محاريب : مفردها محراب : المعبد ، وكل بناء مرتفع .
وتماثيل : مفردها تمثال ، الصور المجسمة .
وجفان : جمع جفنة ، وهي القصعة التي يوضع فيها الطعام .
كالجوابي : كالأحواض الكبيرة ، مفردها جابية .
وقدور راسيات : قدور كبيرة ثابتة في مكانها لعِظمها .
اعملوا آل داود شكرا : اعملوا يا آل داود عملا تشكرون به الله .
والجن يعملون له ما يريد من شتى المصنوعات والقصورَ الشامخة ، والمحاريب ، والتماثيل ، والجِفان الكبيرة التي تشبه الأحواض ، والقدورَ الضخمة الثابتة لا تتحرك لعظمها .
{ اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } : روى الترمذي قال : « صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فتلا هذه الآية ثم قال ثلاثٌ من أوتيهنّ فقد أوتيَ مثلَ ما أوتي آل داود : العدْل في الرضا والغضب ، والقصد في الفقر والغنى ، وخشية الله في السر والعلانية »
قوله عز وجل :{ يعملون له ما يشاء من محاريب } أي : مساجد ، والأبنية المرتفعة ، وكان مما عملوا له بيت المقدس ابتدأه داود ورفعه قدر قامة رجل ، فأوحى الله إليه إني لم أقض ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان أقضي تمامه على يده ، فلما توفاه الله استخلف سليمان فأحب إتمام بناء بيت المقدس ، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستخلصه لهم ، فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والميها الأبيض من معادنه ، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح ، وجعلها اثنى عشر ربضاً ، وأنزل كل ربض منها سبطاً من الأسباط ، وكانوا اثنى عشر سبطاً ، فلما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فرقاً فرقاً يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر ، وفرقاً يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها ، وفرقاً يأتونه بالمسك والعنبر وسائر الطيب من أماكنها ، فأتى من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله عز وجل ، ثم أحضر الصناعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحاً وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلئ ، فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين الميها الصافي وسقفه بألواح الجواهر الثمينة وفصص سقوفه وحيطانه باللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر ، وبسط أرضه بألواح الفيروزج فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد ، وكان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر ، فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه الله عز وجل ، وأن كل شيء فيه خالص لله ، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً . وروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً فأعطاه اثنين ، وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة ، سأل حكماً يصادف حكمه ، فأعطاه إياه وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، فأعطاه إياه ، وسأله أن لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك " . قالوا : فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بختنصر فخرب المدينة وهدمها ونقض المسجد ، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر ، فحمله إلى دار مملكته من أرض العراق ، وبنى الشياطين لسليمان باليمن حصوناً كثيرة عجيبة من الصخر . قوله عز وجل : { وتماثيل } أي : كانوا يعملون له تماثيل ، أي : صوراً من نحاس وصفر وشبه وزجاج ورخام . وقيل : كانوا يصورون السباع والطيور . وقيل : كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المسجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة ، ولعلها كانت مباحة في شريعتهم ، كما أن عيسى كان يتخذ صوراً من الطين فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله . { وجفان } أي : قصاع واحدتها جفنة ، { كالجواب } كالحياض التي يجبى فيها الماء ، أي : يجمع ، واحدتها جابية ، يقال : كان يعقد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها { وقدور راسيات } ثابتات لها قوائم لا يحركن عن أماكنها لعظمهن ، ولا ينزلن ولا يقلعن ، وكان يصعد عليها بالسلالم جمع السلم ، وكانت باليمن . { اعملوا آل داود شكرا } أي : وقلنا اعملوا آل داود شكراً ، مجازه : اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكراً له على نعمه . { وقليل من عبادي الشكور } أي : العامل بطاعتي شكراً لنعمتي . قيل : المراد من آل داود هو داود نفسه . وقيل : داود وسليمان وأهل بيته . وقال جعفر بن سليمان : سمعت ثابتاً يقول : كان داود نبي الله عليه السلام قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي .
ولما أخبر تعالى أنه{[56549]} سخر له الجن ، ذكر حالهم في أعمالهم ، دلالة على أنه سبحانه يتصرف في السماء والأرض وما فيهما{[56550]} ومن فيهما بما يشاء فقال تعالى : { يعملون له } أي في أي وقت شاء { ما يشاء } أي عمله { من محاريب } أي أبنية شريفة من قصور ومساكن{[56551]} وغيرها هي أهل لأن يحارب عليها أو مساجد ، والمحراب مقدم كل مسجد ومجلس وبيت ، وكان مما عملوه له بيت المقدس جدرانه بالحجارة العجيبة البديعة والرخام الأبيض والأصفر والأخضر ، وعمده بأساطين المها الأبيض الصافي{[56552]} مرصعاً سقوفه وجدرانه بالذهب والفضة والدر والياقوت والمسك والعنبر وسائر الطيب ، وبسط أرضه {[56553]}بألواح الفيروزج{[56554]} حتى كان أبهى بيت على وجه الأرض { وتماثيل } {[56555]}أي صوراً حساناً على تلك الأبنية فيها أسرار غريبة كما ذكروا أنهم صنعوا{[56556]} له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين في أعلاه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان ذراعين ، وإذا قعد أظله النسران ، ولم تكن التصاوير ممنوعة{[56557]} .
ولما ذكر القصور وزينتها ، ذكر آلات المأكل لأنها أول ما تطلب بعد الاستقرار في المسكن{[56558]} فقال : { وجفان } أي صحاف وقصاع{[56559]} يؤكل فيها { كالجواب } جمع جابية ، وهي الحوض الكبير الذي يجبى إليه الماء ، أي يجمع{[56560]} قيل : كان يجلس على الجفنة الواحدة ألف رجل .
ولما ذكر الصحاف على وجه يعجب منه ويستعظم ، ذكر{[56561]} ما يطبخ فيه طعامها فقال : { وقدور راسيات } أي ثابتات ثباتاً عظيماً بأن لا ينزع عن أثافيها لأنها لكبرها كالجبال . ولما ذكر المساكن وما تبعها ، أتبعها الأمر بالعمل إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم ومن{[56562]} تبعه{[56563]} لا يلهيهم{[56564]} ذلك عن العبادة فقال : { اعملوا } أي وقلنا لهم : تمتعوا واعملوا ، دل على مزيد قربهم بحذف أداة النداء وعلى شرفهم بالتعبير بالآل فقال : { آل داود } أي كل ما يقرب إلى الله { شكراً } أي لأجل الشكر له سبحانه ، وهو تعظيمه في مقابلة نعمه ليزيدكم من فضله أو النصب على الحال أي شاكرين ، أو على تقدير : اشكروا شكراً ، لأن " اعملوا " فيه معنى " اشكروا " من حيث أن العمل للمنعم شكر له ، ويجوز أن تنتصب باعملوا مفعولاً بهم ومعناه أنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكراً - على طريق المشاكلة{[56565]} { وقليل } أي قلنا ذلك والحال أنه قليل .
{[56566]}ولما لم يقتض الحال العظمة لأنها{[56567]} بالمبالغة في الشكر أليق ، {[56568]}اسقط مظهرها{[56569]} فقال : { من عبادي الشكور * } أي المتوفر الدواعي بظاهره وباطنه من قلبه ولسانه وبدنه{[56570]} على الشكر بأن يصرف جميع ما أنعم الله عليه فيما يرضيه ، وعبر بصيغة فعول إشارة إلى أن من يقع منه{[56571]} مطلق الشكر{[56572]} كثير ، وأقل ذلك حال الاضطرار .