هي مدنية بإجماعهم . قيل : سوى آيتين في آخرها{[1]} { لقد جاءكم رسول من أنفسكم . . . } فإنهما نزلتا بمكة . وفيه نظر . فقد روى البخاري{[2]} عن البراء " أنها آخر سورة نزلت " ، واستثنى بعضهم { ما كان للنبي . . . } {[3]} الآية - لما ورد أنها نزلت في قوله عليه الصلاة والسلام لأبي طالب : " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " . وهي مائة وتسع وعشرون آية ولهذه السورة عشرة أسماء :
1- براءة : سميت بها لافتتاحها بها ، ومرجع أكثر ما ذكر فيها إليها .
2- التوبة : لتكرارها فيها ، كقوله تعالى{[4]} { فإن تبتم فهو خير لكم } { فإن تابوا وأقاموا الصلاة } {[5]} وقوله{[6]} : { ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء } وقوله{[7]} : { فإن يتوبوا يك خيرا لهم } وقوله{[8]} : { عسى الله أن يتوب عليهم } وقوله{[9]} : { لقد تاب الله على النبي } ، وقوله{[10]} : { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة } وقوله{[11]} : { التائبون العابدون } وهما أشهر أسمائها .
3- الفاضحة : أخرج البخاري{[12]} عن سعيد بن جبير قال : " قلت لابن عباس : سورة / التوبة ، قال التوبة هي الفاضحة ، مازالت تنزل : ومنهم ومنهم حتى ظنوا أنها لم تبق أحدا منهم إلا ذكر فيها " .
4- سورة العذاب : رواه الحاكم عن حذيفة ، وذلك لتكرره فيها .
5- المقشقشة : رواه أبو الشيخ عن ابن عمر ، والقشقشة معناها التبرئة ، وهي مبرئة من النفاق .
6- المنقرة : أخرجه أبو الشيخ عن عبيد بن عمير لأنها نقرت عما في قلوب المشركين . أي بحثت .
7- البحوت : بفتح الباء ، صيغة مبالغة ، رواه الحاكم عن المقداد .
8- الحافرة : ذكره ابن الغرس ، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين ، أي بحثت عنها ، مجازا .
9- المثيرة : رواه أبي حاتم عن قتادة لأنها أثارت مثالبهم وعوراتهم أي أخرجتها من الخفاء إلى الظهور .
10- المبعثرة : لأنها بعثرت أسرارهم أي أظهرتها .
11- المدمدمة : أي المهلكة لهم .
13- المنكلة : أي المعاقبة لهم .
14- المشردة : أي الطاردة لهم والمفرقة جمعهم .
وليس في السور أكثر منها ومن الفاتحة .
للسلف في وجه ترك كتابة البسملة في هذه السورة والتلفظ بها أقوال :
1- روى الحاكم في ( المستدرك ) عن ابن عباس قال : " سألت علي بن أبي طالب : لمَ لم تكتب في ( براءة ) البسملة ؟ قال : لأنها أمان ، وبراءة نزلت بالسيف " أي فنزولها لرفع / الأمان الذي يأبي مقامه التصدير بما يشعر ببقائه من ذكر اسمه تعالى ، مشفوعا بوصف الرحمة ، ولذا قال ابن عيينية : اسم الله سلام وأمان ، فلا يكتب في النبذ والمحاربة . قال الله تعالى{[13]} : { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مومنا } قيل له : فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى أهل الحرب البسملة ، قال : إنما ذلك ابتداء منه يدعوهم ، ولم ينبذ إليهم ألا تراه يقول : " سلام على من اتبع الهدى ؟ فمن دعي إلى الله عز وجل فأجاب ، ودعي إلى الجزية فأجاب ، فقد اتبع الهدى ، فظهر الفرق . وكذا قال المبرد : إن التسمية افتتاح للخير ، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود ، فلذلك لم تفتتح بالتسمية .
2- عن ابن عباس قال : " قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال ، وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا سطر البسملة ، ووضعتموها في السبع الطوال ، ما حملكم على ذلك ؟ قال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ، وكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وإذا نزلت عليه الآية يقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت ( الأنفال ) من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت ( براءة ) من آخر القرآن نزولا ، وكانت قصتها شبيها بقصتها ، وظَنَنْتُ أنها منها . وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبين لنا أنها منها أو من غيرها ، من أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب البسملة ، ووضعتها في السبع الطوال " أخرجه أبو داود {[14]} والترمذي{[15]} وقال : حديث حسن ورواه الإمام أحمد{[16]} والنسائي وابن حبان في ( صحيحه ) والحاكم وصححه .
/ قال الزجاج : والشبه الذي بينهما أن في ( الأنفال ) ذكر العهود ، وفي ( براءة ) نقضها .
3- أخرج أبو الشيخ عن أبي روق قال : الأنفال و( براءة ) سورة واحدة . ونقل مثله عن مجاهد ، وأخرجه ابن أبي حاتم عن سفيان . وقال ابن لهيعة : يقولون إن ( براءة ) من ( الأنفال ) ، ولذلك لم تكتب البسملة في ( براءة ) ، وشبهتهم اشتباه الطرفين ، وعدم البسملة . ويردّه تسمية النبي صلى الله عليه وسلم ، كلا منهما .
وقال الحاكم : استفاض النقل أنهما سورتان .
وقال أبو السعود : اشتهارها بهذه الأسماء ، يعني الأربعة عشر اسما المتقدمة - يقضي بأنها سورة مستقلة ، وليست بعضا من سورة الأنفال ، وادعاء اختصاص الاشتهار بالقائلين باستقلالها ، خلاف الظاهر . انتهى .
ونقل صاحب ( الإقناع ) أن البسملة ثابتة ( لبراءة ) في مصحف ابن مسعود ، قال : ولا يؤخذ بهذا .
وعن مالك : أن أولها لما سقط ، سقط معه البسملة ، فقد ثبت أنها كانت تعدل البقرة لطولها . كذا في ( الإتقان ) .
ثم اعلم أن القراء أجمعوا على ترك قراءة البسملة في أول هذه السورة اتباعاً لسقوطها في الرسم من مصحف الإمام ، إلا ابن منادر ، فإنه يسمي في أولها ، كما في مصحف ابن مسعود .
وقال البخاريّ في ( جمال القراء ) ، إنه اشتهر تركها في أول براءة .
وروي عن عاصم التسمية في أولها ، وهو القياس . لأن إسقاطها ، إما لأنها نزلت بالسيف أو لأنهم لم يقطعوا بأنها سورة مستقلة ، بل من الأنفال . ولا يتم الأول ، لأنه مخصوص بمن نزلت فيه ، ونحن إنما نسمي للتبرك . وأما الابتداء بما بعد أول براءة ، فلا نص للمتقدمين من أئمة القراء فيه ، وظاهر إطلاق كثير التخيير فيها ، واختار السخاويّ / الجواز ، وقال : ألا ترى أنه يجوز بغير خلاف أن يقول : { بسم الله الرحمن الرحيم وقاتلوا المشركين } {[17]} وإلى منعها ذهب الجعبريّ ، وتعقبه السخاويّ فقال : إن كان نقلاً فمسلَّم ، وإلا فردٌّ عليه لأنه تقريع على غير أصل .
وقال ابن الجزريّ في ( النشر ) : من اعتبر بقاء أثر العلة التي من أجلها حذفت البسملة أولها ، وهي نزولها بالسيف ، لم يبسمل . ومن لم يعتبر ذلك ، أو لم يرها ، بسمل بلا نظر . والله أعلم .
1 { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين }
{ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } خبر لمحذوف ، وتنوينه للتفخيم . أي هذه براءة . أو مبتدأ مخصص بصفة ، وخبره { إلى الذين } . و{ البراءة } في اللغة انقطاع العصمة ، يقال : برئت من فلان براءة ، أي انقطعت بيننا العصمة ، ولم يبق بيننا علقة .
فإن قيل : حق البراءة أن تُنسب إلى المعاهِد ، فلم لم تنسب إليهم ، ونسبت إلى الله ورسوله ؟
أجيب : بأن { عاهدتم } إخبار عن سابق صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والجماعة ، فنسب إلى الكل ، كما هو الواقع ، وإن كان بإذن الله أيضا .
وأما البراءة فهي إخبار عن متجدّد ، فكيف ينسب إليهم ، وهم لم يحدثوه بعد ، وإنما يسند إلى كل من أحدثه ؟ وقال الناصر : إن سر ذلك أن نسبة العهد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في مقام نسب فيه النبذ إلى المشركين ، لا يحسن أدبا . ألا ترى إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم / لأمراء السرايا حيث يقول لهم{[4464]} : " إذا نزلت بحصن فطلبوا النزول على حكم الله ، فأنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدري أصادفت حكم الله فيهم أو لا ! وإن طلبوا ذمة الله ، فأنزلهم على ذمتك . فَلَأَنْ تخفر ذمتك ، خير من أن تخفر ذمة الله ! "
فانظر إلى أمره عليه الصلاة والسلام بتوقير ذمة الله ، مخافة أن تخفر ، وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع ، فتوقير عهد الله ، وقد تحقق من المشركين النكث ، وقد تبرأ منه الله ورسوله بألا ينسب العهد المنبوذ إلى الله -أحرى وأجدر . فلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه .
وقال الشهاب : ولك أن تقول : إنما أضاف العهد إلى المسلمين ، لأن الله علم أن لا عهد لهم ، فلذا لم يضف العهد إليه ، لبراءته منهم ، ومن عهدهم في الأزل . وهذا نكتة الإتيان بالجملة اسمية خبرية . وإن قيل : إنها إنشائية للبراءة منهم ، ولذا دلت على التجدد . انتهى .
قال ابن إسحاق{[4465]} : نزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم ، ألا يصد عن البيت أحد جاءه ، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام . وكان ذلك عهدا عاما بينه وبين الناس من أهل الشرك . وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة ، فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في ( تبوك ) ، وفي قول من قال منهم ، فكشف الله تعالى سرائر أقوام كانوا يَسْتَخْفُونَ بغير ما يظهرون .
/ وقال ابن كثير : أول هذه السورة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة ( تبوك ) وهم بالحج . ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك ، وأنهم يطوفون بالبيت عراة ، فكره مخالطتهم ، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج تلك السنة ، ليقيم للناس مناسكهم ، ويعلم المشركون ألا يحجوا بعد عامهم هذا ، وأن ينادي بالناس { براءة من الله ورسوله } ، فلما قفل ، أتبعه بعليّ بن أبي طالب ، ليكون مبلغا عنه صلى الله عليه وسلم ، لكونه عَصَبةً له ، كما سيأتي .