غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (55)

42

{ إذ قال الله } ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله أو مفعول اذكر { يا عيسى إني متوفيك } أي متمم عمرك وعاصمك من أن يقتلك الكفار الآن بل أرفعك إلى سمائي وأصونك من أن يتمكنوا من قتلك . وقيل : متوفيك أي مميتك كيلا يصل أعداؤك من اليهود إلى قتلك ثم رافعك إليّ . وهذا القول مروي عن ابن عباس ومحمد بن إسحق . ثم قال وهب : توفي ثلاث ساعات ثم رفع وأحيي . وقال محمد بن إسحق . توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه . وقال الربيع بن أنس : إنه نومه ورفعه إلى السماء نائماً حتى لا يلحقه خوف ورعب . أخذه من قوله { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها }[ الزمر : 42 ] . وقيل : التوفي أخذ الشيء وافياً أي آخذك بروحك وبجسدك جميعاً فرافعك إلي دفعاً لوهم من يتوهم أنه أخذ بروحه دون جسده . وقيل : متوفيك قابضك من الأرض من توفيت مالي على فلان أي استوفيته . وقيل : أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء انقطع خبره وأثره عن الأرض فيكون من باب إطلاق الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته .

وقيل : المضاف محذوف أي متوفي عملك ورافع طاعتك فكأنه بشره بقبول طاعته وأن ما وصل إليه من المتاعب في تمشية دينه وإظهار شريعته فهو لا يضيع أجره ، فهذا كقوله :{ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه }

[ فاطر : 10 ] وقيل : في نسق الكلام تقديم وتأخير . فإن الواو لا تقتضي الترتيب . والمعنى إني رافعك إلي ومتوفيك بعد إنزالك إلى الدنيا . ويؤيده ما ورد في الخبر أنه سينزل ويقتل الدجال ، ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك . أما قوله { ورافعك إليّ } فالمشبهة تمسكوا بمثله في إثبات المكان لله تعالى وأنه في السماء ، لكن الدلائل القاطعة دلت على أنه متعال عن الحيز والجهة فوجب حمل هذا الظاهر على التأويل بأن المراد إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي ومثله قول إبراهيم :{ إني ذاهب إلى ربي }[ الصافات : 99 ] وإنما ذهب من العراق إلى الشام ، وقد سمي الحجاج زوّار الله ، والمجاورون جيران الله . والمراد التفخيم والتعظيم ، أو المراد إلى مكان لا يملك الحكم عليه هناك غير الله فإن في الأرض ملوكاً مجازية . ولئن سلم أنه تعالى يمكن أن يكون في مكان فليس رفع عيسى عليه السلام إلى ذلك المكان سبباً لبشارته ما لم يتيقن الثواب والكرامة والروح والراحة ، فلا بد من صرف اللفظ عن ظاهره وهو أن يقال : المراد رفعه إلى محل كرامته ، وإذا لم يكن بد من الإضمار فلم يبق في الآية دلالة على إثبات المكان له تعالى . ثم إنه كما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه ، عبر لذلك عن معنى التخليص بلفظ التطهير فقال : { ومطهرك من الذين كفروا } أي من خبث جوارهم وسوء عشرتهم { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } وليس هذا فوقية المكان بالاتفاق . فالمراد إما الفوقية بالحجة والدليل ، وإما الفوقية بالقهر والاستيلاء . وفيه إخبار عن ذل اليهود ومسكنتهم إلى يوم القيامة . ولعمري إنه كذلك فلا يرى ملك يهودي في الدنيا ولا بلد لهم مستقل بخلاف النصارى . على أنا نقول : المراد بمتبعي المسيح هم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعده فصدقوه في قوله :{ ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد }[ الصف : 6 ] أو المتبعون هم المسلمون الذين اتبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى .

واعلم أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره قال :{ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم }[ النساء : 157 ] فأورد بعض الملحدة عليه إشكالات : الأول أنه يوجب ارتفاع الأمان عن المحسوسات فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانياً فحينئذٍ أجوز أن هذا الذي رأيته ثانياً ليس ولدي بل هو إنسان آخر ألقى شبهه عليه ، وكذا الصحابة الذين رأوا محمداً يأمرهم وينهاهم احتمل أن يكون محمد إنساناً آخر ألقى شبهه عليه وأنه يفضي إلى سقوط الشرائع وكذا إلى إبطال التواتر ، لأن مدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس وأنتم جوزتم وقوع الغلط في المبصرات ، ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات .

الثاني أن جبريل كان معه حيث سار . ثم إن طرف جناح واحد منه يكفي لأهل الأرض . فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود ؟ وأنه صلى الله عليه وسلم كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وإلقاء الفلج والزمانة عليهم حتى لا يتعرضوا له ؟

الثالث أنه تعالى كان قادراً على تخليصه من الأعداء بأن يرفعه إلى السماء ، فما الفائدة في إلقاء شبهه على الغير ؟ وهل فيه إلا إيقاع مسكين في القتل من غير فائدة مع أن ذلك يوجب تلبيس الأمر عليهم حتى اعتقدوا أن المصلوب هو عيسى وأنه لم يكن عيسى ، والتمويه والتخليط لا يليق بحكمة الله تعالى ؟

الرابع أن النصارى على كثرتهم في المشارق والمغارب وإفراطهم في محبة عيسى أخبروا أنهم شاهدوه مصلوباً ، فإنكار ذلك إنكار المتواتر ، والطعن في المتواتر يوجب الطعن في نبوة جميع الأنبياء .

الخامس ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حياً زماناً طويلاً . فلو كان هو غير عيسى لأظهر الجزع وعرف نفسه ، ولو فعل ذلك اشتهر وتواتر . والجواب عن الأول أن كل من أثبت القادر المختار سلم أنه تعالى قادر على خلق مثل زيد . وهذا التجويز لا يوجب الشك في وجود زيد فكذا فيما ذكرتم .

وعن الثاني والثالث أن ذلك يفضي إلى بلوغ الإعجاز حد الإلجاء ، وأنه ينافي التكليف . والتلبيس المذكور قد أزاله تلامذة عيسى الحاضرون منه العالمون بالواقعة .

وعن الرابع أنه تواتر منقطع الأول لأنهم كانوا قليلين في ذلك الوقت فلا يفيد العلم . إذ شرط التواتر استواء الطرفين والوسط .

وعن الخامس ما روي أن الذي ألقي عليه الشبه كان من خواص أصحابه ، فلهذا صبر . على أنا نقول : قد ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عنه ، فهذه الاحتمالات تمتنع أن تصير معارضة للنص القاطع والله ولي الهداية . قال : { ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } وفيه بشارة لعيسى بأنه سيحكم بين المؤمنين وبين الجاحدين .

/خ60