سورة التحريم مدنية وآياتها اثنتا عشرة ، نزلت بعد سورة الحجرات . وهي تسمى سورة النبي ، لأنها تعرض في أولها صفحة من الحياة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصورة من الانفعالات الإنسانية بين بعض نسائه ، وبينهن وبينه ، وانعكاس هذه الانفعالات وما يترتب عليها في حياته صلى الله عليه وسلم ، وفي المجتمع الإسلامي آنذاك ، ثم في التوجيهات العامة للأمة على ضوء ذلك .
وقد مر معنا في سورة الحجرات وصف حجرات النبي ، وأنها كانت بسيطة جدا ، فهي من لبن وسقفها من الجريد ، وأبوابها ستائر من الخيش والشَعر .
وكانت حياته صلى الله عليه وسلم في بيته بسيطة غاية البساطة . وكما تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : كان إذا خلا بنسائه ألينَ الناس ، وأكرم الناس ، ضحّاكا بسّاما . وكان يستمتع بنسائه ويمتعهن من ذات نفسه ، ومن فيض قلبه ، ومن حسن أدبه ، ومن كريم معاملته ، وكما تقول عائشة : كان في بيته في خدمة أهله .
فأما حياته المادية وحياة أزواجه فكانت في غالبها كفافا بعد أن افتُتحت له الفتوح وتبحبح المسلمون بالغنائم والفيء ، تقول السيدة عائشة : يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يوقد في بيت رسول الله نار .
وكان يقع بين نسائه بعض الشجار ، يغار بعضهن من بعض ، شأن بقية الناس . وكانت بعضهن تتآمر على غيرها من ضرائرها وهكذا . . .
والحادث الذي نزل بشأنه أول هذه السورة الكريمة واحد من تلك الأمثلة التي كانت تقع في حياة الرسول الكريم ، وفي حياة أزواجه . وقد وردت في ذلك عدة روايات لا مجال لذكرها ، لكنا سنذكر بعضها عند تفسير الآيات .
أشارت السورة الكريمة إلى أمر من هذه الأمور أغضب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض زوجاته ، فامتنع عن بعض ما ترغب فيه النفوس مما أحله الله له ، وحذَّرَت زوجاته مغبّة ما أقدمن عليه . ثم انتقلت السورة إلى أمر المؤمنين أن يقوا أنفسهم وأهليهم نارا وقودها الناس والحجارة ، وبينت أنه لا يُقبل من الكافرين اعتذار يوم القيامة ، ودعت المؤمنين إلى التوبة ، كما دعت الرسول الكريم إلى جهاد الكفار والمنافقين والشدة معهم . ثم خُتمت سورة التحريم بضرب بعض الأمثلة : إن صلاح الأزواج لا يرد عذاب الله عن زوجاتهم المنحرفات ، وأن فساد الأزواج لا يضر الزوجات إن كن صالحات مستقيمات ، { كل نفس بما كسبت رهينة } . . .
الحديث في هذه الآيات الكريمة عما كان يجري في بيتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالرسول الكريم بشَرٌ يجري في بيته ما يكونُ في بيوت الناس ، من شِجارٍ بين أزواجه وغيرةٍ وما شابه ذلك .
وقد وردتْ رواياتٌ متعدّدة في سبب نزول الآيات ، من أصحُّها أنه شربَ عسلاً عند زينبَ بنتِ جحش ، فغارت عائشةُ وحفصةُ من ذلك . واتّفقتا أنّ أيّ واحدةٍ منهما دخلَ عليها النبي الكريم تقول له : إنّي أجِدُ منك ريحَ مغافير . ( والمغافيرُ صَمغٌ حلو له رائحةٌ كريهة ) .
وأولَ ما دخل على حفصةَ قالت له ذلك ، فقال لها : بل شربتُ عسلاً عند زينبَ بنتِ جحش ، ولن أعودَ له . وأُقسِم على ذلك ، فلا تُخبري بذلك أحدا .
فأخبرت حفصةُ بذلك عائشةَ وكانتا ، كما تقدّم ، متصافيتَين متفقتين . . . . فعاتبَ الله تعالى نبيَّه على تحريمِه ما أحلَّه الله له كي يُرضيَ بعضَ زوجاته .
وبعدَ عتابِه الرقيق وندائه : يا أيّها النبيّ . . . . قال تعالى { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
{ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } وسبب نزولها ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبيد الله بن إسماعيل ، حدثنا أبو أسامة عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء ويحب العسل ، وكان إذا صلى العصر دخل على نسائه فيدنو منهن ، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس ، فسألت عن ذلك ، فقيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شربة ، فقلت : أما والله لنحتالن له ، فذكرت ذلك لسودة ، وقلت : إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له : يا رسول الله أكلت مغافير ؟ فإنه سيقول : لا ، فقولي له : ما هذه الريح وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح ، فإنه سيقول : سقتني حفصة شربة عسل ، فقولي له : يا رسول الله جرست نحله العرفط ، وسأقول ذلك وقوليه أنت يا صفية ، فلما دخل على سودة ، تقول سودة : والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت لي وإنه لعلى الباب ، فرقاً منك ، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله أكلت مغافير ؟ قال : لا ، قلت : فما بال هذه الريح ! قال : سقتني حفصة شربة عسل ، قالت : جرست نحلة العرفط ، فلما دخل علي قلت له مثل ذلك ، ودخل على صفية فقالت له مثل ذلك ، فلما دخل على حفصة قالت له : يا رسول الله ألا أسقيك منه قال : لا حاجة لي به ، قالت : تقول سودة : سبحان الله لقد حرمناه ، قالت : قلت لها اسكتي " .
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحسن بن محمد الصباح ، حدثنا الحجاج عن ابن جريج قال : زعم عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول " سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً فتواطيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها الرسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير ، أكلت مغافير ، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك ، فقال : لا بأس شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له ، فنزلت : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك } إلى قوله :{ إن تتوبا إلى الله } لعائشة وحفصة ، { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً } لقوله : بل شربت عسلاً " . وبهذا الإسناد قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا إبراهيم بن موسى ، أنبأنا هشام بن يوسف ، عن ابن جريح ، عن عطاء بإسناده وقال : قال : لا ، ولكن كنت أشرب عسلاً عند زينب بنت جحش فلن أعود له ، وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحداً ، يبتغي بذلك مرضاة أزواجه . وقال المفسرون : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ، فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبيها فأذن لها ، فلما خرجت أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة ، فوقع عليها فلما رجعت حفصة وجدت البابا مغلقاً ، فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقاً ، وحفصة تبكي فقال : ما يبكيك ؟ فقالت : إنما أذنت لي من أجل هذا ، أدخلت أمتك بيتي ، ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي ، أما رأيت لي حرمة وحقاً ؟ ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أليست هي جاريتي أحلها الله لي ؟ اسكتي فهي حرام علي ألتمس بذاك رضاك ، فلا تخبري بهذا امرأة منهن . فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قرعت حفصة الجدار التي بينها وبين عائشة فقالت : ألا أبشرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه أمته مارية ، وقد أراحنا الله منها ، وأخبرت عائشة بما رأت ، وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها ، فأنزل الله عز وجل :{ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } يعني العسل ومارية { تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } .
{ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على حفصة في يوم نوبتها فخرجت هي لبعض شأنها فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الى مارية جاريته وأدخلها بيت حفصة وواقعها فلما رجعت حفصة علمت بذلك فغضبت وبكت وقالت أما لي حرمة عندك وحق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اسكتي فهي حرام علي أبتغي بذلك رضاك وحلف أن لا يقربها وبشرها بأن الخليفة من بعده أبوها وأبو عائشة رضي الله عنهم أجمعين ذكورا واناثا وقال لها لا تخبري أحدا بما أسررت اليك من أمر الجارية وأمر الخلافة من بعدي فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندها أخبرت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها بذلك وقالت قد أراحنا الله من مارية فان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمها على نفسه وقصت عليها القصة فنزل { لم تحرم ما أحل الله لك } أي الجارية { تبتغي } بتحريمها { مرضات أزواجك والله غفور رحيم } غفر لك ما فعلت من التحريم
الأولى- قوله تعالى : " يا أيها النبي لم تحرِّمُ ما أحل الله لك " ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي لله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا ، قالت : فتواطأت أنا وحفصة أن أَيَّتَنَا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير{[15119]} ! أكلت مغافير ؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك . فقال : ( بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له ) . فنزل : " لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله - إن تتوبا : ( لعائشة وحفصة ) ، " وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا " [ التحريم 30 ] لقوله : ( بل شربت عسلا ) . وعنها أيضا قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل ، فكان إذا صلى العصر دار على نسائه فيدنو منهن ، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس ، فسألت عن ذلك فقيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل ، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة . فقلت : أما والله لنحتالن له ، فذكرت ذلك لسودة وقلت : إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له : يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ فإنه سيقول لك لا . فقولي له : ما هذه الريح ؟ - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح - فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل . فقولي له : جَرَسَتْ نَحْلُه العُرْفُط . وسأقول ذلك له ، وقوليه أنت يا صفية . فلما دخل على سودة - قالت : تقول سودة : والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت لي ، وإنه لعلى الباب ، فَرَقاً{[15120]} منك . فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ قال : ( لا ) قالت : فما هذه الريح ؟ قال : ( سقتني حفصة شربة عسل ) قال : جَرَسَتْ نحلُه العُرْفُط . فلما دخل علي قلت له مثل ذلك . ثم دخل على صفية فقالت بمثل ذلك . فلما دخل على حفصة قالت : يا رسول الله ، ألا أسقك منه . قال ( لا حاجة لي به ) قالت : تقول سودة سبحان الله ! والله لقد حرمناه{[15121]} . قالت : قلت لها اسكتي . ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة . وفي الأولى زينب . وروي ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة . وقد قيل : إنما هي أم سلمة ، رواه أسباط عن السدي . وقاله عطاء بن أبي مسلم . ابن العربي : وهذا كله جهل أو تصور بغير علم . فقال باقي نسائه حسدا وغيرة لمن شرب ذلك عندها : إنا لنجد منك ريح المغافير . والمغافير : بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة ، فيها حلاوة . واحدها مغفور ، وجرست : أكلت . والعُرْفُط : نبت له ريح كريح الخمر . وكان عليه السلام يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة أو يجدها ، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك . فهذا قول .
وقول آخر - أنه أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها لأجل أزواجه ، قاله ابن عباس وعكرمة . والمرأة أم شريك . وقول ثالث - إن التي حرم مارية القبطية ، وكان قد أهداها له المقوقس ملك الإسكندرية . قال ابن إسحاق : هي من كُورة أنْصِنا{[15122]} من بلد يقال له حفن فواقعها في بيت حفصة . روي الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة ، فوجدته حفصة معها - وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها - فقالت له : تدخلها بيتي ! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك . فقال لها : ( لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها ) قالت حفصة : وكيف تحرم عليك وهي جاريتك ؟ فحلف لها ألا يقربها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تذكريه لأحد ) . فذكرته لعائشة ، فآلى لا يدخل على نسائه شهرا ، فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة ، فأنزل الله عز وجل " لم تحرم ما أحل الله لك " الآية .
الثانية- أصح هذه الأقوال أولها . وأضعفها أوسطها . قال ابن العربي : " أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته ، وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي صلى الله عليه وسلم للموهوبة ليس تحريما لها ؛ لأن من رد ما وهب له لم يحرم عليه ، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل . وأما من روي أنه حرم مارية القبطية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى ، لكنه لم يدون في الصحيح . وروي مرسلا . وقد روي ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم قال : حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم فقال : ( أنت علي حرام والله لا آتينك ) . فأنزل الله عز وجل في ذلك : " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " وروي مثله ابن القاسم عنه . وروي أشهب عن مالك قال : راجعت عمر امرأة من الأنصار في شيء فاقشعر من ذلك وقال : ما كان النساء هكذا ! قال : بلى ، وقد كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه . فأخذ ثوبه فخرج إلى حفصة فقال لها : أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، ولو أعلم أنك تكره ما فعلت . فلما بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجر نساءه قال : رغم أنف حفصة . وإنما الصحيح أنه كان في العسل وأنه شربه عند زينب ، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه ، فجرى ما جرى فحلف ألا يشربه وأسر ذلك . ونزلت الآية في الجميع .
الثالثة- قوله تعالى : " لم تحرم " إن كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم ولم يحلف فليس ذلك بيمين عندنا . ولا يحرم قول الرجل : " هذا علي حرام " شيئا حاشا الزوجة . وقال أبو حنيفة : إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب دون الملبوس ، وكانت يمينا توجب الكفارة . وقال زفر : هو يمين في الكل حتى في الحركة والكون . وعول المخالف على أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم العسل فلزمته الكفارة . وقد قال الله تعالى : " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " [ التحريم : 2 ] فسماه يمينا . ودليلنا قول الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا{[15123]} " [ المائدة : 87 ] ، وقوله تعالى : " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون{[15124]} " [ يونس : 59 ] . فذم الله المحرم للحلال ولم يوجب عليه كفارة . قال الزجاج : ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله . ولم يجعل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحرم إلا ما حرم الله عليه . فمن قال لزوجته أو أمته : أنت علي حرام ، ولم ينو طلاقا ولا ظهارا ، فهذا اللفظ يوجب كفارة اليمين . ولو خاطب بهذا اللفظ جمعا من الزوجات والإماء فعليه كفارة واحدة . ولو حرم على نفسه طعاما أو شيئا آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك . وتجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة .
الرابعة- واختلف العلماء في الرجل يقول لزوجته : " أنت علي حرام " على ثمانية عشر قولا : أحدها : لا شيء عليه . وبه قال الشعبي ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأصبغ . وهو عندهم كتحريم الماء والطعام ، قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " [ المائدة : 87 ] والزوجة من الطيبات ومما أحل الله . وقال تعالى : " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام{[15125]} " [ النحل : 116 ] . وما لم يحرمه الله فليس لأحد أن يحرمه ، ولا أن يصير بتحريمه حراما . ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله هو علي حرام . وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه وهو قوله : ( والله لا أقربها بعد اليوم ) فقيل له : لم تحرم ما أحل الله لك ، أي لم تمتنع منه بسبب اليمين . يعني أقدم عليه وكفر .
ثانيها : أنها يمين يكفرها ، قاله أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم – والأوزاعي ، وهو مقتضى الآية . قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : إذا حرم الرجل عليه امرأته فإنما هي يمين يكفرها . وقال ابن عباس : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حرم جاريته فقال الله تعالى : " لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله تعالى - قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " فكفر عن يمينه وصير الحرام يمينا . خرجه الدارقطني .
ثالثها : أنها تجب فيها كفارة وليست بيمين ، قاله ابن مسعود وابن عباس أيضا في إحدى روايتيه ، والشافعي في أحد قوليه ، وفي هذا القول نظر . والآية ترده على ما يأتي .
رابعها : هي ظهار ، ففيها كفارة الظهار ، قال عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق .
خامسها : أنه إن نوى الظهار وهو ينوي أنها محرمة كتحريم ظهر أمه كان ظهارا . وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين . وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين ، قاله الشافعي .
سادسها : أنها طلقة رجعية ، قاله عمر بن الخطاب والزهري وعبدالعزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون . وسابعها : أنها طلقة بائنة ، قاله حماد بن أبي سليمان وزيد بن ثابت . ورواه ابن خويز منداد عن مالك .
ثامنها : أنها ثلات تطليقات ، قال علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت أيضا وأبو هريرة .
تاسعها : هي في المدخول بها ثلاث ، وينوي في غير المدخول بها ، قاله الحسن وعلي بن زيد والحكم . وهو مشهور مذهب مالك .
عاشرها : هي ثلاث ، ولا ينوي بحال ولا في محل وإن لم يدخل{[15126]} ، قاله عبدالملك في المبسوط ، وبه قال ابن أبي ليلى .
حادي عشرها : هي في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي التي دخل بها ثلاث ، قاله أبو مصعب ومحمد بن عبدالحكم{[15127]} .
ثاني عشرها : أنه إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى . فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثا . فإن نوى ثنتين فواحدة . فإن لم ينو شيئا كانت يمينا وكان الرجل موليا من امرأته ، قاله أبو حنيفة وأصحابه . وبمثله قال زفر ، إلا أنه قال : إذا نوى اثنتين ألزمناه .
ثالث عشرها : أنه لا تنفعه نية الظهار وإنما يكون طلاقا ، قاله ابن القاسم .
رابع عشرها : قال يحيى بن عمر : يكون طلاقا ؛ فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار .
خامس عشرها : إن نوى الطلاق فما أراد من أعداده . وإن نوى واحدة فهي رجعية . وهو قول الشافعي رضي الله عنه . وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين .
سادس عشرها : إن نوى ثلاثا فثلاثا ، وإن واحدة فواحدة . وإن نوى يمينا فهي يمين . وإن لم ينو شيئا فلا شيء عليه . وهو قول سفيان . وبمثله قال الأوزاعي وأبو ثور ، إلا أنهما قالا : إن لم ينو شيئا فهي واحدة .
سابع عشرها : له نيته ولا يكون أقل من واحدة ، قاله ابن شهاب . وإن لم ينو شيئا لم يكن شيء ، قاله ابن العربي . ورأيت لسعيد بن جبير وهو :
الثامن عشر : أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهارا . ولست أعلم لها وجها ولا يبعد{[15128]} في المقالات عندي .
قلت : قد ذكره الدارقطني في سننه عن ابن عباس فقال : حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا روح قال : حدثنا سفيان الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي علي حراما . فقال : كذبت ! ليست عليك بحرام ، ثم تلا " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " عليك أغلظ الكفارات : عتق رقبة . وقد قال جماعة من أهل التفسير : إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة ، وعاد إلى مارية صلى الله عليه وسلم ، قاله زيد بن أسلم وغيره .
قال علماؤنا : سبب الاختلاف في هذا الباب أنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نص ولا ظاهر صحيح يعتمد عليه في هذه المسألة ، فتجاذبها العلماء لذلك . فمن تمسك بالبراءة الأصلية فقال : لا حكم ، فلا يلزم بها شيء . وأما من قال إنها يمين ، فقال : سماها الله يمينا . وأما من قال : تجب فيها كفارة وليست بيمين ، فبناه على أحد أمرين : أحدهما : أنه ظن أن الله تعالى أوجب الكفارة فيها وإن{[15129]} لم تكن يمينا . والثاني : أن معنى اليمين عنده التحريم ، فوقعت الكفارة على المعنى . وأما من قال : إنها طلقة رجعية ، فإنه حمل اللفظ على أقل وجوهه ، والرجعية محرمة الوطء كذلك ، فيحمل اللفظ عليه . وهذا يلزم مالكا ، لقوله : إن الرجعية محرمة الوطء . وكذلك وجه من قال : إنها ثلاث ، فحمله على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث . وأما من قال : إنه ظهار ، فلأنه أقل درجات التحريم ، فإنه تحريم لا يرفع النكاح . وأما من قال : إنه طلقة بائنة ، فعول على أن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة ، وأن الطلاق البائن يحرمها . وأما قول يحيى بن عمر فإنه احتاط بأن جعله طلاقا ، فلما ارتجعها احتاط بأن يلزمه الكفارة . ابن العربي : " وهذا لا يصح ؛ لأنه جمع بين المتضادين ، فإنه لا يجتمع ظهار وطلاق في معنى لفظ واحد ، فلا وجه للاحتياط فيما لا يصح اجتماعه في الدليل . وأما من قال : إنه ينوى في التي لم يدخل بها ، فلأن الواحدة تبينها وتحرمها شرعا إجماعا . وكذلك قال من لم يحكم باعتبار نيته : إن الواحدة تكفي قبل الدخول في التحريم بالإجماع ، فيكفي أخذا بالأقل المتفق عليه . وأما من قال : إنه ثلاث فيهما ، فلأنه أخذ بالحكم الأعظم ، فإنه لو صرح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها نفوذها في التي دخل بها . ومن الواجب أن يكون المعنى مثله وهو التحريم " . والله أعلم . وهذا كله في الزوجة . وأما في الأمة فلا يلزم فيها شيء من ذلك ، إلا أنه ينوي به العتق عند مالك . وذهب عامة العلماء إلى أن عليه كفارة يمين . ابن العربي . والصحيح أنها طلقة واحدة ؛ لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله وهو الواحدة إلا أن يعدده . كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر ، مثل أن يقول أنت علي حرام إلا بعد زوج ، فهذا نص على المراد .
قلت : أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة لما خلا النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها بجاريته ، ذكره الثعلبي . وعلى هذا فكأنه قال : لا يحرم عليك ما حرمته على نفسك ولكن عليك كفارة يمين ، وإن كان في تحريم العسل والجارية أيضا . فكأنه قال : لم يحرم عليك ما حرمته ، ولكن ضممت إلى التحريم يمينا فكفر عن اليمين . وهذا صحيح ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ثم حلف ، كما ذكره الدارقطني . وذكر البخاري معناه في قصة العسل عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عند زينب بنت جحش عسلا ويمكث عندها ، فتواطأت أنا وحفصة على أيَّتِنَا دخل عليها فلتقل : أكلت مغافير ؟ إني لأجد منك ريح مغافير ! قال : ( لا ولكن شربت عسلا ولن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا ) . يبتغي مرضات أزواجه . فيعني بقوله : ( ولن أعود له على جهة التحريم . وبقوله : ( حلفت ) أي بالله ، بدليل أن الله تعالى أنزل عليه عند ذلك معاتبته على ذلك ، وحوالته على كفارة اليمين بقوله تعالى : " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " يعني العسل المحرم بقوله : ( لن أعود له ) . " تبتغي مرضات أزواجك " أي تفعل ذلك طلبا لرضاهن . " والله غفور رحيم " غفور لما أوجب المعاتبة ، رحيم برفع المؤاخذة . وقد قيل : إن ذلك كان ذنبا من الصغائر . والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى ، وأنه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة .
هذه السورة مدنية ، وهي اثنتا عشرة آية . وهي مبدوءة بالعتاب من الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حرّمه على نفسه من الحلال استرضاء لبعض زوجاته . وما ينبغي أن يحرّم النبي على نفسه الحلال ليرضين عنه .
ويأمر الله عباده المؤمنين أن يصونوا أنفسهم ومن يلون من الأهلين من العذاب الحارق في نار متسعرة متأججة وقودها الناس والحجارة فيتقون ربهم ويأتمرون بأوامره ويفعلون الخير لعلهم ينجون .
ويأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمجاهدة الكافرين والمنافقين . فيجاهد الأولين الظالمين بالقتال ، ويجاهد الآخرين المخادعين بالحجة والمجادلة والبرهان . ثم يضرب الله لعباده مثلين من النساء . فمثل من النساء الكوافر ، زوجات لمؤمنين ، ومثل من النساء المؤمنات ، زوجات لكافرين .
{ ياأيها النبي لم تحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم 1 قد فرض الله لكم تحلّة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم 2 وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبّأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير 3 إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير 4 عسى ربه إن طلّقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا } .
في سبب نزول هذه الآيات روى ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده ، مارية القبطية في بيت حفصة ، فوجدته حفصة معها . فقالت : لم تدخلها بيتي ، ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك . فقال لها : " لا تذكري هذا لعائشة ، وهي عليّ حرام إن قربتها " . قالت حفصة : وكيف تحرم عليك وهي جاريتك . فحلف لها لا يقربها وقال لها لا تذكريه لأحد . فذكرته لعائشة . فأبى أن يدخل على نسائه شهرا واعتزلهن تسعا وعشرين ليلة . فأنزل الله تبارك وتعالى : { لم تحرّم ما أحل الله لك } الآية{[4573]} .
وروى مسلم عن عائشة ( رضي الله عنها ) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا . قالت : فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير . أكلت مغافير{[4574]} ؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك . فقال : " بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له " فنزل { لم تحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك } يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم معاتبا : لم تحرم على نفسك الحلال الذي أحله الله لك ، تلتمس بتحريمك ذلك مرضاة زوجاتك { والله غفور رحيم } الله يغفر الذنوب لعباده المؤمنين ، وقد غفر لك هذه الزلة وهي تحريمك على نفسك ما أحله الله لك . والله جل وعلا رحيم بعباده أن يعاقبهم بعد أن يتوبوا .