غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فَمَنۡ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ} (61)

61

التفسير : " روي أنه صلى الله عليه وسلم لما أورد الدلائل على نصارى نجران ، ثم إنهم أصروا على جهلهم قال صلى الله عليه وسلم : إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم . فقالوا : يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك . فلما رجعوا قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم - يا عبد المسيح ما ترى ؟ قال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالكلام الفصل من أمر صاحبكم . والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لكان الاستئصال ، فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم . فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرج وعليه صلى الله عليه وسلم مرط من شعر أسود . وكان صلى الله عليه وسلم قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه صلى الله عليه وسلم وعلي عليه السلام خلفها وهو يقول : إذا دعوت فأمنوا . فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى ، إني لأرى وجوهاً لو دعت الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة . ثم قالوا : يا أبا القاسم ، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك . فقال صلى الله عليه وسلم : فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين فأبوا . فقال صلى الله عليه وسلم : فإني أناجزكم أي أحاربكم . فقالوا : ما لنا بحرب العرب المسلمين طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا على ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ، ألفاً في صفر وألفاً في رجب وثلاثين درعاً عادية من حديد فصالحهم على ذلك . قال صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ، ولما حاول الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا " .

وروي عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج في المرط الأسود جاء الحسن فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله ، ثم فاطمة ثم علي عليه السلام ثم قال صلى الله عليه وسلم { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً }[ الأحزاب : 33 ] وهذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث . { فمن حاجك } من النصارى { فيه } في عيسى وقيل في الحق { من بعد ما جاءك من العلم } من البينات الموجبة للعلم بأن عيسى عبد الله ورسوله وذلك بطريق الوحي والتنزيل { فقل تعالوا } هلموا والمراد المجيء بالرأي والعزم كما تقول : تعال نفكر في هذه المسألة . وهو في الأصل " تفاعلوا " من العلو . وذلك أن بيوتهم كانت على أعالي الجبل ، فكانوا ينادون تعال يا فلان أي ارتفع ، إلا أنه كثر حتى استعمل في كل مجيء فصار بمنزلة " هلم " . { ندع أبناءنا وأبناءكم } أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ويأتي هو بنفسه وبمن هو كنفسه إلى المباهلة . وإنما يعلم إتيانه بنفسه من قرينة ذكر النفس ومن إحضار من هم أعز من النفس ، ويعلم إتيان من هو بمنزلة النفس من قرينة أن الإنسان لا يدعو نفسه . { ثم نبتهل } ثم نتباهل وقد يجيء " افتعل " بمعنى " تفاعل " نحو : اختصم بمعنى تخاصم . والتباهل أن يقول كل واحد منهما : بهلة الله على الكاذب منا أي لعنته . ويقال : بهله الله أي لعنه وأبعده من رحمته ومنه قولهم : " أبهله " إذا أهمله . وناقة بأهل لا صرار عليها بل هي مرسلة مخلاة . فكل من شاء حلبها وأخذ لبنها لا قوة بها على الدفع عن نفسها . فكأن المباهل يقول : إن كان كذا فوكلني الله إلى نفسي وفوّضني إلى حولي وقوتي وخلاني من كلائه وحفظه . هذا أصل الابتهال ، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعاناً وهو المراد في الآية لئلا يلزم التكرار أي ثم نجتهد في الدعاء فنجعل اللعنة على الكاذب بأن نسأل الله أن يلعنه . وفي الآية دلالة على أن الحسن والحسين وهما ابنا البنت يصح أن يقال إنهما ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم وعد أن يدعو أبناءه ثم جاء بهما . وقد تمسك الشيعة قديماً وحديثاً بها في أن علياً أفضل من سائر الصحابة لأنها دلت على أن نفس علي مثل نفس محمد إلا فيما خصه الدليل . وكان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي ، وكان متكلم الاثني عشرية يزعم أن علياً أفضل من سائر الأنبياء سوى محمد . قال : وذلك أنه ليس المراد بقوله : { وأنفسنا } نفس محمد لأن الإنسان لا يدعو نفسه فالمراد غيره . وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب فإذاً نفس علي هي نفس محمد .

لكن الإجماع دل على أن محمداً أفضل من سائر الأنبياء ، فكذا علي عليه السلام قال : ويؤكده ما يرويه المخالف والموافق أنه صلى الله عليه وسلم قال : " من أراد أن يرى آدم في علمه ، ونوحاً في طاعته ، وإبراهيم في خلته ، وموسى في قربته ، وعيسى في صفوته فلينظر إلى علي بن أبي طالب عليه السلام " فدل الحديث على أنه اجتمع فيه عليه السلام ما كان متفرقا فيهم ، وأجيب بأنه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أن محمداً أفضل من سائر الأنبياء فكذا انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي ، وأجمعوا على أن علياً عليه السلام ما كان نبياً ، فعلم أن ظاهر الآية كما أنه مخصوص في حق محمد صلى الله عليه وسلم فكذا في حق سائر الأنبياء ، وأما فضل أصحاب الكساء فلا شك في دلالة الآية على ذلك ، ولهذا ضمهم إلى نفسه بل قدمهم في الذكر . وفيها أيضاً دلالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لو لم يكن واثقاً بصدقه لم يتجرأ على تعريض أعزته وخويصته وأفلاذ كبده في معرض الابتهال ومظنة الاستئصال ، ولولا أن القوم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلم لما أحجموا عن مباهلته ، وأما قول المشركين

{ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء }[ الأنفال : 32 ] فليس من قبيل المباهلة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرض نفسه لذلك ولم يكن ذلك القول في معرض الاحتجاج والادعاء ولا بإذن من الله تعالى لرسوله .