غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

188

روي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ألا يكون على حالة واحدة ؟ { يسألونك عن الأهلة } وقيل : إن السائلين هم اليهود .

ثم إن الله تعالى لم يجبهم بأنه إنما يرى كذلك لأنه يستفيد النور من الشمس وأنه مظلم في ذاته ويفصل أبداً بين المضيء والمظلم منه دائرة لاستداره المنير والمستنير ، ويفصل بين المرئي وغير المرئي من القمر أيضاً دائرة . والدائرتان تتطابقان في الاجتماع بحيث لا يظهر شيء من المستنير وتكون القطعة المظلمة مما يلي البصر وهذه الحالة هي المحاق . وكذا في الاستقبال لكن القطعة المضيئة هي التي تلي البصر والقمر في هذه الحالة يسمى بدراً . وفي سائر الأوضاع يتقاطعان . أما في التربيعين فعلى زوايا قوائم تقريباً ، وفي غير التربيعين على زوايا حادة ومنفرجة ، وعلى التقديرين تنقسم كرة القمر بهما إلى أربع قطع : اثنتان مضيئتان وهما اللتان تليان الشمس ، والباقيتان مظلمتان . ويقع في مخروط البصر إحدى الأوليين وإحدى الأخريين ، لكنه يحس بالمضيئة دون المظلمة . والقطع الأربع في التربيعين متساويات تقريباً ، وفي غيرهما تختلف المتجاورتان وتتساوى المتقابلتان . والقطعة المرئية من المتجاورتين الواقعتين في مخروط البصر في الربعين الأول والأخير من الشهر أصغرهما ، لأن زاوية تلك القطعة أصغر اللتين يليان الإبصار أعني أنها حادة وتسمى القطعة المرئية الصغيرة أول ما يبدو إلى ليلتين هلالاً ويجمع على أهلة ، لأنه يتعدد اعتباراً . وفي الربعين الباقيين من الشهر القطعة المضيئة المرئية أعظم المتجاورتين الموصوفتين لأن زاويتها أعظم المذكورتين أعني أنها منفرجة ، وإنما لم يجابوا بذلك لأن المكلف لا يهمه معرفة هذه التصورات في باب العمل ، وإنما الذي يعود عليه من فوائده وحكمه في باب التكليف معرفة المواقيت وهي المعالم التي يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدد نسائهم وأيام حيضهن ومدد حملهن ومعالم للحج يعرف بها وقته . والميقات من الوقت كالميزان من الوزن ، ولعمري إنه لو منع مانع من أن ضبط هذه الأمور لا يتسهل ولا يتسنى إلا بوقوع الاختلاف في تشكلات القمر حيث سمى عوده من كل تشكل إلى مثله ولاسيما من الهلالية إلى مثلها شهراً وبذلك قدر السنون ، وضبطت الأوقات والفصول فلن يمكنه جحود فائدته على تقدير وجود ، ولو لم يكن في الإظهار رسمة الحدوث والإمكان والزوال والنقصان في الفلكيات حتى لا يظن بها وجوب الوجود ، أو الاشتراك في القدم مع مفيض الخير والجود ، أو امتناع الخرق والالتئام كما ذهب إلى كل من ذلك طائفة من اللئام لكفى به تنبيهاً وعناية وإرشاداً وهداية إلى افتقار الفلكيات إلى فاعل مختار ومدبر قهار جاعل الظلم والأنوار ، ومصير الأهلة والأقمار ، وفي إفراد الحج بالذكر مع أن الأهلة مواقيت عبادات أخر كالصوم والزكاة إشارة إلى أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى له ، وأنه لا يجوز نقل الحج عن تلك الأشهر إلى شهر آخر كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء . ويمكن أن يقال : توقف الصوم على الهلال قد علم من قوله { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } [ البقرة : 184 ] والزكاة تتعلق بالحول . والأصل في تقدير السنين لعودة الشمس من نقطة كأول الحمل مثلاً إلى مثلها بحركتها الخاصة ، والأيمان والجهاد لا يتعلقان بوقت معين ، والصلاة تتعلق باليوم بليلته ، فلم يبق من الأركان المتعلقة بالشهر سوى الحج فتعين ذكره في هذه الآية والله أعلم .

قوله تعالى عز من قائل { وليس البر بأن تأتوا البيوت } عن البراء قال : نزلت هذه الآية فينا . كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت فجاء رجل من الأنصارفدخل من قبل بابه فكأنه عُير بذلك فنزلت وفي رواية كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله الآية . والحاصل أن ناساً من الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من باب فإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء . فقيل لهم : ليس البر بتحرجكم من دخول الباب تشديداً لأمر الإحرام { ولكن البر بر من اتقى } ولكن ذا البر من اتقى مخالفة الله . وقيل : إن الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر مبن صعصعة سموا حمساً لتشددهم في دينهم والحماسة الشدة . كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا بيوتهم ألبتة ، ولم يجلسوا تحت سقف البيت ، ولم يستظلوا الوبر ، ولم يأكلوا السمن والأقط . وعن الحسن والأصم : كان الرجل في الجاهلية إذا هم فتعسر عليه مطلوبه لم يدخل بيته من بابه بل يأتيه من خلفه ، ويبقى على هذه الحالة حولاً كاملاً فنهاهم الله تعالى عن ذلك لأنهم كانوا يفعلونه تطيراً . وأما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله بناء على الأسباب المروية في نزوله وعليه أكثر المفسرين ، فهو أنهم لما سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلة قيل لهم : اتركوا السؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم وارجعوا إلى ما البحث عنه أهم ، ولا تعتقدوا أن جميع ما سنح لكم هو على شاكلة الصواب : وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم تحسبونها براً وليست من البر في شيء ، أو أنه تعالى لما ذكر الحكمة في الأهلة وهي جعلها مواقيت الناس والحج وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبروها في الحج ، فلا جرم تكلم الله تعالى فيه استطراداً ، أو اتفق وقوع القصتين في وقت واحد فنزلت الآية فيهما معاً في وقت واحد . وقيل : إنه تمثيل لتعكيسهم في سؤالهم ، فإن الطريق المستقيم هو الاستدلال بالمعلوم على المظنون ، فأما أن يستدل بالمظنون على المعلوم فذاك عكس الواجب ، ولما ثبت بالدلائل أن للعالم صانعاً مختاراً حكيماً ، وثبت أن الحكيم لا يفعل إلا الصواب البريء عن العبث والسفه ، فإذا رأينا اختلاف حال القمر وجب أن نعلم أن فيه حكمة ومصلحة ، وهذا استدلال بالمعلوم على المجهول . فأما أن يستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله غير حكيم فهو استدلال بالمجهول على المعلوم ، فكأنه تعالى يقول : لما لم تعلموا حكمته في اختلاف نور القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق أو قاربتم الشك ، فقد أتيتم الأمر من ورائه وهذا ليس من البر ولا من كمال العقل ، إنما البر أن تأتوا الأمور من وجوهها التي يجب أن تؤتى منها ، وهذا باب مشهور في الكناية قال الأعشى :

وكأس شربت على رغبة *** وأخرى تداويت منها بها

لكي يعلم الناس أني أمرؤ *** أتيت المعيشة من بابها

وعن أبي مسلم : أن هذا إشارة إلى ما كانوا يفعلونه من النسيء وكان يقع الحج في غير وقته ، فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثلاً لمخالفتهم الواجب في الحج وشهوره . ثم إنه تعالى أمرهم بالتقوى التي تتضمن الإتيان بجميع الواجبات والاجتناب عن الفواحش والمنكرات إرادة أن يظفروا بالمطالب الدينية والدنيوية والله ولي التوفيق .

/خ189