{ إذ قال الله } ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله أو مفعول اذكر { يا عيسى إني متوفيك } أي متمم عمرك وعاصمك من أن يقتلك الكفار الآن بل أرفعك إلى سمائي وأصونك من أن يتمكنوا من قتلك . وقيل : متوفيك أي مميتك كيلا يصل أعداؤك من اليهود إلى قتلك ثم رافعك إليّ . وهذا القول مروي عن ابن عباس ومحمد بن إسحق . ثم قال وهب : توفي ثلاث ساعات ثم رفع وأحيي . وقال محمد بن إسحق . توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه . وقال الربيع بن أنس : إنه نومه ورفعه إلى السماء نائماً حتى لا يلحقه خوف ورعب . أخذه من قوله { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها }[ الزمر : 42 ] . وقيل : التوفي أخذ الشيء وافياً أي آخذك بروحك وبجسدك جميعاً فرافعك إلي دفعاً لوهم من يتوهم أنه أخذ بروحه دون جسده . وقيل : متوفيك قابضك من الأرض من توفيت مالي على فلان أي استوفيته . وقيل : أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء انقطع خبره وأثره عن الأرض فيكون من باب إطلاق الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته .
وقيل : المضاف محذوف أي متوفي عملك ورافع طاعتك فكأنه بشره بقبول طاعته وأن ما وصل إليه من المتاعب في تمشية دينه وإظهار شريعته فهو لا يضيع أجره ، فهذا كقوله :{ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه }
[ فاطر : 10 ] وقيل : في نسق الكلام تقديم وتأخير . فإن الواو لا تقتضي الترتيب . والمعنى إني رافعك إلي ومتوفيك بعد إنزالك إلى الدنيا . ويؤيده ما ورد في الخبر أنه سينزل ويقتل الدجال ، ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك . أما قوله { ورافعك إليّ } فالمشبهة تمسكوا بمثله في إثبات المكان لله تعالى وأنه في السماء ، لكن الدلائل القاطعة دلت على أنه متعال عن الحيز والجهة فوجب حمل هذا الظاهر على التأويل بأن المراد إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي ومثله قول إبراهيم :{ إني ذاهب إلى ربي }[ الصافات : 99 ] وإنما ذهب من العراق إلى الشام ، وقد سمي الحجاج زوّار الله ، والمجاورون جيران الله . والمراد التفخيم والتعظيم ، أو المراد إلى مكان لا يملك الحكم عليه هناك غير الله فإن في الأرض ملوكاً مجازية . ولئن سلم أنه تعالى يمكن أن يكون في مكان فليس رفع عيسى عليه السلام إلى ذلك المكان سبباً لبشارته ما لم يتيقن الثواب والكرامة والروح والراحة ، فلا بد من صرف اللفظ عن ظاهره وهو أن يقال : المراد رفعه إلى محل كرامته ، وإذا لم يكن بد من الإضمار فلم يبق في الآية دلالة على إثبات المكان له تعالى . ثم إنه كما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه ، عبر لذلك عن معنى التخليص بلفظ التطهير فقال : { ومطهرك من الذين كفروا } أي من خبث جوارهم وسوء عشرتهم { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } وليس هذا فوقية المكان بالاتفاق . فالمراد إما الفوقية بالحجة والدليل ، وإما الفوقية بالقهر والاستيلاء . وفيه إخبار عن ذل اليهود ومسكنتهم إلى يوم القيامة . ولعمري إنه كذلك فلا يرى ملك يهودي في الدنيا ولا بلد لهم مستقل بخلاف النصارى . على أنا نقول : المراد بمتبعي المسيح هم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعده فصدقوه في قوله :{ ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد }[ الصف : 6 ] أو المتبعون هم المسلمون الذين اتبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى .
واعلم أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره قال :{ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم }[ النساء : 157 ] فأورد بعض الملحدة عليه إشكالات : الأول أنه يوجب ارتفاع الأمان عن المحسوسات فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانياً فحينئذٍ أجوز أن هذا الذي رأيته ثانياً ليس ولدي بل هو إنسان آخر ألقى شبهه عليه ، وكذا الصحابة الذين رأوا محمداً يأمرهم وينهاهم احتمل أن يكون محمد إنساناً آخر ألقى شبهه عليه وأنه يفضي إلى سقوط الشرائع وكذا إلى إبطال التواتر ، لأن مدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس وأنتم جوزتم وقوع الغلط في المبصرات ، ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات .
الثاني أن جبريل كان معه حيث سار . ثم إن طرف جناح واحد منه يكفي لأهل الأرض . فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود ؟ وأنه صلى الله عليه وسلم كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وإلقاء الفلج والزمانة عليهم حتى لا يتعرضوا له ؟
الثالث أنه تعالى كان قادراً على تخليصه من الأعداء بأن يرفعه إلى السماء ، فما الفائدة في إلقاء شبهه على الغير ؟ وهل فيه إلا إيقاع مسكين في القتل من غير فائدة مع أن ذلك يوجب تلبيس الأمر عليهم حتى اعتقدوا أن المصلوب هو عيسى وأنه لم يكن عيسى ، والتمويه والتخليط لا يليق بحكمة الله تعالى ؟
الرابع أن النصارى على كثرتهم في المشارق والمغارب وإفراطهم في محبة عيسى أخبروا أنهم شاهدوه مصلوباً ، فإنكار ذلك إنكار المتواتر ، والطعن في المتواتر يوجب الطعن في نبوة جميع الأنبياء .
الخامس ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حياً زماناً طويلاً . فلو كان هو غير عيسى لأظهر الجزع وعرف نفسه ، ولو فعل ذلك اشتهر وتواتر . والجواب عن الأول أن كل من أثبت القادر المختار سلم أنه تعالى قادر على خلق مثل زيد . وهذا التجويز لا يوجب الشك في وجود زيد فكذا فيما ذكرتم .
وعن الثاني والثالث أن ذلك يفضي إلى بلوغ الإعجاز حد الإلجاء ، وأنه ينافي التكليف . والتلبيس المذكور قد أزاله تلامذة عيسى الحاضرون منه العالمون بالواقعة .
وعن الرابع أنه تواتر منقطع الأول لأنهم كانوا قليلين في ذلك الوقت فلا يفيد العلم . إذ شرط التواتر استواء الطرفين والوسط .
وعن الخامس ما روي أن الذي ألقي عليه الشبه كان من خواص أصحابه ، فلهذا صبر . على أنا نقول : قد ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عنه ، فهذه الاحتمالات تمتنع أن تصير معارضة للنص القاطع والله ولي الهداية . قال : { ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } وفيه بشارة لعيسى بأنه سيحكم بين المؤمنين وبين الجاحدين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.