غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسۡـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ} (273)

267

ثم لما بيّن أنه يجوز صرف الصدقة إلى أي فقير كان ، أراد أن يبين أن اشد الناس استحقاقاً من هو فقال { للفقراء } أي ذلك الإنفاق لهؤلاء الفقراء كما لو تقدم ذكر رجل فتقول : عاقل لبيب أي ذلك الذي مر وصفه عاقل لبيب ، وقيل : اعمدوا للفقراء أو أجلوا ما تنفقون للفقراء ، أو المراد صدقاتكم للفقراء . قيل : نزلت في فقراء المهاجرين وكانوا نحو أربعمائة رجل وهم أصحاب الصفة ، لم يكن لهم سكن ولا عشائر بالمدينة ، كانوا ملازمين للمسجد يتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة ، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى . وعن ابن عباس : " وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال : أبشروا يا أصحاب الصفة فمن بقي من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضياً بما فيه فإنه من رفقائي " .

ثم إنه تعالى وصف هؤلاء الفقراء بخمس صفات : الأولى قوله { الذين أحصروا في سبيل الله } أي حصروا أنفسهم ووقفوا على الجهاد في سبيل الله لأن سبيل الله مختص بالجهاد في عرف القرآن ، ولأن وجوب الجهاد في ذلك الزمان كان آكد فكانت الحاجة إلى من يحبس نفسه للمجاهدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد ، فموضع الصدق فيهم يكون أوقع سداً لخلتهم وتقوية لقلوبهم وإعلاء لمعالم الدين . وعن سعيد بن المسيب واختاره الكسائي ، أن هؤلاء قوم أصابتهم جراحات في الغزوات فأحصرهم المرض والزمانة ، وعن ابن عباس : هؤلاء قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد فعذرهم الله . الثانية { لا يستطيعون ضرباً في الأرض } أي سيراً فيها وذلك إما لاشتغالهم بالعبادة أو بالجهاد فلا يفرغون للكسب والتجارة ، وإما لأن خوفهم من الأعداء يمنعهم من السفر ، وإما لأن مرضهم وعجزهم يمنعهم منه . الثالثة { يحسبهم } يظنهم { الجاهل } بحالهم ومن لم يخبر أمرهم { أغنياء من التعفف } من أجل تركهم المسألة وإظهارهم التجمل تكلفاً منهم . والتعفف إظهاء العفة وهي ترك الشيء والكف عنه . الرابعة { تعرفهم } أي أنت يا محمد أو كل راء { بسيماهم } والسيما والسيمياء العلامة التي يعرف بها الشيء من السمة العلامة فوزنه " عفلى " قال مجاهد : سيماهم التخشع والتواضع . الربيع والسدي : أثر الجهد من الجوع والفقر . الضحاك : صفرة ألوانهم من الجوع . أبو زيد : رثاثة ثيابهم . وقيل : المهابة في العيون . وقيل : آثار الفكر . روي أنه صلى الله عليه وسلم كان كثير الفكر . الخامسة { لا يسألون الناس إلحافاً } أي إلحاحاً وهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطى له . والتركيب يدل على الستر كأنه لزم المسئول لزوم الساتر للمستور . عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب الحي الحليم المتعفف ويبغض البذيء السأل الملحف " قيل : معنى الآية أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحفوا ، وأورد عليه أنه ينافي التعفف الذي وصفوا به قبل . فالوجه أن يراد نفي السؤال والإلحاف جميعاً كقوله : " ولا ترى الضب بها يتجحر " أي لا ضب ولا انجحار ليكون موافقاً لوصفهم بالتعفف . وفائدة الكلام التنبيه على سوء طريقة الملحف كما إذا حضر عندك رجلان أحدهما عاقل وقور والآخر طياش خفيف وأردت أن تمدح أحدهما وتذم الآخر قلت : فلان رجل عاقل وقور قليل الكلام ليس بخواض ولا مهذار . لم يكن غرضك من قولك " ليس خواض ولا مهذار " وصفه بذلك لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عنه ، بل غرضك التنبيه على سوء طريقة الثاني . وقيل : معناه لا يتركون السؤال إلا بإلحاح شديد منهم على أنفسهم لشدة حاجتهم كقوله :

ولي نفس أقول لها إذا ما*** تنازعني لعلي أو عساني

وقيل : إن عدم السؤال بطريق الإلحاف يتضمن نفي السؤال عنهم رأساً لأن كل سائل فلا بد أن يلح في بعض الأوقات كأنه يقول : إذا أرقت ماء وجهي فلا أرجع بغير مقصود . وقيل : لعل الساكت عن السؤال يطهر من نفسه أمارات الحاجة فيكون في حال سكوته أنطق ما يكون فترق القلوب له ، فالمراد أنهم وإن سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السؤال من رثاثة الحال وآثار الانكسار ما يقوم مقام السؤال فإن ذلك نوع إلحاف ، بل يتجملون للخلق بحيث لا يطلع على سرهم غير الخالق . عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يفتح أحد باب مسألةٍ إلا فتح الله عليه باب فقر ومن يستغن يغنه الله ومن استعف يعفه الله " " لأن يأخذ أحدكم حبلاً يحتطب به فيبيعه بمد من تمر خير له من أن يسأل الناس " { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم } فيه أن ثواب هذا الإنفاق الذي هو أعظم المصارف لا يكتنه كنهه فلذلك وكل إلى علم الله تعالى بخلاف الآية المتقدمة فإنه لما رغب في التصدق على أهل الأديان قال في آخره { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } كما لو قال السلطان لعبده الذي حسن عنده موقع خدمته : إني بحسن خدمتك عالم ولحقك عارف . كان أبلغ مما لو قال : إن أجرك واصل إليك .

/خ274