غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡغَٰفِلُونَ} (179)

172

وذلك أنه بين أنه خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم وقد علم ذلك في الأزل وخلاف مقدوره ومعلومه محال . وأيضاً العاقل لا يريد الكفر والجهل . الموجبين لدخول النار ، فحصول ذلك على خلاف قصده واجتهاده لا يكون إلا من قبل غيره ، ولا يتسلسل بل ينتهي إلى مسبب الأسباب لا محالة . لا يقال العبد إنما يسعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الباطل لأنه اشتبه لأمر عليه وظنه اعتقاداً صحيحاً لأنا نقول على هذا التقدير إنما وقع في هذا الجهل لأجل جهل متقدم ، ولا تسلسل بل ينتهي إلى جهل حصل ابتداء فيتوجه الإلزام . قالت المعتزلة : الآيات الدالة على أنه سبحانه أراد من العبد الطاعة والعبادة والخير فقط كثيره كقوله { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }

[ الذاريات : 56 ] وأيضاً أنه قال في معرض الذم { لهم قلوب لا يفقهون بها } إلى آخره . ولو كانوا مخلوقين للنار غير قادرين على الإيمان لم يحسن ذمهم . وأيضاً لو خلقهم للنار لما كان له نعمة على الكفار أصلاً لأن منافع الدنيا بأسرها لا اعتداد بها في جنب العذاب الدائم لكن القرآن مملوء من أنه تعالى منعم على جميع الخلائق . وأيضاً مذهبكم يوجب أن لا يكون للمدح والذم والثواب والعقاب والترغيب والترهيب فائدة ، ولو خلقهم للنار لوجب أن يخلقهم في النار ابتداء لأنه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم . وأيضاً الآية متروكة الظاهر لأن لام الاختصاص لا تفيد فيها إلا إذا قدر «ولقد ذرأناهم » لكي يكفروا فيصيروا إلى جهنم فيجب بناؤها على قوله

{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] لأن ظاهره يصح من غير حذف . وعلى هذا أوجب أن تؤول الآية بأن اللام فيها لام العاقبة كقوله { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً } [ القصص : 8 ] أو يقال إنه جعلهم لإغراقهم في الكفر وشدّة شكائمهم فيه كأنهم مخلوقون للنار كقولهم ما خلق فلان إلا لكذا إذا كان غريقاً في بعض الأمور . وأجيب إجمالاً بأنه لا يسأل عما يفعل ، وتفصيلاً بأن النعمة وإن قلت فهي في نفسها نعمة ، وبأن الوسائط معتبرة ، وبأن حمل اللام على العاقبة تجوّز لا يصار إليه إلا لضرورة تصحيح المعنى ، وهاهنا لا ضرورة فقد تعاضدت الدلائل العقلية كالعلم والداعي والنقلية كآيات كثيرة على أن الكل من الله فوجب المصير إلى طرف الجبر ولاسيما فإن ما قبل هذه الآية وهو قوله { من يهد الله فهو المهتدي } وما بعدها وهو قوله { والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم } يدل على ما قلنا . وأيضاً لا ريب أن أولئك الكفار كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالح الدنيا ، وكذا أعين مبصرة وآذان سامعة ، فالمراد أنهم كانوا يفقهون ويبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين . ثم إنه تعالى كلفهم تحصيل الدين مع عدم القابلية كيف وإن الكفار بلغوا في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي شدة النفرة عن قبول دينه مبلغاً لا يكتنه كنهه . والعلم الضروري حاصل بأن حصول الحب والبغض في القلب ليس باختيار الإنسان بل هو حالة حاصلة في القلب كره الإنسان أو أراد ، حئنئذ يثبت القول بالجبر . وروى الشيخ أحمد البهيقي في كتاب مناقب الشافعي أن عليّ بن أبي طالب عليه السلام خطب الناس فقال : وأعجب ما في الإنسان قلبه فيه مواد من الحكمة وأضدادها ، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع ، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ ، وإن سعد بالرضا شقي بالسخط ، وإن ناله الخوف شغله الحزن ، وإن أصابته المصيبة قتله الجزع ، وإن وجد مالاً أطغاه الغنى ، وإن عضته فاقة شغله البلاء ، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف ، فكل تقصير به مضر ، وكل إفراط له مفسد . وهذا الفصل كالمطلع على سر مسألة القضاء والقدر لأن أعمال الجوارح مربوطة بأحوال القلوب ، وكل حالة من أحوال القلب فإنها مستندة إلى حالة أخرى حصلت قبلها . وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنه لا خلاص من الاعتراف بالجبر . وذكر الإمام الغزالي في الإحياء فصلاً ثم قال : فإن قلت أني أجد من نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فيكون فعلي حاصلاً بي لا بغيري . أجبنا وقلنا : هب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول : وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شيئاً شئت ، وإن شئت أن لا تشاءه لم تشأ ، ما أظنك تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له ، فلا مشيئتك بك ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك وإنما أنت مضطر في صورة مختار . والله تعالى أعلم . قال بعض العلماء أنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم ، وفيه دليل على أن محل الفقه هو القلب . وأقول : ليس المراد بالقلب هاهنا اللحم الصنوبري بل اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنساناً وقد يعبر عنها بالنفس الناطقة وبالروح . أما قوله { أولئك كالأنعام بل هم أضل } فتقريره أن الإنسان يشاركه سائر الحيوان في القوى الطبيعية الغاذية والنامية والمولدة ، وفي منافع الحواس الخمس الظاهرة ، وفي أحوال التخيل والتفكر . وإنما يحصل الامتياز بالقوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فإذا لم تحصل هذه الغاية للإنسان صار في درجة الأنعام بل أضل وأدون لأن الذي أعرض عن اكتساب الفضائل مع القدرة على تحصيلها من حيث النوع كان أخس حالاً ممن لم يكتسبها مع العجز عنها . وقيل : وجه الأضلية أن الأنعام مطيعة لله والكافر غير مطيع . وقال مقاتل : الأنعام تعرف ربها وتبصر منافعها ومضارها فتسعى في تحصيلها ودفعها ، وهؤلاء الكفار أكثرهم معاندون مصرون وقيل : إنها تفر أبداً إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها ، والكافر يهرب عن ربه إلى الأصنام . وقيل : إنها لا تضل إذا كان معها مرشد والكافر يضل بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب { أولئك هم الغافلون } الكاملون في الغفلة . وقال عطاء : إنهم الغافلون عما أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب .

/خ183