( وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا128 ) .
( وان امرأة خافت من بعلها ) أي : زوجها ( نشوزا ) أي : تجافيا عنها وترفعا عن صحبتها ، بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها ( أو اعراضا ) أي : تطليقا . أو أن يقل محادثتها ومجالستها . كراهة لها أو لطموح عينه إلى أجمل منها ( فلا جناح ) أي لا اثم ( عليهما ) حينئذ ( ان يصلحا بينهما صلحا ) بحط شيء من المهر أو النفقة . أو هبة شيء من مالها أو قسمها ، طلبا لبقاء الصحبة ان رضيت بذلك . والا فعلى الزوج أن يوفيها حقها أو يفارقها . قال في ( الاكليل ) : الآية أصل في هبة الزوجة حقها من القسم وغيره . استدل به من أجاز لها بيع ذلك ( والصلح خير ) أي من الفرقة والنشوز والاعراض . قال ابن كثير : بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى . ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود{[2342]} وابن ماجة{[2343]} عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " . قال بعض مفسري الزيدية : وفي هذه الآية حث على الصبر على نفس الصحبة . لقوله تعالى : ( والصلح خير ) أي : من الفرقة وسوء العشرة . أو خير من الخصومة . أو خير من الخيور . كما أن الخصومة شر من الشرور . وقد كان من كرم / أخلاقه صلى الله عليه وسلم{[2344]} " أنه كان يكرم صواحب خديجة بعد موتها " . وعنه صلى الله عليه وسلم{[2345]} : " إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه " . وهذا فيه صبر . وفي الصبر ما لا يحصر من المحاسن والفضائل . والصلح فيه من أنواع الترغيب . روي عنه صلى الله عليه وسلم : " من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد " . وعن أنس : " من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة " . انتهى . وفي ( الاكليل ) : قوله تعالى : ( والصلح خير ) عام في كل صلح ، أصل فيه . وفي الحديث{[2346]} : " الصلح جائز بين المسلمين . الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا " . واستدل بعموم الآية من أجاز الصلح على الانكار والمجهول ( وأحضرت الأنفس الشح ) بيان لما جبل عليه الانسان . أي : جعلت حاضرة له مطبوعة عليه ، لا تنفك عنه أبدا . فلا تكاد المرأة تسمح بالنشوز ، والاعراض ، وحقوقها من الرجل . ولا الرجل في امساكها مع القيام بحقوقها على ما ينبغي ، إذا كرهها أو أحب غيرها . والجملة الأولى للترغيب في المصالحة . والثانية لتمهيد العذر في المشاحة وللحث على الصلح . فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بغير استمالة ، مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته . وكذا شح نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقتنع من قبلها بشيء يسير ، ولا يكلفها بذل الكثير ، فيتحقق بذلك الصلح ( وان تحسنوا ) في العشرة ( وتتقوا ) النشوز والاعراض ونقص الحق ( فان الله كان بما تعملون ) من تحمل المشاق في ذلك ( خبيرا ) فيجازيكم ويثيبكم . قال أبو السعود : وفي خطاب الأزواج بطريق الالتفات ، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالاحسان ، ولفظ ( التقوى ) المنبئ عن كون النشوز والاعراض مما يتوقى منه ، وترتيب الوعد الكريم عليه –من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة ، ما لا يخفى .
وما قدمنا في تفسير الآية هو زبدة ما نقل عن السلف ، صحابة وتابعين في معناها .
قال ابن كثر : ولا اعلم في ذلك خلافا . وفي البخاري{[2347]} عن عائشة ، في هذه الآية / قالت : " الرجل تكون عنده المرأة المسنة ليس بمستكثر منها . يريد ان يفارقها : فتقول : أجعلك من شأني في حل . فنزلت هذه الآية " . وروى ابن أبي حاتم عن خالد بن عرعرة قال : " جاء رجل إلى علي بن أبي طالب عليه السلام . فسأله عن قول الله عز وجل : ( وان امرأة . . . ) الآية ، قال علي : يكون الرجل عنده المرأة . فتنبو عينه عنها من دمامتها ، أو كبرها ، أو سوء خلقها ، أو قذذها ، فتكره فراقه . فإن وضعت له من مهرها شيئا ، حل له . وان جعلت له من أيامها ، فلا حرج " . وكذا رواه أبو داود الطيالسي{[2348]} وابن جرير . وروى ابن جرير{[2349]} أيضا عن عمر رضي الله عنه " انه سئل عن هذه الآية فقال : هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها . فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها . فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز " . وروى سعيد بن منصور عن عروة قال : " أنزل في سودة وأشباهها : ( وان امرأة ) الآية وذلك ان سودة كانت امرأة قد أسنت . ففرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وضنت بمكانها منه . وعرفت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ومنزلتها منه . فوهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة . فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم " . وروى نحوه أبو داود{[2350]} الطيالسي والترمذي عن ابن عباس . وروى الحاكم عن عروة عن عائشة أنها قالت له : " يا ابن أختي ! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم في مكثه عندنا . وكان أقل يوم الا وهو يطوف علينا . فيدنو من كل امرأة من غير مسيس ، حتى يبلغ إلى من هو يومها . / فيبيت عندها . ولقد قالت سودة بنت زمعة ، حين أسنت وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ! يومي هذا لعائشة . فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منها . قالت : نقول في ذلك أنزل الله تعالى ، وفي أشبهاها ، أراه قال : ( وان امرأة خافت من بعلها نشوزا . . . ) الآية " . وكذلك رواه أبو داود{[2351]} . وفي ( الصحيحين ) {[2352]} عن عائشة قالت : " لما كبرت سودة بنت زمعة ، وهبت يومها لعائشة . فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة " . ولا يخفى أن قبوله صلى الله عليه وسلم ذلك من سودة ، انما هو لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه . فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام .
وقول بعض المفسرين في هذه القصة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عزم على طلاق سودة –باطل وسوء فهم من القصة . اذ لم يرو عزمه صلى الله عليه وسلم على ذلك . لا في ( الصحاح ) ولا في ( السنن ) ولا في ( المسانيد ) . غاية ما روي في ( السنن ) ، أن سودة خشيت الفراق لكبرها . وتوهمته . وجلي ان للنساء في باب الغيرة أوهاما منوعة . فتقدمت للنبي صلى الله عليه وسلم بقبول ليلتها لعائشة . فقبل منها . وما رواه ابن كثير عن بعض المعاجم من كونه صلى الله عليه وسلم بعث إليها بطلاقها ، ثم ناشدته فراجعها –فهو ( زيادة عن ارساله وغرابته ، كما قاله ) فيه نكارة لا تخفى .
حكى الزمخشري هنا ، ان عمران بن حطان الخارجي كان من أدم بني آدم . وامرأته من أجملهم . فأجالت في وجهه نظرها يوما . ثم تابعت الحمد لله . فقال : ما لك ؟ قالت : حمدت الله على أني واياك من أهل الجنة . قال : كيف ؟ قالت : لأنك رزقت مثلي فشكرت . ورزقت مثلك فصبرت . وقد وعد الله الجنة ، عباده الشاكرين والصابرين . انتهى .
/ قلت : عمران المذكور ممن خرج له البخاري في ( صحيحه ) . ولما مات سئلت زوجته عن ترجمته ؟ فقالت : أوجز أم أطنب ؟ فقيل : أوجزي . فقالت : ما قدمت له طعاما بالنهار ، وما مهدت له فراشا بالليل . تعني انه كان صواما قواما رحمه الله تعالى .