى هذا التحديث بأسلوب حكيم مؤثر ، يقنع العقول ، ويشبع العواطف .
ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عن غزوة تبوك وما جرى فيها من أحداث متنوعة . . وقد استغرق هذا الحديث معظم آيات السورة ، لا سيما فيما يتعلق بهتك أستار المنافقين ، والتحذير منهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا النّسِيَءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلّونَهُ عَاماً وَيُحَرّمُونَهُ عَاماً لّيُوَاطِئُواْ عِدّةَ مَا حَرّمَ اللّهُ فَيُحِلّواْ مَا حَرّمَ اللّهُ زُيّنَ لَهُمْ سُوَءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ما النسيء إلا زيادة في الكفر ، والنسيء مصدر من قول القائل : نسأت في أيامك ونسأ الله في أجلك : أي زاد الله في أيام عمرك ومدة حياتك حتى تبقى فيها حيّا . وكل زيادة حدثت في شيء ، فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيه نسيء ولذلك قيل للبن إذا كثر بالماء نسيء ، وقيل للمرأة الحبلى نسوء ، ونُسئت المرأة ، لزيادة الولد فيها وقيل : نسأت الناقة وأنسأتها : إذا زجرتها ليزداد سيرها . وقد يحتمل أن النسيء فعيل صرف إليه من مفعول ، كما قيل : لعين وقتيل ، بمعنى : ملعون ومقتول ، ويكون معناه : إنما الشهر المؤخر زيادة في الكفر . وكأنّ القول الأول أشبه بمعنى الكلام ، وهو أن يكون معناه : إنما التأخير الذي يؤخره أهل الشرك بالله من شهور الحرم الأربعة وتصييرهم الحرام منهن حلالاً والحلال منهنّ حراما ، زيادة في كفرهم وجحودهم أحكام الله وآياته . وقد كان بعض القرّاء يقرأ ذلك : «إنّمَا النّسي » بترك الهمز وترك مده : يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا .
واختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة الكوفيين : يُضِلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا بمعنى : يضل الله بالنسيء الذي ابتدعوه وأحدثوه الذين كفروا . وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : يَضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا بمعنى : يزول عن حجة الله التي جعلها لعباده طريقا يسلكونه إلى مرضاته الذين كفروا . وقد حُكي عن الحسن البصري : يُضِلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا بمعنى : يضلّ بالنسيء الذي سنة الذين كفروا ، الناس .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : هما قراءتان مشهورتان ، قد قرأت بكلّ واحدة القرّاء أهل العلم بالقرآن والمعرفة به ، وهما متقاربتا المعنى ، لأن من أضله الله فهو ضالّ ومن ضلّ فبإضلال الله إياه وخذلانه له ضلّ ، فبأيتهما قرأ القارىء فهو للصواب في ذلك مصيب . وأما الصواب من القراء في النسيء ، فالهمز ، وقراءته على تقدير فعيل ، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا يجوز خلافها فيما أجمعت عليه .
وأما قوله : يُحِلّونَهُ عاما فإن معناه : يحلّ الذين كفروا النسيء ، والهاء في قوله : يُحِلّونَهُ عائدة عليه .
ومعنى الكلام : يحلون الذين أخروا تحريمه من الأشهر الأربعة الحرم عاما ويحرّمونه عاما ، لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ ما حَرّمَ اللّهُ يقول : ليوافقوا بتحليلهم ما حللوا من الشهور وتحريمهم ما حرّموا منها ، عدّة ما حرّم الله فَيْحِلّوا ما حَرّمَ اللّهُ زُيّنَ لَهُمْ سُوءُ أعمالِهِمُ يقول : حسن لهم وحبّب إليهم سيىء أعمالهم وقبيحها وما خولف به أمر الله وطاعته . وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينِ يقول : والله لا يوفّق لمحاسن الأفعال وحلها وما لله فيه رضا ، القوم الجاحدين توحيده والمنكرين نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنه يخذلهم عن الهدى كما خذل هؤلاء الناس عن الأشهر الحرم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال : النسيء : هو أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم في كل عام ، وكان يكنى أبا ثمامة ، فينادي : ألا إن أبا ثمامة لا يْحَابُ ولا يعاب ، ألا وإن صفر العام الأوّل حلال فيحلّه الناس ، فيحرّم صفر عاما ، ويحرّم المحرّم عاما ، فذلك قوله تعالى : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ . . . إلى قوله : الكَافِرينَ . وقوله : إنّمَا النّسِىءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يقول : يتركون المحرّم عاما ، وعاما يحرّمُونه .
قال أبو جعفر : وهذا التأويل من تأويل ابن عباس يدلّ على صحة قراءة من قرأ «النسي » بترك الهمزة وترك المدّ ، وتوجيهه معنى الكلام إلى أنه فعل من قول القائل : نسيت الشيء أنساه ، ومن قول الله : نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ بمعنى : تركوا الله فتركهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال : فهو المحرّم كان يحرّم عاما وصفر عاما ، وزيد صفر آخر في الأشهر الحرم ، وكانوا يحرّمون صفرا مرّة ويحلونه مرّة ، فعاب الله ذلك ، وكانت هوزان وغطفان وبنو سليم تفعله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي وائل : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال : كان النسيء رجلاً من بني كنانة ، وكان ذا رأي فيهم ، وكان يجعل سنة المحرّم صفرا ، فيغزون فيه فيغتنمون فيه ويصيبون ، ويحرّمه سنة .
قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي وائل : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ . . . الآية ، وكان رجل من بني كنانة يسمى النسيء ، فكان يجعل المحرّم صفر ويستحل فيه الغنائم ، فنزلت هذه الآية .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن مجاهد ، قال : كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام في الموسم على حمار له ، فيقول : أيها الناس إني لا أُعاب ولا أُحاب ، ولا مردّ لما أقول إنا قد حرّمنا المحرّم ، وأخرنا صفر ثم يجيء العام المقبل بعده ، فيقول مثل مقالته ، ويقول : إنا قد حرمنا صفر ، وأخرنا المحرّم فهو قوله : لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ ما حَرّمَ اللّهُ قال : يعني الأربعة ، فيحلوا ما حرّم الله لتأخير هذا الشهر الحرام .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ النسيء : المحرّم ، وكان يحرّم المحرّم عاما ويحرّم صفرا عاما ، فالزيادة صفر ، وكانوا يؤخرون الشهور حتى يجعلون صفر المحرّم ، فيحلوا ما حرّم الله ، وكانت هوزان وغطفان وبنو سليم يعظمونه ، هم الذين كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ . . . إلى قوله : الكافِرِينَ عمد أناس من أهل الضلالة ، فزادوا صفرا في الأشهر الحرم ، فكان يقوم قائمهم في الموسم ، فيقول : ألا إن آلهتكم قد حرمت العام المحرّم فيحرّمونه ذلك العام . ثم يقول في العام المقبل فيقول : ألا إن آلهتكم قد حرّمت صفر فيحرّمونه ذلك العام . وكان يقال لهما : الصفران . قال : فكان أوّل من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة ، وكانوا ثلاثة : أبو ثمامة صفوان بن أمية أحد بني فقيم بن الحرث ، ثم أحد بني كنانة .
حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال : فرض الله الحجّ في ذي الحجة . قال : وكان المشركون يسمون الأشهر : ذو الحجة ، والمحرّم ، وصفر ، وربيع ، وربيع ، وجمادى ، وجمادى ، ورجب ، وشعبان ، ورمضان ، وشوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، يحجون فيه مرّة ثم يسكتون عن المحرّم فلا يذكرونه ، ثم يعودون فيسمون صفر صفر ، ثم يسمون رجب جمادى الاَخرة ، ثم يسمون شعبان ورمضان ، ثم يسمون رمضان شوالاً ، ثم يسمون ذا القعدة شوّالاً ، ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ، ثم يسمون المحرّم ذا الحجة فيحجون فيه ، واسمه عندهم ذو الحجة . ثم عادوا بمثل هذه القصة ، فكانوا يحجون في كل شهر عامين ، حتى وافق حجة أبي بكر رضي الله عنه الاَخر من العامين في ذي القعدة . ثم حجّ النبي صلى الله عليه وسلم حجته التي حجّ ، فوافق ذا الحجة ، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته : إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ » .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال : حجوا في ذي الحجة عامين ، ثم حجوا في المحرّم عامين ، ثم حجوا في صفر عامين ، فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين ، حتى وافقت حجة أبي بكر الاَخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة . ثم حجّ النبي صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة . فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته : إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن حصين ، عن أبي مالك : إنّمَا النّسِىءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال : كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشرا شهرا ، فيجعلون المحرّم صفرا ، فيستحلون فيه الحرمات . فأنزل الله : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا . . . الآية . قال : هذا رجل من بني كنانة يقال له القَلَمّس ، كان في الجاهلية ، وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام ، يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمدّ إليه يده . فلما كان هو ، قال : اخرجوا بنا قالوا له : هذا المحرم . فقال : ننسئه العام ، هما العام صفران ، فإذا كان عام قابل قضينا فجعلناهما محرمين قال : ففعل ذلك . فلما كان عام قابل ، قال : لا تغزوا في صفر حرّموه مع المحرّم ، هما محرّمان المحرم أنسأناه عاما أوّل ونقضيه ذلك الإنساء . وقال شاعرهم :
*** وَمِنّا مُنْسِيءُ الشّهْرِ القَلَمّسْ ***
وأنزل الله : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ . . . إلى آخر الآية .
وأما قوله : زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ فإن معناه : زيادة كفر بالنسيء إلى كفرهم بالله . وقيل ابتداعهم النسيء كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يقول : ازدادوا به كفرا إلى كفرهم .
وأما قوله : لِيُوَاطِئُوا فإنه من قول القائل : واطأت فلانا على كذا أواطئه مواطأة : إذا وافقته عليه ، معينا له ، غير مخالف عليه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ ما حَرّمَ اللّهُ يقول : يشبهون .
وذلك قريب المعنى مما بيّنا ، وذلك أن ما شابه الشيء فقد وافقه من الوجه الذي شابهه .
وإنما معنى الكلام : أنهم يوافقون بعدة الشهور التي يحرّمونها عدة الأشهر الأربعة التي حرّمها الله ، لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها ، وإن قدّموا وأخّروا فذلك مواطأة عدتهم عدّة ما حرّم الله .
{ إنما النّسيء } أي تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ، كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر حتى رفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرد العدد ، وعن نافع برواية ورش " إنما النسي " بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها . وقرئ " النسي " بحذفها والنسء والنساء وثلاثتها مصادر نسأه إذا أخره . { زيادة في الكفر } لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله فهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم . { يُضل به الذين كفروا } ضلالا زائدا . وقرأ حمزة والكسائي وحفص { يضل } على البناء للمفعول ، وعن يعقوب { يضل } على أن الفعل لله تعالى . { يحلّونه عاما } يحلون المنسي من الأشهر الحرم سنة ويحرمون مكانه شهرا آخر . { ويحرّمونه عاما } فيتركونه على حرمته . قيل : أول من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني كان يقوم على جمل في الموسم فينادي : إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم ينادي في القبائل إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه . والجملتان تفسير للضلال أو حال . { ليواطئوا عدة ما حرّم الله } أي ليوافقوا عدة الأربعة المحرمة ، واللام متعلقة بيحرمونه أو بما دل عليه مجموع الفعلين { فيحلّوا ما حرّم الله } بمواطأة العدة وحدها من غير مراعاة الوقت . { زُيّن لهم سوء أعمالهم } وقرئ على البناء للفاعل وهو الله تعالى ، والمعنى خذلهم وأضلهم حتى حسبوا قبيح أعمالهم حسنا . { والله لا يهدي القوم الكافرين } هداية موصلة إلى الاهتداء .
استئناف بياني ناشئ عن قوله تعالى : { إن عدة الشهور عند الله } [ التوبة : 36 ] الآية لأنّ ذلك كالمقدّمة إلى المقصود وهو إبطال النسيء وتشنيعه .
والنسيء يطلق على الشهر الحرام الذي أرجئت حرمتُه وجعلت لشهر آخر فالنسيء فَعِيل بمعنى مفعول من نَسَأ المهموز اللام ، ويطلق مصدراً بوزن فعيل مثل نَذير من قوله : { كيف نذير } [ الملك : 17 ] ، ومثل النكير والعذر وفعله نسأ المهموز ، أي أخّر ، فالنسيء بهمزة بعد الياء في المشهور . وبذلك قرأه جمهور العشرة . وقرأه ورش عن نافع بياء مشدّدة في آخره على تخفيف الهمزة ياء وإدغامِها في أختها ، والإخبارُ عن النسيء بأنّه زيادة إخبار بالمصدر كما أخبر عن هاروت وماروت بالفتنة في قوله : { إنما نحن فتنة } [ البقرة : 102 ] .
والنسيءُ عند العرب تأخير يجعلونه لشهرٍ حرام فيصيرونه حلالاً ويحرّمون شهراً آخر من الأشهر الحلال عوضاً عنه في عامه .
والداعي الذي دعا العرب إلى وضع النسيء أنّ العرب سَنَتهم قمرية تبعاً للأشهر ، فكانت سنتهم اثني عشر شهراً قمرية تامة ، وداموا على ذلك قروناً طويلة ثم بدا لهم فجعلوا النسيء .
وأحسن ما روي في صفة ذلك قول أبي وائل أنّ العرب كانوا أصحاب حروب وغارات فكان يشقّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها فقالوا لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نُصيب فيها شيئاً لنهلِكَنّ . وسكت المفسّرون عمّا نشأ بعد قول العرب هذا ، ووقع في بعض ما رواه الطبري والقرطبي ما يوهم أنّ أوّل من نسأ لهم النسيء هو جنادة بن عوف وليس الأمر ذلك لأنّ جنادة بن عوف أدرك الإسلام وأمر النسيء متوغّل في القدم والذي يجب اعتماده أنّ أول من نسأ النسيء هو حذيفة بن عبد نعيم أو فقيم ( ولعل نعيم تحريف فقيم لقول ابن عطية اسم نعيم لم يعرف في هذا ) . وهو الملقب بالقَلَمَّس ولا يوجد ذكر بني فقيم في « جمهرة ابن حزم » وقد ذكره صاحب « القاموس » وابن عطية . قال ابن حزم أول من نسأ الشهور سرير ( كذا ولعلّه سري ) بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ثم ابن أخيه عدي بن عامر بن ثعلبة . وفي ابن عطية خلاف ذلك قال : انتدب القلمس وهو حذيفة بن عبدِ فقيم فنسأ لهم الشهور . ثم خلفه ابنه عبّاد . ثم ابنه قُلَع ، ثم ابنه أمية ، ثم ابنه عوف ، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة وعليه قام الإسلامُ قال ابن عطية كان بنو فقيم أهل دين في العرب وتمسُّكِ بشرع إبراهيم فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب . وفي « تفسير القرطبي » عن الضحّاك عن ابن عباس أول من نسأ عَمْرو بن لُحَي ( أي الذي أدخل عبادة الأصنام في العرب وبحر البحيرة وسيّب السائبة ) .
وقال الكلبي أول من نسأ رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة .
قال ابن حزم : كلّ من صارت إليه هذه المرتبة ( أي مرتبة النسيء ) كان يسمّى القلمس . وقال القرطبي : كان الذي يلي النسيء يظفر بالرئاسة لترييس العرب إيّاه . وكان القلمس يقف عند جمرة العقبة ويقول : اللهم إنّي ناسىءُ الشهور وواضعُها مواضعها ولا أعاب ولا أجاب . اللهم أنّي قد أحللت أحد الصفرين وحرمت صفر المؤخّر انفروا على اسم الله تعالى . وكان آخر النسأة جنادة بن عوف ويكنى أبا ثمامة وكان ذا رأي فيهم وكان يحضر الموسم على حمار له فينادي أيها الناس ألا إنّ أبا ثمامة لا يُعاب ولا يجاب . ولا مرد لما يقول فيقولون أنْسئنا شهراً ، أي أخِّرْ عنّا حرمة المحرّم واجعلها في صفر فيُحل لهم المحرّم وينادي : ألا إنّ آلهتكم قد حرمت العام صفر فيحرّمونه ذلك العام فإذا حجّوا في ذي الحجّة تركوا المحرّم وسَمّوه صفراً فإذا انسلخ ذو الحجّة خرجوا في محرّم وغزوا فيه وأغاروا وغنموا لأنّه صار صفراً فيكون لهم في عامهم ذلك صفران وفي العام القابل يصير ذو الحجة بالنسبة إليهم ذا القعدة ويصير محرّم ذا الحجة فيحجون في محرم يفعلون ذلك عامين متتابعين ثم يبدلون فيحجّون في شهر صفر عامين ولاءً ثم كذلك .
وقال السهيلي في « الروض الأنف » إنّ تأخير بعض الشهور بعد مدة لقصد تأخير الحج عن وقته القمري ، تحرياً منهم للسنة الشمسية ، فكانوا يؤخّرونه في كلّ عام أحد عشر يوماً أو أكثر قليلاً ، حتى يعود الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة ، فيعود إلى وقته ونسَب إلى شيخه أبي بكر بن العربي أنّ ذلك اعتبار منهم بالشهور العجمية ولعلّه تبع في هذا قول إياس بن معاوية الذي ذكره القرطبي ، وأحسب أنّه اشتباه .
وكان النسيء بأيدي بني فقيم من كنانة وأول من نسأ الشهور هو حذيفة بن عبد بن فقيم .
وتقريب زمن ابتداء العمل بالنسيء أنّه في أواخر القرن الثالث قبل الهجرة ، أي في حدود سنة عشرين ومائتين قبل الهجرة .
وصيغة القصر في قوله : { إنما النسىء زيادة في الكفر } تقتضي أنّه لا يعدو كونه من أثر الكفر لمحبّة الاعتداءِ والغارات فهو قصر حقيقي ، ويلزم من كونه زيادة في الكفر أنّ الذين وضعوه ليسوا إلاّ كافرين وما هم بمصلحين ، وما الذين تابعوهم إلاّ كافرون كذلك وما هم بمتّقين .
ووجه كونه كفراً أنّهم يعلمون أنّ الله شرع لهم الحجّ ووقتَّه بشهر من الشهور القمرية المعدودة المسمّاة بأسماء تميّزها عن الاختلاط ، فلمّا وضعوا النسيء قد علموا أنّهم يجعلون بعض الشهور في غير موقعه ، ويسمّونه بغير اسمه ، ويصادفون إيقاع الحج في غير الشهر المعيّن له ، أعني شهر ذي الحجّة ولذلك سمّوه النسيء اسماً مشتقّاً من مادة النَّسَاء وهو التأخير ، فهم قد اعترفوا بأنّه تأخير شيء عن وقته ، وهم في ذلك مستخفّون بشرع الله تعالى ، ومخالفون لما وقّت لهم عن تعمّد مثبتين الحلَّ لشهر حرام والحرمةَ لشهر غير حرام ، وذلك جرأة على دين الله واستخفاف به ، فلذلك يشبه جعلَهم لله شركاء ، فكما جعلوا لله شركاء في الإلهية جعلوا من أنفسهم شركاء لله في التشريع يخالفونه فيما شرعه فهو بهذا الاعتبار كالكفر ، فلا دلالة في الآية على أنّ الأعمال السيّئة توجب كفر فاعلها ولكن كفر هؤلاء أوجب عملهم الباطل .
وحرف { في } المفيد الظرفية متعلّق « بزيادة » لأنّ الزيادة تتعدّى بفي { يزيد في الخلق ما يشاء } [ فاطر : 1 ] فالزيادة في الأجسام تقتضي حلول تلك الزيادة في الجسم المشابهِ للظرف ويجوز أن يكون تأويله أنّه لمّا كان إحداثه من أعمال المشركين في شؤون ديانتهم وكان فيه إبطال لمواقيت الحجّ ولحرمة الشهر الحرام اعتبر زيادة في الكفر بمعنى في أعمال الكفر وإن لم يكن في ذاته كفراً وهذا كما يقول السلف : إنّ الإيمان يزيد وينقص يريدون به يزيد بزيادة الأعمال الصالحة وينقص بنقصها مع الجزم بأنّ ماهية الإيمان لا تزيد ولا تنقص وهذا كقوله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] ، أي صلاتكم . على أنّ إطلاق اسم الإيمان على أعمال دين الإسلام وإطلاق اسم الكفر على أعمال الجاهلية ممّا طفحت به أقوال الكتاب والسنّة مع اتّفاق جمهور علماء الأمّة على أنّ الأعمال غيرَ الاعتقاد لا تقتضي إيماناً ولا كفراً .
وعلى الاحتمال الثاني فتأويله بتقدير مضاف ، أي زيادة في أحوال أهل الكفر ، أي أمر من الضلال زيد على ما هم فيه من الكفر بضدّ قوله تعالى : { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } [ مريم : 76 ] . وهذان التأويلان متقاربان لا خلاف بينهما إلا بالاعتبار ، فالتأويل الأول يقتضي أنّ إطلاق الكفر فيه مجاز مرسل والتأويل الثاني يقتضي أنّ إطلاق الكفر فيه إيجازُ حذف بتقدير مضاف .
وجملة { يضل به الذين كفروا } خبر ثان عن النسيء أي هو ضلال مستمرّ ، لما اقتضاه الفعل المضارع من التجدّد .
وجملة { يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً } بيان لسبب كونه ضلالاً .
وقد اختير المضارع لهذه الأفعال لدلالته على التجدّد والاستمرار ، أي هم في ضلال متجدّد مستمرّ بتجدّد سببه ، وهو تحليله تارة وتحريمه أخرى ، ومواطأة عدّة ما حرم الله .
وإسناد الضلال إلى الذين كفروا يقتضي أنّ النسيء كان عمله مطّرداً بين جميع المشركين من العرب فما وقع في « تفسير الطبري » عن ابن عباس والضحّاك من قولهما وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم يفعلونه ويعظمونه ليس معناه اختصاصهم بالنسيء ولكنّهم ابتدأوا بمتابعته .
وقرأ الجمهور { يضل } بفتح التحتية وقرأه حفص عن عاصم ، وحمزةُ ، والكسائي وخلَف ، ويعقوب بضمّ التحتية على أنّهم يضلّون غيرهم .
والتنكير والوحدة في قوله : { عاماً } في الموضعين للنوعية ، أي يحلّونه في بعض الأعوام ويحرّمونه في بعض الأعوام ، فهو كالوحدة في قول الشاعر :
وليس المراد أنّ ذلك يوماً غبّ يوم ، فكذلك في الآية ليس المراد أنّ النسيء يقع عاماً غبّ عام كما ظنّه بعض المفسّرين . ونظيرُه قول أبي الطيّب :
فيوماً بخيل تطْرُد الرومَ عنهم *** ويوماً بجُود تَطرد الفقرَ والجَدْبا
( يريد تارة تدفع عنهم العدوّ وتارة تدفع عنهم الفقر والجدب ) وإنّما يكون ذلك حين حلول العدوّ بهم وإصابةِ الفقر والجدب بلادَهم ، ولذلك فسّره المعري في كتاب « مُعْجِز أحمد » بأنْ قال : « فإنّ قَصَدَهم الرومُ طَرَدْتَهم بخيلك وإن نازَلَهم فقر وجدب كشفتَه عنهم بجُودك وإفضالك » .
وقد أبقي الكلام مجملاً لعدم تعلّق الغرض في هذا المقام ببيان كيفية عمل النسيء ، ولعلّ لهم فيه كيفيات مختلفة هي معروفة عند السامعين .
ومحلّ الذمّ هو ما يحصل في عمل النسيء من تغيير أوقات الحجّ المعيّنة من الله في غير أيامها في سنين كثيرة ، ومن تغيير حرمة بعض الأشهر الحرم في سنين كثيرة ويتعلّق قوله : { ليواطئوا عدة ما حرم الله } بقوله : { يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً } أي يفعلون ذلك ليوافقوا عدد الأشهر الحرم فتبقى أربعة .
والموطأة الموافقة ، وهي مفاعلة عن الوَطىء شبه التماثل في المقدار وفي الفعل بالتوافق ( في ) وطيء الأرجل ومن هذا قولهم ( وقوع الحافر على الحافر ) .
و { عِدّة ما حرم الله } هي عدّة الأشهر الحرم الأربعة .
وظاهر هذا أنّه تأويل عنهم وضربٌ من المعذرة ، فلا يناسب عده في سياق التشنيع بعملهم والتوبيخ لهم ، ولكن ذِكْره ليُرتَّب عليه قولُه : { فيحلوا ما حرم الله } فإنّه يتفرّع على محاولتهم موافقة عدّة ما حرم الله أن يحلّوا ما حرّم الله ، وهذا نداء على فساد دينهم واضطرابه فإنّهم يحتفظون بعدد الأشهر الحرم الذي ليس له مزيد أثر في الدين ، وإنّما هو عدد تابع لتعيين الأشهر الحرم ، ويفرّطون في نفس الحُرمة فيحلون الشهر الحرام ، ثم يزيدون باطلاً آخر فيحرّمون الشهر الحلال . فقد احتفظوا بالعدد وأفسدوا المعدود .
وتوجيه عطف { فيحلوا } على مجرور لام التعليل في قوله : { ليواطئوا عدة ما حرم الله } هو تنزيل الأمر المترتّب على العلّة منزلة المقصود من التعليل وإن لم يكن قصد صاحبه به التعليل ، على طريقة التهكّم والتخطئة مثل قوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] .
والإتيان بالموصول في قوله : { عدة ما حرم الله } دون أن يعبّر بنحو عدة الأشهر الحرم ، للإشارة إلى تعليل عملهم في اعتقادهم بأنّهم حافظوا على عدة الأشهر التي حرّمها الله تعظيماً . ففيه تعريض بالتهكّم بهم .
والإظهار في قوله : { فيحلوا ما حرم الله } دون أن يقال فيُحلوه ، لزيادة التصريح بتسجيل شناعة عملهم ، وهو مخالفتهم أمر الله تعالى وإبطالُهم حرمة بعض الأشهر الحرم ، تلك الحرمة التي لأجلها زعموا أنّهم يحرّمون بعض الأشهر الحلال حفاظاً على عدّة الأشهر التي حرّمها الله تعالى .
وجملة { زين لهم سوء أعمالهم } مستأنفة استئنافاً بيانياً : لأنّ ما حكي من اضطراب حالهم يثير سؤال السائلين عن سبب هذا الضغث من الضلال الذي تمَلأُوه فقيل : لأنّهم زيّن لهم سوء أعمالهم ، أي لأنّ الشيطان زيّن لهم سوء أعمالهم فحسّن لهم القبيح .
والتزيين التحسين ، أي جعلُ شيء زيْناً ، وهو إذا يسند إلى مَا لا تتغيّر حقيقته فلا يصير حسناً ، يؤذن بأنّ التحسين تلبيس . وتقدّم التزيينُ في قوله تعالى : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } في سورة البقرة ( 212 ) . وقوله : { كذلك زينا لكل أمة عملهم } في سورة الأنعام ( 108 ) .
وفي هذا الاستئناف معنى التعليل لحالهم العجيبة حتّى يزول تعجّب السامع منها .
وجملة { والله لا يهدي القوم الكافرين } عطف على جملة { زين لهم سوء أعمالهم } فهي مشمولة لمعنى الاستئناف البياني المراد منه التعليل لتلك الحالة الغريبة ، لأنّ التعجيب من تلك الحالة يستلزم التعجيب من دوامهم على ضلالهم وعدم اهتدائهم إلى ما في صنيعهم من الاضطراب ، حتّى يقلعوا عن ضلالهم ، فبعد أن أفيد السائل بأنّ سبب ذلك الاضطراب هو تزيين الشيطان لهم سوءَ أعمالهم ، أفيد بأنّ دوامهم عليه لأنّ الله أمسك عنهم اللطف والتوفيق ، اللذيْن بهما يتفطّن الضالّ لضلاله فيقلع عنه ، جزاءاً لهم على ما أسلفوه من الكفر ، فلم يزالوا في دركات الضلال إلى أقصى غاية .
والإظهار في مقام الإضمار بقوله : { القوم الكافرين } لقصد إفادة التعميم الذي يشملهم وغيرهم ، أي : هذا شأن الله مع جميع الكافرين .
واعلم أنّ حرمة الأزمان والبقاع إنّما تُتلقَّى عن الوحي الإلهي لأنّ الله الذي خلق هذا العالم هو الذي يسُنّ له نظامَه فبذلك تستقرّ حرمة كلّ ذي حرمة في نفوس جميع الناس إذ ليس في ذلك عمل لبعضهم دون بعض ، فإذا أدخل على ما جعله الله من ذلك تغييرٌ تقشّعت الحرمة من النفوس فلا يرضى فريق بما وضعه غيره من الفرق ، فلذلك كان النسيء زيادة في الكفر لأنّه من الأوضاع التي اصطلح عليها الناس ، كما اصطلحوا على عبادة الأصنام بتلقين عمرو ابن لحَيّ .
وقد أوْحَى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنّ العامَ الذي يَحُجّ فيه يصادف يومُ الحجّ منه يومَ تسعة من ذي الحجة ، على الحساب الذي يتسلسل من يوم خلق الله السماوات والأرض ، وأنّ فيه يندحض أثر النسيء ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع « إنّ الزمان قد استدار كهيئتِه يومَ خلق اللَّهُ السماوات والأرض » ، قالوا فصادفت حجّة أبي بكر سنة تسع أنّها وقعت في شهر ذي القعدة بحساب النسيء ، فجاءت حجّةُ النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ذي الحجّة في الحساب الذي جعله الله يومَ خلق السماوات والأرض .