محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلصَّيۡدِ تَنَالُهُۥٓ أَيۡدِيكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (94)

[ 94 ] { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ( 94 ) } .

{ يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد } أي : يرسله إليكم وأنتم محرمون { تناله أيديكم } لتأخذوه ، وهو الضعيف من الصيد وصغيره { ورماحكم } لتطعنوه ، وهو كبار الصيد { ليعلم الله من يخافه بالغيب } فيمتنع عن الاصطياد لقوة إيمانه .

قال مقاتل بن حيان : أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية . فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا ، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون .

قال ابن كثير : يعني أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم ، يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سرا وجهرا ، لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره أو جهره ، كما قال تعالى : { إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير }{[3228]} .

وقوله تعالى : { فمن اعتدى } أي : بالصيد { بعد ذلك } يعني بعد الإعلام والإنذار { فله عذاب أليم } لمخالفته أمر الله وشرعه .

لطيفة :

قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى التقليل والتصغير في قوله : { بشيء من الصيد } ؟ قلت : قلل وصغر ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابتين- كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال- وإنما هو شبيه بما ابتلي به أهل أيلة من صيد السمك ، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده ، فكيف شأنهم عند ما هو أشد منه . . ؟

/ قال الناصر في ( الانتصاف ) : قد وردت هذه الصيغة بعينها في الفتن العظيمة في قوله تعالى : { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين }{[3229]} . فلا خفاء في عظم هذه البلايا والمحن التي يستحق الصابر عليها أن يبشر ، لأنه صبر عظيم . فقول الزمخشري : إنه قلل وصغر تنبيها على أن هذه الفتنة ليست من الفتن العظام- مدفوع باستعمالها مع الفتن المتفق على عظمها . والظاهر- والله أعلم- أن المراد بما أشعر به اللفظ من التقليل والتصغير ، التنبيه على أن جميع ما يقع الابتلاء به من هذه البلايا بعض من كل ، بالنسبة إلى مقدور الله تعالى . وإنه تعالى قادر على أن يكون ما يبلوهم به من ذلك أعظم مما يقع وأهول . وأنه مهما اندفع عنهم مما هو أعظم في المقدور فإنما يدفعه عنهم إلى ما هو أخف وأسهل ، لطفا بهم ورحمة . ليكون هذا التنبيه باعثا على الصبر ، وحاملا على الاحتمال . والذي يرشد إلى أن هذا مراد ، أن سبق التوعد بذلك لم يكن إلا ليكونوا متوطنين على ذلك عند وقوعه . فيكون أيضا باعثا على تحمله . لأن مفاجأة المكروه بغتة أصعب . والإنذار به قبل وقوعه مما يسهل موقعه . وحاصل ذلك لطف في القضاء . . . فسبحان اللطيف بعباده . وإذا فكر العاقل فيما يبتلى به من أنواع البلايا ، وجد المندفع عنه منها أكثر ، إلى ما لا يقف عند غاية . فنسأل الله العفو والعافية واللطف في المقدور . . . انتهى .

وللزمخشري أن يجيب بأن آية { ولنبلونكم } شاهدة له لا عليه . لأنه المقصود فيه أيضا التحقير بالنسبة إلى ما دفعه الله عنهم – كما صرح به الناصر- مع أنه لا يتم دفعه بالآية إلا إذا كان { ونقص } معطوفا على مجرور ( من ) ، ولو عطف على ( شيء ) لكان مثل هذه الآية بلا فرق . . كذا في ( العناية ) .


[3228]:- [67/ الملك/ 12].
[3229]:- [2/ البقرة/ 155].